الفصل الثامن والثلاثون: جعلتك نوراً للأمَم

الفصل الثامن والثلاثون
جعلتك نوراً للأمَم
13: 43- 52
هذا النص هو خاتمة خطبة بولس في أنطاكية بسيدية. سندرس أهميته من وجهة تاريخ الرسالة فنفهمِ بعض سفر الأعمال. وفي النهاية، نركّز انتباهنا على الإعلان الرئيسي في
آ 46- 47، الذي يضع الأساس اللاهوتي للرسالة لدى الوثنيين.
أ- حدث مهم جداً
منذ 9: 15، يعرف قارئ أع أن الرب قد أعدّ بولس ليحمل اسمه أمام الأمم الوثنية. ولكننا لم نر نشاطه حتى الآن إلاّ في الجماعة المسيحية (11: 26) أو في المجامع (9: 10- 22؛ 13: 5). لأن الخلاف مع الساحر اليهودي في بافوس (قبرص) وارتداد سرجيوس بولس (13: 6- 12) لا يتيحان لنا بعد أن نتكلّم عن تبشير الوثنيين. وفي أنطاكية بسيدية، سيذهب بولس إلى المجمع، ويُسمع الحاضرين التعليم المسيحي (13: 14- 43). ولكن عداوة اليهود دفعته إلى المنعطف الحاسم. فأعلن بولس أنه سيحمل كلمة الله إلى الوثنيين. ثم برّر مبادرته في آ 46- 47. وهذه ستكون المرة الأولى في أع، حيث يوجّه بولس كلامه إلى الوثنيين: لقد خطا الخطوة الأولى وستتبعها خطوات. كان النجاح عظيماً (آمن جميع الذين اختارهم الله،
آ 48- 49)، ولكن اندلع الاضطهاد فطرد المرسلان (آ 50- 51).
وإن خبر تبشير أنطاكية بسيدية سيتكرّر مع بعض التبدّلات في مختلف مراحل أسفار بولس: في أيقونية وتسالونيكي وكورنتوس وأفسس، وأخيراً في رومة. إن أنطاكية بسيدية تشكل النموذج الأول للرسالة البولسية.
وُضع هذا الحدث في بداية مسيرة بولس الرسولية، فشهد على قرابة خاصة مع الحدث الأخير الذي يشكل في الوقت عينه خاتمة كل الكتاب. في رومة، كما في أنطاكية، كرّس بولس أولاً حلقتين بشّر فيهما اليهود (ف 13: 42- 44 و28: 21- 23). وانتهت خطبته بتنبيه احتفالي. استقى كلماته في الحالة الأولى من حب 1: 5 (أع 13: 4- 41). وفي الحالة الثانية من أش 6: 9- 10 (أع 28: 25- 27). بعد هذا، أعلن القرار الذي اتّخذه: سيتحوّل إلى الوثنيين أو الأمم حسب كلمة أش 49: 16 (أع 13: 46- 47) أو أش 40: 5 (أع 28: 28). وهذه الموازاة مع نهاية الكتاب تدلّ على أهمية المقطع الذي ندرس.
هناك موازاة أخرى لها معناها مع حادثة تدشين رسالة يسوع في الناصرة. يتبع الخبران الرسمة عينها: تلاقي الكرازةُ أولاً قبولاً وترحاباً (13: 42- 43؛ لو 4: 22 أ). ثم تأتي المعارضة (13: 44- 45؛ لو 4: 28- 30). من الصعب أن نظن أن هذه المفارقات هي من قبيل الصدف. فكل من الناصرة وأنطاكية بسيدية تحدّد برنامجاً، وتُلقي الضوء على ما يلي من أحداث: أحداث رسالة يسوع وأحداث رسالة بولس. وانقطاع يسوع عن أبناء وطنه،
يجعلنا نحسّ مسبقاً بما سيحدث في أنطاكية بسيدية، وبما سيتجدّد طوال مسيرة بولس.
ب- الأساس اللاهوتي للرسالة لدى الوثنيين
على المرسلين أن يحملوا الإنجيل إلى اليهود. وبعد أن يرفضه اليهود، يتوجهون إلى الوثنيين. تلك هي ممارسة بولس الدائمة. وستجعل 13: 46 منها مبدأ: "كان يجب أن نبشّركم أنتم أولاً بكلمة الله، ولكنكم رفضتموها، فحكمتم أنتم أنكم لا ترون أنفسكم أهلاً للحياة الأبدية. ولذلك نحن نتوجّه الآن إلى الوثنيين". وفي 18: 6 يعلن بولس إعلاناً مماثلاً لليهود في كورنتوس: “ولكنهم كانوا يعارضون ويشتمون. فنفض ثوبه وقال لهم: دمكم على رؤوسكم (أي: أنتم المسؤولون الوحيدون عما سيحصل)، أنا بريء منكم. سأذهب بعد اليوم إلى الوثنيين وإليك آخر كلمات بولس إلى يهود رومة في خاتمة الكتاب: "إذن، ليكن معلوماً أن الله أرسل خلاصه هذا إلى الوثنيين، وهم سيستمعون إليه" (28: 28).
حين نقرأ هذه النصوص نشعر وكأن رَفْض اليهود للتعليم، فتح الطريق أمام تبشير الوثنيين. وهكذا ظهر أن الرسالة لدى الوثنيين هي نتيجة فشل الرسالة لدى اليهود. إذاً يبدو الوثنيون وكأنهم حلّوا محلّ اليهود. فيشبه دورهم الدور الذي ينسبه مثل الوليمة إلى مدعوّين استُبدلوا فأعطيت لهم أماكن مدعوين رفضوا أن يجيئوا (لو 14: 16- 24). دعي الوثنيون إلى الخلاص لا بعد أن رفضه اليهود، بل لأن اليهود رفضوه. وهكذا يتأسّس حق حمل البشارة إلى الوثنيين على هذا الرفض.
يكتفي الشّراح بهذا التفسير. ولكن كم من الصعوبات! كيف نوفّق هذا الموقف مع ما يلي من إعلان بولس في 13: 47: "فالرب أوصانا، قال: جعلتك نوراً للأمم (الوثنية) لتكون (سبب) خلاص إلى أقاصي الأرض". إذا كان الله أمر بتبشير الوثنيين عبر قول نبوي، فكيف نربطه برفض اليهود لتعليم الخلاص؟ البرهان النبوي واضح في 13: 47 وسيعود في 28: 28 حيث عبارة "خلاص الله" تعود إلى أش 40: 5 الذي زاده لوقا في بداية إنجيله: "كل بشر (جسد) يرى خلاص الله" (لو 3: 6). وامتداد الخلاص الذي أعلنه الكتاب، لن يجد سبب وجوده فقط في فشل الرسالة لدى اليهود.
وهناك صعوبة أخرى تتأتّى من موقف لوقا العام تجاه إسرائيل. هل نستطيع أن ننسب رفض إسرائيل إجمالاً إلى من كتب أخبار الطفولة (ف 1- 2) وخاصة الأناشيد: "تعظم نفسي الرب"، "تبارك الرب"، "الآن أطلق عبدك"؟ يبين لوقا وحده أن ما دفع يسوع ليقدم إحساناته هو أنه أمام "ابنة ابراهيم" (لو 13: 26: المرأة المنحنية)، أمام "ابن ابراهيم" (لو 19: 9: زكا). وإذا عدنا إلى أع، فرفض الإنجيل من قبل اليهود ليس كاملاً. بل إن لوقا يشدّد على الارتدادات التي حصلت بين اليهود. وقد كانت هذه الارتدادات عديدة خاصة في أورشليم (2: 41، 47؛ 4: 4؛ 5: 14؛ 6: 17؛ 21: 20)، ولكنها رافقت أيضاً رسالة بولس. وفي 13: 43، يقول لنا لوقا: "وتبعهما بعد الاجتماع كثير من اليهود والدخلاء". هذا ما حدث في أنطاكية بسيدية. وسيحدث مثله في أيقونية: تكلّم بولس وبرنابا في المجمع، فآمن كثير من اليهود واليونانيين. وفي كورنتوس، حيث تشجب 18: 6 (دمكم على رؤوسكم) اليهود جملة، سنرى النجاح الذي لقيه بولس في العالم اليهودي :فآمن كرسبوس رئيس المجمع بالرب، هو وجميع أهل بيته" (18: 8). وأخيراً، لا نستطيع أن نتكلم عن يهود رومة وكأنهم رفضوا كلّهم الإيمان المسيحي: "فاقتنع بعضهم بكلامه وأنكر (لم يؤمن) البعض الآخر" (28: 24).
وقُدِّم تفسير يحاول أن يأخذ بعين الاعتبار كل هذه المعطيات: إن خلاص الوثنيين حاضر في وعود الله لإسرائيل، في رسالة شعب الله حين تتم هذه المواعيد في الأيام الأخيرة. هذا الوقت وصل مع يسوع المسيح: الله أتمّ الخلاص الذي وعد به. فعلى إسرائيل الآن أن يحقق دعوته تجاه الأمم الوثنية. تراجع قسم من الشعب المختار، ولكن يجب أن لا يمنع هذا التراجع بني إسرائيل من تحمّل مسؤولية مرتبطة بخلاص أعطي لهم.
نحن أمام موقفين يفسّران إعلان الإنجيل للوثنيين: في الأوّل، يأتي من يحل محلّ إسرائيل الذي تراجع. وفي الثاني، على إسرائيل أن لا يتأخر في القيام بالرسالة الشاملة التي احتفظ الله بها للزمن الذي فيه يتم مواعيده. أي موقف نختار؟
ج- المواعيد المسيحانية
إذا عدنا إلى إعلان بولس ليهود أنطاكية بسيدية، يبدو أن الرباط وثيق بين الآيتين، بحيث إن قرار التوجّه إلى الوثنيين لن يفهم إلا انطلاقاً من قول أش 49: 16 (جعلتك نوراً للأمم، ليصل خلاصي إلى أقاصي الأرض، أو: فتكون أنت خلاصي).
من الواضح أن بولس وبرنابا رأيا في قول أشعيا أمراً يتوجّه إليهما في الوضع الذي يجدان نفسيهما فيه. غير أنهما لا يتخيّلان أن النبي قد تكلّم عنهما مباشرة. فكلماته لا تنطبق إلا عبر نية أساسية، إلاّ كنتيجة عمل أساسي. وهنا نجد أمامنا تفسيرين. في الأول، يفترض المرسلان أن النص يعني المسيح: أوكله الله بأن يحمل الخلاص إلى الأمم الوثنية. فقام بمهمته بواسطة مرسليه. إذن، عَمِل نشاطُهما الإرسالي مع المسيح لتتميم رسالته المسيحانية. أما التفسير الثانَي فيفترض أن بولس وبرنابا رأيا في نص أشعيا تحديداَ لرسالة إسرائيل: حين يُتم اللُّه خلاصه، على الشعب المختار أن يشرك الأمم الوثنية في هذه الخيرات. وإن رَفْض بعض اليهود لعطية الله لا يعفي القسم الأمين من شعب إسرائيل من القيام بهذه المهمة تجاه الوثنيين.
إن تفسير أش 49: 6 في أع 13: 47، لا يمكن أن يتجاهل التلميح إلى هذا النص في 1: 8، وهي الآية الرئيسية التي تحدّد مهمّة الرسل وتبرز برنامِج أع. كان يسوع قد أعلن في لو 24: 47 على ضوء الأسفار المقدسة: "تُعلن باسمه (أي: باسم المسيح) بشارة التوبة لغفران الخطايا إلى جميع الأمم ابتداءً من أورشليم". وزاد: "وأنتم شهود على ذلك" (لو 24: 48). ويوضح أع 1: 8: "ستكونون شهوداً لي في أورشليم... وحتى أقاصي الأرض". تدلّ هذه العبارة الأخيرة على "كتاب" خاص يجعلنا نفكر بمهمّة الرسل الشاملة: إنها مأخوذة من أش 49: 6. وإلى هذا النص يعود بولس أيضاً في 26: 23 حين يؤكد: لا أقول إلاّ ما أنبأ به موسى والأنبياء، وهو أن "المسيح يتألم ويكون أول من يقوم من بين الأموات ويبشّر اليهود وسائر الأمم". تقترب هذه المقاطع الثلاثة من 13: 47، لأنها تحديد للمهمة الرسولية. وهذه المهمة لا تُفهم انطلاقاً من إسرائيل، بل من المسيح الذي بشّر به الرسل وكانوا شهوداً له.
وإن محتوى الإيراد يقودنا إلى التفسير الكرستولوجي. لا يقول لوقا كما في النص العبري: "أجعلك نور الأمم ليصل خلاصي إلى أقصى الأرض". بل حسب النص اليوناني: "أقمتك نوراً للأمم لكي تكون خلاصاً (أي سبب خلاص) إلى أقاصي الأرض". والدور الخلاصي الذي تنسبه التوراة اليونانية إلى من يتوجّه إليه الله، هو لدى المسيحيين (بطريقة طبيعية) دور المسيح لا دور إسرائيل.
وقد نستطيع أن نتفحّص نصوصاً أخرى: التلميح إلى أش 40: 6 في أع 28: 28، نقابله مع لو 3: 6. وهناك إعلانات بطرس في أع 2: 39 و3: 25- 26 وكلام يعقوب في أع 15: 16- 17. حينئذ نرى أن الاهتمام ينصبّ لا على رسالة إسرائيل، بل على رسالة المسيح وهي رسالة تعني أولاً إسرائيل، ولكنها تمتد أيضاً إلى الأمم الوثنية. حين يتوجّه المرسلون المسيحيون إلى الوثنيين، فهم لا يفعلون ليملئوا محلّ اليهود الذي فرغ: تراجع اليهود وطردوا من إسرائيل الحقيقي (3: 23؛ رج 18: 6). ثم إن لوقا لا يتحدّث عن إسرائيل الجديد. إن الرسل أقرّوا أن يسوع هو مسيح إسرائيل، ولكنه مسيح الوثنيين أيضاً. والوثنيون يُدعون إلى المشاركة في المواعيد المعطاة لإسرائيل دون أن يصيروا يهوداً. ورَفْض اليهود للإنجيل لن يمنع الوثنيين من خلاص أعدّ لهم واتخذ تحقيقه شكلاً مسيحانياً: يسوع هو مجد إسرائيل ونور الأمم (لو 2: 32)، وهو يحقق تحقيقاً كاملاً ما أعلنه الأنبياء عن المسيح.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM