الفصل السابع والأربعون: التوبة والارتداد

الفصل السابع والأربعون
التوبة والارتداد في أعمال الرسل
أ- مقدمة
تتوسع كرازة الرسل كما تظهر في أع حسب رسمة منظمة. هناك ثلاثة أقسام رئيسية. القسم الأول يعلن حدث الفصح: حَكم يهود أورشليم على يسوع بالموت، ولكن الله أقامه. ثم يرجع "الخطيب" إلى الأسفار المقدسة ليبرّر معنى القيامة: ما قاله الأنبياء عن المسيح قد تمّ في يسوع. ويستنتج القسم الأخير الخلاصة العملية: يجب أن نتوب، أن نرتد، أن نؤمن، أن نتعمّد، أن نحصل على غفران الخطايا ليتأمّن لنا الخلاص والحياة الأبدية. سنتوقف هنا عند القسم الثالث من الخطبة. ولكننا نشير إلى ثلاث ملاحظات:
1- وحدة العظة
إذا أردنا أن نعطي خاتمة الخطبة الرسولية معناها الحقيقي، وجب علينا أن لا نعزلها عن القسمين الأولين. فالارتداد الذي يُدعى إليه السامعون، هو نتيجة عملية للتعليم الفصحي. ونحن لا نقدر أن نفهم هذه النتيجة إن لم نأخذ بعين الاعتبار علاقتها بالتعليم عن القيامة. والنظرة المعاكسة هي حقيقية أيضاً: فطريقة عرض الأحداث وتنويرها بالأسفار المقدسة، يرتبط باهتمام "الواعظ" ليدعو السامعين إلى الارتداد. إذاً، تبدو كل عناصر الخطبة متماسكة. وإذا أردنا بطريقة ملموسة أن ندخل في منظار أع، وجب علينا أن نتطلّع إلى الارتداد في علاقته بالأوقات الحاسمة في تاريخ الخلاص: الآلام، القيامة، الدينونة الأخيرة.
2- الارتداد
حين نتكلّم عن "الارتداد" نعني الطريق التي يتخذها اليهودي أو الوثني ليصير مسيحياً. هذه الطريق متشعّبة، ونحن لن ندرس كل وجهاتها. أما اللفظة الخاصة التي يدل على جواب الإنسان على التعليم المسيحي فهي "الإيمان". وتعلّق الإيمان هذا نعبّر عنه بتقبّل العماد. لن نعالج تفكير المسيحيين الأولين حول الإيمان والمعمودية. بل نوجه انتباهنا إلى الفعل الذي يقابل ما نسميه "الارتداد" (ابيستريفو): استدار، عاد، رجع، ارتد. ونحلّل أيضاً فعل "ميتانوو": غيّر عواطفه، تاب. هذان الفعلان يعودان إلى العالم العبري والآرامي (شوب توب. رج في العربية: تاب، ثاب).
3- في إطار العهد الجديد.
إن استعمال هذين الفعلين يميّز لغة القديس لوقا. يستعمل كل من متى (13: 15) ومرقس (4: 12) فعل أبيستريفو مرة واحدة في إيراد أش 6: 10 أما لوقا فيستعمل الفعل مرتين في الإنجيل (1: 16؛ 22: 32) وثماني مرات في أع (3: 19؛ 9: 35؛ 11: 21؛ 14: 15؛ 15: 19؛ 26: 18، 20؛ 28: 27). ونزيد كلمة ارتداد (15: 3) وردّة (3: 26) التي تدلّ على وجهة الارتداد السلبية (تردّ كل واحد منكم عن شروره). أما فعل "ميتانوو" فيرد 3 مرات في مرقس، 7 مرات في متى، 14 مرة في لوقا (لو 3: 3= مر 1: 4 ومت 3: 2؛ لو 3: 8= لو 10: 13= مت 11: 21؛ لو 11: 32= مت 12: 41). يتفرّد لوقا بذكر كلمة "ميتانويا" عشر مرات (5: 32؛ 13: 3، 5؛ 15: 7 أ ب، 10؛ 16: 30؛ 17: 3، 4؛ 24: 47. مثلاً قال مر 2: 17: ما جئت لأدعو الأبرار بل الخطأة. فزاد لو 5: 32 "إلى التوبة"). ويستعمل الفعل 11 مرة في أع (2: 38؛ 3: 19؛ 5: 31؛ 8: 22؛ 11: 18؛ 13: 24؛ 17: 30؛ 19: 4، 20، 21؛ 26: 20 أب). يعالج القسم الأول من حديثنا موضوع الارتداد. وسندرس فيما بعد علاقة التوبة بموت يسوع وقيامته وعودته للدينونة الأخيرة.
ب- الإرتداد إلى الرب
ارتد أي استدار نحو آخر. فالارتداد هو اتخاذ موقف بالنسبة إلى شخص آخر. تستعمل النصوص عبارتين. ارتد إلى الله، ارتد إلى الرب. سنعالج كل عبارة على حدة. ثم ندرس التبدّل الذي يفرضه الارتداد على الذي يرتد: هو تبدّل يصيب كل طريقة عيشنا.
1- ارتد إلى الله
الطابع التقليدي لعبارة "ارتد إلى الله" نجده عند القديس بولس في رسائله. حين ذكر التسالونيكيين كيف استقبلوا كرازته في السنة الماضية، كتب لهم سنة 51: "اهتديتم إلى الله، وتركتم الأوثان لتعبدوا الله الحي الحق" (1 تس 1: 9). وبعد سنوات، سيحذّر الغلاطيين من تبنّي ممارسات يهودية تعود بهم إلى الوراء: "بعدما عرفتم الله، بل عرفكم الله، كيف تعودون (ترتدون) أيضاً إلى تلك العناصر الضعيفة الحقيرة وتريدون أن تكونوا لها عبيداً كما كنتم من قبل" (غل 4: 9)؟ لما أرادت الكنيسة الأولى أن تتكلّم عن الوثنيين، استعادت عبارة كرّسها الاستعمال اليهودي الهلنستي: حين يتعلق الوثنيون بالإيمان الحقيقي يميلون (يرتدون) عن آلهتهم الكاذبة، عن أصنامهم، ليتجّهوا (ليهتدوا) إلى الإله الحي، إلى الإله الحقيقي. يتم التبدل على المستوى الديني المحض. يتخلى المرتد عن عبادة الأصنام من أجل عبادة الله وتقديم الإكرام الواجب له.
تظهر هذه العبارة مرات عديدة في أع. ونسمع ما قاله بولس للوثنيين في لسترة: "جئنا نبشركم لتتركوا (لترتدوا عن) هذه الأباطيل وتهتدوا (تميلوا) إلى الله الحي الذي خلق السماء والأرض والبحر وكل شيء فيها" (14: 15). تجاه الأصنام التي هي أشياء لا حياة فيها ولا حركة، يقف الإله الحقيقي، الإله الحي والفاعل: خلق، وما زال يغدق حسناته على خلائقه: "أنزل المطر من السماء، وأعطى المواسم في حينها، ورزقنا القوت وملأ قلوبنا بالسرور" (14: 17). الاهتداء إلى الله هو الإقرار بأنه الإله الحقيقي وتقديم واجب العبادة التي لا تحق للأصنام.
ويورد ف 15 أن بولس وبرنابا عادا من رحلتهما الرسولية الأولى، وقدّما تقريراً للكنائس القديمة: "أخبرا عن اهتداء الوثنيين، ففرح الأخوة كثيراً" (1: 35). وبيّن يعقوب في مجمع أورشليم أن دخول الوثنيين في الكنيسة يقابل مخطّط الله كما عبّرت عنه النبوءات. وختم كلامه: "لذلك أرى أن لا نثقّل على الوثنيين الذين يهتدون (يرتدون) إلى الله" (15: 19). الاهتداء أو الارتداد إلى الله يدلّ على التزام الوثنيين بالوحدانية كما عرفها شعب إسرائيل. وستُستعمل الكلمة للتحدّث عن الالتزام بالتعليم الإنجيلي. أما العلاقة الواضحة فهي ترك الأصنام.
ويوضح بولس العبارة في خطبته أمام الملك أغريبا. التقاه الرب على طريق الشام، وأرسله إلى الوثنيين، وحدّد له مهمة: "أن يفتح عيونهم فيرجعوا (يرتدوا) من الظلام إلى النور، ومن سلطان الشيطان إلى الله" (26: 18). صورتان متميّزتان تحددان الاهتداء: عيون عمياء تنفتح، فتنقل الإنسان من الظلام إلى النور. ثم إن الذي كان في مخيّم الشيطان (هناك يمارس سلطانه)، انتقل إلى مخيّم الله وعاد إليه. صورة الأعمى الذي يستعيد النظر مأخوذة من أش 42: 7، 16. أما الصورة الثانية فتوضح عبارة شائعة تتحدث عن الاهتداء كرجوع إلى الله.
تسلّم بولس هذه المهمة فكرّس نفسه لها. "بشّرت أهل دمشق أولاً، ثم أهل أورشليم وبلاد اليهودية كلها ثم سائر الأمم الوثنية داعياً إلى التوبة والرجوع (الارتداد، الاهتداء) إلى الله والقيام بأعمال تدل على التوبة" (26: 20). إن بولس يدعو اليهود والوثنيين إلى التوبة والاهتداء. غير أنه يقول "الاهتداء إلى الله" فيعني بصورة مباشرة الوثنيين (فاليهود يعبدون الله الواحد).
وهنا لا بد من مقابلة 26: 20 مع 20: 21 التي هي ملخّص لنشاط بولس الرسولي في أفسس: "ناشدت اليهود واليونانيين أن يتوبوا إلى الله ويؤمنوا بربنا يسوع". يدل الفعل (ميتانوو) هنا على التوبة والارتداد (الرجوع) إلى الله. ينتظر الرسول أن يعود الوثنيون عن أصنامهم ليهتدوا إلى الله ويعبدوه. أما اليهود فيطلب منهم بصورة خاصة (مع الوثنيين) أن "يؤمنوا بربنا يسوع".
2- ارتد إلى الرب
"ارتد إلى الرب" يعني "ارتد إلى الله". فكلمة رب (كيريوس) في التوراة اليونانية تساوي كلمة يهوه الذي هو اسم إله إسرائيل المهيب، اسم الإله الحقيقي. يتخذ لوقا العبارة في معناها العادي حيث يعود إلى ملا 2: 6 فيحدد مهمة يوحنا المعمدان: "يهدي (يجعلهم يرجعون) كثيرين من بني إسرائيل إلى الرب إلههم". فالاهتداءات التي كان السابق سببها في بني إسرائيل، لا تشبه اهتداءات الوثنيين. قد يحتاج بنو إسرائيل إلى الارتداد دون أن يسقطوا في الشرك وعبادة الأصنام. من مال إلى الله عاد إلى عبادته. وبالتالي، من تخلّى عن عبادة الله، لم يعد متجهاً إليه. إذن، لا يمكن أن نميل إلى الله دون أن نخضع لإرادته، دون أن نقدّم له الإكرام والطاعة لوصاياه. حين جعل المعمدان مواطنيه يعودون إلى ممارسة ديانتهم ويطابقون حياتهم على متطلباتها، جعلهم يهتدون إلى الرب إلههم.
لا يستعمل أع عبارة "ارتد إلى الرب" في هذا المعنى اليهودي. حين يستعيدها يعطي كلمة "الرب" معناها المسيحي الخاص أي: يسوع في حالته المجيدة التي له بعد القيامة. حين يخبرنا لوقا عن تأسيس كنيسة أنطاكية، يشير إلي مبادرة بعض المرسلين الذين تجرّأوا "فخاطبوا اليونانيين أيضاً وبشروهم بالرب يسوع" (11: 20). وكانت نتيجة هذه الكرازة مشجّعة: "وكانت يد الرب معهم فآمن منهم كثيرون واهتدوا إلى الرب" (11: 21). "وانضم إلى الرب جمع كبير" (11: 24). إن الرب الذي اهتدى إليه أهل أنطاكية، هو الذي يعلنه الإنجيلي، هو الرب يسوع. واهتداؤهم يتضمّن الاعتراف بالإله الواحد كما في الوحي البيبلي. ولكن أع يشدّد في الاهتداء على الربوبية (والسيادة) التي منحها الله ليسوع حين أقامه من بين الأموات.
واجترح بطرس في لدة معجزة، فاهتدى عدد كبير. ثم شفى الكسيح إينياس قائلاً له: "يا إينياس، شفاك يسوع المسيح" (9: 34). وماذا كانت نتيجة المعجزة؟ "رآه جميع سكان لدة وسهل شارون، فاهتدوا إلى الرب" (9: 35). وهناك نتيجة مماثلة على أثر معجزة في يافا: "فانتشر الخبر في يافا كلها، فآمن بالرب عدد كبير من الناس" (9: 42). إن الرب الذي يؤمنون به ويرتدّون إليه هو الذي يبشر بطرس به ويجترح باسمه المعجزات، هو يسوع المسيح. ولكن يُطرح السؤال: هل كان المرتدّون الجدد من يافا ولدة وسهل شارون كلهم يهوداً، أم كان بينهم وثنيون؟ ما هو أكيد، هو أنه في ترتيب أع، لن تأتي ساعة اهتداء الوثنيين إلا فيما بعد (ف 10- 11). إذن، نحن فقط أمام يهود. هم حين يقبلون سيادة يسوع لا يميلون عن إله إسرائيل. وحين يتعبدون للرب يسوع، يتعبّدون أيضاً لعله الواحد.
حين نتحدّث عن الارتداد، نحدّد الاسم الذي إليه يعود المرتد: الله، الرب، ولكننا نجد شواذاً في نصين أثنين. في 3: 19، وفي 28: 27 (رج أيضاً 15: 13: ارتداد الوثنيين إلى الله ضمناً). في ف 28، يتوجّه بولس إلى يهود رومة الذين لم يقتنعوا بشروحه ويذكرهم بقول أش 6: 9- 10: بعث الله برسوله إلى شعب أصم وأعمى (روحياً). قلبه لا يقدر أن يفهم التعليم الإلهي أو أن يقرّر الاهتداء الذي يمنحه الخلاص. يكتفي بولس بإيراد النص النبوي ("يتوبوا" أو يرتدوا) بطريقة مطلقة. ولكن القرينة تبين بما فيه الكفاية أن التعليم يعني يسوع الذي وجدت فيه النبوءات المسيحانية كمالها. إذن، يدعوهم إلى الارتداد إلى الرب يسوع.
وفي 3: 19- 20، يعلن بطرس للشعب المجتمع في رواق سليمان: "توبوا وارجعوا لتغفر خطاياكم، فتجيء أيام الفرج من عند الرب، حين يرسل إليكم الذي سبق أن اختاره لكم أي يسوع المسيح". سنتحدث عن العلاقة الخاصة بين التوبة وغفران الخطايا. أما الارتداد فيعني الإقرار بسيادة يسوع المسيح.
إذن، يُفهم الارتداد (الاهتداء) بالنسبة إلى شخص. بالاهتداء نعود إلى الله الواحد أو إلى الرب يسوع. نحن لا نهتدي إلى تعليم أو إلى أي شيء. نحن لا نتعلّق بمجمل حقائق، بل بالإله الحي والشخصي، بيسوع الذي نقر به رباً. هذا ما أعلنته أولى الجماعات المسيحية: أؤمن بإله آب ضابط الكل. أؤمن بيسوع المسيح أبنه الوحيد. يبقى أن هذا التعلّق يُلزم المؤمن المرتد في حياته: هو يجعل نفسه في خدمة الرب، ثم إن هذا التعلّق تحدّده كبرى أحداث تاريخ الخلاص.
3- رجع إلى الرب
إن فعل "أبيستريفو" يعني في الأصل رجع، عاد. إنه يدل على العمل الذي به نلتفت، نميل بنظرنا. من نظر إلى جهة حوّل نظره إلى جهة أخرى. إن المرتد يلتفت إلى الرب. هذا هو المدلول الذي وجّه خطانا حتى الآن. ولكن فعل أبيستريفو يقول أكثر من هذا، خاصة حين يرتبط بالعبري "شوب" (ثاب، تاب). فحين نتحدّث عن الاهتداء، لا نفكر بحركة نقوم بها ونحن مكاننا، بل بتبديل وجهة ومسيرة: ذلك الذي ابتعد في الماضي عن الله، قد أخذ الآن الطريق التي تقود إليه. الارتداد لا يعني فقط الالتفات إلى الله، بل الرجوع إلى الله. ترتبط هذه الصورة بالطريقة التي بها سمّى المسيحيون الأولون المسيحية: "إنها طريق" (مذهب، طريقة حياة تميّز الجماعة) (9: 12؛ 18: 25، 26؛ 19: 23؛ 22: 4؛ 24: 14، 22). حين يرتدّ الإنسان إلى الرب، يدخل في طريق الرب: طريق رسمها الرب للذين يريدون أن يأتوا إليه. عمليا، تدل الكلمة على أسلوب في الحياة، على تصرّف يتميّز به المسيحيون. وهكذا حين ننظر إلى الاهتداء من هذه الزاوية، يصبح انقلاباً تاماً في حياة من بسلوكه يتبع منذ اليوم الطريق الذي يقود إلى الله.
ارتد في نظر القديس بولس يعني "عبد"، "خدم". والعبادة ليست فقط شعائر نمارسها، بل حياة توافق إرادة الله. هذا ما نجده في أع بمناسبة الحديث عن الارتداد. في 3: 19، حرّض بطرس سامعيه اليهود: "فتوبوا وارجعوا لتغفر خطاياكم". ويستعيد الفكرة في آ 26: "فلكم أولاً أقام الله فتاه يسوع، وأرسله ليبارككم فيرتدّ كل واحد منكم عن شروره". إن الوثنيين الذين يهتدون إلى الإله الحقيقي يرتدّون عن أصنامهم. إن اليهود الذين يهتدون إلى الرب، يرتدّون عن شرورهم. كل اهتداء يتضمّن تبدّلاً في سلوك الإنسان.
تشدّد 3: 26 على الوجهة السلبية، على التخلي عن الشر. وهذا ما تشدّد عليه نصوص قمران. مثلاً: الارتداد عن الخطيئة، عن الشر، عن الطريق الفاسدة. وتظهر الوجهة الإيجابية لهذا التبدل في 16: 20 التي هي ملخّص لكرازة بولس: "داعياً إلى التوبة والرجوع إلى الله والقيام بأعمال تدل على التوبة". التوبة هي تأسّف على سلوك سابق. الارتداد يحدّد سلوكاً يتميز بأعماله جديدة، يحدّد طريق حياة توافق هذه التوبة بتجنّب ذنوب نأسف لارتكابها. ولقد قال المعمدان في المعنى نفسه: "أثمروا ثماراً تليق بالتوبة" (لو 3: 8). يُولد الارتداد من التوبة فيترجم عن نفسه بأعمال (بثمار نثمرها). لا يكفي تبديل العواطف إن لم يكن هناك تبديل في التصرّف.
طلب بولس من وثنيّي لسترة أن يرتدوا إلى الإله الحي (14: 15). وزاد حالاً ليوضح فكرته: "ترك جميع الأمم في العصور الماضية تسلك طريقها" (14: 16). حتى الآن، اتبّع الوثنيون طريقهم. وحين يهتدون يتركون هذه الطريق ليسيروا في الطريق التي يدلّهم الله عليها.
ليست هذه الطريق طريق ممارسة الشريعة. ولقد أخطأ المتهوّدون في أورشليم يوم أرادوا أن يفرضوا على الوثنيين المرتدين أن يختتنوا أو يحفظوا شريعة موسى (15: 21، 5). ولكن سيطلب المجمع الانتباه إلى بعض المحرّمات (15: 19- 20) لتسهيل العلاقات مع المتهودين. أجل، إن الارتداد يتطلّب ممارسات، يتطلّب أعمالاً، يتطلّب قاعدة حياة. إن سلوك الذين دخلوا في نور الله لن يكون كسلوك الوثنيين الذين ظلّوا خاضعين لسلطان الشيطان (26: 18).
ويُنصح المرتدون الجدد أن يثبتوا في الطريق التي دخلوا فيها. فبعد أن قال لوقا إن كثيرين من كنيسة أنطاكية آمنوا "واهتدوا إلى الرب" (11: 21)، أورد تحريض برنابا: "شجعّهم كلهم على الأمانة للرب بكل قلوبهم" (11: 23). فالأمانة المطلوبة ليست فقط فعل إيمان. إنها تتضمّن كل الأعمال التي تميّز الحياة المسيحية.
وهكذا ظهرت وجهتان في نظرة المسيحية إلى الارتداد. أولاً: الارتداد هو وعي لعلاقة تربط الإنسان بشخص سام: يعود الوثنيون إلى الله الواحد، يعودون مع اليهود إلى يسوع ويعترفون به رباً. ثانياً: الارتداد هو وعي لمتطلّبات لا تكون نظرية، بل تعبّر عن تبدّل في السلوك. من ارتد تبنّى طريقة حياة جديدة وجعل نفسه في الطريق التي تقود إلى الله.
ج- ظل الصليب
ليست التوبة المسيحية كتوبة الرواقي الذي يعي انحطاطه، فيستحي منه ويقرّر أن يبذل حياته ليكون جديراً بما هو. التوبة عند المسيحي (وعند اليهودي) تبدأ بوعي أننا أخطأنا ضد أحد: ضد الله أو الرب يسوع. مع موقف عملي يساعدنا على انتظار الغفران. أجمل صورة عن هذا الوضع نجده في مثل الفرّيسي والعشّار: "وقف العشّار بعيداً لا يجرؤ أن يرفع عينيه إلى السماء، بل كان يدقّ على صدره ويقوله: ارحمني يا الله، أنا الخاطئ" (لو 18: 13). توبة متواضعة نقرّ فيها بخطأنا ونطلب ا لغفران.
إذ أراد الرسل أن يجتذبوا سامعيهم إلى الارتداد (الاهتداء)، حاولوا أن يوقظوا فيهم عواطف التوبة، أن يجعلوهم يعوا حالتهم كخطأة. اعتبارات عديدة، ولكن هناك اعتباراً يبرز في الخطب الرسولية التي ألقاها بطرس في أورشليم: ذكر اليهود بظروف موت يسوع، وأظهر مسؤولية سامعيه في هذا الموت. أما أمام الوثنيين، فالحديث يدور حول الخطيئة التي تجرّ إلى عبادة الأوثان. وحيث لا خطيئة، فهناك دعوة إلى الإيمان.
1- المسؤولية في صلب يسوع
يتخذ التذكير بظروف آلام يسوع (في خطب بطرس في أورشليم) شكل اتهام. مثلاً، في خطبة العنصرة: "كان يسوع الناصري رجلاً أيّده الله بينكم بما أجرى على يده من العجائب والآيات كما أنتم تعرفون... أخذتموه وصلبتموه وقتلتموه بأيدي الكافرين (أي: من لا شريعة لهم، أي: الوثنيون)... إن الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم رباً ومسيحاً" (2: 22- 23، 26).
وكان لهذه الاتهامات مفعولها: "فلما سمع الحاضرون هذا الكلام، توجّعت قلوبهم، فقالوا لبطرس ولسائر الرسل: ماذا يجب علينا أن نعمل أيها الأخوة" (آ 37)؟ تأثر السامعون، وقلقوا حين فكروا بما اقترفوا من جرم. أجابهم بطرس: "توبوا وليتعمّد كل واحد منكم باسم يسوع المسيح فتُغفر خطاياكم" (2: 38). كان هدف الاتهامات أن تهيئ القلوب لهذا النداء الأخير. وكان هدف آخر: إبراز براءة يسوع الذي حكموا عليه بالموت ظلماً.
وسيكون الاتهام أقوى في الخطبة التي ألقاها بطرس في رواق سليمان: إنه نداء إلى الارتداد والتوبة. "إن إله آبائنا مجّد فتاه يسوع الذي أسلمتموه إلى أعدائه وأنكرتموه أمام بيلاطس، وكان عزم على إخلاء سبيله. نعم، أنكرتم القدوس البار. طلبتم العفو عن قاتل، وقتلتم ملك الحياة... أنا أعرف أيها الأخوة، أن ما فعلتم، أنتم ورؤساؤكم (بيسوع)، كان عن جهل... فتوبوا وارجعوا لتُغفر خطاياكم" (3: 13- 14، 17، 19).
الاتهامات خطيرة وقد ييأس السامعون. يقبل بطرس بعذر الجهل، ولكنه لا يريد أن يترك المذنبين يرتاحون. دلّ على السبب الذي يتيح لهم انتظار الغفران، فهيّأ نداءه إلى التوبة.
كانت خطبة بطرس الأولى أمام المجلس قصيرة. وجاء الاتهام هنا قاسياً: "يسوع الناصري، صلبتموه... هو الحجر الذي رفضتموه أيها البنّاؤون" (4: 10- 11). ويأتي الوعد حالاً: "ما من اسم تحت السماء وهبه الله للناس نقدر به أن نخلص" (4: 12). التعارض واضح بين خطورة الاتهامات والوعد بالخلاص. الخلاص ممكن ونحن نستطيع أن نحصل على الغفران. أما الوسيلة للحصول على الغفران فهي التوبة الصا دقة.
ونسمع خطبة بطرس الثانية أمام المجلس: "إله أبائنا أقام يسوع الذي علّقتموه على خشبة وقتلتموه. فهو الذي رفعه الله بيمينه وجعله قائداً ومخلّصاً ليمنح شعب إسرائيل التوبة وغفران الخطايا" (5: 30- 31)
الوضع الذي وجد فيه بطرس نفسه، لم يمنعه من أن يشدّد على مسؤولية قضاته فيما فعلوا. ولكنه، لم يسمح لنفسه أن يوجّه إليهم دعوة مباشرة إلى التوبة. هناك تأكيد يحل محل التحريض. يبقى الغفران ممكناً حتى بعد الجريمة. فإذا أردتم أن تحصلوا على الغفران، وجب عليكم أن تتوبوا أو بالأحرى أن تفتحوا قلوبكم لنعمة التوبة التي يمنحها الله للقلوب المستعدة كشهادة للمسيح المخلص.
وجرت عادة اتهام يهود أورشليم حتى حين تتوجّه الخطبة إلى سامعين آخرين. هذا ما حدث في كرازة بطرس لدى ضابط قيصرية: "نحن شهود على كل ما عمل (من الخير) في بلاد اليهود وفي أورشليم، وهو الذي علّقوه على الصليب وقتلوه" (10: 39). ونسمع الشيء عينه في كرازة بولس في مجمع أنطاكية بسيدية: "فأهل أورشليم ورؤساؤهم أتموا، دون أن يعلموا، أقوال الأنبياء، التي تُقرأ كل سبت: مع أنهم ما وجدوا جرماً يستوجب به الموت، طلبوا من بيلاطس أن يقتله" (13: 27- 28). ونقرأ الفكرة ذاتها في شروح تلميذي عماوس، بكلمات هي كلمات الكرازة الرسولية: "أسلمه رؤساء كهنتنا وزعماؤنا للحكم عليه بالموت وصلبوه" (لو 24: 20). ونجد صدى لهذا الموضوع في الطريقة الواضحة التي بها تكلّم اسطفانس عن موقف بني إسرائيل تجاه موسى (أع 7: 25- 28، 35- 39) أو في هجوم بولس على اليهود "الذين قتلوا الرب يسوع" (1 تس 2: 15).
نكتشف أصول هذه الاتهامات في الكرازة الرسولية الموجّهة إلى يهود أورشليم. سار "الوعّاظ" على خطى الأنبياء ووبّخوا السامعين ليثيروا فيهم عواطف توبة تقودهم إلى الارتداد. ذكروا مأساة الصليب، ليثيروا الاشمئزاز من الخطيئة التي سبّبت هذا الموت، وليدفعوهم للرجوع إلى الله.
2- عبادة الأوثان
حين تتوجّه الكرازة المسيحية إلى الوثنيين، تعود إلى اعتبار آخر أكثر فاعلية، لتجعلهم يعون خطيئتهم أمام الله ويحسّون بضرورة التوبة. هذا الاعتبار هو خطيئة عبادة الأوثان.
إن خطبة بولس في أثينة (شأنها شأن خطبة بطرس في أورشليم)، تنتهي بالدعوة إلى التوبة: "وإذا كان الله غضّ بنظره عن أزمنة الجهل، فهو الآن يدعو الناس كلهم في كل مكان إلى التوبة" (17: 30). لا يسبق هذا التحريض اتهامات كاتهامات بطرس لسامعيه في أورشليم. إن بولس يستعيد الانتقادات التي يوجّهها العالم اليهودي إلى العالم الوثني المنغمس في عبادة الأوثان، يهاجم الهياكل: "الإله الذي خلق السماء... لا يسكن في هياكل صنعتها أيدي بشر" (17: 24). يهاجم الذبائح المادية: "لا تخدمه أيدٍ بشرية، كما لو كان يحتاج إلى شيء" (17: 25). يهاجم التماثيل والأصنام: "ما دمنا أبناء الله، يجب علينا أن لا نحسب الألوهية شكلاً صنعه الإنسان بمهارته" (17: 29). لا يقوم بولس بهجوم مباشر ضد ديانة الجماعة المحترمة التي يتكلم أمامها. غير أن خطبته تشجب جهل الوثنيين الخاطئين الذين لم يعرفوا الإله الحقيقي. إن العبادة المؤدّاة للأصنام لا تشكل فقط جهلاً للعقل المستقيم، بل هي تجديف على الإله الحقيقي. لهذا يبدو من الضروري أن ننال الغفران ونستعد له بالتوبة.
وتعالج خطبة لسترة الموضوع عينه: "ترك الأمم الوثنية تسلك طريقها" (14: 16). ولكن الخطبة لم تنتهِ: فبعد هذه الإشارة إلى صبر الله حيال ظلام العالم الوثني، كنا سننتظر تفسيراً عن الوضع الجديد الذي تولّد. ولكننا لم نحصل على شيء. إذن، ينقص شيء ستعوّضه خطبة أثينة: في الأزمنة السابقة، سلك الوثنيون في طرقهم. وفي الأزمنة الأخيرة، هذه الأيام، عرّف الله البشر بأن عليهم أن يتوبوا لأن ساعة الدينونة قريبة (17: 30- 31).
إن طريقة التكلّم عن ارتداد الوثنيين وكأنه توبة، يعكس وجهة نظر يهودية. هذا ما نلاحظه حين نفكر فيما قاله مسيحيو أورشليم بعد ارتداد الضابط كورنيليوس: "إذن، أنعم الله على الوثنيين أيضاً بالتوبة" (11: 18). في الواقع، لا يورد الخبر توبة كورنيليوس. منطق مسيحي أورشليم هو منطق اليهود: الوثنيون هم بالضرورة خاطئون، وهم بالضرورة محرومون من الحياة الأبدية ("التوبة التي تقود إلى الحياة"). فلا خلاص لهم إلا إذا تابوا عن خطاياهم. أن يكون كورنيليوس رجلاً صالحاً وتقياً ومؤمناً بالله الواحد، فهذا لا يغيّر شيئاً. إنه وثني وسيكون ارتداده بشكل توبة.
وإذ تحدث بولس عن كرازته في أفسس، استعمل العبارة عينها: "ناشدت اليهود واليونانيين أن يتوبوا إلى الله ويؤمنوا بربنا يسوع" (20: 21). يجب على اليهود أن يؤمنوا بيسوع المسيح، وعلى الوثنيين أن يرتدوا إلى الله وسيكون ارتدادهم توبة.
ونذكر أيضاً خطبة بولس أمام الملك أغريبا: "داعياً إلى التوبة والرجوع إلى الله" (26: 20). يبدو هذا الارتداد بشكل توبة: حين تعلّق الوثنيون بالإلهة الكاذبة، أخطأوا تجاه الإله الحقيقي. إذاً، عليهم أن يتوبوا لينالوا الغفران.
وحالة سمعان الساحر تشبه بعض الشيء حالة الوثنيين. قدم الفضة لينال سلطاناً به يمنح الروح القدس، فدل على نظرة خاطئة، بل جدّف على الله. ظن أنه يستطيع أن يشتري "موهبة الله بالمال" (8: 20). كان توبيخ بطرس قاسياً، وهدفه أن يدعو سمعان إلى التوبة الضرورية للغفران: "إن قلبك غير سليم أمام الله. فتب عن شرّك، وتوّسل إلى الله لعلّه يغفر لك ما خطر في قلبك" (8: 21- 22).
ويبقى في أع مقطعان يتكلّمان عن التوبة. إنهما يرتبطان برسالة يوحنا المعمدان: "قبل مجيء يسوع، دعا يوحنا جميع شعب إسرائيل إلى معمودية التوبة" (13: 24). "عمّد يوحنا معمودية التوبة، داعياً الناس إلى الإيمان بالذي يجيء بعده، أي بيسوع" (19: 4). هذان النصان هما صدى لما قاله الإنجيل عن رسالة يوحنا: أعلن "معمودية توبة لغفران الخطايا" (لو 3: 3)، ودعا سامعيه "ليثمروا ثمراً يليق بالتوبة" (لو 3: 8). المسيرة هي هي: وعي الخطيئة، نداء إلى التوبة للحصول على الغفران. وتقبّل المعمودية هو علامة خارجية للتوبة وللرغبة بأن يتطهّر الإنسان من خطيئته. حين يقول لوقا إن المعمدان يدعو الآتين إليه إلى التوبة، فهو يفترض وعي الخطيئة وخطر الدينونة التي تهدّد الخاطئين. إن العلاقة مستمرة في إنجيل لوقا بين فكرة الخطيئة وفكرة التوبة. قال يسوع: "ما جئت لأدعو الأبرار، بل الخطأة إلى التوبة" (لو 5: 32). ولاحظ يسوع أن الجليليين ليسوا خطأة أكثر من غيرهم، فدعا سامعيه إلى التوبة وإلا هلكوا مثلهم (لو 13: 2- 5). وقال: "هكذا يكون الفرح في السماء بخاطئ واحد يتوب أكثر من الفرح بتسعة وتسعين من الأبرار لا يحتاجون إلى التوبة" (لو 15: 7، 10).
يتوجّه نداء التوبة إلى الخطأة. إنها شكل ملموس من أشكال الارتداد. وهذا النداء لن يُسمع إلا إذا وعى الناس أنهم خطأة أمام الله. لهذا نبّهت الكرازة الرسولية اليهود على مسؤوليتهم في موت يسوع، والوثنيين على تماديهم في عبادة الأصنام.
3- الإيمان ومغفرة الخطايا
لا تشدّد الكرازة الرسولية دوماً على خطيئة السامعين. حينئذ تدعوهم لا إلى التوبة، بل إلى الإيمان. وتَعِدُ الذين يؤمنون بغفران خطاياهم، فتفرض وعي الخطيئة والرغبة في الغفران. إن حسّ الخطيئة هو الذي يوجه الحديث عن تعليم الخلاص.
عبّر بطرس في خطبته عند كورنيليوس عن الاتهام المعهود ضد يهود أورشليم الذين صلبوا يسوع (10: 39). ولكن لا مسؤولية لكورنيليوس في هذا المجال. ولا يستطيع بطرس أن يوبّخه على عبادته للأوثان، لأنه كان رجلاً تقياً وخائفاً الله، سخياً في صدقاته تجاه اليهود، ويداوم على الصلاة (10: 2). إذن، لا يوبّخه بطرس ولا يدعوه إلى التوبة، ولكنه ينهي خطبته: "كل من آمن به (يسوع القائم من الموت) ينال باسمه غفران خطاياه" (10: 43). إذا كان الوعد بغفران الخطايا سيدفع كورنيليوس إلى الإيمان بيسوع، فلأنه يعرف نفسه خاطئاً ويتوق إلى الغفران.
وتستعيد خطبة بولس في أنطاكية بسيدية اتهام يهود أورشليم (13: 27- 29). ولكن الرسول لا يتهم يهود أنطاكية، بل ينهي خطبته على النحو التالي: "فاعلموا يا أخوتي، أننا بيسوع نبشرّكم بغفران الخطايا. وأن من آمن به يتبرّر من كل ما عجزت شريعة موسى أن تبرره منه" (13: 38). هذا النداء إلى الإيمان للحصول على الغفران والتبرير، يتضمّن الشعور بالخطيئة.
ويشرح بولس أمام أغريبا الرسالة التي أوكله بها يسوع: "لينالوا بإيمانهم بي (أي بيسوع) غفران خطاياهم وميراثاً مع القديسين" (26: 18). وضع الوثنيين وضع تعيس: حُرموا من النور، صاروا عبيد الشيطان. يدعوهم بولس إلى الإيمان لا إلى التوبة، ويعلن لهم أن هذا الإيمان سينال لهم الغفران.
د- نور القيامة
إذا أردنا أن نصوّر كل مسيرة الارتداد في أع، لا بد من تحديد الدور الذي لعبه معطيان رئيسيان: قيامة يسوع، مجيئه المجيد. ويرتبط هذان المعطيان ارتباطاً دقيقاً بحيث لا نستطيع أن نفصلهما إلا بصعوبة.
إن يسوع أقيم دياناً للأحياء والأموات وقت قيامته. وقيامته هي الكفالة الإلهية التي يقوم بها في نهاية الأزمنة. لا يتميّز سر الفصح عن سر المجيء إلا بالزمن: واحد ينتمي إلى الماضي، وآخر إلى المستقبل. نتوقّف أولاً عند القيامة، ثم نعود إلى المجيء.
1- القيامة هي عمل الله
يقدّم أع دوماً قيامة يسوع على أنها نتيجة تدخّل مباشر من قبل الله. يقول: "الله أقامه" (2: 24، 32؛ 3: 15، 22، 26؛ 4: 10؛ 5: 30؛ 10: 4؛ 13: 30، 34، 37؛ 17: 31؛ 26: 8). إن الله تجلّى في التاريخ بصورة ساطعة. وهكذا يتواجه الإنسان مع العالم العلوي، لا مع إله مجرد، بل مع إله حي يعمل بقدرته الفائقة. وأمام هذا الحدث المهم، يعود الإنسان إلى نفسه، ويتخذ موقفاً.
2- القيامة والعجائب
إن العجائب التي تكاثرت في أول أيام الكنيسة، هي آيات تبرهن أن يسوع الذي أقيم حقا وتمجّد قد ارتدى قدرته الفائقة: تُبرز المعجزات قدرة المسيح القائم من الموت، وتثبت شهادة الذين أعلنوا أنهم رأوه في مجده بعد القيامة. إن القدرة التي أظهرها الله حين أقام يسوع، لا تزال فاعلة بواسطة الذين يدعون باسم يسوع. ومشاهدو هذه العجائب يجدون نفوسهم أمام الحدث الفصحي لا بطريقة مباشرة، بل بطريقة غير مباشرة، بفضل وقائع هي نتيجة الحدث الفصحي.
تتميّز العنصرة المسيحية الأولى بعجيبة شاهدها الناس، فتحيّر بعضهم وسخر البعض الآخر (2: 6، 12- 13). فالمعجزة بحد ذاتها لا تسبّب الارتداد. فلا بد من تفسير معنى الحدث. وهذا ما سيفعله بطرس، عائداً إلى الآلام والقيامة، مبيّناً أن حلول الروح هو نتيجة القيامة: "فيسوع هذا أقامه الله، ونحن كلنا شهود على ذلك. فلما رفعه الله بيمينه إلى السماء، نال من الأب الروح القدس الموعود به فأفاضه علينا، وهذا ما تشاهدون وتسمعون" (2: 32- 33).
يسوع هو الذي أفاض الروح، فملأ منه تلاميذه. ولكن وجب قبل ذلك أن يقوم من القبر، أن يصعد إلى السماء... وفيض الروح الذي ترافقه ظواهر محسوسة تدل على حضوره، سيتكرّر في بدايات الكنيسة. يتحدّث أع عن عنصرة ثانية في 4: 31: "وبينما هم يصلّون، اهتز المكان الذي كانوا مجتمعين فيه. وامتلأوا كلهم من الروح القدس، فأخذوا يعلنون كلمة الله بجرأة".
وسمي فيض الروح عند كورنيليوس "عنصرة الوثنيين" (10: 44- 47).
ومع هجمات الروح، هناك الأشفية العجائبية: شُفي كسيح الباب الجميل، فامتلأ الناس حيرة وعجباً (3: 10، 12) ولكن هذا ليس الإيمان ولا الارتداد. سيتحدث بطرس فيبرز معنى المعجزة ويربطها بالقيامة: "إله آبائنا أقام يسوع من بين الأموات. وبفضل الإيمان باسم يسوع عادت القوة إلى هذا الرجل الذي ترونه وتعرفونه" (3: 15- 16). "فاعلموا أن هذا الرجل يقف هنا صحيحاً معافى باسم يسوع المسيح الناصري الذي صلبتموه أنتم، وأقامه الله من بين الأموات" (4: 10).
ويلخص 4: 33 بُعد المعجزات في أع: "وكان الرسل يؤدّون الشهادة بقيامة الرب يسوع تؤيدها قدرة عظيمة". لا يكفي أن نقول إن السلطة العجائبية التي يملكها الرسل تعطي القوة لما يقولونه عن قيامة يسوع. بل، إن هذه السلطة تشكل شهادة على قدرة يسوع بَعد قيامته.
وإن شهادة العجائب هي شهادة الله نفسه: "وكان الرب يشهد لكرازة نعمته بما يُجري على أيديهما من العجائب والآيات" (14: 3). حين ننظر إلى الأمور من هذه الزاوية، تصبح العجائب تأويناً جديداً لعجيبة الفصح. اجترحتها قدرة الله التي برزت حين أقامت يسوع، فصارت تجلياً لقدرة نالها يسوع في قيامته.
3- عمل النعمة
يمتد تدخل الله الذي أقام يسوع بالمعجزات (اختبار محسوس). ويمتد أيضاً بطريقة غير محسوسة ولكن فاعلة حين يعمل في أعماق القلوب فيخلق بنعمته الإيمان والارتداد. الإيمان والتوبة والارتداد هي عطايا الله.
تحدّث بطرس عن قيامة يسوع، فأعلن لأعضاء المجلس: "رفعه الله بيمينه وجعله مخلصاً ليمنح شعب إسرائيل التوبة ومغفرة الخطايا" (5: 31). أجل، غفران الخطايا هو عطية من الله. ونقرأ اعتباراً مماثلاً يختتم خبر كورنيليوس: "وهكذا وهب الله الوثنيين التوبة التي تقود إلى الحياة" (11: 18). التوبة هي عطية من الله. تثيرها النعمة في القلوب، فتفتح للناس طريق الحياة الأبدية.
وسيستخلص مجمع أورشليم النتائج المرتبطة بارتداد كورنيليوس. لاحظ بطرس أولاً أن الله أزال الفوارق بين اليهود والوثنيين، فطهّر قلب الوثنيين بالإيمان (15: 9). ثم تكلّم يعقوب مستنداً إلى الكتب المقدسة. أعلن زك 2: 15 أن الأمم العديدة ستتعلّق في نهاية الأزمنة بالرب وتصير له شعباً واحداً. لمّح يعقوب إلى هذا النص وأعلن: "اتخذ الله من بين الأمم الوثنية شعباً لاسمه" (شعباً يخصه) (15: 14). قال زكريا إن الأمم ستتعلق بالرب. أما يعقوب فشدّد على المبادرة الإلهية: الله يتخذ من بين الأمم من سيصيرون له شعباً. أجل، إن تكوين الجماعة الجديدة والشعب المختار الجديد هو عمل الله. وهذا ما تعبّر عنه 2: 47: "وكان الرب كل يوم يضمّ إلى الجماعة الذين أنعم عليهم بالخلاص".
وأنهى بولس خطبته في أنطاكية بسيدية، فأكّد أن الإيمان ضروري للحصول على الغفران والتبرير (13: 37- 39). وزاد لوقا: "وآمن جميع الذين اختارهم (أعدّهم) الله للحياة الأبدية" (13: 48).
وهناك مثل ملموس عن الارتداد: مثل ليدية في فيليبي: "فتح الله قلبها فتعلّقت (أصغت) بكلام بولس) (16: 14). يقدّم بولس التعليم، ولكنه لا يُقبَل إن لم تعمل النعمة في قلوب السامعين. أجل، الله وحده يفتح القلوب.
إذن تشكل القيامة باعثاً على الارتداد، ولكننا لا ننظر إليها كعمل معزول في الماضي. إن الله الذي تجلّى يوم الفصح، ما زال يتجلّى في كرازة الرسل، في حياة الجماعة. وإن القدرة التي أقامت يسوع لا تزال تعمل: فالعجائب التي تدلّ على هذه القدرة، هي تأوين جديد لقيامة يسوع ونقطة التقاء مميّز بين الله والإنسان. ولكننا لن نعي التدخل الإلهي ولن نتقبّله، إن لم تفعل النعمة فعلها في أعماق القلوب.
هـ- النظرة إلى الدينونة والمجيء
قيامة يسوع هي حدث من الماضي وهي تمتد في الحاضر بفضل تدخلات الله التي تشهد لها. ولكن فهم سر الفصح يبقى ناقصاً إن لم نعطه بعداً إسكاتولوجياً. لم نعد هنا أمام الاختبار، بل أمام مواجهة حدث الفصح مع نبوءات الأسفار المقدسة. فحين نسمع الأقوال المسيحانية، لن نكتشف فقط أن المسيح سيقوم ويجلس عن يمين الله وينال الكرامة التي تليق بالرب (كيريوس). فالنصوص تبيّن أيضاً أن هذا المجد يقابل وظائف محددة. بعد أن صعد يسوع إلى السماء، سيعود ليدين البشر. والرباط بين القيامة والدينونة الأخيرة، بدا وثيقاً بحيث إن المسيحيين الأولين لم يستطيعوا أن يتخيلوا فسحة تفصل الواحدة عن الأخرى.
إن الفكرة التي تقول إن قيامة يسوع تبدأ مسيرة ستتواصل في الدينونة الأخيرة، أعطت الكرازة الرسولية اعتباراً هاماً لتدعو السامعين إلى الارتداد. توبوا عن خطاياكم واحصلوا على الغفران قبل أن يفوت الأوان. وحين تنالون الغفران، تنتظرون الديّان السامي بدون خوف، وأنتم متأكدون أنكم ستجدون فيه لا الديّان الذي يحكم، بل المخلّص الذي يهب الحياة الأبدية.
سنتتبع هذا الموضوع في النصوص، فنرى أن فكرة الدينونة المسلَّمة إلى يسوع، تحمل نتيجة أخرى: لقد نال يسوع مهمة تقوم بأن يدين كل البشر دون تمييز. ولهذا يجب أن يتوجّه النداء إلى التوبة إلى كل البشر عبر العالم كله.
1- الخلاص
انتهت خطبة بولس أمام الأريوباج بنداء إلى التوبة مؤسَّس على نظرة إلى الدينونة: "فهو الآن يدعو الناس كلهم في كل مكان إلى التوبة، لأنه حدّد يوماً يدين فيه العالم كله بالعدل على يد رجل اختاره، وبرهن لجميع الناس عن اختياره بأن أقامه من بين الأموات" (17: 30- 31).
إن القيامة تكفل مهمة الديّان السامي التي سلّمت إلى يسوع. لقد حدّد (وقت) يوم الدينونة واستلم الديّان وظيفته. والنتيجة العملية: توبوا. هناك رباط سببي: يجب أن نتوب، لأن الدينونة تبدأ قريباً. وإن فكرة الدينونة هذه تدفع الناس إلى التوبة: "وأوصانا أن نبشر الشعب ونشهد أن الله جعله دياناً للأحياء والأموات. وله يشهد جميع الأنبياء بأن كل من آمن به ينال باسمه غفران خطاياه" (10: 42- 43).
هناك رباط بين الآيتين، رباط بين فكرهّ الدينونة وفكرة غفران الخطايا. نرغب في الغفران بسبب الدينونة، وهذا ما يساعدنا على التخلّص من الحكم الأبدي. وإذا أردنا أن نحصل على هذا الغفران، علينا أن نؤمن. وفي النهاية، ما يدفعنا إلى الإيمان هو إعلان الدينونة.
إن النظرة إلى الدينونة عند لوقا تشدّد بالأحرى على الخلاص. يستعمل لو 6 مرات كلمة خلاص وأع 7 مرات. أما فعل "سوزو" (خلّص، شفى) فهو خاص بلوقا في سبعة مقاطع من إنجيله (7: 50؛ 8: 12، 50؛ 13: 23؛ 17: 19؛ 19: 10؛ 23: 39. قال مر 5: 36: لا تخف. آمن فقط. أما لو 8: 50: آمن فقط فتخلص "ابنتك" أو تشفى). ولنا في شرح مثل الزارع نموذجاً. قال مر 4: 15: "وبعض الناس يسمعون كلام الله فيسرع الشيطان وينتزع الكلام المزروع فيهم" (رج مت 13: 19). أما لو 8: 12 فقال: إن الشيطان ينزع الكلمة "لئلا يؤمنوا ويخلصوا". إن لو 19: 10 يحدّد الرسالة منطلقاً من صورة الراعي الصالح الذي يبحث عن النعجة الضالة. ولكنه يزيد: "فابن الإنسان جاء ليبحث عن الهالكين ويخلّصهم". إذا كانت التوبة والإيمان ضروريان فمن أجل الخلاص.
وترتبط فكرة الخلاص في أع بنص يوئيل (3: 5) الذي أورده بطرس في خطبة العنصرة: "كل من يدعو باسم الرب يخلص" (أع 2: 21). وفي نهاية الخطبة عينها يدعو بطرس سامعيه ليتعمدوا "باسم يسوع المسيح" (2: 38) لينجوا من العقاب الهائل الذي يهدّد هذا الجيل: "تخلّصوا من هذا الجيل الفاسد" (2: 20). وهناك تلميح آخر إلى نص يوئيل في خطبة بطرس الأولى أمام السنهدرين: "فما من اسم آخر نقدر به أن نخلص" (4: 12) إن الخلاص بالنسبة إلى جميع البشر، يرتبط بيسوع الممجّد، أو باسم يسوع، لأن الارتداد يبدو بشكل نداء نرفعه إلى يسوع فنعبّر به عن إيماننا. سأل السجان بولس وسيلا: "ماذا يجب عليّ أن أعمل لأخلص"؟ أجاباه: "آمن بالرب يسوع تخلص أنت وأهل بيتك" (16: 30- 31).
تنتهي خطبة بولس في أنطاكية بسيدية بتشبيه يصيب المستهزئين (13: 40- 41، رج حب 1: 5). لم يقتنع السامعون اليهود. حينئذ أعلن بولس وبرنابا: "رفضتم كلمة الله، وحكمتم على نفوسكم أنكم لستم جديرين بالحياة الأبدية" (13: 46). رفض اليهود أن يرتدوا، أما الوثنيون فانفتحوا على الإيمان: "آمن جميع الذين اختارهم الله للحياة الأبدية" (13: 48).
وفي الخطبة التي ألقاها بطرس في رواق سليمان، نجد النظرة الإسكاتولوجية (3: 19- 21). حينئذ يصبح الارتداد لا وسيلة خلاص بل وسيلة للتعجيل بمجيء زمن الخلاص. أجل، إن التوبة والارتداد يهيّئان مجيء المسيح المجيد وإقامة عالم جديد في نهاية الأزمنة. ولكن هذه الأحداث العجيبة لن تتم إلا إذا استعد الناس لها: حين نتوب ندشّن العهد المسيحاني.
وهكذا يتحوّل الإيمان بقيامة المسيح إلى انتظار الرب الآتي. هذا الانتظار اسمه الرجاء الذي يكفل يقيننا بأن ربّنا ومخلّصنا سيعود. من هنا الفرح الذي هو علامة المرتدين. كتب لوقا عن سجان فيليبي: "وفرح هو وأهل بيته لأنه آمن بالله" (16: 34). ونجاح فيلبس في السامرة يولّد الفرح: "فعمّ المدينة فرح عظيم" (8: 8). أما وزير ملكة الحبشة "فتابع طريقه فرحاً" (8: 39) بعد أن نال المعمودية. وكذا نقول عن المرتدّين في أول سفرة رسولية: "فرحوا ومجّدوا الرب... كانوا ممتلئين من الفرح ومن الروح القدس" (13: 48، 52). والفرح هو المناخ العادي لاجتماعات كنيسة أورشليم: "يتناولون الطعام بفرح وبساطة قلب" (2: 46). ليست الدينونة تهديداً هائلاً للذين يرفضون أن يتوبوا عن خطاياهم وأن يؤمنوا بالرب يسوع. أما للمرتدين فهي لهم يقين سرور وفرح. إنهم يعرفون أن ديّان الأحياء والأموات سيكون لهم المخلّص الذي يدخل أحبّاءه في الحياة الأبدية.
2- كل إنسان في كل مكان
يتوجّه النداء إلى الارتداد إلى كل إنسان بدون شواذ: "يدعو الله الناس كلهم في كل مكان إلى التوبة" (17: 30). ستحصل أحداث تهم العالم كله: "حدّد يوماً يدين فيه الكون بعدل" (17: 37). هذان الإعلانان اللذان يختتمان خطبة أثينة، يتخذان بُعدهما الحقيقي إذا قابلناهما ببداية الخطبة: "خلق البشر كلهم من أصل واحد، وأسكنهم على وجه الأرضي كلها" (17: 26). إن يسوع يلعب في نهاية الأزمنة الدور الذي لعبه آدم في بداية الزمن. كلهم يرتبطون بأصل واحد وكلهم سيمثلون أمام ديّان واحد هو يسوع. لهذا هم مدعوون إلى التوبة.
كان موقف اليهود عدائياً تجاه بولس فأعلن لهم: "الرب أوصانا قال: جعلتك نوراً للأمم، لتحمل الخلاص إلى أقاصي الأرض" (13: 47). لقد صوّر الأنبياء مسبقاً رسالة المسيح: "فيتألم ويكون أول من يقوم من بين الأموات ويبشر اليهود وسائر الشعوب بنور الخلاص" (26: 23). أجل، يستطيع اليهود والوثنيون أدن يبلغوا الحياة الأبدية. وهذا ما لاحظه المتهوّدون في أورشليم: "أنعم الله على الوثنيين بالتوبة" (11: 18). وأنهى بطرس خطبته في بيت كورنيليوس وقال: "نشهد أن الله جعله دياناً للأحياء والأموات. وله يشهد جميع الأنبياء بأن كل من آمن به ينال باسمه غفران الخطايا" (10: 42 - 43).
خاتمة
هذا ما قاله المسيحيون الأولون عن الارتداد والتوبة. وربطوا قولهم بآلام يسوع وموته وقيامته وعودته المجيدة. وشدّدوا على أن الارتداد ليس عمل فترة من الزمن، إنه تبديل في حياة المؤمن الذي يترك طرقه الخاصة ويسير في طريق الله. هنا تبرز الكنيسة التي تقدّم له طريق الرب. وهكذا يتم الرجوع إلى الله في الكنيسة: نشارك في حياتها الجماعية، نوفّق حياتنا مع قاعدتها السلوكية. نتحدّ بالروح الذي ينعش الكنيسة فنجد نفوسنا في طريق الخلاص.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM