الفصل التاسع عشر: جمال الشركة الكنسية ومتطلباتها

الفصل التاسع عشر
جمال الشركة الكنسية ومتطلباتها
2: 42– 47
4: 32– 35
5: 12– 16
أ- مقدمة
1- قرينة هذه المقاطع
- مجيء الروح القدس (2: 1- 13) وخطبة بطرس (2: 14- 40) التي تختتم المقطع مع آ 41: "فقبل بعضهم كلامه وتعمّدوا، فانضم في ذلك اليوم نحو 3000 نفس".
- إجمالة أولى: حياة المؤمنين (2: 42- 47).
- شفاء الكسيح (3: 1- 10) وخطبة بطرس (3: 11- 26).
- بطرس ويوحنا أمام المجلس (4: 1- 22). صلاة الجماعة وحلول الروح (4: 23- 31).
- إجمالة ثانية: الجميع يشارك في الخيرات (4: 32- 35).
- برنابا يعطي المثل فيبيع ما يملك (4: 36- 37).
- حنانيا وسفيرة يهرّبان قسماً من المال الذي به باعا ما يملكان، ويموتان كلاهما (5: 1- 10)، وتختتم آ 11 هذا الحدث: "فاستولى خوف شديد على الكنيسة كلها وعلى جميع الذين عرفوا هذه الأخبار".
- إجمالة ثالثة: معجزات الرسل (5: 12- 16).
- اضطُهد الرسل (5: 17- 41) ولكنّهم ظلّوا يعلنون الإنجيل في الهيكل وفي البيوت (5: 42).
2- كيف نفهم هذه المقاطع
تقدّم هذه المقاطع صعوبات خاصة أشار اليها الشّراح. قال بعضهم إن لوقا كان مهملاً في إنشائه، فصحّحه في الإجمالة الثالثة. لنتوقّف عند هذه الأمور ونتّخذ مثلين. إن الغراماطيق (قواعد الصرف والنحو) وتسلسل الأفكار يدعواننا لنقرأ 4: 34 حالاً بعد 4: 32 ونقفز فوق
آ 33 التي تشير إلى موضوع آخر. بعد 5: 12 أ، يجب ان تأتي 5: 15 التي ترتبط بها حسب قواعد المنطق، بحيث أن الفصل الذي تشكله آ 13- 14 لا يجد ما يبرّره. بالإضافة إلى ذلك، هناك تكرارات: 2: 47 أ تعود في 5: 14. وهناك تناقضات: رج 2: 47 ب و5: 14. ق مع 5: 13 أ.
وحاول الشّراح أن يفسروا هذه الفجوات. قال بعضهم: هناك مراجع مختلفة. وتساءل آخرون عن سبب وجود هذه اللوحات الإجمالية. فليس من مؤرخ (ولوقا هو مؤرخ وإن كان لاهوتياً أيضاً) يكتفي بوضع الأحداث الواحد قرب الآخر: عليه أن يختار ويربط بين الأحداث. وإذ يمزج هذه الأحداث، يستطيع أن يقدم نظرة شاملة عن التاريخ الذي يقدم، ويشير إلى الاتجاه الذي يتخذه.
يجب أن تتكامل هذه النظرات، ولهذا نتطلّع إليها في وقت واحد. والاختلاف في النتائج التي تحصل عليها الأبحاث (نميّز المراجع والمواد الأولانية والثانوية) لن يجعلنا مشكّكين ومرتابين.
نقول أن لا ترتيب في هذه النصوص التي تتكرر، فلا نحاول أن نوفِّق بينها. لقد احترم لوقا تقاليد تشير إلى هذه الوقائع فلم يبدّل فيها. نجد في بعض الآيات لغته الخاصة ولاهوته. وهناك آيات أخرى غريبة عن طريقته في التفكير والكتابة.
نحن نرى اليوم الطريقة التي بها نفسّر هذه المقاطع اللوقاوية ونميّز قيمتها التاريخية. هناك حالات ملموسة في أساس هذه التأكيدات العامة: نجد مثلاً عن توزيع الأموال الخاصة على سائر أعضاء الجماعة في يوسف برنابا الذي قام بعمل يُشكر عليه: "باع حقلاً يملكه وجاء بثمنه وألقاه عند أقدام الرسل" (أ 4: 36- 37). ونجد مثلاً عن معجزات تتمّ على يد الرسل في عجائب بطرس المتعددة.
ومن جهة أخرى، لا يستطيع التعميم أن يضم كل حالة خاصة، أن يحسب حساب الحالات الشاذة: مثلاً ما فعله حنانيا وسفيرة، وما امتلكه المؤمنون من أموال خاصة لا يضعف الإجمالات التي تقول: "كل الذين كانوا يملكون الحقول أو البيوت كانوا يبيعونها ويجيئون بثمن البيع فيلقونه عند أقدام الرسل ليوزّعوه على قدر احتياج كل واحد من الجماعة" (4: 34- 35).
فإذا وضعنا جانباً هذه التحفّظات، فإن هذه النصوص تدلّ على قيم هامة. إنها وثائق قديمة وأصيلة، بل أقدم الوثائق التي نملكها عن حياة المسيحيين الأولين. وقد أثّرت تأثيراً عميقأ على حياة الكنيسة خلال تاريخها. قد تكون استُعملت بطريقة مبتورة. غير أن السبب في ذلك هو أن الناس لم يفهموا فنها الأدبي.
لن نحلّل هذه المقاطع كلمة كلمة، بل نقدّم المواضيع الأساسية: الثبات على تعليم الرسل. التضامن في كسر الخبز وفي الصلوات. الرسل كقوّاد الجماعة هم شهود المسيح وصانعو عجائب. حضور الكنيسة في العالم. التعلّق بالرب بالإيمان.
غير أننا لا نهمل قرينة هذه الإجمالات. إن قرينة الإجمالة الأولى مهمّة: فبعد خبرة العنصرة وخطبة بطرس، تبدو الحياة المسيحية على أنها ثمرة يهبها الروح. في الإجمالة الثانية، يسيطر موضوع المشاركة في الخيرات.
بعد فيض جديد للروح (4: 31) نجد مثلين: سخاء برنابا العجيب، سرقة حنانيا وسفيرة اللذين استحقا التوبيخ. أما موضوع اللوحة الثالثة، فهو عمل الرسل الحاضر في الحالتين الأولى والثانية.
ب- مثابرة وثبات (2: 42)
من النادر أن نجد في العهد الجديد آية تتضمّن هذا العدد من الأفكار. فكأن القديس لوقا وضع فيها جوهر الحياة المسيحية. فقد وجد بعض الشراح في هذه «المداومات» الأربع السمات الضرورية والكافية لتصوير كل حياة الكنيسة والمؤمنين. فإن نقصت مداومة، زال في الوقت عينه طابع الوجود المسيحي الخاص وحيويته. "كانوا يداومون على تعليم الرسل وعلى التضامن (الحياة المشتركة) وعلى كسر الخبز والصلوات (2: 42).
إن فعل داوم ينطبق على عناصر الحياة المسيحية الأربع معاً. وهذه الحياة تبدأ انطلاقتها حين نلازم الكلمة وننال الأسرار. ولكنها تتابع مسيرتها دوماً، استناداً إلى التحريضات على الإنجيل، على الثبات، على السهر. الحياة المسيحية هي مداومة وثبات، وكل توقف يجر مخاطر عظيمة (عب 6: 4 ي).
1- مداومة على تعليم الرسل
نحن هنا أمام معيار يدل على صدق المسيحية وصحتها.
إن يسوع لم يعظ بعد أن تمجّد في السماء. فالرسل هم الذين يقدّمون الإيمان (لو 24: 34؛ يو20: 25؛ أَع 2: 36- 41) كشهود لكل سر المسيح منذ "البداية" حتى إرسال الروح الذي وعد به الآب (لو 24: 48 ي؛ أع 1: 8، 21- 22).
وستحدّد الإجمالة الثانية الموضوع الأساسي في إعلان الكرازة وشهادة الرسل: "وكان الرسل يؤدون الشهادة بقيامة الرب يسوع" (4: 33 أ). وانطلاقاً من هذا التقرير عن خبرتهم الفصحية، سيتنظم تقرير عن حياة يسوع كلها: آلامه، كرازته، عجائبه.
وستُوضع نتائج هذا الإعلان وهذا التعليم في شكل نهائي: هكذا وُلدت الأناجيل، وسيكون دور رسائل بولس وبطرس ويوحنا بأن يغنوا هذا التعليم (ديداكي) ويعمّقوه ويكمّلوه. وستعيش الكنيسة من هذا التعليم الى الأبد، وستفكّر فيه على ضوء روح الحق.
ولكن نرى أنه من الأهمية بمكان أن نشدّد على الطابع الجوهري لهذه المداومة. قال أحد الشّراح: إذا كان المؤمنون، رغم أمانة الرسل، لا يداومون على التعليم الرسولي ويبحثون في أماكن أخرى عن تعاليم "معاصرة"، فهم يحطّمون الشركة التي تربطهم بالرسل. وإن هم تركوا الرسل، أضاعوا يسوع المسيح نفسه. من ضلَّ، قطع كل علاقة بالتعليم الرسولي، وحطّم الشركة التي تربط المؤمنين بالمسيح والكنيسة. لهذا على المؤمنين أن يتعلّقوا بالرسل لأنهم الرباط الوحيد بين المسيح والكنيسة. فإن حافظوا على الاتحاد بالرسل، ظلّوا متحدين بالأقانيم الإلهية (رج 1 يو1: 3).
على المسيحيين وعلى الكنيسة كلها أن يعيشوا من الله اليوم. وهذا التجديد سيكلّفهم غالياً. ولكن إن كانوا لا يستندون إلى الأساسات التي وضعها الرسل، فعليهم ضميرياً أن يتخلّوا عن الاسم المسيحي. ويقول التقليد الكاثوليكي: إن للرسل خلفاء لا ينعمون بكل امتيازات الحلقة الرسولية الأولى، ولكنهم يتحمّلون مسؤولية إعلان الرب يسوع على المؤمنين في كل جيل وزمان.
2- مداومة على التضامن (الحياة المشتركة)
كوينونيا هي كلمة شهيرة، وهي ترد مراراً عديدة في العهد القديم، وتتخذ معاني مختلفة. ثم إن لوقا لا يستعمل هذه الكلمة الغنية إلا في هذا المكان. غير أنه لا يبدو من الصعب أن نحدّد معناها بفضل العبارات المقابلة التي نجدها في النصوص.
من الأكيد أن مضمونها يحتوي سنداً مادياً: نحن أمام مشاركة في الخيرات مبنية على بيع أملاك يُوضع ثمنها عند أقدام التلاميذ. وهكذا يتحقق وعد الرب الاسكاتولوجي (في نهاية الأزمنة): لم يعد من فقراء بين المسيحيين (رج تث 15: 4): "يتقاسمون الثمن على قدر حاجة كل واحد منهم" (2: 45؛ رج 4: 32 ب- 35).
لا تُولد هذه المشاركة من مثال إنساني، يكفي أن نعمل على تحقيقه فنقيم في فردوس أرضي. هذه المشاركة تُولد من الإيمان. فالذين داوموا على هذا التضامن، هم الذين قبلوا الكلمة و"نالوا الأسرار" (2: 41)، هم الذين "آمنوا". وتصل المشاركة إلى رجاء الخلاص التام الذي يمنحه الرب بصورة تدريجية (2: 47).
ويعيش المؤمنون أيضاً هذه المشاركة خلال اجتماعات الصلاة والكرازة في الهيكل، أو في الجماعات الإفخارستية الملتئمة في بيوت المسيحيين (2: 46). إنها الكنيسة الحية التي يكوّنها المسيحيون ويبنونها متضامنين.
ومشاركة الجميع هذه في الخيرات أمر ضروري جدأ. وهذه الجماعات المحلية قد تكون عقيمة ومن دون معنى، لو نقصت "الكوينونيا" أو لم توجد رباطات تضامن يشدد عليها لوقا في كل جملة: "كل الذين آمنوا معاً" (2: 44). "كانوا يداومون بقلب واحد" (2: 46). "كانوا يجتمعون بقلب واحد في رواق سليمان" (5: 12 ب).
كل هذا يتلخّص في الكلمات التالية: «لم يكن لجماعة المؤمنين إلا قلب واحد وروح واحدة» (4: 32). من الواضح أننا أمام لوحة مثالية (لا يجهل لوقا الضعف البشري في الكنيسة). وإذ يعكس لوقا واقع البدايات، فهو يدعو الكنيسة الى أن تقابل وجهها الحالي باللوحة المثالية، قلب واحد وروح واحدة: أي وحدة الكائن كله. هذا يعني: لم يكن لهم إلا طريقة واحدة في العيش والفكر والعمل. كانوا متّفقين كل الاتفاق. وكان كل شيء مشتركاً، كما هو الحال مع أصدقاء، مع العلم أن المشاركة لا تنبع فقط من عاطفة حب بشري، بل من الإيمان الذي ترتكز عليه الحياة المسيحية: إنها شركة المؤمنين.
ولنا أيضاً ملاحظتان. الأولى: ليست هذه الكوينونيا عملاً معزولاً. هناك مداومة على الكوينونيا. فعلى المسيحي أن يحيا دوماً في اتحاد مع إخوته بالمشاركة في الخيرات، بالاهتمامات الكنسية الصغيرة (2: 46). أن يتحد بإخوته في الروح والفكر والعمل. ويبقى فيه هذا المشروع أبداً، وإن تغيرّت أشكال تحقيقه. نشير هنا إلى أن هذا النمط من الحياة المشتركة الذي سيطر وقتاً من الأوقات في حياة الكنيسة الأم (سمي هذا الخط: الاشتراكية المسيحية)، لم يفرض نفسه على الكنائس البولسية أو اليوحناوية. مثلاً، إذ يعطي بولس شكلأ جديداً للكوينونيا، فهو يجسّدها في اللمّة التي سيطرت مدة طويلة على اهتمامه. فالإيمان يعرف الابتكار إلى درجة تساعد على اكتشاف تعابير جديدة للمحبة.
الملاحظة الثانية: على ضوء ما قلنا عن دور الإجمالات وفنها الأدبي، نريد أن نسبّق على بعض اعتراضات. فالأحداث المنعزلة التي يرويها لوقا (برنابا، حنانيا وسفيرة، مريم أم يوحنا مرقس) تدلّ على أن هذه الهبات كانت إرادية وطوعية. فجاءت الإجمالات وعمّمتها. جاءت الحالات الخاصة أولأ، فانطلق منها لوقا وقدّم تعميماته.
3- مداومة على "كسر الخبز"
لا شك أننا نرى في هذه العبارة (في إطار كتابات لوقا) تلميحاً إلى الافخارستيا. كان المسيحي يفهمها، أما غير المؤمن فما كان يندهش منها، فيحسبها وليمة خاصة.
لا يتيح لنا النص أن نحدّد مدى المداومة الإفخارستية: هل كانت يومية؟ هناك نصوص تشدّد على احتفال يوم الأحد أو يوم الرب. مثلاً، بولس "كسر الخبز" في اليوم الأول من الأسبوع (20: 7) أي اليوم الذي يلي السبت أو "يوم الرب" (رؤ 1: 10).
أين يُكسر الخبز؟ تقدّم لنا آ 46 تمييزاً واضحاً: من جهة، ينظّمون اجتماعات صلاة مشتركة في هيكل صار خراباً يوم دوّن لوقا أع. ومن جهة ثانية، يحتفلون بكسر الخبز في البيوت أي في بيوت المسيحيين (رج 5: 42 حيث نجد الهيكل والبيوت). هناك العلية (1: 13)، وبيت مريم أم يوحنا مرقس (12: 12). يتحدّث بولس عن الكنيسة التي تجتمع في بيت هذا المسيحي أو ذاك (روم 16: 5؛ 1 كور 16: 19؛ كو 4: 15؛ فلم 2).
وتشهد آ 46 أيضا على الروح التي تنعش هذا الاحتفال: "بفرح وبساطة قلب". إن للكلمة التي استعملها لوقا (أغالياسيس) طابعاً عباديا: تُستعمل للاحتفال بالعون والخلاص اللذين يقدمهما الله. "أغالياسيس" هي بهجة يسببها حضور الله، وتتضمّن بعض المرات نفحة اسكاتولوجية. فالمرتّل يطلب من الرب أن يمنحه "بهجة خلاصه" (مز 51: 14). والعذراء تعظم الرب، وتبتهج روحها فرحاً بالله مخلّصها (لو 1: 46 ي).
ويؤكد المسيح القائم من الموت (وضعت على لسانه كلمات مز 16: 8- 11) أن قلبه يفرح ولسانه يبتهج للحياة التي منحه الله اياها. والكنيسة تشارك اليوم في هذا الفرح، وهي تعي أنها جماعة نهاية الأزمة التي تكوّنت بعمل الله الخلاصي. وهي تسبّق على النشيد النهائي الذي ستطلقه حين تبدأ وليمة عرس الحمل: "هللويا. إن الرب الإله القدير قد وضع يده على ملكه. لنفرح ونبتهج ولنمجّد الله. إن عرس الحمل جاء وقته وتزيّنت عروسه: أعطيت أن تلبس الكتان الأبيض الناصع" (رؤ 19: 6 ب- 8 أ).
هذه البهجة هي امتداد الفرح الذي تركه يسوع لكنيسته حين ودّع رسله (لو 24: 41، 52).
أما عبارة "بساطة قلب"، فهي تحمل توبيخاً خفياً للتجاوزات التي قد تكون دخلت في الوليمة الإفخارستية. يشير اليها بولس في 1 كور 11: 17 ي (إن اجتماعاتكم تضّر أكثر مما تنفع). ويندّد يهوذا (آ 16) في رسالته بأعياد الحب التي اشتهرت في ذلك الوقت: يتبعون أهواءهم.
مهما يكن من أمر، على المسيحي أن يشارك دوماً في كسر الخبز: "كلّما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء" (1 كور 11: 26).
4- المداومة على الصلوات
حين نعرف تحريضات يسوع على الصلاة وأقوال بولس في رسائله، لا نجد هنا شيئاً جديداً عن الصلاة. فالمداومة على الصلاة أمر جوهري لابن الله الذي يرغب أن تتم فيه إرادة الله يوماً بعد يوم، الذي يطلب أن يدخل في تاريخ خلاص يتمّ في الكنيسة على مدى الأزمان.
ولا نحتاج إلى الخروج من أع لنتعرّف إلى المكانة المميّزة التي تحتلّها الصلاة في حياة الجماعة الأولى: صلاة مشتركة لكل المسيحيين الذين يسبّحون الله في الهيكل (2: 46- 47). صلاة مثابرة مع النساء، مع مريم أم يسوع، يتلوها رجال ينتظرون الروح قبل القيام بالرسالة (1: 14). صلاة كنسية لاكتشاف إرادة الله في حالة معيّنة (1: 24- 25) أو لرفع آيات الشكر إليه (12: 12). صلاة الرسل لمقاومة الاضطهاد وللمحافظة على الحرية في إعلان الكلمة (4: 24- 30). كل هذا نموذج صلاة مسيحية تواجه الواقع القاسي في الحياة اليومية.
يُفرض على الرسول أن يحتفظ بقسم من وقته، مهما كلفه الأمر، ليوجّه صلاة الجماعة (6: 4). عليه أن يصليّ حين يضع يده على الذين ينطلقون إلى الرسالة (6: 6؛ 13: 3). وأخيراً، عليه أن يصليّ ويدعو باسم الرب يسوع حين يسلّم روحه (7: 59- 60).
مهما انخرط الرسول (أو الجماعة) في العمل وسط الحياة وجهاد العالم، صارت صلاته حارّة ومتواترة.
ولا بدّ من التحقّق من هذه المداومات الأربع لدى المسيحي. بهذا الشرط وحده يعيش حياته في التناسق والوحدة. فالثبات في تعليم الرسل لا يفيد شيئاً من دون الوحدة والمشاركة، ولا لإفخارستيا من دون المشاركة في الخيرات والمداومة على التعليم. فمن تخلىّ عن واحدة، شوّه مجمل الحياة المسيحية. ومن فصل بينها، قتل شركة الحياة بين المسيحيين.
ج- الرسل هم قوّاد وشهود ومجترحو عجائب
لا شك في أن كل الجماعة المسيحية تلعب دوراً كبيراً في أع، ولكنّها لا تلعب الدور الرئيسي. فالرجال الذين يبرزون في المقدمة، أبطال هذا الخبر، هم الرسل ولا سيما بطرس في القسم الأول وبولس في القسم الثاني. إنهما كالمغناطيس يجتذبان التقديم الأدبي أو ككشّاف ينشر النور على كل المواضيع.
لقد تكلّمنا عن مسؤولية وواجبات الرسل في نقل التعليم. ورأينا أيضاً دورهم في صلاة الكنيسة. وقلنا أيضاً إن المؤمنين كانوا يضعون عند أقدامهم ثمن ما يبيعون ليوزعوه على المحتاجين (2: 42 ي؛ 4: 34 ي). مثل هذه الاهتمامات المادية كادت تبعدهم عن وظائفهم الأساسية التي هي الصلاة والكرازة. لهذا كان من الضروري المحافظة على هذه الأولويات، أن تتكوّن في الكنيسة بُنى جديدة ووظائف جديدة (6: 1ي) بحيث يبقى للرسول وقت ليشهد فيه الشهادة الصالحة لقيامة المسيح.
غير أن النصوص تذكر أيضاً وجهة من النشاط المتعدد الذي يقوم به الرسل في بداية الكنيسة: من يدهم تخرج "آيات ومعجزات عديدة وسط الشعب" (2: 43؛ 5: 12 أ؛ رج 4: 33). وهكذا يتكمّل نشاط يسوع بنوع من الأنواع ويمتد في الكنيسة عبر رسله (رج مر 6: 56؛ أع 5: 15) في هذه الأيام الأخيرة (2: 17، 19).
إن بُعد هذه الآيات ومضمونها واضحان. إن رحمة الله وصلاحه يصلان إلى البشر بيد الرسل، كما كانا يصلان بيد يسوع. وفي الوقت عينه، إن "القدرة العظيمة" التي تظهر في هذه العجائب تعطي قوة للشهادة الأساسية التي يؤدونها للقيامة. فالمعجزات تدهش لا المسيحيين فقط، بل الذين يشاهدونها معهم. كانوا أمام ظهور قداسة الله "فاستولى الخوف على جميع النفوس" (2: 43؛ رج 5: 13 أ).
ان الطابع الشامل لهذه النصوص لا يمنع لوقا من إبراز وجه بطرس في المقام الأول. تذكَّر، ولا شك، تقاليدَ أخرى معروفة (3: 1- 10؛ 9: 32- 35، 36- 42)، فقال: "كانوا يحملون مرضاهم إلى الشوارع ويضعونهم على الأسّرة والفرش، حتى إذا مرّ بطرس يقع ولو ظلّه على أحد منهم" (5: 15). وكانت "جموع المرضى والممسوسين تأتيه من القرى أو من ضواحي أورشليم فيُشفون كلّهم" (5: 16).
يبِّين صاحب أع في هذا النشاط أن مواعيد يسوع تمّت في رسله (لو 9: 1؛ 9:10). يعرف بطرس أنه يجترح هذه المعجزات باسم يسوع: "لماذا تنظرون إلينا كأننا بقدرتنا أو تقوانا جعلنا هذا الرجل يمشي" (31: 21)؟ كما يعرف أنه إنسان ضعيف. قال لكورنيليوس الذي ارتمى ساجداً له: "قم، ما أنا إلا بشر مثلك" (10: 26). وهذا هو موقف بولس أمام النجاح الذي يلقاه: "نحن بشر ضعفاء مثلكم" (14: 15).
د- حضور الكنيسة في العالم
ان الجماعة المسيحية التي تنمو، لا تنفصل إلا شيئاً فشيئاً عن سائر الشعب الذي لا يقبل بيسوع مسيحاً ورباً. أما في هذه اللوحات الصغيرة، فنفهم أن الشعب يكنّ للمسيحيين الاحترام والعطف والإعجاب. أما العداوة من قبل السلطة فستأتي فيما بعد.
كتب لوقا في إجمالته الأولى: "استولى الخوف على جميع العقول" (2: 43 أ). نستطيع أن نقرّب هذه العبارة من عبارة أخرى تشبهها فتصوّر ردة الفعل أمام موت حنانيا وسفيرة غير المنتظر: "حينئذ استولى خوف شديد على الكنيسة كلها وعلى جميع الذين عرفوا هذه الأخبار" (5: 11؛ رج 5: 5). كل حدث خارق يولّد رهبة مقدسة.
ولكننا نجد في 2: 43 أ شيئاً آخر خاصاً. بعد أن صوّر لوقا في 2: 42 الحياة المسيحية السائرة في الإيمان، أشار إلى أن هذه الحياة تثير اهتماماً عميقاً في كل القلوب. هكذا كان حضور يسوع الناشط قبل القيامة يولّد عند الناس المخافة والاحترام (لو5: 26؛ 8: 25). وفي العهد القديم، كان حضور الله يولّد الخوف عند موسى وأشعيا... أجل، الجماعة المسيحية تؤثر على الناس الذين يعيشون حولها.
لا شك في أنه، حين اجتمع المؤمنون في الهيكل، في رواق سليمان، لاحظهم اليهود، وإن تحاشوا مخالطتهم (5: 13 أ). ومع ذلك "كان الشعب يعظّمهم" (أو يمتدح أعمالهم) (5: 13 ب). وكلمة "عظّم" (ميغالينو) التي يستعملها لوقا في الأطر الليتورجية (لو 1: 47، 85؛ أع 10: 46؛ 11: 18؛ رج أع 2: 11: عظائم الله التي يعلنها الرسل)، تدلّ على أن هذه الجماعة الصغيرة هي عمل الله الجديد الذي يستحقّ مدائح الشعب: على الكنيسة أن تعطي البشر المناسبة ليمجّدوا الله على تصرفاتها، ووحدتها، وصلاتها. ثم إن موقف الجماعة يثير التعاطف والنظرة الطيّبة: "ينالون رضى الناس كلهم". تعني كلمة، "خاريس" هنا رضى البشر، وفي 4: 33 نعمة الله ومحبته. "كان الرسل يؤدّون الشهادة بقيامة الرب يسوع، تؤيدها قدرة عظيمة، وكانت نعمة الله عليهم جميعاً". كانت هذه النعمة على الرسل (كما يقول النص)، بل على جميع المسيحيين (كما يقول البعض الآخر). لا شك في أن مهمة الرسل تقوم بأن يعلنوا كرازة القيامة الخلاصية، ولكن محبة الله لا تنحصر فيهم. فنعمته تفاض على كل الذين يتقبّلون هذا التعليم الرسولي ويبقون أمناء له (2: 42).
والعلاقة بين القيامة ونعمة الله المفاضة على الجميع، تتخذ بعداً سامياً: الفصح هو خلق جديد، وبالتالي هو ينبوع نعمة عظيمة يغطّسنا في زمن البدايات.
ونشير أخيراً إلى محبة الكنيسة لأبنائها وللغرباء. فالرسل لا يحصرون المعجزات بالجماعات الجديدة. فبطرس ورفاقه يكرّسون وقتهم وقوتهم لشفاء كل الذين يأتون اليهم. أيُعقل أن تكون كل هذه الجموع (5: 16) مؤلّفة من المؤمنين وحدهم؟
هـ- التعلق بالرب بالإيمان
كل هذه الحياة المسيحية التي تظهر بطرق متنوعة لدى الرسل وسائر المؤمنين، هي ثمرة موهبة الروح التي بها يمارس الرب نشاطه المجيد (2: 33). وهذا ما يشدّد عليه القديس لوقا. هو الرب (لا رضى الناس) يزيد كل يوم عدد الجماعة الذين أنعم عليهم بالخلاص (2: 47). فالرب هو في النهاية ينبوع هذا النموّ في الكنيسة. وإن لوقا لا يني يبرز هذا النمو على مدى أع: "انضم ثلاثة آلاف" (2: 41). "كان الرب يزيد عدد" (2: 47). "آمن كثير من الناس" (4: 4) "انضم عدد كبير من الرجال والنساء إلى الإيمان بالرب" (5: 14). "وكان كلام الله ينمو وعدد التلاميذ يزداد في أورشليم" (6: 7؛ 11: 21، 24؛ 21: 20).
في العهد القديم، كان تكاثر عدد الشعب علامة رضى الله وبركته: إنه ثمرة العهد مع الله (تك 9: 1- 9؛ 17: 1 ي). وعند الأنبياء طُبع هذا التكاثر بطابع اسكاتولوجي (إر 3: 14- 17؛ 23: 3). واليوم أيضاً، وبعد عهد العنصرة الجديد (هذه "الأيام الأخيرة")، ترى الكنيسة (التي باركها الله) أبناءها يتكاثرون.
بالنسبة إلى هذا الموضوع، نجد في الإجمالة الأخيرة جملة مبنية بطريقة مميّزة: عدد يكبر يوماً بعد يوم. كان المؤمنون، رجالاً ونساء، ينضمّون إلى الرب (5: 14). الرب هو أساس الإيمان وهو هدفه. بالإيمان نتعلّق بالرب نفسه تعلقاً شخصياً وحميماً.
ويستفيد لوقا من الظرف ليشير للمرة الأولى إلى العدد المتزايد من النساء اللواتي يعتنقن الإيمان. في الإنجيل نجد نساء أخريات تبعن يسوع خلال حياته الرسولية. ورافقنه حتى الصليب (لو 8: 2- 3؛ 23: 49).
أراد بعضهم أن يفسّر "ما تجاسر أحد أن يخالطهم" (5: 13 أ) وكأنها تعارض نموّ الكنيسة. في الواقع، إن مثل هذا التفسير لا يفرض نفسه. بل نفهم هذه العبارة كما يلي: حين يجتمع المسيحيين في الرواق يبتعد عنهم الآخرون (2: 43) بعد أن أخذتهم رهبة مقدسة. وهذا لا يمنع الناس أن ينظروا إليهم بعطف وأن يمتدحوا حياتهم (5: 13 ب).
حين كثّر الرب المسيحيين، أظهر أنه باركهم. ولكننا لا نزال على مستوى الإيمان. إن لوقا يسمّي الإخوة "المؤمنين" في الإجمالات خاصة. ما يربطهم ليست الصداقة أولاً بل الإيمان المشترك. إنهم هؤلاء الذين اتخذوا قراراً جذرياً في وقت محدّد من حياتهم. تأثروا بكرازة الرسل تدعوهم فاعتنقوا الإيمان (2: 44؛ 4: 32)، وبالتالي قبلوا كل النتائج التي يفرضها هذا الإيمان في حياتهم: مشاركة في الخيرات، توافق الفكر والعمل في قلب الجماعة المسيحية. وهكذا اتخذوا صفة المؤمنين التي تتضفن تعلقاً شخصياً بالرب.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM