الفصل الثالث والأربعون: نهاية الإنجيل وبداية الخبر السعيد

الفصل الثالث والأربعون
نهاية الإنجيل وبداية الخبر السعيد
16: 1- 20
1- موقع هذا النصّ
لا يُعتبر الفصل الأخير في مرقس "نهاية سعيدة" لحياة دراماتيكية مؤلمة، ولا نهاية لفترة موقّتة عاشها يسوع على الأرض قبل أن يعود إلى السماء. إرتبط "خبر" القيامة إرتباطاً وثيقاً بخبر الحاش (والآلام)، فأوضح بشكل حاسم بُعد التيوفانيا (الظهور الإلهي) الذي تجلىّ في مشهدي النزاع وموت يسوع. فالذين عرفوه وقاسموه حياته على الأرض، بدا لهم ذاك الذي مات على أنه افي والمرسل، على أنه الإنجيل قولاً وفعلاً.
دلّت المرحلة الرابعة في الإنجيل على الأهمية التي اتّخذتها قيامة المسيح في صورتها المسبقة في مشهد التجليّ، وفي الانباءات المثلّثة حول مصير ابن الإنسان. بعد هذا، نفهم تحفّظ مر في الحديث عن القيامة. إذا أخذنا بالخاتمة القصيرة، نرى أنه لا يخصّص إلاّ ثماني آيات حوله زيارة النسوة إلى القبر والبلاغ الذي طلب منهن أن يحملنه. نحن هنا أمام أقدم خبر حول هذا الموضوع. وهناك الخاتمة الطويلة (12 آية) التي غابت من عدد من المخطوطات، فجاءت خلاصة لأخبار القيامة كما عرفناها خاصّة في إنجيل لوقا.
2- تقديم النصّ
إن الالتباس الذي اكتشفناه عبر أخبار الحاش، سنجده في أخبار القيامة. فنحن نتساءل كيف نفسرّ هذا التعليم وكيف يكون لنا حامل رجاء.
هناك متتاليتان. الأولى: خاتمة مر القصيرة (16: 1- 8). والثانية الخاتمة الطويلة (16: 9- 20) التي قد يكون زادها على الإنجيل أحد تلاميذ مرقس. هي كلمة الله، شأنها شأن كل ما دوّن في مر. هي نصّ قانوني بمعنى أنه قاعدة ايمان. ولكننا نجهل مؤلّفها، فنقول: هي نتاج كنيسة رومة في خطّ ما علّمه بطرس وكتبه مرقس ولوقا ومتى ويوحنا.
أ- بلاغ القيامة (16: 1- 8)
صوّر مر مسيرة النسوة الثلاث اللواتي جئن يحنّطن جسد يسوع "بعد أن انقضى السبت". ارتدت زيارتهن إلى القبر الحيرة والاضطراب بسبب ما وجدن: شاب جالساً عن اليمين ينقل إليهن بلاغاً يحملنه إلى التلاميذ. تمّ فيهن انقلاب تام، ولكنهنّ لم يستطعن أن يتجاوزن الخوف الذي اعتراهنّ.
ب- ظهور القائم من الموت (16: 9- 20)
قلنا فيما يتعلّق بخاتمة مر، إن التقليد المخطوطي متردّد. فالنصّ الذي نقرأه الآن ليس من يد مرقس. ولكنه يعتبر جزءاً لا يتجزّأ من الأناجيل المقدّسة. لهذا نسمّيه "الخاتمة القانونية".
3- من النصّ إلى يسوع
تفحّص شّراح عديدون الأخبار الإنجيلية حول القيامة. وقابلوا النصوص لكي يدركوا البنية الأصلية، وتطوّر التقليد، والوضع الكنسي الذي تكوّنت فيه هذه الأخبار.
كلنا يعرف الأهمية التي اتخذها إعلان القيامة في بداية الكنيسة: هذا ما نجده في خطب أعمال الرسل (2: 22- 24، 30- 36؛ 3: 14- 15؛ 5: 30- 32؛ 10: 39- 41؛ 13: 32- 33). فهناك طروح الكرازة وإعترافات الإيمان والأناشيد الليتورجيّة. وكل هذا يجد صداه في تعبير تقليدي حول الايمان بالمسيح القائم من الموت، تعبير قديم جدّاً نقرأه في 1 كور 15: 1- 11. فلقد بيّن الشّراح أن هذه النواة الأولى للاعتراف الإيماني (1 كور 15: 3 ب- 5) تعود إلى ما قبل الرسالة التي دوّنت، على ما يبدو، سنة 57. فبولس قد استعادها (كما في 1 تس 1: 9- 10؛ روم 1: 1- 5) من تقليد كان ثابتاً قبله، تقليد يعود بنا إلى عشرين سنة بعد موت المسيح.
وإذا عدنا إلى الأناجيل، كان خبر مر هو الأقدم (16: 1- 8). سيصيغ متى ولوقا ويوحنا أناجيلهم في نصّ أوسع، ولن نستطيع أن نعرف المراجع التي لجأوا إليها وكيف أفادوا منها. أما الخاتمة المضافة في مر 16: 9- 20 فتبدو مرتبطة بوثائق نجد آثارها بشكل خاص في لو.
ونعود إلى نصّ مر. هل نكتشف آثار التقليد فنستشفّ الأحداث التاريخية التي جرت في أورشليم حوالي عيد الفصح في سنة 30؟ سنحاول أن نكتشف بعض المحطات في دراسة تاريخية، ثم نعود إلى العناصر البنيوية. وهكذا نصل إلى الخطوط اللاهوتية الكبرى في إنجيل مرقس.
أ- تكوين النصّ
أولاً: الخاتمة القصيرة (16: 1- 8)
نتوقّف أولاً عند 15: 1- 8. إن تفحّص خبر زيارة النسوة الصباحية إلى القبر يطرح سؤالين على المستوى الأدبي: إن التحديدات الزمانية في آ 2 تبدو غير متماسكة. فتبدو صعبة على الشّراح. ثم إن الآيتين الاخيرتين (آ 7- 8) تدلاَّن على فجوة في المسيرة الدراماتيكية للخبر. لهذا يرى عدد من الشّراح أن آ 7 (مثل 14: 28 الذي إليه تعود) هي إضافة جعلها الإنجيلي هنا ليدلّ على أن الشاب في اللباس الأبيض يتكلّم باسم يسوع ويستعيد مقاله.
نستطيع أن نتساءل: أما أدخل مرقس معطيات من مصادر مختلفة لا تتوافق مع المستوى المنطقي للخبر، بل مع أهمية "اللافهم" الذي نجده في سائر الإنجيل؟ والنهاية المفاجئة للخبر (لم يقلن لأحد شيئاً) تدلّ على أن الكاتب أراد أن يبرز تقليداً آخر غير تقليد الظهور لبطرس وللتلاميذ: هو تقليد خبرة النسوة التي لا تشير إليها خطب أع و1 كور 15.
وطُرح سؤال آخر: هل ارتبطت في البدء أخبارُ الزيارة إلى القبر والظهورات، بخبر الحاش والآلام؟ إن البنية الأولى للكرازة وإعلان الإيمان (كما في الانباءات بالحاش: أسلم، مات، دفن، قام) تدلّ على التواصل. ثمّ إن حدث الدفن وحدث المجيء إلى القبر، لم يدوّنا، على ما يبدو، دفعة واحدة: فهناك تردّد حول هويّة النسوة ودورهن، بحيث نميل إلى القول بتقليدين مستقلين الواحد عن الآخر. فخبر صباح الفصح والقيامة لا يعود في أصله وبنيته إلى العبارات الكرازية التي ربطت ربطاً وثيقاً بين الحاش والقيامة.
هل نستطيع أن نحدّد المهد الذي فيه وُلد الحدث المتعلّق بالنسوة؟ إن التعبير المتعارض في البلاغ الفصحي (يسوع الناصري المصلوب، إنه قام، 16: 16) يذكّرنا بما في خطب بطرس (أع 2: 23- 24؛ 36؛ 4: 10). يذكّرنا بكنيسة أورشليم التي كلّفت بأن تقدّم يسوع القائم من الموت للذين رأوا يسوع وعرفوه كالمصلوب. في هذا المحيط نتصوّر تقديم بلاغ الشاب اللابس البياض: إن كلمة الرسل هي حقّاً كلمة الله.
ثم إن تشديد الخبر على موضوع القبر (ليس هنا. ها هو المكان الذي وُضع فيه. 16: 6 ب) يدلّنا على محيط أورشليم اليهودي، حيث تكرّم مدافن الانبياء والابرار تكريماً خاصاً: فالايمان بقيامة يسوع لا يمحو ذكرى موته ودفنه، بل يؤكّد نفسه بالنسبة إليهما فيعطي القبر عناية أكبر. لسنا فقط أمام قبر شهيد أو نبيّ مكزم، بل أمام المكان الذي يشهد لسرّ الخلاص. لهذا لفت نظرَ الشّراح تكاثرُ المعطيات الطوبوغرافية والكرونولوجية، فرأوا في أصل خبر الحاش والقيامة ليتورجيا فصحيّة مع حجّ إلى مواقع أحداث الخلاص الذي تمّ لنا بيسوع المسيح. هكذا تُفهم في إطار احتفال من الاحتفالات، الإشارةُ إلى مكان (قبر أورشليم) ويوم محدّد (يوم الربّ، يوم الأحد)، كما يُفهم تدخل شاب يُعلن الوحي الحاسم عن القيامة، وخوف النسوة وذهولهن أمام ما رأين.
يبدو أن تقليداً عبادياً أول في أورشليم، كان لحمة خبر مر الذي أضاف العنصر الأساسي والإشارة إلى الجليل. هكذا يربط الجليل بأورشليم من جهة (16: 7)، ويربطه برسالة يسوع العلنية على الأرض من جهة ثانية. أما صمت النسوة، فقد يكون معطية قديمة استعادها مرقس ووجّهها إلى قرّاء قد ينسونها. أما لوقا فلاحظ عدم نجاح النسوة لدى التلاميذ (24: 11- 24). وأدخل متّى بلاغ النسوة ليهيّئ الظهور الأخير في الجليل (28: 7- 16). والهدف (الغريب لا محيط شرقي) من تحنيط الجسد بعد يومين، يجد أساسه في عادة لدى الحجّاج (مازالت حاضرة اليوم عند بعض المسيحيّين) الذين يصبون العطور والحنوط على "حجر المسح".
مهما يكن هذا التردّد فى حول الأصول الملموسة للتقليد الفصحي وتاريخه، يجب أن نلاحظ أن النصوص تربط بإكتشاف القبر المفتوح والفارغ، إعلانَ سرّ يسوع القائم من الموت، إعلان كلمة الله في الألفاظ عينها التي عرفتها الكرازة الرسولية. وستكمّل "رواية" مر بأخبار جاءت من سائر الإنجيليين الخاضعين لإهتمامات أخرى.
إهتمّ متّى بالردّ على الأسطورة القائلة بأن التلاميذ سرقوا الجسد ورشوا الحرّاس (28: 11- 15). ثم أرانا المسيح الممجّد يرسل الأحد عشر إلى العالم كله (28: 16- 20). وبيّن لوقا اهتمامه بواقع القبر الفارغ (24: 3، 12، 24) فشدّد على أهمية التذكّر (24: 6- 8) لنكتشف أن يسوع هو حيّ. وأشار يوحنا إلى الطريق التي بها يصل الإنسان إلى الإيمان بالقيامة، وذلك عبر ردّات فعله الخاصة: بطرس والتلميذ الآخر (20: 3- 10). مريم المجدلية (20: 1- 2، 11- 18). توما (20: 24- 28). هذه النظرات تعطي المشهد عينه في النهاية، وجهات مختلفة.
وبمختصر الكلام، إن مجيء النسوة إلى القبر، يفتح متتالية إخبارية تشير إلى ولادة الايمان بقيامة يسوع. والواقع الحاسم هو شهادة القائم من الموت عن نفسه. هو يتراءى. يجعلهم يرونه. تركنا مرقس أمام سرّ كشفته كلمة الله، وهو سرّ جعل النسوة يهربن خائفات. بعد هذا، يجب مواجهة أولئك الذين يشكّون في شهادة الإيمان هذه، فنصوغ كلاماً دفاعياً حول القبر المفتوح الذي كان فارغاً.
ولكن الإعلان يتوخّى دوماً وفي الدرجة الأولى، وحي القائم من الموت لأخصائه، تحوّلهم بفعل الروح، دون أن يُعتبر القبر الفارغ برهاناً عن القيامة: "إنه قد قام. ليس هو هنا". وليس: "ليس هو هنا. إذن قام". وصمت النسوة الذي يشير إليه مر "يحرم" القارئ من الرغبة في أن يؤسّس ايمانهن على الخبرة التي عشْنَها: حملن بلاغ الوحي الذي تجاوزهنّ، فكنّ شهوداً لحضور القائم من الموت الذي يجعل الإنسان يكتشف في قلب إيمانه الهوّة التي ترعبه. وتحوّلُ المؤمنين هذا لا ينحصر في واقع ذاتي (ضدّ واقع موضوعي)، لأن الزمان والمكان اللذين فيهما يتمّ هذا التحوّل يرتبطان بموت يسوع وقيامته، لا بزمن البشر.
وإذا تساءلنا حول "تاريخية" مسعى النسوة، نستطيع أن نستعمل أدوات النقد لنثبت وجود تقاليد حول زيارة النسوة إلى القبر (زيارة لم تثمر)، حول ما رآه التلاميذ والرسل، حول تحوّل هؤلاء "الجبناء" إلى مؤمنين يتجرّأون على كل شيء. ولكن تأكيد مر يفلت من البحث الدقيق للعلم التاريخي، لأنه يعتبر نفسه إعلان قيامة يسوع التي تصل إلينا ككلمة الله. فالواقع الأولى لاختفاء الجسد لا ندركه إلاّ في شهادة (التلاميذ) نجدها في نصّ، شهادة هي ثمرة تقليد.
تكريم قبر يسوع حيث جرت الأحداث. ذكريات نساء عرفناهنّ بأسمائهنّ كمعلم تاريخي. تأكيد بسيط حول واقع القيامة. هذا ما تقول أخبار القيامة. ولكن يجب بالأحرى أن نأخذها كاعتراف إيماني بحضور القائم من الموت. وهذا الإعتراف يتجذّر في واقع تاريخ وتواصل تقليد. إذا كان واقع اختفاء جسد يسوع يشكّل لغزاً، فلا نحصر هذا الواقع في تفاسيرنا الضيّقة. بل نفتح شروحنا على حقيقة كلام يرمينا (مثل النساء) في الخوف والصمت قبل أن يقيمنا إلى رجاء أعطي لنا مجّاناً فجاء إلى لقاء أعمق ما في رغباتنا.
ثانياً: الخاتمة الطويلة (16: 9- 20)
نكتشف في الأخبار الإنجيلية حول القيامة رسمتين رئيسيتين تعبرّان عن إيمان الكنيسة الأولى. نمط "القيامة"، نعبرّ عنه في: "الله أقام يسوع من بين الاموات". نمط التمجيد، نعبرّ عنه في: "يسوع هو الربّ في المجد". وتستعمل هاتان الرسمتان لغة مختلفة لتدلّ على السرّ نفسه، لأن قيامة يسوع تأخذ كامل معناها في التمجيد.
ترتبط هاتان الرسمتان بقطبين جغرافيين في الإنجيل: أورشليم، الجليل.
* نمط أورشليم
إن بنية نمط أورشليم (لو 24: 36- 53؛ يو 20: 19- 29) سابقة للوقا ويوحنا، على ما يبدو، وهي تتوزّع على ثلاث مراحل، حسب ترتيب زماني: (1) في الحاضر: مبادرة القائم من الموت. تدرك الشهود بشكل لم يكونوا يتوقّعونه. (2) يعود هؤلاء إلى الماضي، إلى يسوع الناصري، فيتعرّفون إلى القائم من الموت. (3) ويتقبّلون مهمة توجّههم نحو مستقبل الكنيسة.
منذ البداية، احتفلت الجماعة الليتورجية بالافخارستيا "مع" القائم من الموت. وجاءت أخبار ذات ميول دفاعية فدلّت على هوية القائم من الموت. وفي النهاية، أسّست الفقاهة إيمان الكنيسة ورسالتها في الظهورات.
* نمط الجليل
أما نمط الجليل (مت 28: 16- 20) فيبرز موضوع الرسالة بشكل خاصّ. هذا ما يسمّى الدعوة النبوية في الكنيسة. وهو يتوزّع ثلاثاً: تقديم، رسالة، وعد. ويقدّم نظرة جليانية إلى التاريخ، يجعل الكاتب نفسه في نهاية الزمن، في المنظار الأبدي والسماوي لتمجيد يسوع وسيادته على الكون: إنه عمانوئيل (الله معنا) الحاضر من أجل جميع الأمم والذي يسوس تاريخ البشر. يبدو أن نمط الجليل أغنى من نمط أورشليم والعكس بالعكس: فالمسيح القائم من الموت والحيّ في وسط أخصّائه، هو أيضاً الربّ الممجّد الذي يملك على جميع البشر.
* الخاتمة القانونية
إن مر 16: 1- 8 يعود بشكل خاصّ إلى نمط أورشليم مع توالي المراحل: مبادرة يسوع. عرفه الشهود. وفي النهاية أرسلهم. أما الخاتمة القانونية (16: 9- 20) فتدلّ على نمط الجليل، وهكذا تكتمل نظرة مرقس. فالخبر قصير وهو يتّخذ صورة "الدينونة": إن الربّ الممجّد عن يمين الله يعطي علامات اسكاتولوجيّة عن انتصاره عبر تاريخ البشر والتزامهم الحرّ في مسيرة الغيمان. وهكذا يبدو 16: 9- 20 (الذي لم يكتبه الإنجيل أو هو كتبه فيما بعد) أميناً لنظرة مر الذي دلّ على مدّ الخبر، على ابن الله الذي يظهر مجده عبر سرّه، عبر لافهم التلاميذ ولا إيمان البشر.
إن هذه الخاتمة القانونية تستعيد بإيجاز تاريخ بلاع القيامة، عبر صمت النساء. فتقدّم في ثلاث محطات مسيرة ظهور المسيح (كرستوفانيا): ظهور لمريم المجدلية (16: 9). ظهور لرجلين (16: 12). ظهور للأحد عشر (16: 14). ونلاحظ في كل مرحلة عدم إيمان الذين يتقبّلون البلاغ. وتمتد هذه الخاتمة في مهمة تنكشف فيها كلمة الرب وعمله عبر كلمة الشهود وعملهم.
حين زادت الكنيسة الأولى هذه الآيات على مر، دخلت في جوّ الإنجيل: إكتشاف الإيمان، إعلان الإنجيل المرتبط بالمعمودية التي هي دخول في الجماعة المسيحية. هذا ما يذكّرنا بكرازة يسوع الأولى في الجليل، وبعد عماده في الاردن: "لقد تمّ الزمان واقترب ملكوت الله. فتوبوا وآمنوا بالإنجيل" (1: 15). وهكذا نجد روح "الاجمالات" التي تعوّدنا عليها في مر. إن رباط يسوع بتلاميذه قد وصل الآن إلى ملئه، في اتحاد بقدرة تظهر في الكلمة وما يرافقها من آيات. إذن، لا يجد الإيمان الحقيقي أساسه في ذاته، بل في الله الذي يخلّصنا بقدرة يسوع المسيح القائم من بين الاموات.
ب- بنية النصّ
أولاً: على المستوى الأدبي
لاحظنا بالنسبة إلى 16: 1- 8 الإشارة الزمنية (المساء، الصباح، 15: 42؛ 16: 2) التي وجدناها في خبر الحاش (14: 17؛ 15: 1). فالقيامة قد تمّت بعد السبت (16: 1) أي في اليوم الثامن الذي سيصبح يوم الربّ، يوم الأحد: نحن هنا أمام تلميح خفيّ إلى "يوم الربّ" الذي تحدّث عنه الأنبياء. فخبر الزيارة إلى القبر مبنيّ على التعارض بين سؤال النسوة المهتمات بدحرجة الحجر (16: 3) وسؤال الشاب الذي ينتزعهنّ من ذواتهنّ ويرسلهنّ إلى التلاميذ (16: 6 أ). وتعبرّ الآية الأخيرة عن هذا التعارض في لغة الخبرة الداخليّة: هربٌ من القبر مع ما في هذا الهرب من التباس لأن النسوة أمرن بأن يذهبن. خوف ورعبة مقدّسة، بما فيهما أيضاً من التباس: دلاّ على هجمة الله، ولكنهما اسكتا أولئك اللواتي وجب عليهنّ أن يتكلّمن.
وبُنيت الخاتمة القانونية أيضاً على التعارض: ظهور مثلّث للمسيح (16: 9- 14). كشف عدم إيمان أولئك الذين وجب عليهم أن يؤمنوا. أما ارسال (16: 15- 20) هؤلاء اللامؤمنين، فينشر في العالم عمل القائم من الموت ويبرز تمييز الإيمان. وتشدّد الآيتان الأخيرتان بشكل واضح جداً، على التوافق بين تمجيد الربّ وما أعلنه المرسلون وحقّقوه. وهنا أيضاً، ينفتح "اليوم الأول من الاسبوع" (16: 9) على زمن لا حدود له، يرمز إليه "العالم أجمع" و "الخليقة كلها" (16: 15).
ويمكننا أن نقدّم ما قلناه هنا في رسمة تتوزّع على فسحتين.
* الانتقالة: السبت وشراء الحنوط (16: 1).
* صباح اليوم الأول (16: 2- 5).
- مجيء النسوة إلى القبر.
- السؤال حول الحجر... دحرج.
- دخول النسوة إلى القبر.
* بلاغ من أجل التلاميذ (16: 6- 7).
- شاب جالس عن اليمين.
- سؤال حول يسوع... إنه قام.
- مهمّة من أجل التلاميذ: في الجليل.
* خاتمة: هرب من القبر وصمت الخوف (16: 8).
* صباح اليوم الأول (16: 9- 14).
- ظهور لمريم المجدلية. أخبرت الرفاق، فلم يصدّقوا.
- ظهور لرجلين. أخبرا فلم يصدّقوهما.
- ظهور للأحد عشر. توبيخ بسبب اللاإيمان.
* بلاغ من أجل العالم (16: 15- 19 أ).
- كرازة الإنجيل للخليقة كلها.
- عماد وتمييز الإيمان.
- آيات ترافق الإيمان.
* خاتمة: الربّ جالس عن يمين الله والكرازة بالكلمة (16: 19 ب- 20).
ثانياً: على المستوى البنيوي
* الإشارات الزمانية
يتحدّث الخبران (16: 1- 8 ثم 16: 9- 20) عن الكرونولوجيا: إنتقال من السبت إلى اليوم الأول من الاسبوع (16: 1- 2). يوم أول من الإسبوع ينفتح على "أولاً" (16: 9)، "بعد هذا" (16: 12)، "أخيراً" (16: 14). وفي النهاية على مستقبل لا محدود يعبرّ عنه بلفظة "أبداً" (لا يؤذيهم أبداً). إن هذه الإشارات تدلّ على تحوّل في النظرة إلى الزمان. كيف يتمّ هذا التحوّل؟
* الإشارات المكانيّة
إن حدث الزيارة إلى القبر يتكلّم عن طريق النسوة إلى موضع "التذكّر" الذي يغلقه حجر كبير. فالموت يطرح سؤالاً على الأحياء. ذاك الذي مات هو بعيد عنا. فمن يقودنا إليه؟ ولكن الحجر قد دحرج. ودعيت النساء إلى الدخول والنظر إلى واقع الموت. فالقبر لا يخفي جثة. بل يقيم فيه واحد يتكلّم من وراء الموت. ويتحوّل مسعى النسوة أيضاً: لا ننضمّ إلى الميت، بل هو ينضمّ إلينا. لم يعد له مكان في هذا الـ "هنا" الذي يقمن فيه. إذن، لقد تبدّل موضع اللقاء. إن يسوع يدفعنا في جليل حياتنا وهناك نكتشف سرّ شخصه.
ويدلّ الظهور المثلّث (16: 9- 20) على أن حضور القائم من الموت يدخل معه بشكل جديد رفاق حياته على الأرض: إن الذين كانوا معه سمعوا أنه حيّ ولكنهم لم يصدّقوا (16: 9- 11). هذا ما حدث لسائر أعضاء الجماعة تجاه مسافري عماوس (16: 12- 13) وللأحد عشر تجاه الحضور الحقيقي، حضوره الافخارستي (كانوا متكئين). لسنا أمام بلاغ مجرّد تسلّمته نساء ورجال صعدوا من الجليل مع يسوع، بل واقع حضور ملموس هو واقع يسوع الناصري الذي يملأ الكون بقدرته الفاعلة وديناميته التي تكمّ فمّ الموت وتولّد الحياة

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM