الفصل التاسع : من هو قريبي؟ السامري

الفصل التاسع

من هو قريبي؟ السامري
10: 25- 37

أ- مقدّمة: عناصر النقد الأدبي
إنّ خبر "السامري الصالح" خاص بإنجيل لوقا وهو يلي حواراً بين يسوع وكاتب (أو عالم بالشريعة) حول أعظم الوصايا. لقد أورد متّى (22: 34- 40) ومرقس (12: 28- 34) هذا الحوار كمقدّمة للخطبة الاسكاتولوجية. أما لوقا فجعله في سياق "الصعود إلى أورشليم" (9: 51- 18: 14) وحوّل مضمونه في ما يخص السؤال الأساسي للكاتب، والجواب الذي اعطاه الكاتب، ودمْج الاستشهادين الكتابيين. تدلّ هذه الإختلافات على أنّ لوقا تبع مرجعاً مستقلاً ضمّ القطعتين الواحدة إلى الأخرى. إلاّ أن يكون قد ضمّ العنصرين وبالتالي حوّل الخوار ليتكيّف مع الخبر.
ومن جهة ثانية نرى توافقاً بين متى ولوقا لا نجده عند مرقس وخاصة في إيراد تث 6: 5؛ لا 6: 4- 5. ثم هناك نيّة الكاتب. قال مت 22: 35 ان الكاتب نصب فخاً ليسوع. وقالت لو 10: 25 إنه أراد أن يحرجه، أن يمتحنه ويجرّبه. رأى لوقا في الكاتب شخصاً مستعداً لقبول كلمة الله وللحوار مع يسوع (آ 27، 28، 37). أما مر 12: 34 فسيذهب أبعد من لوقا، فيرى أن هذا الكاتب ليس بعيداً عن ملكوت الله.
انتقال من نيّة "طيّبة" لدى مرقس، إلى نيّة "سيّئة" لدى متّى ولوقا. هذا الإنتقال تمّ على أثر الصراع بين الكنيسة الأولى واليهود.
كل هذا يدعونا إلى أن لا نكتفي بتقليد لوقاوي مستقلّ كل الإستقلال في 10: 25- 38، كما لا نكتفي بعمل تدويني انطلق فيه لوقا من إنجيل مرقس. ولهذا يلجأ بعض الشرّاح إلى ينبوع تبعه لوقا وحده. أمّا متّى فجمع هذا الينبوع مع نصّ مرقس. أما الاب بوامار فجعل في أساس الإزائيين الثلاثة إعلاناً أجاب فيه يسوع على طريقة رابي هلال: سأله كاتب عن أعظم الوصايا، فأجاب: أحبّ قريبك مثل نفسك.

ب- أحب فتحيا
ومهما يكن من أمر المراجع، لا بدّ من أن نلقي ضوءاً على الوجهات التي توسّع فيها لوقا وانتهت بهذا النداء: "اعمل هذا (أي: أحب) فتحيا".

1- ماذا أعمل (آ 25؛ رج آ 28)
حين قدّم لوقا سؤال الكاتب بعد أن حوّله، بيّن انه لا يهتم بالجدالات النظرية بين معلّمي الشريعة حول أعظم "الوصايا". نشير إلى أن لوقا لا يستعمل هنا كلمة "وصية". ما يهمّ لوقا هو محبّة الله ومحبة القريب كشرط للخلاص. لسنا أمام ما يجب "أن نقول"، بل ما يجب "أن نعمل" (مت 23: 3؛ لو 11: 28، 46). سأل: "ماذا أفعل"؟ أجيب: "إفعل هذا فتحيا" (آ 25، 28). وسيقال له في خاتمة المثل: "إذهب أنت واعمل مثله" (آ 37).
إن الشريعة باقية كقاعدة حياة لا كموضوع جدال ومناقشات نظرية. ويسوع "يتمّها" أي يحرّرها من شروح قتلت فيها الروح، ويعيدها إلى المحبة وهذا ما يزيد من متطلّباتها (رج مت 5: 21- 48). فعلينا أن نعيش في كل الظروف حسب هاتين المحبتين ولا نجادل ولا نلتهي في مضمون الوصايا، فنحاول بذلك أن نتهرّب من متطلّباتها (رج مت 15: 1- 9).
قد تكون هذه العودة إلى الجوهر سابقة للوقا، ولكنها توافق نظرته كل الموافقة. فبعد حرب طويلة ضدّ دخول روح الشريعة الضيّق إلى الكنيسة، كتب القديس بولس (معلّم لوقا): الشريعة كلها تتمّ في كلمة (وصيّة) واحدة: أحبب قريبك كنفسك (غل 5: 14؛ روم 13: 8- 10). فتلميذ جملائيل القديم عرف عن طريق الخبرة، ثم استنار بتعليم يسوع المحفوظ في الكنيسة، عرف ان استعمال الرابانيين للفتاوى بطريقة قانونية ومفصَّلة (حسب الحرف) جعل الظلمة تخيّم على الحب فلم يعد في المكان الأول، وجعل الإنسان ينصّب نفسه ينبوعاً لخلاصه الخاص.
غير أنّ بعض المعلّمين الكبار في العالم اليهودي قد واجهوا كثرة الفرائض والمحرّمات التي توسّعت فيها "نقابتهم" ورتّبتها ترتيباً دقيقاً، فأعادوا الشريعة كلها إلى محبة القريب. وعبروا عنها خاصة بشكل سلبي: "لا تفعل للغير...".
هنا نذكر هلال (حوالي 20 ق. م.) الذي قال: "ما تكرهه (لا تحبه) لنفسك لا تصنعه لقريبك". وما تبقى شرح وتأويل. هذه هي "القاعدة الذهبية" التي نقرأها للمرة الأولى في طو 4: 15 (ما لا تحبّه لا تفعله لأحد، رج حكمة احيقار الواردة في أع 15: 20، 29 حسب بعض الشواهد) ثم في لو 6: 31 ومت 7: 21 في تعبير إيجابي. قال يسوع: "عاملوا الناس مثلما تريدون أن يعاملوكم". وحوالي سنة 135 ب. م.، قال رابي عقيبة ان وصية لا 19: 18 هي مبدأ مهمّ في الشريعة (التوراة). وفي "رسالة ارستيس" (بداية القرن الثاني ق. م.) قدّم حكيم يهودي نصيحة إلى الملك بطليموس فيلدلفوس: يعامل شعبه بالحسنى، ويتذكّر أنه هو أيضاً يرغب في السعادة ويستند إلى رحمة الله تجاه البشر جميعاُ.
يختلف لوقا عن متّى ومرقس اللذين يجعلان الجواب في فم يسوع. أما هو فيجعل يسوع يطرح سؤالاً على سؤال الكاتب ويدفعه إلى الإجابة. هذا يدلّ على أن لوقا لا يعتبر تعليم يسوع بداية مطلقة، بل امتداداً لما في الشريعة القديمة وتكميلاً له كما سنرى خاصة في المثل.
هناك شرّاح يظنون أنّ لوقا لا يتكلّم عن الحدث الذي يشير إليه متّى ومرقس، وأن معلّم الشريعة يكتفي بأن يردّد تعليماً سمعه من يسوع. هذا ما قاله يرامياس. ولكن كالفيلد يعتبر أن الإتصالات الأدبية عديدة بين الإزائيين الثلاثة، بحيث لا يعقل أن نكون أمام حدثين مختلفين.

2- محبتان، محبّة الله ومحبّة القريب
لقد ضمّ الكاتب في قول واحد الله والقريب كموضوع محبّة. هذا الضمّ عرفه العالم اليهودي. هذا ما يقوله فيلون الإسكندراني و"وصيات الآباء الإثني عشر" (وصية يساكر، وصية دان). ولكن إذا عدنا إلى الوصيات، وجدنا أنّ وصيّتي المحبة، وان جُمعتا، فقد وُضعتا بين سائر الوصايا. ولهذا لم تُعتبرا كمبدأ يوحّد العمل الأخلاقي كله. ثم إن يسوع يذهب أبعد من فيلون. فهو لا يهتم بأن يرتّب الفرائض والممارسات، بل أن يكتشف إرادة الله ويتمّها. من هنا يبرز دور المحبة.
يجعل لوقا الجواب في فم الكاتب بانتظار أن يأخذه يسوع على عاتقه كتهيئة لما سيقوله فيما بعد. ولا ننسَ ان تعليم يسوع الأخلاقي يتجذّر في التقليد اليهودي، كما يتجذّر العهد الجديد في العهد القديم.
بالإضافة إلى ذلك، يورد لوقا تقليداً يضمّ في جملة واحدة تث 6: 5 ولا 19: 18. هو لم يميّز كما فعل متّى ومرقس بين وصيّة "أولى" ووصية "ثانية". كما أنه لا يسعى إلى إقامة تراتبية بين وصيّتي المحبة، أو بين وصيّتي المحبة وسائر الوصايا. ولم يشدّد أيضاً كما فعل متّى (22- 39) فاعتبر أنّ الوصية الثانية "شبيهة" بالأولى. فاهتمام لوقا الرئيسي هو واقع محبّة القريب وشموليّتها حسب تعليم يسوع: ان الحوار في آ 25- 28 هو في الواقع مدخل لمثل السامري.
ولكن هذا لم يمنع يسوع من أن يوافق (آ 28) على جواب الكاتب: "بالصواب أجبت". فتساءل عدد من الشرّاح: كيف نوفّق بين هذا القبول لدى يسوع والعداء الذي يتضمّنه فعل "جرّب، أحرج"؟ نجيب: عرف ناقلو التعليم الإنجيلي أنّ يسوع أخذ بقسم من تعليم الكتبة (رج مت 23: 3: إفعلوا كل ما يقولونه). ولكنه عاب عليهم انهم يقولون ولا يفعلون. فجوابا الكاتب في آ 27 و37 صحيحان وهما يفترضان إرادة طيّبة وبُعد النظر رغم ما فيهما من عداء خفي وحب للتظاهر (هو يعرف).
يتضمّن جواب الكاتب (آ 27) شيئاً مهمّاً وقد عبر عنه بوضوح لا مثيل له: لا فصل بين محبّة الله ومحبة القريب. يستحيل علينا أن نظن أننا نحب الله الذي لا نراه بمحبّة تسيطر على كل كياننا، كما يطلب سفر التثنية، دون أن نحبّ القريب بصورة ملموسة. مثلاً: أعمال الرحمة، غفران الإساءة، الصلاة...
قد لا تتضمّن محبة القريب هذه ميلاً حسّياً (هذا ما يحدث لنا مع الأعداء، رج 6: 35) غير أنّ عبارة "مثل نفسك" تشبه محبة يوناتان الذي تعلّق بداود وأحبّه "كنفسه"، فأعطاه رداءه وسلاحه ليصبح وإياه كائناً واحداً (1 صم 18: 1- 44). فزخم الشخص كله الذي يعطي ذاته للآخرين ليؤمّن لهم خيرهم الحقيقي، سيخضع لنفسه سائر الشرائع بما فيها شريعة السبت التي استند اليها خصوم يسوع ليمنعوه من إجراء شفاء امرأة مريضة (13: 14- 17). فمحبّة الله لا تقوم بأن نظن اننا نخدمه "حين نغلق احشاءنا" (يو 3: 17) على القريب في الضيق، كما فعل الكاهن واللاوي (آ 31- 32) أو الإبن الاكبر الذي تمسّك بطاعته لأبيه ورفض أخاه (15: 28- 30).
ومقابل هذا، حبّنا لله وحده يدلّ على صدق حبّنا للقريب، فنقدم له الباعث الأخير بشكل طاعة بنوية (مت 7: 21 ي؛ لو 6: 46 ي) أو اقتداء بحنان الله وصلاحه الخلاّق وعمله الفدائي (6: 35- 36 وز؛ مت 20: 15)0 أنا أحب القريب في ذاته ومن أجل ذاته. ولكنني لا اعتبره قريبي إلا لأني أرى فيه خليقة الله وصورته. هذا ما نجده في العالم اليهودي الفلسطيني. فقد كان رابي بن عزي (حوالي 110 ب م) أول من ذكر شبه الإنسان بالله وجعل هذه الفكرة باعثاً للحب. وجاء حدث الفصح فحقّق المعجزة الجديدة وكشفها لنا: نحن أبناء الله في الإبن، الوحيد وأعضاء "بالقوة" في جسد المسيح عينه.
لا شكّ في أن عدداً من الناس لا يلتقون الله إلاّ عبر قناع "قيم مثالية" يعتبرونها مطلقة. حين يخدمون القريب بتجرّد، فهم يعملون حبّا بالله دون أن يدروا. هذا ما تعلّمنا إياه لوحة متّى عن الدينونة: إن الذين أعانوا البائسين وصلوا إلى المسيح وبالتالي إلى الله. أحسّوا دون أن يعلموا بحضور الله على الأرض (مت 25: 37- 40). ولكن ما تتضمنّه هذه الأعمال من حقيقة، لا بدّ من أيضاًحه والإفصاح عنه، وهذه إحدى مهمّات الكرازة المسيحية التي تكشف للبشر عن الأسباب العميقة التي تدفعهم إلى المحبة.

3- "فتحيا" (آ 28؛ رج آ 25)
ترتبط محبّة الله ومحبة القريب في نظر لوقا بميراث "الحياة الأبدية". هذه عبارة متواترة في العالم اليهودي المتأخّر مثل مزامير سليمان (14: 10) وسفر اخنوخ (40: 9). لقد طبّقها لوقا (رج أيضاً 18: 18: الرجل الغني) على مصير الفرد الذي ينال السعادة بعد الموت. وشدّد هنا على هذا الموضوع بتضمين حدّدته المقابلة بين "عمل" و"حياة" ("تحيا") في بداية القطعة (آ 25) وفي نهايتها (آ 28).
يبدو أن آ 28 تلفح إلى لا 18: 5: "الإنسان الذي يعمل بشرائعي وفرائضي يحيا بها". ويورد بولس النصّ عينه (غل 3: 12؛ روم 10: 5) في معنى مختلف جداً: لا تستطيع الشريعة أن تبرّر لأن "البار بالإيمان يحيا" (حب 2: 4) ولأن لا 18: 5 يربط الحياة لا بالإيمان بل بممارسة كل الفرائض، وهذا أمر مستحيل عملياً (غل 5: 3؛ أع 15: 10). غير أن التناقض هو في الظاهر فقط: فلوقا يعرف كل المعرفة اننا نحصل على البرارة بالإيمان بالمسيح (أع 13: 38- 39). ويعلن بولس بدوره أن الإيمان الذي يبرّر هو الذي "يفعل بالمحبة" (غل 5: 6). وان التعدّي على هذه المحبة يمنعنا من أن "نرث ملكوت الله" (غل 5: 21).

ج- مثل السامري (آ 29- 37)
يبدو خبر السامري الخاص بلوقا كنموذج أكثر منه كمثل. فكل التفاصيل تعمل بنفسها (دون انتقال) لتبرز درسين إثنين. الأول: تعارض بين موقف "الرحمة" لدى المسافر وتهامل رجلَي العبادة، وهذا يدلّ على انّ الرحمة أفضل من الذبيحة. الثاني: هذه الرحمة التي مارسها سامري ليعين رجلاً يهودياً في الضيق، تدلّ على أن الغريب الذي لا يقيم في الأرض، بل العدو، يمثلاًن أيضاً القريب.

1- سؤال الكاتب (آ 29)
أراد معلّم الشريعة أن يبيّن أنّ سؤاله كان مهمّاً، أن يبرّر نفسه لأنه طرح سؤالاً لا يعرف جوابه. أو أراد أن يبيّن اهتمامه بأن يكون باراً حسب الشريعة (16: 15؛ 18: 9)، فطرح سؤالاً ثانياً سيجبر به يسوع أن يجيب عنه بنفسه (آ 36: أي واحد في رأيك؟).
هذا السؤال الثاني ("من هو قريبي"؟) يشكّل إنتقالة بين الحوار عن المحبة الذي عرفه متّى ومرقس، والمثل الذي كان مستقلاُّ عمّا سبقه فأقحمه لوقا في هذا المكان. إذن، نحن أمام سؤال مصطنع يهدف إلى إطلاق الحوار من جديد وإدخال موضوع جديد نسبيّاً (ق 1: 34؛ 12: 57). نحسّ أن لوقا يهتمّ كل الإهتمام لكي يصل بسرعة إلى الجزء الثاني حيث نجد ما يقدّمه الإنجيل حقّاً من جديد. والتشابه في البنية بين 10: 25- 37 و18: 18- 23 يؤكد لنا هذا الشعور. ففي الحالتين نجد أولاً سؤال عمّا يجب عمله "لنرث الحياة الأبدية" (10: 25؛ 18: 18)، ثم جواباً مأخوذاً من أسفار الشريعة (10: 27؛ 18: 20)، وأخيراً متطلّبة جديدة تعبّر في الإنجيل عن جذرية لا ترضى بالمساومة: توزيع كل ما لنا للفقراء (18: 22) ودفع من دون حساب عن رجل أساء إليه اللصوص، موقفان يشبه الواحد والآخر ويعلّماننا بذل الذات من أجل القريب.

2- الخبر (آه 3- 35)
إذا كان الخبر قد وُجد في الأصل بمعزل عن مفهوم "القريب"، يجب أن نبدأ بقراءته في حدّ ذاته دون أن نُدخل قبل الوقت مسألة القريب.

أولاً: المكان
الرجل الذي عرّاه اللصوص وضربوه وتركوه بين حي وميت، كان نازلاً من أورشليم إلى أريحا. إن تحديد الموضع هذا يدلّ على معرفة بالمحيط الفلسطيني: طريق تمتد على ثلاثين كلم، تمرّ في الصحراء وتربط المدينة المقدّسة بأريحا التي تقع تحت سطح البحر. هذه الطريق تصلح لتكون مخبأ للصوص. ويمّكننا اليوم أن نتخيّل المشهد إن نحن تركنا طريق السيارات ومشينا سيراً على الأقدام في "الطريق التركية" القريبة من "وادي القلت".

ثانياً: إمتناع الكاهن واللاوي
بعد أن قدّم لنا لوقا الجريح، مرّ بسرعة على الكاهن واللاوي: رأيا البائس مُلقى على حافة الطريق، فانتقلا الى الجهة المقابلة وابتعدا. لماذا هذا التصرّف البغيض؟ هل افترض لوقا أنّ هذين "التقيّين" ظنّا أنهما أمام جثة فخافا أن يتنجّسا فتمنعهما الشريعة من العمل في الهيكل ومن الإتصال بإخوتهما (رج لا 21: 1؛ عد 19: 11)؟ وهكذا بدا سلوكهما عادياً بالنسبة إلى السامعين! إذا كان السامعون لم يندهشوا، أمّا الراوي فقد دُهش من مثل هذا التصرّف. أما ذروة الخبر فنجدها في التعارض بين اليهود الذين لا يحبّون والسامري الذي يحبّ.
ومن جهة ثانية، نلاحظ أن اليهوديين اللذين يقابلان السامري الرحوم ينتميان إلى الكهنوت اليهودي ويمارسان شعائره. حينئذ نفكّر بنصّ هو 6: 6 الذي يذكره متّى مرتين في 9: 12؛ 12: 7 ويشير إليه في 23: 23: "أريد الرحمة لا الذبيحة". فالكاهن واللاوي يشاركان في عمى الفريسيين الذين هاجمهم يسوع في إنجيل متّى (23: 1 ي). إنهما يرمزان إلى التعلّق الضيّق بالفرائض الطقسية. غير أنّ الله يهتمّ بالأحرى بممارسة الرحمة: هو يرأف بالخطأة ويطبّق شريعة السبت تطبيقاً يدلّ على حنانه وإنسانيّته، كما يقول متّى. وهو يطلب منا أن نعمل من أجل رجل تعيس ولو تجاوزنا (أو: ظننا أننا نتجاوز) شرائع الطهارة. وفي نصّ مرقس (12: 28- 31) عن الحوار حول الوصية الأولى، فهمَ الكاتب هذه الحقيقة بنفسه وهو القريب من ملكوت الله، فهمَ أن محبّة القريب "أفضل من كل الذبائح والقرابين". فشعائر العبادة التي تنظّمها الشريعة ليست فوق المحبّة التي هي قلب الشريعة.

ثالثاً: "رحمة" السامري
والرجل الثالث الذي مرّ قرب الجريح كان سامريا يعمر قلبه بالمحبّة. لا بدّ أن هذا القول أدهش سامعي يسوع بما فيه من دعابة قريبة من السخرية: واحد من هؤلاء السامريين الذين يحتقرهم اليهود ويعتبرونهم هراطقة (ضالين) ومنشقّين (عن الإيمان الحقيقي)، بغيضين وبلهاء وآخر الخطأة (2 مل 17: 24- 41؛ سي 50: 25- 26؛ يو 4: 9، 20؛ 8: 48). هذا الشخص ساعد رجلاً مجهولاً يظنه الناس يهودياً (نحن في اليهودية). وهكذا بيّن أنه فهم إرادة الله كما أعلنها هوشع أكثر من ممثلي العالم اليهودي الرسمي الذي يعتبر نفسه صاحب الدين المستقيم. على ضوء هذا الإنقلاب في الأدوار، شكلت طريقة تصرّف المسافر الغريب في دعوة لممارسة الرحمة (الشفقة، الحنان، الصلاح) بسخاء وفاعلية دون أي حدود على مستوى العرق واللون والدين.
يبدو أن الخبر يستقي مواده من 1 مل 13: 12- 32 (النبي الذي يستقبل رجل الله) ومن 2 أخ 28: 8- 15: سمع رؤساء السامرة للنبيّ عوديد فعاملوا الأسرى بالرأفة، وحملوا الضعفاء، على حمير وجاؤوا بهم إلى أريحا. ويستقي الخبر أيضاً من هو 6: 9 حيث نقرأ: "وكما يرصد اللصوص إنساناً، كذلك زمرة الكهنة يقتلون في طريق شكيم" (يقتلون المؤمنين الآتين إلى المعبد).
لا يتساءل السامري إن كان الجريح يهودياً أو غير يهودي، إبن بلده أو غريباً، صديقاً أو عدوّاً. يكفي أنه وجد نفسه أمام شخص متضايق ويحتاج إلى مساعدة. ولم يفعل له شيئاً دون آخر. بل فعل له كل ما يقدر على فعله. ويصوّر الراوي بالتفصيل تدخّل هذا السامري، فيبرز ما في امتناع الكاهن واللاوي عن المساعدة من بشاعة.
وإن رحمة السامري التي بدت متجرّدة كل التجرّد، كانت مثالية إلى حد أنّ عدد من آباء الكنيسة اكتشفوا فيه سمات يسوع نفسها. وهكذا قرأوا مثل السامري ورأوا رموزاً في كل التفاصيل. السامري هو يسوع الجريح هو البشرية. أورشليم هي الفردوس. أريحا هي العالم. اللصوص هم الشياطين. الفندق هو الكنيسة حيث يعتني المسيح بالنفوس. الكاهن واللاوي يمثلاًن الشريعة التي لا تفعل شيئاً للإنسان.
وإذا وضعنا هذا البحث عن الرموز جانباً، نرى أن المحيط الحياتي الأول لهذا المثل هو عمل يسوع الرسولي. لقد دافع عن نفسه وشرح لممثّلي النظام أي طبقة الكهنة والفريسيين، شرح لهم تصرّفه الرحيم تجاه المرضى الذين يشفيهم حتى في السبت (13: 10- 17؛ 14: 1- 6؛ مر 3: 1- 6 وز)، تجاه الخطأة الذين يعاشرهم ويردهم إلى الله (لو 5: 29- 32 وز؛ 7: 34- 50؛ 19: 1- 20؛ 15: 1 ي وأمثال الرحمة الثلاثة)، تجاه التلاميذ الذين يبرّئ ساحتهم عندما يقطفون سنبلاً ويأكلون يوم السبت (مت 12: 1- 8) أو يخالفون "تقاليد القدماء فلا يغسلون أيديهم قبل الطعام" (مت 15: 2).
إن كل مواقف يسوع هذه تدلّ على "رحمته" التي هي انعكاس لرحمة الله، وعملٌ بحسب إرادته كما نجدها في هو 6: 6 ومت 9: : 13؛ 12: 7. وهذه المواقف تجد صورة لها في هذا الخبر. واستعماله كلمة "أشفق، تحرّكت فيه الشفقة" في آ 33 تؤكّد هذا التفسير. ففي العهد الجديد يتفرّد الإزائيون باستعمال هذا الفعل الذي يشير إلى شعور يمسك في "الرحم"، ويعبّر دوماً عن شفقة يسوع (7: 13؛ مت 9: 36؛ 14: 14؛ 15: 32؛ 20: 34؛ مر 6: 34؛ 8: 2؛ 9: 2) أو شفقة الله التي صوّرها والد ابن الشاطر (15: 20) أو الملك الذي أعفى خادمه من دين كبير (مت 18: 27). جسّد يسوع شفقة الله ورحمته، فدلّت عليه جميع النصوص ومنها لو 10: 33: "أشفق عليه".
تخفّى يسوع خلف السامري ليدعو سامعيه إلى أن يقاسموه رحمته الفاعلة، وبالتالي أن يكونوا رحماء كما أن الله رحيم (6: 36). دعاهم إلى أن لا يقتدوا بالموقف السلبي الذي وقفه الكاهن واللاوي، أن لا يتشبهوا بموقف الأخ الأكبر (لو 15) والعبد الذي لا شفقة في قلبه (مت 18). وقد أبرز لوقا هذه الدعوة الملحّة فقال: "إذهب انت واعمل مثله".

3- الحوار الأخير (آ 36- 37)
أولاً: من صار (كان) قريب...
إذا كان لقراءتنا للمثل ما يبرّره، ننتظر في النهاية سؤالاً شبيهاً بهذا السؤال: "من من الثلاثة صنع مشيئة الله (مع العلم أنك تعرف الكتب المقدّسة ولا سيما هو 6: 6) في تصرّفه تجاه الجريح"؟ ويبقى ما تبقّى من الآيتين الأخيرتين على ما هو. ولكن يسوع سأل الكاتب: "من صار قريباً من الرجل البائس"؟ لقد كيّف لوقا (او سابقه) هذا السؤال الأخير على الذي طرحه الكاتب على يسوع والذي حسبناه مصطنعاً وذات معنى في الوقت نفسه: "من هو قريبي" (آ 29)؟ وها هو المثل ينتزع الكاتب من عالم تعوَّد عليه ويقدّم له نظرة ناشطة وعملية وديناميكية الى القريب، كما يقدّم الطريقة التي بها نحبّه لنرث الحياة الأبدية.
في هذا المنظار، يدلّ امتناع الكاهن واللاوي عن العمل على أنهما يشكّان في واجبهما ويتساءلان إن كان هذا الجريح قريبهما. حينئذ يبرز الإنتماء العرقي للسامري في وجه جديد: كما أن الجريح يقدر ان يتعرّف إلى قريبه (في المعنى الفاعل. هو الذي يفعل) في ذلك الذي اقترب منه واعتنى به كل العناية، كذلك انت تعرّف إلى قريبك (في معنى منفعل، من يفعل معه خيرٌ) في كل إنسان. تعرف إليه بالأعمال. لا تحسب فقط الممارس الأمين للشريعة من إسرائيل الحقيقي. بل أيضاً اليهودييّ الأمّي والذي لا يعرف الشريعة (شعب الأرض). ولا تحصر مدلول القريب في أخيك الذي من شعبك ودينك كما اعتدت أن تفعل، بل في كل إنسان ولو كان غريباً أو عابر سبيل والذي تعتبره من أعداء شعبك.
هذا ما يقوله لوقا، على ما يبدو. إنه يكتفي بالإفصاح عمّا يتضمّنه الخبر حقاً، ويلقي عليه ضوءاً حمله يسوع ولا سيّما عبر الوصية: "احبوا أعداءكم" (6: 35). والتواصل يبدو بوضوح أكبر إذا قلنا إن يسوع، وهو اليهودي، رسم نفسه في ملامح مسافر خرج من هذا الشعب السامري الذي أظهر له محبة وعطفاً خاصين كما أشار إلى ذلك لوقا ويوحنا (لو 9: 51- 56؛ 17: 11- 19؛ يو 4: 1- 42؛ أع 1: 8؛ 8: 5- 25).

ثانياً: اعمل مثله
نلاحظ أن يسوع لم يطبق إسم القريب على الذي نال الرحمة بل على الذي مارس الرحمة. ولقد رأى الشرّاح في قلب سؤال الكاتب الهدف الأساسي من الخبر: لا تحاول أن تضع حدّاً لرحمتك فتدوّن لائحة بالذين يجب أن تحبّهم. بل اذهب إلى مساعدة كل من يحتاج إلى عونك. هناك انتقال من "أنا" (قريبي) إلى "أنت" (إذهب)، من المستوى النظري إلى مستوى العمل الملمولس تجاه كل إنسان نلتقيه في طريقنا: "إذهب انت واعمل مثله".

د- خاتمة
ما هي الحالات الجديدة التي أشار إليها لو 10: 25- 37 في الكنيسة الأولى؟ هل فكر بالعلاقات الصعبة بين اليهود وتلاميذ المسيح، بين المسيحيين المتهوّدين (الذين من أصل يهودي) والمسيحيين الهلينيين (من أصل يوناني)، بين العبيد والأحرار (غل 3: 28؛ 1 كور 12: 13؛ كو 3: 11)؟ مهما يكن من أمر، نحن أمام نصّ مفتوح يؤوَّن تعليمه في مختلف الحالات حتى نهاية العالم. فالبشرية تتوصّل دوماً إلى استنباط تناقضات جديدة على مستوى الأفراد والجماعات. في الماضي، كان اليهود والسامريون. ثم أبناء الأرض والمهاجرون، العمّال وأرباب العمل، البيض والعبيد، الأصوليون والمتقدّمون... ولكن الإنجيل ما زال يتوجّه إلينا: هل انت مقتنع أنّ محبة الله والقريب تتمّ الشريعة كلها، وأن التقوى الدقيقة لا قيمة لها من دون الرحمة؟ وهل يقودك يقينك إلى عمل ملموس من أجل القريب، عرفته أم لم تعرفه، التقيت به صدفة أم تلتقيه كل يوم؟ هل ما زال في عملك وبالتالي في قلبك تمييز مؤسّس على العرق والوضع الإجتماعي والثروة والدين والثقافة والعمر والآراء السياسية؟ هل ان الصراع من أجل العدالة (لا تفترق عن المحبة الصحيحة) والالتزام بأشكال المساعدات الجماعية ينسيانك حاجات أقرب المقرّبين إليك، والعكس بالعكس؟
هذه الأسئلة وغيرها، ما زال المسيح الحي يطرحها على الذين يعرفون أن يسمعوا كلمته. إن كان جوابنا عملاً لا كلاماً فارغاً، ان تشبهنا به هو السامري الرحيم، سيكون لنا فرح اكتشافه في كل الذين أظهرنا لهم المحبّة والرحمة: "ما صنعتموه لأحد إخوتي هؤلاء الصغار، فلي صنعتموه" (مت 25: 40).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM