الفصل الثامن: إلى أقاصي الأرض

 

الفصل الثامن
إلى أقاصي الأرض (ف 13- 28)
"في كتابي الأول، يا تيوفيلوس".
هكذا يبدأ أع. يستعيد لوقا الأمور حيث تركها في إنجيله. بعد أن تفحصنا ف 1- 12، سننطلق في ما تبقى من فصول سفر الأعمال: ف 12- 28. ونقرأ في خطَّين. من جهة، نكتشف كل ما يتعلّق بالرسالة، بالانفتاح على الخارج، على الذين ليسوا مسيحيين. ومن جهة ثانية، نكتشف كل ما يتعلق بالجماعة، بالكنيسة. ننفتح على الذين في الداخل، على إخوتنا المسيحيين.
إكتشفنا في ف 1- 12 انطلاقة الرسالة من أورشليم واليهودية كلها إلى السامرة وأنطاكية. إكتشفنا ذهاب الكنيسة إلى الذين هم في الخارج، إلى اليهودية والوثنيين. ووجدنا معطيات عن حياة الجماعات المسيحية الداخلية، ولا سيما إجمالات الفصول الخمسة الأولى. ماذا سنجد في القسم الثاني من أع؟
أ- الارتباط مع ف 1- 12
"ستنالون قوة هي قوة الروح الذي يحل عليكم، وتكونون لي شهوداً غي أورشليم، في اليهودية كلها والسامرة، حتى أقاصي الأرض" (1: 8).
إن مجمل أع يتحدّث عن هذه الرسالة التي سلّمها يسوع القائم من الموت إلى رسله قبل "ارتفاعه". تدشّنت المرحلة الأولى بعنصرة اليهود (في أورشليم) (2: 1- 41)، وامتدت حتى نهاية ف 7. بعد هذا، تحدّث ف 8- 9 بإيجاز عن المرحلة الثانية (كل اليهودية والسامرة) التي بدأت في 8: 5- 25 بعنصرة السامريين (وضع بطرس ويوحنا أيديهما عليهم، فنالوا الروح القدس، 8: 17). أما المرحلة الثالثة (حتى أقاصي الأرض) فقد تدشنت في ف 10- 11 بقبول المجموعة الأولى من الوثنيين (كورنيليوس وأهل بيته) في الكنيسة. هذا هو موضوع ف 13- 28.
1- تحقيق المرحلة الثالثة
تبدو ف 13- 28 في أساسها على أنها خبر نشاط بولس الرسولي. سيذكر اسمه 137 مرة، منها 9 مرات بشكل شاول. نشير بطريقة عابرة إلى أن اسم شاول سيرد حتى ف 13. والعبور من الاسم العبري (شاول) إلى الاسم اليوناني (بولس) سيتم في 13: 9، ساعة توجّه بولس للمرة الأولى للوثنيين، وكان ذلك في قبرص. يقوله النص: "فامتلأ شاول، واسمه أيضاً بولس، من الروح القدس" (13: 9). كما كان بطرس الوجه المسيطر في القسم الأول من أع (ورد اسمه 54 مرة في ف 1- 12 ومرتين فقط في ف 13- 28؛ رج 15: 7، 14)، سيكون بولس الوجه المسيطر في القسم الثاني.
من خلال نشاط بولس الرسولي، ستتحقّق المرحلة الثالثة من البرنامج المحدّد في 1: 8: "ستكونون لي شهوداً حتى أقاصي الأرض". وفي الواقع، ينتهي أع على إجمالة النشاط التبشيري (والإنجيلي) الذي قام به بولس في رومة: "وأقام بولس سنتين كاملتين في المنزل الذي استأجره، يرحّب بكل من يزوره، فيبشر بملكوت الله معلناً بكل جرأة وحرية تعليمه في الرب يسوع المسيح" (28: 30- 31).
يوم وصل الإنجيل إلى رومة، وصل إلى "أقاصي الأرض". لقد تمّ البرنامج، وانتهت مسيرة كلمة الله إلى قلب عاصمة العالم الوثني. في الواقع، يشير لوقا إلى أن الإنجيل كان قد وصل إلى رومة قبل أن يبلغها بولس. يقول أع: "سمع الإخوة في رومة بوصولنا، فخرجوا للقائنا في
ساحة ابيوس والحوانيت الثلاثة" (28: 15). الإخوة هم المسيحيون الذين زرعوا حوض البحر المتوسط: في بوطيولي (حوض نابولي اليوم)، في رومة، وساحة أبيوبر تبعد عنها 65 كلم، والحوانيت الثلاثة 49 كلم تقريباً. ولكن كيف وصلت المسيحية إلى رومة؟ هذا ما لا يقوله لوقا. فهو يذكر وجود جماعات مسيحية عديدة، ولا يقول شيئاً عن أصلها: جماعة دمشق (9: 15)، والجليل (9: 31)، ويافا (9: 41)، وكيليكية (15: 23) والإسكندرية (18: 24- 25: اختلافة غربية: تلقّن أبيوس مذهب الرب في مدينته أي الإسكندرية. وهذا يعني أن الإيمان المسيحي دخل إلى مصر باكراً) وأفسس (18: 27: اختلافة غربية: سمعه الكورنثيون المقيمون في افسس فدعوه ليأتي معهم إلى بلدهم. فكتب الافسسيون إلى التلاميذ في كورنتوس ليستقبلوه استقبالاً حسناً)، وبطلمايس (21: 7) ورومة (28: 15).
ولكننا نقرأ في 28: 29 (وهو نص لا نجده إلا في بعض المخطوطات): "فلما قال هذا الكلام، خرج اليهود من عنده وهم يتجادلون بعنف فيما بينهم". هل يعني هذا أن المسيحيين في رومة كانوا كلهم من أصل يهودي، وأن الإنجيل لم يكن قد أعلن بعد إلى الأمم الوثنية فيها؟ الأمر ممكن. فان رومة تمثل "أقاصي الأرض"، لأنها عاصمة الأمم الوثنية. هناك سيقول بولس ما قاله ليهود إنطاكية بسيدية: "فاعلموا إذن أن الله أرسل خلاصه هذا إلى الوثنيين وسيستمعون إليه" (28: 28).
وسنرى فيما بعد أن بولس مارس نشاطه لدى اليهود، وليس فقط لدى الوثنيين كما يرويه لوقا في ف 13- 28. ولكن لوقا يهتم أكثر ما يهتم، بارتداد الوثنيين الذي هو العلامة البارزة في مشاريع بولس الرسولية. فالتقارير التي يقدمها بولس ورفاقه بعد عودتهم من رحلاتهم الرسولية، تشدّد على النجاح الذي أحرزه الإنجيل لدى الوثنيين. بعد العودة من الرحلة الأولى نقرأ: "فلما وصل بولس وبرنابا إلى أنطاكية، جمعا الكنيسة وأخبرا بكل ما أجرى الله على أيديهما، وبالأخص كيف فتح باب الإيمان للوثنيين" (14: 27). ثم نقرأ: "عبر (برنابا وبولس) فينيقية والسامرة يخبران كيف اهتدى الوثنيون" (15: 3). وفي مجمع أورشليم كان "المجتمعون كلهم يستمعون إلى برنابا وبولس وهما يرويان لهم الآيات والعجائب التي أجراها الله على أيديهما بين الوثنيين" (15: 12). وبعد الرحلة الثالثة: يقول لوقا الذي رافق بولس وكتب مذكراته بصيغة المتكلم الجمع: "ودخل معنا بولس في الغد إلى يعقوب، وكان الشيوخ كلهم حاضرين. فسلّم عليهم بولس وروى لهم بالتفصيل كل ما أجرى الله على يده بين الوثنيين" (21: 18- 19). وحين وصل بولس إلى رومة بعد سفرة الأسر، قال لليهود في المجمع: "أرسل خلاص الله إلى الوثنيين" (28: 28).
2- محطات على طريق الرسالة
لقد تحققت المرحلة الثالثة بواسطة بولس. ولكن من الواضح في نظر لوقا أن هذه المرحلة قد دشّنها بطرس والأحد عشر. إن الرسالة التي مارسها بولس في ف 13- 28، هي امتداد للرسالة التي تحدّث عنها لوقا في ف 1- 12، بل امتداد لرسالة بطرس التي وردت في ف 10- 11.
فبطرس هو الذي عمّد كورنيليوس وأهل بيته في قيصرية. وهو الذي قبلهم في الكنيسة: "بينما بطرس يتكلم، نزل الروح القدس على كل الذين يسمعون كلامه... وأمر بطرس بان يتعمّدوا باسم يسوع المسيح" (10: 44، 48). كان أهل بيت كورنيليوس من الأتقياء وخائفي الله القريبين من العالم اليهودي. ولكنهم كانوا يُعتبرون من الوثنيين. لقد تعجّب المؤمنون المختونون وقالوا: "إن الله افاض هبة الروح القدس على الوثنيين" (10: 45)، أي بيت كورنيليوس (رج 11: 1: إن الوثنيين قبلوا كلام الله؛ 11: 18: أنعم الله بالتوبة على الوثنيين). وهذا يعني أن بطرس بدأ الرسالة التي تصل بالإنجيل إلى "أقاصي الأرض". وأن بولس تمّمها.
نحن نعرف أن الذهاب إلى أقاصي الأرض يعني في نظر لوقا الذهاب إلى الأمم الوثنية. فالرسالة عينها التي تحدّث عنها أع 1: 8 بأنها ستمتد إلى أقاصي الأرض، كان قد تحدث عنها لو 24: 47: "تعلن باسمه بشارة التوبة (أو بشارة من أجل التوبة كما يقول بعض الشهود القدماء) لغفران الخطايا إلى جميع الأمم، إبتداء من أورشليم". وكذلك حين يعلن بطرس وبرنابا عن عزمهما على التوجّه إلى الوثنيين (13: 46) أوردا في آ 47 نص أش 49: 16 الذي يتردد صداه في 1: 8: "جعلتك نوراً للأمم، لتحمل الخلاص إلى أقاصي الأرض".
نحن نلاحظ من الوجهة الأدبية تداخلاً بين القسم الأول (ف 1- 12) والقسم الثاني (ف 13- 28). لم يُدخل لوقا شخص بولس فجأة في بداية ف 13 حيث يبدو الشخص الرئيسي. لقد هيّأ لهذا الدخول بلمسات متعاقبة ابتداء من ف 7. فحين روى استشهاد اسطفانس قال في النهاية: "وخلع الشهود ثيابهم ووضعوها أمانة عند قدمَيْ شاب اسمه شاول" (7: 58 ب). وقالت في 8: 1 أ: "وكان شاول موافقاً على قتل اسطفانس". ثم في 8: 3: "كان شاول يسعى إلى خراب الكنيسة، فيذهب من بيت إلى بيت، ويُخرج منه الرجال والنساء ويلقيهم في السجن". وهكذا انطلق القارئ من نشاط بولس (شاول) الاضطهادي، فاستعد في ف 9 لخبر ارتداد ذلك الغيور على ديانة آبائه (9: 1- 19). وسترد إشارات أخرى عن بولس: فإقامته في أورشليم لدى الرسل (9: 26- 30) ونشاطه في جماعة إنطاكية (11: 25- 30؛ 12: 25) يتوزعان في الجزء الاخير من "دورة بطرس". وهكذا نستطيع أن ننتقل بطريقة لا شعورية إلى "دورة بولس". ومقابل هذا، لم تختف صورة بطرس فجأة عن المسرح، بل بطريقة تدريجية. سيظهر آخر مرّة في مجمع أورشليم ليعلن ما سيعيشه بولس في رسالته: "نحن نؤمن أننا نخلص بنعمة الرب يسوع كما هم يخلصون" (15: 11). وهنا يقول النص الغربي: "وافق الشيوخ بطرس" (15: 12)، وسيكون هذا التوافق أساس انطلاق الرسالة المسيحية من إنطاكية حتى تصل إلى كورنتوس وأثينة وفيلبي...
ب- رسالة بولس (13: 1- 21: 19)
يقدّم بولس في آخر خطبه التي يوردها أع لمحة عن رسالته فيجعلها على مثال ما فعله الرسل. في هذا المعنى يميّز ثلاث مراحل كما في 1: 8. نقرأ في 26: 20: "بشّرت أهل دمشق أولاً، ثم أهل أورشليم، ثم بشّرت بلاد اليهودية كلها. بعدها، أعلنت للوثنيين أن عليهم أن يتوبوا ويرجعوا إلى الله، وأن يقوموا بأعمال تدلت على التوبة". أما هذا هو البرنامج الذي أعلنه 1: 8؟
طريق بولس شبيهة بطريق بطرس. يميّز ف 1- 12 مراحل الرسالة بوضوح (ف 2- 7، 9، 10- 11). غير انه يصعب علينا أن نميز المراحل المذكورة في 26: 20. إذا كانت المرحلة الأولى (في دمشق وأورشليم) بارزة (9: 15 ب- 25؛ 9: 26- 30)، إلا أن المرحلتين التابعتين غير واضحتين. مثلاً، خلال المرحلة الثالثة (أي لدى الوثنيين) التي تصوّرها ف 13- 28، لا يزال نشاط بولس يمتّد لدى اليهود. في إنطاكية بسيدية: "يا بني إسرائيل ويا أيها الذين يتقون الله" (13: 6). وفي ايقونية، "دخل بولس وبرنابا كعادتهما مجمع اليهود وتكلّما حتى جعلا كثيراً من اليهود واليونانيين يؤمنون" (14: 1). وفي تسالونيكي، دخل بولس المجمع كعادته فجادل اليهود ثلاثة سبوت، مستعيناً بالكتب المقدسة (17: 2). وكذا نقول عن بيرية (17: 10) وكورنتوس (18: 5: حصر بولس همه في التبشير بكلمة الله، شاهداً لليهود على أن يسوع هو المسيح). وسيظل بولس يمارس رسالته مع اليهود حتى وصوله إلى رومة، أسيراً للمسيح: "أخذ بولس يحدّث اليهود من الصباح إلى المساء، شاهداً لملكوت الله، محاولاً أن يقنعهم برسالة يسوع استناداً إلى شريعة موسى وكتب الأنبياء. فاقتنع بعضهم بكلامه، ورفض الآخرون أن يؤمنوا" (28: 23- 24). وهكذا لم يتخل بولس عن اليهود خلال هذه المرحلة التي كرّسها لتبشير الوثنيين. ولكن ظل اليهود حتى النهاية منقسمين تجاه الإنجيل: حين ذهبوا، لم يكونوا متفقين (28: 25). بل هم سيتفقون في أكثريتهم على رفض الإنجيل.
مهما يكن من أمر، فإن رسالة بولس التي تبدأ بقوة انطلاقاً من ف 13، تتضمن ثلاث سفرات متعاقبة سنرسم مسيرتها بإيجاز، على أن نتحدث فيما بعد عن كل سفرة بمفردها.
1- السفرة الأولى: أرسلهما الروح القدس (ف 13- 14)
يبدأ ف 13 بخبر إرسال برنابا وبولس (آ 1- 3). انطلقا من إنطاكية وبشرا أولاً في قبرص، موطن برنابا (4: 36)، ثم عبرا مختلف مناطق آسية الصغرى (أي تركيا اليوم)، بمفيلية، بسيدية، إيقونية، واتجّها إلى كيليكية، موطن بولس (21: 39). ثم عادا أدراجهما فمرّا في المدن التي بشراها (14: 21- 25). وأخيراً وصلا إلى إنطاكية في سورية. "فلما وصلا إلى إنطاكية، جمعا الكنيسة وأخبرا بكل ما أجرى الله على أيديهما" (14: 17).
إن المحطة المهمة في هذه السفرة الأولى هي محطة إنطاكية بسيدية (13: 14: 52). هنا يضع لوقا أول خطبة كبيرة يوجّهها بولس إلى اليهود في مجمع المدينة: "يا إخوتي، يا أبناء إبراهيم، ويا أيها الحاضرون معكم من الذين يتقون الله. إليكم أرسل الله كلمة الخلاص" (13: 26). ولكن لم يرضَ اليهود عن نجاح الرسالة. فلما رأوا الجموع الآتية لسماع كلام الله "امتلأوا غيرة وأخذوا يعارضون كلام بولس بالكفر والشتيمة" (13: 45). حينئذ عبّر بولس وبرنابا للمرة الأولى عن عزمهما بأن يوجّها البشارة إلى الوثنيين: "كان يجب أن نبشركم أنتم أولاً بكلمة الله، ولكنكم رفضتموها... ولذلك نتوجّه الآن إلى الوثنيين" (13: 46). طُرد بولس وبرنابا من إنطاكية بسيدية، فانتقلا إلى ايقونية (14: 1). وكما توجّها إلى مجمع سلاميس (13: 5) ومجمع إنطاكية، كذلك فعلا في ايقونية: كلّما اليهود وغير اليهود.
2- السفرة الثانية: نرجع لنتفقّد الإخوة (15: 36- 18: 22)
جعل أع مجمع أورشليم (15: 1- 35) بعد السفرة الرسولية الأولى، وأعطاه دوراً رئيسياً في حياة الكنيسة الأولى. وحالاً بعد هذا المجمع، نوى بولس أن يقوم بسفرة جديدة بدا هدفها بسيطاً في البداية: "قال بولس لبرنابا: تعال نرجع لنتفقد الإخوة في كل مدينة بشّرنا فيها بكلام الرب، ونطّلع على أحوالهم ثم (15: 36).
روى لوقا هذا القسم من السفرة بطريقة موجزة جداً (16: 1- 5)، وانتقل سريعاً إلى اليونان حيث سيقضي بولس زمناً طويلاً (16: 9- 18: 18). عبر الرسل بسرعة غربي آسية الصغرى (فريجية، غلاطية، ميسية، 16: 6- 8)، فوصلوا إلى اليونان. بشّروا أولاً في مكدونية (فيلبي، تسالونيكي، بيرية 160: 9- 17: 15)، ثم في اخائية، في الجنوب. توقّف بولس في أثينة (17: 16- 34) فألقى خطبة ثانية كبرى وجّهها إلى الوثنيين: "يا أهل أثينة أراكم أكثر الناس تدّيناً... هذا الذي تعبدونه ولا تعرفونه هو الذي أبشّركم به. إنه خالق الكون وكل ما فيها (17: 22، 24).
بعد هذا، توّجه بولس إلى كورنتوس التي تشكّل المرحلة الأهم في هذه السفرة (18: 1- 18). بدأ أولاً مع اليهود، ولكنهم كانوا يعارضون ويشتمون. فانتقل إلى بيت يوستوس وأخذ يبشر، فآمن وتعمّد كثير من أهل كورنتوس. وسيبقى بولس في كورنتوس "سنة وستة اشهر يعقم الناس كلام الله" (18: 11). أجل، إصطدم بولس باليهود هنا، كما اصطدم بهم في إنطاكية بسيدية، وعبّر عن عزمه مرة أخرى بأن يذهب إلى الوثنيين (18: 6). ولكن هذا لم يمنعه من التوجّه إلى المجمع في أفسس التي مز عليها في طريق العودة (19: 19). تلك كانت طريقة بولس في البشارة: يحدّث أولاً اليهود، ثم ينتقل إلى الوثنيين. لم يكن في فيلبي مجمع، فذهب إلى مكان للصلاة على ضفة النهري (16: 13). وسيذهب إلى مجامع تسالونيكي (17: 1 ي) وبيرية (17: 17) وكورنتوس (18: 4). كان يشرح لليهود فيبيّن لهم كيف كان يجب على المسيح أن يتألم ويقوم من بين الأموات. وقال بولس لأهل تسالونيكي: "إن يسوع هذا الذي أبشّركم به هو المسيح) (17: 3).
3- السفرة الثالثة: بعد وقت قصير انطلق من جديد (18: 23- 21: 19)
بعد أن مرّ بولس في قيصرية وربما في أورشليم، عاد إلى إنطاكية. يقول 18: 22: نزل في قيصرية وصعد يسقم على الكنيسة، فاعتبر الشراح أن لوقا يعني أورشليم لا قيصرية. وبعد أن قضى بولس بعض الوقت (سنة تقريباً في إنطاكية 18: 23 أ)، انطلق في سفرته الثالثة. كما فعل لوقا حين اخبرنا عن السفرة الثانية، ها هو يفعل هنا فيورد بسرعة (18: 23 ب) عبور بولس في جماعات أسسها سابقاً. مرّ في غلاطية وفريجية حتى وصل إلى أفسس، التي هي المحطة الكبرى في هذه السفرة الثالثة. يورد ف 19 كله نشاط بولس في هذه المدينة التي قضى فيها سنتين (19: 10: دامت هذه الحال سنتين حتى سمع جميع سكان آسية من يهود ويونانيين كلام الرب) أو ثلاث سنوات (20: 31: تذكروا أني بدموعي نصحت كل واحد منكم مدة ثلاث سنوات). ويبدو أن تأسيس كنائس كولسي (كو 1: 7) ولاودكية وهيرابوليس (كو 14: 13، 15؛ رج رؤ 3: 14- 22) يعود إلى ذلك الوقت.
بعد هذا، قام بولس بجولة على جماعات اليونان. أقام ثلاثة أشهر في كورنثوس (20: 3، أي شتاء سنة 57- 58. من كورنثوس كتب بولس روم). وبعد أن توقف قليلاً في ترواس (3 أيام، 20: 6- 12)، عاد أخيرا إلى منطقة افسس. دعا إلى ميليتس مسؤولي كنيسة أفسس، ووجّه ثالث خطبه الكبيرة (20: 17- 35): "تعرفون كيف عشت معكم طوال المدة التي أقمت فيها بينكم...".
وهكذا، بعد الكرازة لليهود في إنطاكية بسيدية (ف 13)، والخطبة للوثنيين في أثينة (ف 17)، نسمع بولس يكلم المسيحيين في ميليتس، فيلقي نظرة إلى رسالته، ويتطلّع إلى ما ينتظره من صعوبات ومضائق. (أنا أعرف أنكم لن تروا وجهي بعد اليوم. أنتم الذين سرت بينهم كلهم أبشر بَملكوت الله " (20: 25).
ج- طريق آلام بولس (21: 20- 28: 31)
تبدو الفصول السبعة الأخيرة من أع وكأنها خبر آلام بولس. ونجد فيها قسمين:
قسم أول (21: 20- 26: 32) يرينا بولس في أورشليم 21: 20- 23: 32) ثم في قيصرية (23: 33- 26- 32). وسيتوقف بولس على مثال يسوع، وسيواجه الاتهامات (21: 27- 22: 29). وسيمثل أمام المجلس الأعلى (22: 30- 23: 11)، ثم أمام ممثلي السلطة الرومانية (24: 1- 27؛ 25: 1- 12). نسمي هذا القسم تسمية خاصة: "آلام بولس"، لأنه قريب من خبر لوقا عن آلام يسوع.
قسم ثان (ف 27- 28) يروي السفر والوصول إلى رومة. استأنف بولس دعواه لدى قيصر (25: 11: إلى القيصر أرفع دعواي)، فأخذ إلى رومة مع سائر المسجونين (27: 1). دوّن هذا القسم في صيغة المتكلم الجمع (نحن: استقر الرأي أن نسافر... فركبنا... فوصلنا، 27: 1- 3)، فجعلنا نشعر أننا أمام يوميات لوقا الذي قد يكون رافق بولس. يصوّر هذا القسم مراحل السفر الثلاث: من قيصرية إلى جزيرة كريت (27: 1- 8). من كريت إلى مالطة عبر العواصف والأمواج (27: 9- 44). من مالطة إلى رومة (28: 1- 16) بعد ثلاثة أشهر الشتاء في مالطة.
تورد هذه المجموعة (21: 20- 28: 31)، شأنها شأن المجموعة التي تتحّدث عن سفرات بولس الثلاث (13: 1- 21: 19)، ثلاث خطب لبولس: خطبة أمام السنهدرين (المجلس الأعلى، 22: 1- 21، وهي تتضمّن خبراً ثانياً يروي ارتداد بولس). خطبة أخرى في قيصرية أمام الحاكم فيلكس (24: 10- 21). خطبة ثالثة أمام الملك اغريبا (26: 2- 23) يروي فيها بولس مرة ثانية خبر ارتداده.
1- صعود إلى أورشليم وإنباء بالآلام
إن الجزء (19: 21- 21: 19) الذي يسبق المقطع الذي ندرس، يقدّم لنا مثالاً عن التداخل بين النصوص. فحين يروي لوقا القسم الأخير من المرحلة الثالثة، فهو يُهيئ المرحلة المقبلة أي آلام بولس، حيث يجعل أحداث العودة من السفر في إطار صعود إلى أورشليم. إن هذا الصعود يذكّرنا بصعود يسوع إلى أورشليم، الذي يحتل قلب إنجيل لوقا (لو 9: 51- 19: 28). إن التقاربات العديدة تفرض علينا القول إن لوقا أراد أن يشدّد على أن طريق بولس هي إمتداد لطريق المسيح.
وهكذا منذ قرار الإنطلاق (19: 21: وبعد هذه الأحداث عزم بولس أن يمر بمكدونية وآخائية وهو في طريقه إلى أورشليم) حتى ساعة الوصول (21: 17: ولما وصلنا إلى أورشليم، رحّب بنا الأخوة فرحين)، يذكر الصعود إلى أورسليم سبع مرات (عدد الكمال) بصورة أو بأخرى: 20: 16: يريد بولس السرعة لعله يصل إلى أورشليم في يوم العنصرة؛ 20: 22: وأنا اليوم ذاهب إلى أورشليم بدافع من الروح القدس؛ 21: 4: وكان التلاميذ يقولون لبولس أن لا يصعد إلى أورشليم؛ 21: 11: "صاحب هذا الحزام سيقيّده اليهود هكذا في أورشليم؛ 11: 12: "كنا نرجو بولس أن يصعد إلى أورشليم؛ 21: 13: "قال بولس: أنا مستعد للموت في أورشليم من أجل الرب يسوع"؛ 21: 15: "وبعد ذلك بأيام، تأهبنا للسفر وصعدنا إلى أورشليم". وان فعل "صعد" يرد في 21: 4، 12، 15 كما يرد في إنجيل لوقا (18: 31- 19: 28). فبين الوقت الذي فيه انطلق يسوع (لو 9: 51) حتى الوقت الذي فيه وصل تجاه المدينة (لو 19: 41)، يشير لوقا إلى الصعود سبع مرات (لو 9: 35؛ 13: 22؛ 17: 11؛ 18: 31؛ 19: 11، 28).
يتوزّع هذا الصعود إلى أورشليم في الإنجيل ثلاث انباءات بالآلام (لو 9: 22، 43- 45؛ 18: 31- 34). ونحن نجد شيئاً مماثلاً في أع. فحين يودّع بولس شيوخ أفسس (في نهاية الرحلة الثالثة)، يشير للمرة الأولى إلى المضايقات التي تنتظره في أورشليم: "وأنا اليوم ذاهب إلى أورشليم (رج لو 9: 51، 53. 17: 11. رج 19: 28) بدافع من الروح القدس لا أعرف ما يصادفني هناك، غير أن الروح القدس كان يحذّرني في كل مدينة أن القيود والمشقات تنتظرني" (20: 22- 23).
وحين وصل بولس إلى قيصرية في طريقه إلى أورشليم، سمع نبياً من اليهود (اسمه أغابوس) مرّ من هناك فأنبأه قال: "هذا ما يقول الروح القدس: صاحب الحزام سيقيّده اليهود هكذا في أورشليم، ويسلّمونه إلى أيدي الوثنيين" (21: 11). "يسلّمونه إلى الوثنيين" تلك هي الكلمات التي استعملها يسوع خلال الانباء الثاني (لو 9: 44) والانباء الثالث (لو 18: 32) بآلامه.
وقبل أن ينطلق بولس إلى إلى أورشليم حيث سيمسكه اليهود كما أمسكوا يسوع، عبّر عن عزمه الثابت، قال: "ما لكم تبكون فتكسرون قلبي؟ أنا مستعد لا للقيود وحدها، بل للموت في أورشليم من أجل الرب يسوع" (21: 13). كل هذا يجعلنا نفكّر بالقرار الذي اتخذه يسوع في الجسمانية قبل أن يوقفه الجنود. وقد يكون لوقا لمّح إلى هذا المشهد قبل الصعود إلى أورشليم. أعلن بولس أنه مستعد للموت، فأورد لنا أع ردة الفعل لدى التلاميذ: "فلما عجزنا عن اقناعه، سكتنا وقلنا: لتكن مشيئة الرب" (21: 14). "لتكن مشيئة الرب". نحن أمام صدى لصلاة يسوع في جستماني كما أوردها لو 22: 42: "لا مشيئتي (إرادتي، تلاما في اليونانية)، بل مشيئتك".

2- اعتقلني اليهود في أورشليم
وبعد سفرة الأسر الطويلة، وصل بولس إلى رومة. وهناك أعلن لوجهاء اليهود: "أيها الأخوة، أنا ما أسأت بشيء إلى شعبنا وتقاليد آبائنا. ومع ذلك اعتُقلت (اعتقلني اليهود) في أورشليم وأسلمت (أسلموني) إلى أيدي الرومانيين. فظنوا في قضيّتي وارادوا اخلاء سبيلي لان لا جرم عليّ استوجب به الموت" (28: 17- 18).
يذكرنا هذا السيناتور بآلام يسوع.
أولاً: كما أوقف يسوع أوقف بولس. وضع اليهود يدهم عليه، قبضوا عليه (21: 17) كما قبضوا على يسوع في الماضي (لو 20: 19).
ثانياً: واجه بولس فيما واجه من اتهامات، اتهاماً يدعو فيه اليهود إلى الارتداد عن (تقاليد، شريعة) موسى (21: 21). وقالو عنه أنه يحرّض الشعب ضد الشريعة وهذا المكان (أي: الهيكل، 21: 28). وسيذكرنا خبر استشهاد اسطفانس أن يسوع واجه اتهامات مماثلة: "هذا الرجل (اسطفانس) لا يكف عن شتم هذا المكان المقدس (الهيكل) والشريعة. ونحن سمعناه يقول: سيهدم يسوع الناصري هذا المكان ويغير التقاليد التي ورثناها عن موسى" (6: 13- 14).
ثالثاً: وكما واجه يسوع الشعب الهائج (لو 23: 18، لا نجد ما يوازيه عند سائر الانجيليين)، كذلك سيواجه بولس. هتفوا ضد بولس: "اقتلوه" (21: 36؛ 22: 2): أزيلوا هذا الرجل من وجه الأرض، فهو لا يستحق الحياة. وهتفوا ضد يسوع: "اقتل هذا الرجل وأطلق لنا برأبا".
رابعاً: مثل يسوع (لو 22: 66- 71) أمام السنهدرين (المجلس الأعلى) وأمام رئيس الكهنة قبل أن يحاكمه الرومان (أع 23: 1- 10): "أمر القائد رؤساء الكهنة وجميع أعضاء مجلس اليهود أن يجتمعوا، ُم أنزل بولس وأحضره مجلسهم".
3- "اسلمت إلى أيدي الرومان"
وهنا أيضاً، نلاحظ التقاربات بين مصير يسوع ومصير بولس.
أولاً: سلم بولس إلى السلطة الرومانية بيد رؤساء اليهود، فمثل أمام فيلكس (24: 1- 7) وفستوس (25: 1- 12) اللذين خلفا بيلاطس البنطي. وأمام بيلاطس هذا مثل يسوع (لو 23: 1- 5، 13: 25: جاؤوا به إلى بيلاطس).
ثانياً: سجن بولس في قيصرية، ثم مثل أيضاً أمام الملك هيرودس اغريبا (25: 13- 26: 30) الذي رغب في أن يراه (25: 22: قال اغريبا: كم أود أن اسمع هذا الرجل). ويسوع مثل أمام الملك هيرودس انتيباس الذي قال عنه لوقا (23: 8): "كان يرغب من زمان بعيد أن يراه لكثرة ما سمع عنه، ويرجوا أن يشهد آية تتم على يده".
ثالثاً: حين يروي لوقا خبر الآلام، يشدّد أكثر من سائر الانجيليين على برأة يسوع: قال بيلاطس لرؤساء الكهنة: "لا أجد جرماً على هذا الرجل" (23: 4). "ما وجدت أنه ارتكب شيئاً مما تتّهمونه به" (23: 14). "لم يفعل هذا الرجل شيئاً يستوجب به الموت" (23: 15؛ 23: 12، 25...). ونجد مقاطع في أع هي امتداد لما قاله الإنجيل (3: 13؛ 13: 28). فيسوع مات على الصليب. وهو عقاب يذيقه الحاكم الروماني للمجرم. ولكن لوقا يشدد انه بيلاطس ولا هيرودس اقتنعا لحظة واحدة بأن يسوع كان مجرماً. إذن، لا التباس في هذا الموضوع. كان يسوع بريئاً، فلم يحكم عليه حقاً الممثلون الرسميون للسلطة السياسية، بل رؤساء اليهود.
وفي الفصول الأخيرة من أع، سيشدّد لوقا أيضاً على براءة بولس. لهذا نجده يجمع أقوالاً عديدة في هذا المعنى.
بعد أن مثل بولس أما السنهدرين. أورد لوقا إعلان الكتبة والفريسيين: "لا نجد جرماً على هذا الرجل" (أع 23: 9). هذا حكم يوافق حرفياً ما قاله بيلاطس بالنسبة إلى يسوع: "لا أجد جرماً في هذا الرجل" (لو 23: 22).
حين قرر ليسياس، القائد الروماني، أن ينقل بولس من أورشليم إلى قيصرية، كتب إلى الحاكم فيلكس: "تبيّن لي أن لا شيء يتّهمونه به يستوجب الموت" أو السجن (القيود) (أع 23: 29). هذا يقودنا إلى حكم آخر أصدره بيلاطس في يسوع: "لم أجد فيه شيئاً يستوجب الموت" (لو 23: 15 أ).
يورد لوقا في أع 25: 17- 18ملاحظة الوالي فستوس للملك أغريبا: "جلست للقضاء وامرت باحضار الرجل (بولس)، فعرض متهموه دعواهم، فما ذكروا جريمة من النوع الذي كنت أتهمه". وحين يمثل بولس في الغد أمام هيرودس اغريبا، سيقول فستوس مرة ثانية: "أما أنا، فما وجدت أنه فعل شيئاً يستوجب به الموت" (أع 15: 25). هذا ما يذكرنا بما قاله بيلاطس في لو 23: 15 ب.
سيثبت هيرودس اغريبا في نهاية الجلسة حكم فستوس. قال: "ما عمل هذا الرجل شيئاً يستوجب به الموت أو السجن (القيود)... كان يمكن اخلاء هذا الرجل لو لم يكن رفع دعواه إلى القيصر" (أع 26: 31- 32). وسيثبت هيرودس انتيباس حكم بيلاطس كما ورد في 23: 15 أ.
وفي 28: 18 قال بولس لليهود المقيمين في رومة: "نظر الرومان في قضيتي وأرادوا إخلاء سبيلي". ذاك كان يقين فيلكس قبل فستوس واغريبا كما يقول أع 24: 27. اذا كان فيلكس قد ترك بولس في السجن، فلأنه "أراد ان يرضي اليهود". ويورد لوقا السبب نفسه بالنسبة إلى فستوس: اقتنع ببراءة بولس، ولكنه أراد أن تمتد المحاكمة (25: 9).
بما أن لوقا يقرّب بين خبرة يسوع وخبرة بولس، فلماذا لم يورد في النهاية خبر موت بولس، كما صوّر في أع 7 موت اسطفانس على مثال موت يسوع؟ فلوقا عرف حقاً موت بولس الذي استشهد في أيام نيرون الذي توفي سنة 68. فإذا كان بولس استشهد كما يقال سنة 67، وكُتب أع سنة 85 تقريباً، فلماذا لا نجد ذكراً لاستشهاد بولس في أع (كما لا نجد ذكراً لاستشهاد بطرس أيضاً).
هنا نعود إلى نظرة أع الأساسية لنقدّم جواباً معقولاً. فالنصوص الأخيرة لا تهدف إلى تقديم رواية عن "آلام بولس وموته". رغم المقابلات بين طريق بولس وطريق يسوع. فهذه الفصول تهتم أول ما تهتم، لا بمصير بولس، بل بمصير الإنجيل. فالبرنامج المحدد في 1: 8 يتحدّث عن وصول الإنجيل إلى "أقاصي الأرض". وبما أن بولس أوكل بهذه المهمة، أورد لوقا خبرته. وهذا ما تشير إليه الكلمة التي سمعها بولس في رؤية ليلية. قال له الرب: "تشجع. فمثلما شهدت لي في أورشليم، هكذا يجب أن تشهد لي في رومة" (أع 23: 11). يقول ف 28 إن الشهادة وصلت إلى رومة. فلم يبقى للوقا إلا أن ينهي خبره بعد أن أنهت البشارة مسيرتها.
خاتمة
ما لاحظناه في هذه الفصول (13- 28) هو الاهتمام بالرسالة، الانفتاح على الذين هم في الخارج. يقول 14: 27: "أخبر بولس وبرنابا كيف فتح الله باب الإيمان للوثنيين" (14: 27). ونقرأ في 26: 18 كلام الرب لبولس: "أرسلتك إلى الشعب (اليهودي) وإلى الوثنية لتفتح عيونهم". أما الاناء المختار لهذا الانفتاح، فكان القديس بولس.
اهتمت هذه الفصول بولادة جماعات مسيحية جديدة، أكثر من اهتمامها بحياة الكنيسة الداخلية. ومع ذلك، هناك بعض الاشارات. "وأقام بولس وبرنابا في انطاكية يعلّمان ويبشّران بكلام الرب ومعهما آخرون كثيرون" (15: 37). "وكانت الكنائس تتقوّى في الإيمان ويزداد عددها يوماً بعد يوم" (16: 5). "وهكذا كان كلام الرب ينمو ويقوى (في النفوس) (19: 20).
لا يقول لنا لوقا أموراً كثيرة ‘ن إقامة بولس ورفاقه في مدينة من المدن ليؤسسوا كنيسة. مثلاً، لا نعرف شيئاً عن جماعة كورنتوس، إلا ما ورد في رسائل بولس، مع أن بولس قضى فيها سنة ونصف السنة. أجمل لوقا حياة بولس في كورنتوس في عبارة قصيرة: "فأقام سنة وستة أشهر يعلّم الناس كلام الله" (18: 11). وسيقول الشيء عينه عن أفسس: "ودامت هذه الحال مدة سنتين، حتى سمع جميع سكان آسية من يهود ويونانيين كلام الرب" (19: 10).
يتحدّث لوقا عن مرور بولس في الجماعات: "وسار في تلك الانحاء (مكدونية) يشجّع بكلامه الكثير جماعة المؤمنين. ثم جاء إلى اليونان (كورنتوس) فأقام فيها ثلاثة أشهر" (20: 2- 3). "وجدنا التلاميذ هناك (في صور) فأقمنا عندهم سبعة أيام" (12: 4). "وبعد أن سلّمنا على الاخوة في بطلمايس، وأقمنا عندهم يوماً، سرنا في الغد" (21: 7- 8). "وجدنا بعض الأخوة في بوطيولي. فطلبوا إلينا (وجدنا عزاء) أن نقيم عندهم سبعة أيام" (28: 14). ولكن ماذا كان يحدث في هذه الجماعات؟ هناك إشارة إلى تنظيم الجماعة: أنبياء ومعلمون في كنيسة انطاكية (13: 1)، وشيوخ في كنيسة أورشليم (ف 15) وكنائس آسية الصغرى (14: 23؛ 20: 17؛ 21: 18...). وهناك لمحة عابرة إلى نشاط الجماعة: صوم وصلاة ليتورجية (13: 2؛ 14: 23). ويورد لنا لوقا حديثاً عن عبور بولس في ترواس: اجتمعت الكنيسة في اليوم الأول من الأسبوع: كسر الخبز، كرازة بولس التي طالت فسببت بسقوط شاب من الطبقة الثالثة. مات ولكن بولس أعاده حياً (20: 7- 12).
وتبرز مشكلة الحياة المشتركة والخلافات داخل الكنيسة: كيف سيعيش اليهود مع الوثنيين في الجماعة الواحدة؟ هذا ما يشير إليه ف 11، وسيدعونا ف 15 إلى قبول الخلافات العرقية واللغوية. بل قبول مخطط الله الذي اعتبر أنه لا عبد ولا حر، لا رجل ولا امرأة، لا يهودي ولا يوناني، بل نحن كلنا واحد في يسوع المسيح.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM