الفصل السابع : يسوع يرأس السبعين

الفصل السابع

يسوع يرأس السبعين
10: 1- 20

يشكّل هذا المقطع الخاص بلوقا محطّة هامّة في مؤلّفه (لو+ أع). لهذا نبدأ فنحدّد دوره في مجمل المؤلَّف قبل أن نحلّله بالتفصيل ونبرز مواضيعه المختلفة.
نلاحظ أولاً أن عنوان المقطوعة لا يوافق المعنى كل الموافقة. فالإنجيلي لا يقابل بين الرسل (الإثني عشر، رج 6: 13 و9: 13) وبين "التلاميذ". فنحن نرى في كل هذا المقطع (بين 9: 54 و10: 32) اختفاء لفظة التلاميذ. فالسبعون الذي نتكلّم عنهم الآن (آ 21 11) يتميزون بأنهم "مرسلون" و"حاملو تعليم" (9: 52) نالوا سلطة من الذي يمثلونه (آ 16). ولكنهم ليسوا رسلاً مثل الإثني عشر.
وعددهم ومهمّتهم ربطاهم لا بإسرائيل والقبائل الإثنتي عشرة وحسب، بل بكل شعوب الأرض. ونزيد أنه إن كان الإنجيلي أشار إلى عودتهم (آ 17) بعد إرسالهم (آ 1، 3)، فلأنه نظر إلى سياق الخبر. سيورد لوقا تعليمات أخرى يوجّهها المعلّم إلى "تلاميذه" ومنهم السبعون. ثم إن هذه العودة تبدو كاستباق نبوي. فعلى مستوى آخر تمتدّ مهمة السبعين حتى عودة الرب، وهذا ما سوف يخبرنا به سفر الأعمال.

أ- موقع هذه المقطوعة في مؤلَّف لوقا
تجد مهمة السبعين مكانها في بداية هذا القسم المركزي في إنجيل لوقا. ويسمّى هذا القسم مسيرة يسوع الطويلة إلى أورشليم (9: 51- 19: 27).
يبرز الإنجيلي ترتيباً وجده عند مرقس وينظّم مواد استعادها متّى أيضاً في إنجيله. جاءت هذه المواد من الكرازة الرسولية السابقة للأناجيل الإزائية، فقدّمت الصعود إلى أورشليم ووزّعت فيه الإنباءات الثلاثة بالآلام.
أمّا العناصر التي نجدها في هذا القسم المركزي فلا نجد ما يوازيها (الاّ شواذ قليلة) عند مرقس. لا يكرّر لوقا ما يقول، وإن هو كرّر خبراً فهذا التكرار له معناه. وفي الحالة الحاضرة لسنا أمام تكرار لرسالة الإثني عشر (9: 1- 6) بل أمام مهمّة جديدة تتّسع آفاقها: ستصل إلى العلم كله. ثم إن هذه المهمّة تبدأ في أرض سامرية (ق أع 1: 8؛ 8: 4).
رافق إرسال الإثني عشر بعضُ التعليمات القصيرة (9: 3- 5). أما هنا فأدخل لوقا خطبة حقيقية تشكّل في نسيج إنجيله "خطبة الرسالة" التي تقابل الرسالة الحقيقية وهي التي تعد "الطريق لمجىء الربّ" (10: 1؛ 13: 35).
هناك أولاً نظرة شاملة (مسكونية). وترتسم فوقها نظرة تقابلها هي نظرة اسكاتولوجية نستشفّها في هذا "الصعود إلى أورشليم" وخاصة في موضوع الوليمة. وهي تظهر في هذا المقطع بذكر مجيء الربّ الذي تحيط به صور خاصة هي: النار من السماء (9: 54)، الحصاد (10: 2)، الدينونة (10: 12- 15)، إنزال الشيطان عن عرشه (10: 18). ومقابل هذا يسمّى يسوع ربّ الملكوت (9: 54، 61؛ 10: 1، 17) وابن الإنسان (9: 56، 58)، ولا يذكر كالمعلّم الذي يقدّم تعليماً (هذا نجده في 10: 25).
نشير هنا إلى أن العبارة التي تبدأ السفر الطويل هي عينها التي تبدأ خبر العنصرة (أع 2: 1). هناك ملء الزمن. نقرأ في 9: 51: "ولما حان الوقت". وفي أع 2: 1: "ولما جاء يوم العنصرة". وهناك ذكر الحصاد. فعيد العنصرة هو في الأصل عيد الحصاد، حصاد القمح. وفي الخطبة الى السبعين يتحدّث يسوع عن الحصاد وعن ربّ الحصاد (10: 2).
والعالم الوثني الذي إليه تتوجّه مهمّة السبعين، هذا العالم يشير إليه النصّ بصور مختلفة. أولاً بالرقم 70 أو 72. نحن نعلم أن الرقم 70 يقابل في التقليد اليهودي عدد شعوب العالم (تك 10، تث 32: 8- 9). أمّا في التوراة اليونانية (السبعينية) فعدد الشعوب المذكورة في سفر التكوين يصبح 72 (6 * 12). ثانياً: تشبيه "الخراف بين الذئاب" (آ 3) يشير أيضاً إلى العالم الوثني في التقليد اليهودي، وسنعود إلى هذا فيما بعد. ثالثاً: يرمز ذكر صور وصيدا في الأناجيل (آ 13- 14) إلى استعداد الوثنيين لتقبّل البشارة تجاه قساوة قلب الشعب اليهودي. وهذه الإشارة الأخيرة تميّز بصورة خاصة نظرة لوقا في إنجيله كما في سفر الأعمال الذي يجد في هذا المقطع الخطوط الأولى لبرنامجه (أع 4: 25- 29؛ لو 13: 44- 51؛ 25: 23- 28).
وبما أن لوقا وعدنا في المقدمة انه يريد أن يروي الأحداث "بترتيب" (1: 3)، لم يرد أن يسبّق على الرسالة لدى الوثنيين. سيحدّد موقع بدايتها المتردّدة خلال سفر الأعمال في الزمن الذي جاء بعد العنصرة، وسيرينا في القديس بولس العامل الرئيسي الذي اختاره لهذا العمل يسوع القائم من الموت. غير أنه يربط هذه الرسالة بحياة يسوع على الأرض من خلال إرسال التلاميذ السبعين أمامه "إلى كل مدينة أو موضع عزم أن يذهب إليه".

ب- تحليل النصّ وتفسيره
ان 10: 1- 20 يكون وحدة تحيط بها عبارتان: "بعد هذا" (آ 1) "وفي تلك الساعة" (آ 21) والرسمة الإجمالية "إرسال (أو إنطلاق) وعودة" تحدّد هذين الجزئين بصورة طبيعيّة. استعملت هذه الرسمة في الحديث عن إرسال الإثني عشر (9: 10؛ رج مر 6: 7، 30) وسنجدها من جديد في سفر الأعمال ساعة الحديث عن المهمات البولسية (أع 14: 27؛ 21: 17- 20).
في كل درفة نجد خبراً يشكّل إطاراً لأقوال يسوع. أغلبها جُمع في المرجع الذي استقى منه لوقا (رج مت 9: 37- 38؛ 10: 10- 16) وبعضها وُضع هنا بيد لوقا (مثلاً، آ 13- 16، 17- 20).
وإذا أردنا أن نفهم النسيج العميق لهذه المجموعة والمدلول الذي ينتج عن هذا التنظيم، نعود إلى درس البنى ومعانيها.

1- الجزء الأول: الإرسال (آ 1- 16)
يركّز الجزء الأول (أو الإرسال) العمل كله حول شخص يسوع. فكما في الأخبار الإنجيلية، نجد توطئة اخبارية تقدّمِ عملاً توضح الأقوالُ معناه. وفى هذا الوضع تشكّل هذه الأقوال عملاً، عمل السيد الربّ، عملاً خلاّقا يؤسّس عمل السبعين الرسولي ويتمّ في الدينونة.
والعمل المنسوب الى يسوع في الخبر يتضمّن وجهتين ضروريّتين لتمثّل الرسالة في العهد الجديد كما في العهد القديم. هناك أولاً اختيار (رج 6: 13؛ مر 3: 13؛ يو 15: 16) نربطه "بتعيين" له أهميته الكبرى (مهما كانت أشكاله) في إقامة الخدم في الأزمنة الأولى للكنيسة (أع 1: 24؛ 6: 3- 6؛ 13: 2- 3؛ 14: 23).
"أرسلهم إثنين إثنين"، كما في مر 6: 7. هذا التفصيل يؤسّس عادةً أخذت بها الكنيسة الأولى. ونحن نرى تحقّق هذا الترتيب في سفر الأعمال: برنابا وبولس، برنابا ومرقس، بولس وسيلا...
وبعد أن عيّنهم يسوع أرسلهم إلى حيث عزم أن يذهب. لا يريد النصّ فقط أن يشير إلى مجيء يسوع التاريخي خلال حياته في فلسطين، بل أن يدلّ على مجيئه الاسكاتولوجي الذي ترتبط به الرسالة ارتباطاً وثيقاً. وهذا ما يفتح مساحة أمام الرسالة. والعبارة "كل مدينة (وكل) موضع" يوجّهنا أيضاً في هذا المعنى. أراد لوقا أن يعطيها بعداً شاملاً (مسكونياً) (رج الخطبة اللاحقة) فحوّر عبارة متّى: "المدن والقرى" (مت 9: 35). فلفظة "موضع تتعلّق بمناطق وبلدان".

أولاً: مدخل إلى الخطبة
إن الخطبة التي تحدّد البرنامج أو بالحري طبيعة هذه الرسالة، تبدأ بمدخل مركز على صورة الحصاد. هو إعلان بشكل نقيضة تقابل بين الكثرة والعدد القليل: حصاد كثير وفعلة قليلو العدد. وبعد هذا تأتي التعليمات. إن الأدب الاسكاتولوجي يلجأ مراراً إلى صورة الحصاد (يؤ 4: 13؛ مت 13: 39؛ رؤ 14: 15- 26). وترتبط صورة الحصاد بالفرح. رج أش 9: 2؛ مز 126: 5- 6؛ يو 4: 36. سيظهر هذا العنصر في القسم الثاني (آ 17- 20). أما لفظة "كثير" فتدلّ عادة في التوراة على العالم الوثني: شعوب كثيرة. نظرياً: 70 أو 72. رج أيضاً يو 12: 24 (أخرجت حبّاً كثيراً).
العمّال هم قليلو العدد. هذا ما يدل أولاً على المجموعة التي أرسلها يسوع، لا الإثنا عشر فقط، بل السبعون أيضاً. ومن خلال هؤلاء يدلّ العدد على كل الجماعة التي كانت أقلّية في العالم اليهودي وبالأحرى في العالم الوثني. نحن أمام "القطيع الصغير" الذي يذكره لوقا في 12: 32.
إن هذا العدد القليل من العمّال الأرضيين يقابل الجيش الكبير من الخدّام السماويين (دا 7: 10؛ لو 2: 13؛ مت 26: 53)، أي الملائكة الذين يعتبرهم التقليد منفّذي الحصاد الاسكاتولوجي (رج مت 13: 39- 41). إذن ينقلنا النصّ من الرمز الى الواقع التاريخي، ثم يمنح هؤلاء الحصّادين الأرضيّين (10: 20) وضعاً سماوياً.
وبعد الإعلان التعارضي يأتي أمر هدفه أن يتغلّب على غياب النسبة بين الكثير والقليل: إذن، صلّوا، اطلبوا من ربّ الحصاد.
هذا الأمر يتضمّن موضع الصلاة الذي يهتم به لوقا اهتماماً خاصاً، ويربط مبادرة الرسالة "بربّ الحصاد" أي بالله. وسيرينا سفر الأعمال نموذجاً عن هذا الوضع حين يحدّثنا عن القديس بولس. والزمن التاريخي لا يستنفد هذا الأمر، بل يبقي ينبوع الرسالة مفتوحاً: إذن، هناك مكان لآتين جدد يعملون في هذا الحصاد.

ثانياً: تعليمات من أجل الرسالة
الأمر بالإنطلاق "إذهبوا" يستعيد في صيغة الجمع أوامر تدشّن دعوات تلقّاها أناس في العهد القديم ("إذهب، وأنا معك").
"إذهبوا". هذا الأمر المطلق يزيل كل حدود أمام مهمة المرسلين (يختلف عن مت 10: 5- 6). والساحة المفتوحة أمام هذه المهمة قد حُدّدت سابقاً في التوطئة الإخبارية. حدّدت جغرافياً (كل مدينة وموضع). حدّدت زمنياً (حيث عزم أن يذهب). وفي الحالتين اهتم لوقا بالتشديد على شمولية الرسالة وهذا ما يحدّده أع 1: 8: حتى أقاصي الأرض.
ونجد أيضاً هذا الأمر على شفتي يسوع في نهاية الأناجيل. في مت 28: 18- 20: "إذهبوا وتلمذوا". في مر 16: 15: "إذهبوا إلى العالم كله". في يو 20: 21: "كما أرسلني أبي أرسلكم أنا". هذا الإرسال هو علامة حاسمة لتدخل الآب والقناة التي بها يمرّ هذا التدخّل (آ 16: من سمع منكم سمع مني).

ثالثاً: المرسِل، المرسل، موضوع الإرسال
إن آ 3 تعني الأشخاص المرتبطين في عمل الرسالة. أولاً، المرسل والمرسَلون في حوار مباشر: "ها أنا أرسلكم". وهذا ما يوضح الأمر الأساسي. فالمرسِل هو يسوع بصفته الرب (رج مت 28: 18). ثم، إن التعارض بين "الخراف والذئاب" (رج مت 10: 16: "النعاج") يرسم العلاقة بين المرسَلين والأشخاص الذين أرسلوا اليهم. لا تشير هذه الصورة فقط إلى أخطار الرسالة. فقد استعملت في أرض إسرائيل لتدلّ على وضع شعب الله وسط الشعوب الوثنية. وها قد انتقلت إلى "القطيع الصغير" إلى التلاميذ الذين يحميهم الراعي (هو المرسل نفسه: رج آ 19) حماية حقيقية من كل خطر. إذن، أرسلوا الى الشعوب الوثنية.

رابعاً: أشكال الرسالة
بعد هذه التحديدات حول الأشخاص يتوسّع القسم المحوري بصورة ملموسة في الرسالة ويحدّد أشكال ممارستها (آ 4- 11). وهي تدوَّن في نظرة واضحة أو غامضة من التنقّل الأفقي بدأته آ 1، تتبعه نظرة من التنقّل العمودي (معارضة بين فوق وتحت).
الأشكال الأولى هي سلبية. تعبّر عن حركة انفصال وتعني تصرّف لمرسلين وما يحملون أو لا يحملون معهم. أولاً: لا محفظة، لا كيس، لا حذاء. ثانياً: لا تسلّموا على احد في الطريق. وهكذا يحلّ هذا الإنفصال الأدبي انفصالاً مكانياً ضمنياً (انطلاق المرسلين). فالمرسلون لا يدعون إلى أن يتركوا مكاناً جغرافياً، بل أن يتخلّوا عن عالم هو "العالم الحاضر" الذي يتميّز بامتلاك الخيرات والكلام الفارغ. يتحدّث 12: 33 عن الكنوز الحقيقية وأف 6: 15 عن حذاء فاعل.
غياب المال ورفض التحية في الطريق (لئلا نتأخّر عن الرسالة. رج 2 مل 4: 29) يدلاّن على أن العلاقة بين المرسلين والذين يرسلون اليهم لا تتأسّس على وسائل التبادل في "العالم الحاضر" (مال، كلام فارغ) بل على وسائل أخرى أكثر فاعلية سيحدّدها النص فيما بعد.
وتتعلّق الأشكال الإيجابية بالأمكنة (بيوت، مدن) وتعبّر عن تبادل ومشاركة في بعض الخيرات.
ففيما يخصّ البيوت نجد ثلاث تعليمات. موضوع التعليمة الأولى (آ 5- 6): السلام على البيوت التي فيها يُستقبل المرسلون. مُنعت عنهم التحية الباهتة "في الطريق". أمّا هذا السلام فيمثّل عطيّة حقيقية تدل على وجهة ملموسة للسلام الذي هو علامة مجيء الملكوت، علامة الدخول إلى الملكوت (يو 20: 19- 21؛ رج 14: 27). نحن هنا أمام إحدى ثمار الروح (غل 5: 22) أو بالأحرى أمام الروح القدس عينه الذي به يرتبط عادة فعل "حل". يأتي الروح فيسكن البيوت (أو الجماعات) ليجعل منها مساكن الله ويحقّق التوافق في الأسر وبين الأخوة. هذا ما حصل في بيت زكا (19: 9). وهذا ما تحقّق لمسيحيّي أورشليم في أع 2: 44- 46؛ 4: 32.
والتعليمة الثانية تتعلّق بالطعام (آ 7). فعلى الجماعات التي أسّسها المرسلون أن تهتم بحاجاتهم المادية. هذا ما نجده لدى القديس بولس: "الذين يعلنون البشارة ينالون رزقهم من البشارة" (1 كور 9: 14: خادم المذبح يأكل من المذبح). وهو سيطبّق هذا الأمر على "الشيوخ" (أو القسس والكهنة): "العامل يستحق اجرته" (1 تم 5: 18). يستعمل لوقا مفردة "أجرة"، شأنه شأن بولس. أما مت 10: 10 فيتحدّث عن الطعام. في سياق هذا المقطع تشدّد لفظة "أجرة" على فكرة التبادل الحاضرة هنا. فالطعام المادي يقابل هذا "السلام" الذي يحمله المرسلون، يقابل كلمة الله والروح القدس، وكل هذا هو الطعام الحقيقي للملكوت (1 كور 9: 11).
والتعليمة الثالثة (آ 7) التي تحيط بالثانية تتعلّق بإقامة المرسلين. انها تدلّ على توقف مؤقت مارسه بولس في أعمال الرسل (14: 28؛ 15: 35؛ 18: 11- 18؛ 19: 10؛ 28: 30). ينضم هذا الأمر الى رسالة متنقلة فيدلّ على ثبات بيت الله أي الكنيسة وعلى ثمر الرسالة.
وحين يتحدّث النص عن العلاقات مع المدن يبرز الإختلاف (أشار إليه النصّ خفية حين تحدّث عن البيوت) بين القبول والرفض. وينتهي كل هذا بالإشارة إلى الدينونة.
وفي ما يخصّ التقبّل، يستعيد النصّ بشكل معاكس التعليمات حول البيوت. ينال المرسلون الطعام ويحملون الشفاء الذي يقابل السلام. وكل هذا هو نتيجة الروح وعلامة مجيء الملكوت: "ملكوت الله اقترب منكم" (أو: من أجلكم). هناك مقابلة بين ملكوت الله هذا والحياة أو الخلاص (19: 9) اللذين يدل عليهما الشفاء من أمراض الجسد أو من أمراض المجتمع بما فيه من خلافات ونزاعات.
ويشدّد النص: "كلوا ممّا يقدّمونه لكم". هذا يشير إلى مشكلة طعامية طرحت على الكنيسة الأولى بعد أن انتشر الإنجيل وسط الوثنيين. هل يأكل اليهودي ما يأكله غير اليهودي، هل يأكل مع اليهودي؟ أما يتنجّس؟ هذا ما تعلّمه بطرس قبل لقائه بالضابط كورنيليوس (أع 10: 9- 34). هنا نجد بذار كلام بولس: يهودي مع اليهودي، يوناني مع اليونانيين.
هناك قبول المرسلين وهناك رفض المرسلين، وهذا ما تحقّقنا منه في حياة يسوع (4: 29- 31) وفي حياة الرسل أنفسهم كما يروي ذلك أعمال الرسل.
ونلاحظ هنا أيضاً تبادلاً: يُرفض الرسل ويُرفض تعليمهم، فيخرجون ويرافق "خروجَهم" فعلة نبوية: ينفضون الغبار العالق بأقدامهم (رج 9: 5؛ مر 6: 11؛ أع 13: 51). فإذا عدنا إلى القرائن وأخذنا بعين الإعتبار السوابق الكتابية، تشير هذه الفعلة إلى الدينونة وتدلّ على الموت (رج 3: 19) الذي تقابله حياة نتعرّف إليها في مرحلة القبول (2 كور 2: 14- 16؛ مر 16: 16).
وهكذا تتّخذ إستعادة التعليم المتعلّق بقرب الملك، تتّخذ معنى إعلان دينونة ستوضحها آ 12 بالتذكير بعقاب سدوم، وبعبارة "في ذلك اليوم" (أي يوم الحساب). غير أنّ هذا التهديد يريد أن يدفع الناس إلى التوبة، ولهذا ترتبط هذه الآية بالجزء اللاحق.

خامساً: نظرة إلى الدينونة ويوم الحساب (آ 12- 15)
هناك سلسلة من التعارضات: سدوم وهذه المدينة، المدن اليهودية الخاطئة والمدن الوثنية التائبة. كل هذا يشكّل جزءاً جديداً مركّزاً على الدينونة والتوبة. وعبر هذه الأمثلة الخاصة، يشير النص إلى تعارض بين قساوة قلب الشعب اليهودي وتوبة الوثنيين (أع 28: 25- 28). وفكرة حلول شعب مكان شعب التي نقرأها في نهاية الجزء الثاني تبدأ هنا. أما آ 15 فتدخلنا في محور جديد. فالمستوى الأفقي المرتبط بالوجهة الجغرافية للرسالة عبر العالم يُمحى ويترك مكانه لمحور عمودي يقابل بين فوق (السماء) وتحت (الجحيم)، بين الإرتفاع والهبوط. وستمتدّ هذه النظرة في الجزء الثاني.

سادساً: الخاتمة (آ 16)
قرأنا سابقاً خاتمة مكثّفة تجمع القبول والرفض والمرسل والمرسلين وموضوع الرسالة، ثم تعود الى الينبوع الأول للرسالة: "الذي أرسلني" أي "ربّ الحصاد". انها تعبر عن الطبيعة العميقة للرسالة والمخرجين اللذين يبرزان أمام المرسل: إيمان أو عدم إيمان، مشاركة في ينبوع الحياة أم إنغلاق على هذا الينبوع.

2- الجزء الثاني: العودة (آ 17- 20)
يختلف بناء الجزء الثاني عن بناء الجزء الأول فيبدو بشكل استنتاج. فبعد العمل تأتي "الراحة". إن هذه الفظة البيبلية لا تظهر هنا كما في مر 6: 31، ولكن الواقع هو هنا: منذ الآن قُهر العدو بصورة نهائية. وها نحن نحدّد موقعنا هنا في السعادة اللاحقة، في ما وراء الدينونة واستباقاً لها. فرغم ظواهر الخبر وعلى مستوى المدلولات العميقة، ينقلنا النصّ إلى ما وراء التاريخ. لهذا يستعمل الأسلوب الرمزي.
يتميّز هذا الجزء بمناخ من الإرتياح يرافقه تسلسل النداءات الى الفرح والسعادة، مقابل ما حدّثنا الجزء الأولى عن "ويلات" (الويل لك يا كورزين).

أولاً: عودة المرسلين و"كلمتهم" (آ 17)
وعاد السبعون فرحين فتسجّلت عودتهم في المستوى الأفقي بعد آ 15- 16: في الواقع، ان هذه المقدّمة الاخبارية لا تنفصل عن الكلمة التي وجّهها المرسلون إلى يسوع الذي يسمونه "الرب" فيدلون على قدرته. ويشير تقريرهم إلى أمر لم يذكره الجزء الأول، فيبدو كزيادة غير منتظرة تثير الدهشة لدى المرسلين: "حتى الشياطين".
يذكر سفر الأعمال مثل هذه التقارير حين عودة بولس من رسالته (أع 14: 27: "جمعا الكنيسة وأخبرا بكل ما عمل الله على أيديهما"). هذا يعكس ولا شك عادة جرت عليها الجماعات الأولى، حيث كانت ليتورجية الكلمة لا تنفصل عن الحياة وتتضمّن شهادات حياة (أع 25: 3- 4، 12). من جهة ثانية نجد هنا تحقيقاً لقول أشعيا (55: 11): لا ترجع كلمة الله دون أن تنجح في مهمّتها. وسيقدّم لوقا في سفر الأعمال الرسالة على أنها نموّ الكلمة (أع 6: 17؛ 12: 24؛ رج 2 تس 3: 1). أما كلام المرسلين فيقدّم تراتبية بين ثلاث فئات من الكائنات: الشياطين الخاضعة للرسل (نحن)، باسم يسوع الرب (بفضل قدرته).

ثانياً: كلمة يسوع (آ 18- 20)
ويجعلنا جواب يسوع على المستوى الجلياني فيوسّع تقرير الرسل الذي توقّف عند وقائع غريبة ولكن جانبية، وقائع لا غد لها مؤكّداً. امّا يسوع فيؤسّس ارتياحاً ثابتاً في ثلاثة تأكيدات. *الأول: تأكيد على سقوط الشيطان، أي نهاية ملكه (آ 18). إن لفظة "رأيت" تربطنا بلغة الرؤيا. وموضوع سقوط الكواكب وكأنها آلهة (رج أش 14: 12- 15) يحيلنا إلى ما نقرأ في يو 12: 31- 32 (أنا متى ارتفعت) وإلى رؤ 12: 7- 12 (الحرب بين ميخائيل واثنين). فالحركة العمودية التي اعلنتها آ 15 ظهرت من جديد لتدلّ على فصل نهائي بين المرسلين وقوى الشرّ: لقد أزيل المعارض أو المعاند.
إن صورة "البرق" تدلّ على فجاءة الحدث. وإن فجاءة نهاية ملكوت الشيطان تقابل فجاءة مجيء الملكوت. كلاهما يأتيان فجأة، على مثال الروح الذي يهبّ فتسمع صوته ولا تعرف من أين يجيء ولا إلى أين يذهب (يو 3: 8).
* الثاني: تأكيد على انتقال السلطة من يسوع إلى مرسليه (آ 19). استعاد النصّ بشكل آخر تقرير الرسل ففتحه على المستقبل وأعطاه بعداً دائماً. والصور المأخوذة من عدّة نصوص كتابية (مز 91: 3؛ تك 3: 15) تتعلّق بالعدو الذي أعلن يسوع سقوطه الآن، وتوافق ما قيل عن "الخراف" و"الذئاب" في آ 3. فعلى التلاميذ أن لا يخافوا من شيء: إنهم يملكون سلطة أقوى من سلطة الشيطان. لقد قهروا قوى الموت.
* الثالث: تأكيد يتألف من شقّين متعارضين. يعبر عنه النصّ بشكل تطويبة تكمّل التطويبات السابقة (آ 20). موضوعها: ارتفاع الرسل. وهي تقابل سقوط الشيطان. وهي تؤسّس بصورة متينة ونهائية سعادة المرسلين فتعود بهم من نتيجة عرضية الى سبب عميق: أسماؤكم كُتبت في السماء.
مضمون هذه الآية يوازي مضمون 12: 32: "لا تخف أيها القطيع الصغير فقد سرّ أبوكم أن يعطيكم الملكوت". نحن أمام الإنتماء إلى الملكوت عبر الإنتصار على العدو. ولكن الآيتين تلفتان انتباهنا إلى عطية تربط المرسلين بالذي يرسلهم. إنهم ينعمون بهذه العطية وكأنهم وسطاؤها وعلامتها خلال رسالتهم.
ما هي هذه العطية التي لا يحدّدها النص؟ نستنتجها من القرينة: يحتل المرسلون "المكان" الذي صار فارغاً بعد أن سقط الشيطان ("سيّد العالم"). إنهم يملكون على العالم الجديد (22: 29- 30). نالوا الملك الذي هيّىء للإنسان منذ البدء.
"مكتوبة في السماء" نجد هنا تلميحاً إلى كتاب الحياة كما في رؤ 3- 5. رج خر 32: 32. وقد تعني السماء الله فنقول: كتبت لدى الله. إن النصّ الأساسي (خر 32: 32) يتضمّن صورة موسى (انتصر على فرعون فمجّده الله) مع 70 شيخاً. يشهد هذا القول على إظهار السلطات العجائبية في زمن الرسول وكأنها سلطات نسبيّة لا مطلقة (رج مت 7: 22؛ 1 كور 13). ويحذر من الأنبياء الكذبة والسحرة الذين تتحدّث عنهم التوراة.
وهذا المصير (الملك) لا يُحفظ للرسل وحدهم، بل يُعطى أيضاً للسبعين الذي يحلّون محلّ الملائكة (70: 72) الذين يحفظون الأمم. بل يُعطى أيضاً لكل مسيحي يعمل من أجل الملكوت ويتمّ عمل الحاصد (مت 19: 28؛ 1 كور 6: 2).
وبمختصر الكلام، نقتني الملك الحقيقي بالتعب اليومي (وبصورة ضمنية: بالصليب. رج 22: 9) الذي يثمر انتصاراً على قوى الشرّ. لأنه يتمّ بفضل قرار الآب الذي أظهره يسوع ودشّنه. ساعة تتحطّم البنى الكنسيّة التي تعبنا في تركيبها على مرّ العصور، ساعة تسيطر تجربة التشاؤم، تبدو هذه الصفحة الإنجيلية وكأنّها تتوجّه إلينا الآن. فتذكرنا أننا نعيش منذ العنصرة ساعة الحصاد: كل يوم تنضج ثمرة في مكان ما من العالم، والمعلّم يدعو فرقاً جديدة من الحصادين ليحلّوا محلّ الذين تعبوا. هذه الصفحة تجنّد الذين يريدون أن يسمعوا البشارة ويقاسموا الجميع ظروف حياتهم في موقف منفتح وبسيط عاملين بلا كلل ليملك السلام والاخوة، ليصبح العالم مسكن الله وأورشليم السماوية التي تصل إليها مواهب الأرض يحملها البشر الذين نالوا الخلاص

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM