ممارسة الحرية المسيحية.

ممارسة الحرية المسيحية

الأب لويس خوند

المستند: اونغليون - العهد الجديد، الكسليك، 1987، 1992

المقدّمــــة

ما كتب الأنبياء (لو 18:31) هو »مشيئة الله« (1 تس 4:3) الخلاصيّة. وهذا ما جاء يسوع يتمّمه (يو 4:34) بملء حريّته. وعلّمنا يسوع أن نصلّي هكذا »أبانا«. فالله أبٌ لا يسعُه إلاّ أن يهب »الصالحات للذين يسألونه« (متى 7:11؛ يع 1:17)، لأنه يحترم حريّة الإنسان (لو 15:12) صورته، لاعتباره »أباً«، ولا يفرض نفسه عليه (متى 19:17).

»فأنتم، أيّها الاخوة، إلى الحريّة قد دعيتم« (غل 5:13). »ان المسيح للحريّة حرّرنا« (غل 5:1). فكيف تكون ممارسة الحريّة المسيحيّة؟ ما هي مقوّماتها ومتطلّباتها؟

1- حريّة في الروح

الجسد، اللفظة اليونانيّة في الأصل تعني حرفياً »اللحم«، وقد وردت في رسائل بولس أكثر من ثمانين مرة، وفي الرسالة إلى أهل روما أكثر من عشرين مرة، ومن باب تسمية الكلّ باسم الجزء. وانها تعني، في ما تعني، الإنسان كلّه الذي حرّره الروح القدس (روم 8) والمسيح بتجسّده وبصلبه (روم 8:3). فالإنسان أمام خيارين متناقضين: إمّا أن يسلك سلوك الجسد، فتكون عاقبته الموت (روم 8:6)، وأما أن يسلك سلوك الروح، فيكون ابن القيامة والحياة (روم 8:11). فالحريّة تعاش »في جدّة الروح« (روم 7:6)، في الإنسان الداخلي (روم 7:22)، الانسان الجديد (روم 6:5-6)، »الذي يُميت »بالروح أعمال الجسد« ليحيا (روم 8:13)، منقاداً »لروح الله« (روم 8:14)، مبدأ حياته الجديدة في المسيح (روم 5:5).

نحن الآن في عهد جديد، نجد فيه قاعدة سلوكنا في الانقياد للروح القدس المنسكب في قلوبنا (روم 5:5)، لأنه »حيث يكون روح الرب، تكون الحريّة« (2 قور 3:17)، فـ  »ان كنّا نعيش بالروح فلنسلك بالروح« (غل 5:25). »وامّا الروح فحياة بسبب البرّ« (روم 8:10)؛ فالحريّة »سلوك روح لا سلوك جسد« (روم 8:4). فالربّ الذي »هو الروح« (2 قور 3:17) يؤتي قرّاء موسى فهمًا روحيًا جديدًا لكتب موسى، فيحرّرهم من عبوديّة الحرف (روم 8:2؛ غل 5:1). لا شريعة تُملى من الخارج على المؤمن المتحد بالمسيح سلوكَه الأدبيّ، بل هو يعيش وفق شريعة الروح (غل 5:18 و23).

2- الشجاعة والثقة

عند تحرّره، بالمسيح محرّرنا (غل 5:1 و13) من الخطيئة والشريعة، »شريعة الخطيئة والموت« (روم 8:2)، وبالروح القدس، روح الحريّة (2 قور 3:17)، يمتلئ المؤمن شجاعة وثقة وفخرًا يدعوه العهد الجديد .Parrésia تعني هذه الكلمة اليونانيّة حرفيًا الحرية بقول كلّ شيء، وهي تشير إلى تصرّف يميّز المؤمن، بنوع عام، والرسول بنوع خاصّ، ألا وهو الوقوف أمام الله موقف الابن (أف 3:12)، لأنّ »ما نقبله عند المعموديّة، ليس »روح العبوديّة«، بل »روح التبنّي« (روم 8:4ي). كما أنّ المسيحيّ يكتسب جرأة كاملة للبشارة بالإنجيل أمام الناس (رسل 2:29).

والمؤمن حرّ، بمعني أنّه قد نال في المسيح قوّة على أن يعيش منذ الآن في صلة حميمة مع الآب، دون أن تعرقله قيود الخطيئة والشريعة والموت، بل يُبرز بجلاء عظم فيض النعمة (روم 5:15). »إذاً، بما أن لنا مثل هذا الرجاء، فإنّا بجرأة مطلقة نتصرّف« (2 قور 3:12).

3- ليست الحريّة إباحيّة أو خلاعة

»إنّكم، أيّها الاخوة، قد دعيتم إلى الحريّة، على أن لا تجعلوا هذه الحريّة سبيلاً لإرضاء الجسد« (غل 5:13). منذ البداية، اضطرّ الرسل لأن يشجبوا بعض انحرافات للحريّة المسيحيّة (1 بط 2:16؛ 2 بط 2:19). ويبدو أن الخطر كان متمثلاً بصفة خاصة في جماعة مدينة قورنتس. فالغنوصيون (المسيحيّون الذين يعتقدون بأن الخلاص يتمّ بالمعرفة دون السلوك) اتخذوا هناك تصريح الرسول بولس: »كلّ شيء يحلّ لي« شعارًا لهم، لكنّهم شوّهوا معناه، فاضطرّ بولس إلى توضيح تصريحه، وأشار إلى أن المؤمن لا يمكن أن ينسى أنه منتمٍ إلى الرب، وانه مدعو إلى القيامة من بين الأموات (1 قور 6:12 - 14).

»كل شيء مباح لي! لكني لن أسلّط عليّ شيئًا« (1 قور 6:12).

4- الحريّة في المحبة

يتكلّم بولس عن »شريعة المسيح« (غل 6:2؛ 1 قور 9:21)، إلا أن هذه الشريعة تتلخّص في المحبة (روم 13:8 -10)، كمال الشريعة (روم 13:8 -10).

»كلّ شيء حلال، ولكن ليس كلّ شيء يبني« (1 قور 10:23). فالمحبّة، أعظم مواهب الروح القدس (1 قور 13:13) بناءٌ لجميع المؤمنين (1 قور 14:1-25)، لخدمة جسد المسيح، لأنّنا »نحن الكثيرين جسد واحد في المسيح«، لكنّ كل واحد منّا عضو للآخرين« (روم 5:23). يشدّد بولس على العلاقة المتبادلة بين الأعضاء في الجسد الواحد. قد يطلب منّا ضميرنا أن نتنازل عن حقوقنا في سبيل مصلحة الاخوة (1 قور 8:10؛ روم 14). ان هذا لا يعتبر بلا شكّ حدٌّا لحريتنا، بل هو طريق لممارستها بنوع أسمى.

فالمحبة خدمة: »اخدموا بعضكم بعضًا بمحبة« (غل 5:13). فالمؤمنون الحقيقيّون بالمسيح، إذا ما تحرّروا من عبوديّتهم السابقة ليخدموا الله (روم 6)، »عليهم أن يصيروا بالمحبة عبيد بعضهم البعض« (غل 5:18)، كما يوجّههم الروح القدس (غل 5:16-26).

وإذا جعل بولس نفسه خادمًا أو، بمعنى آخر، عبدًا لإخوته (1 قور 9:19)، لم يفقد حريته، لكنه كان مقتديًا بالمسيح وهو الابن الذي جاء ليَخدم (1 قور 1:1).

فالحريّة الحقة في الخدمة بمحبة! »بالمحبّة اخدموا بعضكم بعضًا« (غل 5:13). المحبّة لا تخاطب الجسد، بل تخاطب الروح، إذ هي من »ثمار الروح« (غل 5:22). هذا ناموس المحبة مقابل الناموس الموسويّ. نَتحوّل من إله الدينونة إلى إله المحبّة، إله القدرة قدرَ المحبة. إذًا نكون أبناء الله الأحرار بقدر ما نكون خدّام المحبة الاخويّة (1 قور 13). فتمام الشريعة هو حفظ وصيّة المحبة (متى 22:40). المحبّة غاية الشريعة كلّها، ولا غاية للشريعة الا المحبّة (غل 4:15)، والمحبة هويّة المؤمن المسيحيّ (1 قور 13).

»كونوا إذًا مقتدين بالله« (أف 5:1). ان الاقتداء بالله يتحقّق في حياة ملتزمة بالمحبّة، مثالها حبّ المسيح، المائت على الصليب حرًا مريدًا.

5- الحريّة حياة مع المسيح

المسيح حرّرنا، إذًا نحن مدينون له، نحيا معه ومثله ولأجله، ونحفظ تعاليمه ونعمل بها، ونشهد له، ونكون له سفراء (2 قور 5:20). ومعه نعاون الله (2 قور 6:1) في مواصلة تحقيق مشروعه الخلاصيّ الشامل الكون. إذًا نتبع المسيح ونقتدي به هو مثالنا (يو 13:15). »نسلك كذلك نحن أيضاً في جدّة الحياة« (روم 6:4). نقدّم أعضاءنا »سلاح برّ للّه« (روم 6:13). نقرّب أجسادنا »ذبيحة حيّة، مقدّسة، مرضية لله« (روم 12:1) وللبشر إخوتنا، لأنّا أعضاء بعضنا لبعض؛ وكلّ واحد منّا عضوٌ للآخر« (روم 12:5)، على مثال مُخلّص الجميع الذي بذل نفسه عن أحبّائه (يو 15:13).

 

6- الحريّة في عمل والبرّ

»فيسوع الناصري ساحَ يعمل الخير« (رسل 10:38). »حسب التلميذ ان يكون مثل معلّمه«. والبرّ في حفظ الوصايا، طريق الحريّة الحقة والسعادة. فالمؤمن بالمسيح يتحرّر من عبوديّة الشر والخطيئة، ويستعبد للبرّ. يَرتاح لعمل الخير. ولا يفوّت مناسبة ليصنعه. يصبح الخير هاجسه، أمس واليوم وكل يوم، في كل زمان ومكان وتجاه كل إنسان، لأنه يرى في الانسان وجه المسيـح (متى 28:40)، فيلتزم »حضارة الوجه«، قبولاً، احترامًا وإكرامًا ومحبة وخدمة »لوجه الله الكريم«. فالعبوديّة للخير عبوديّة كلاميّة بيانيّة، ولكنها عينُ الحريّة. فالعبوديّة للبرّ سبيل القداسة، والعاقبة حياة أبديّة مجيدة، في المسيح يسوع ربّنا ومعه أبد الدهور.

 

7- الحريّة عيش البنوّة لله

إنّ العالم الماديّ مخلوق من أجل الإنسان. بسبب الإنسان الخاطئ، كان العالم موضوع لعنة الله (تك 3:17). أما الآن، وقد تحرّر الانسان، بفضل نعمة الانسان الجديد، آدم الجديد، يسوع البارّ، الذي استحقّ لنا »البنوة«، فعاد العالم يمجّد الله، بفضل الانسان المبرّر. وهكذا أصبح بمقدور الانسان أن يجعل الكون يمجّد الله. ومن ثم يحرّره من عبوديّة اللعنة. نادى الفلاسفة اليونان قديمًا بتحرير الروح من المادة، أما المسيحيّ فينادي بتحرير المادة نفسها. فـ »الخليفة نفسها ستحرّر من عبوديّة الفساد إلى حريّة مجد أولاد الله« (روم 8:21) حيث لا وجود للخطيئة. العهد الجديد، وبولس هنا، يعلّمان أنّ العالم الماديّ قد بدأ يشاطر المسيحيّ مجده، كونه مفتدى روحًا وجسدًا (8:17 و23)، بصلب يسوع وموته وقيامته (قول 1:18 - 20).

 

8- الحريّة لبس الربّ

»إلبسوا الربّ يسوع المسيح« (روم 13:14). فالعماد سرّ يُلزم المسيحيّ بأنّ يلبس المسيح، أي بأن يدخل في علاقة حميمة خاصّة مع المسيح الربّ الحيّ القائم، فيتّخذه ربًا مطاعًا. فالعماد قوة جديدة تُبعث في قلب الانسان المؤمن، فتحرّره من عبوديّة الخطيئة والشهوة (روم 13:14 ب)، بالطاعة الكاملة للرب يسوع. بالطاعة يتّحد المؤمن بالرب ويصبح وإياه »جسدًا واحدًا«، فيتحوّل طاقة »ربانيّة« كفوءة لأن تحوّل العالم ملكوت الله.

 

9- الحريّة قوّة تسند الضعف

»نقبل »ضعيف الإيمان بلا جدال في الآراء« (روم 14:1). فئة »الأقوياء« قد تكون من أصل وثنيّ متحرّر، فتنعم بحريّة الضمير: تأكل من »كل شيء، واما الضعيف فَبُقُولاً »يأكل« (روم 14:2): أي إنّ قويّ الإيمان يعرف أنه تحرّر من الممارسات القديمة (قول 2:16-23؛ 1 طيم 1:3-5؛ طي 1:15)، أمّا ضعيف الإيمان فيشعر أنه ما زال خاضعًا لها (روم 14:5 و13 - 23). محنة »القويّ« بالتحرّر من كلّ نظام خُلقيّ (روم 14:3)، »فعلينا نحن الأقوياء أن نحمل ضعف الضعفاء« (روم 15:1)، كما حمل المسيح ضعفنا وخطيئتنا ليحرّرنا ويبرّرنا.

 

10- الحريّة في الصّلاح

»إذاً فلا تحوّلوا صلاحكم تجديفًا!« (روم 14:16): يُثبت بولس هنا مبدأ الحريّة المسيحيّة (روم 6:15)، التي قد يسيء »الأقوياء« استعمالها بتصرّف أنانيّ غير مسؤول، لا يراعي المحبّة الأخويّة، فيقلبون الصلاح تجديفًا. »فلنسعَ إذاً إلى ما هو للسلام، وما هو للبناء بعضنا لبعض« (روم 14:19). »لا تهدمن بطعام عمل الله« (روم 14:20). »إذًا، فما دام لنا متسع من وقتٍ، فلنصنع الصلاح إلى الجميع« (غل 6:10). كلّ عمل صالح يقوم به المسيحيّ هو تعبير عن محبته لجميع الناس (غل 5:14)، وشهادة حيّة للمسيح أمام جميع الناس (روم 12:17-18)، في سبيل بناء كنيسة الله (روم 14:18-19). فالسلوك في طريق الخلاص، بالاعمال الصالحة (أف 2:10)، دعوة ملازمة للمؤمن، فعليه أن يحقّق ما سبق الله فأعدّ له من خير.

»السارق لا يسرق بعد، بل بالأحرى فليتعب صانعًا بيديه الصلاح، حتى يكون له أن يُعطي المحتاج« (أف 4:28). والغاية مزدوجة: الحريّة الشخصيّة (1 قور 4:12؛ 9:15؛ 2 قور 11:7-9)، ومساعدة المحتاجين (رسل 20:34-35؛ 2 قور 9:8).

فإظهار الرذيلة والتوبيخ عليها عمل صالح، وعمل »نور« (أف 5:14)، يمحو الظلام. والعمل الصالح (فل 1:6) هو التبشير الذي وكل الله عمله إلى رسل المسيح (فل 1:5). »لذلك نصلّي على الدوام من أجلكم، حتى يؤهّلكم إلهنا لدعوته، ويتمّ فيكم بقدرته كلّ رغبة في الصلاح« (2 تس 5:11). الأعمال الصالحة (طي 1:16) علامة مميزة للمسيحيّ الحقيقيّ.

11- الحريّة في الجرأة

»إذًا، بما أنّ لنا مثل هذا الرجاء،  فإنّا بجرأة مطلقةٍ نتصرّف« (2 قور 3:12). حرفيًا: »بجرأة كثيرة« ).(pollh parrhsia رأى الكهنة، وقائد حرس الهيكل، والصدوقيّون »جرأة بطرس ويوحنا« (رسل 4:13). اتّصفت البشارة الرسوليّة، في أصعب ظروفها، بالثقة والجرأة، من بدء أعمال الرسل (2:29) وحتى نهايتها (28:31). هي الثقة بالله، وبـ »الإسم«، الرب يسوع الحي القائم من الموت، ومرافق البشارة بالآيات (مر 16:17؛ رسل 4:29 و31؛ 9:27؛ 14:3)، وإنّها عنصر هامّ من مقوّمات الإيمان. اللفظة اليونانيّة parrhsia تعني في الأصل، حريّة المواطن في التعبير الصريح عن آرائه، في الاجتماعات الديموقراطية العامّة، والمشاركة في آراء الآخرين، ثم صارت تعني الحريّة في الكلام دينيًا وخلقيًا. تعني هنا جرأة بولس في التبشير بالانجيل بوجه مكشوف، على طرفي نقيض هو وموسى، الذي كان يجعل على وجهه »بُرقعًا«، ليُخفي عن الشعب مجد الله المتلألئ على وجهه، في سيناء (2 قور 3:14 - 15).

وفي يسوع المسيح ربّنا، بالإيمان به، لنا »الجرأة والوصول بثقة« (اف 3:12). »الجرأة«، صفة مَن يقول كل شيء، أيًا كان، بصراحة وشجاعة وحريّة أمام كلّ إنسان، أيًا كان، وفي كلّ مناسبة، أيًا كانت (اف 6:20؛ قول 2:15؛ يو 16:25 و29؛ رسل 4:31؛ 2 قور 3:12).

وقيود بولس (فل 1:15 - 18) زادت بعض الاخوة جرأة في التبشير (1:14). »والآن، فاثبتوا في الابن، لكي يكون لنا جرأة« (1 يو 2:28).

 

12- الحريّة في المصالحة

الله صالحنا مع نفسه بالمسح، وأعطانا خدمة المصالحة، لأن الله كان مصالحًا للعالم مع نفسه بالمسيح، غير حاسبٍ للناس زلاتهم، وجاعلاً فينا خدمة المصالحة« (2 قور 5:18-19).

فـ»إن جئت تقرّب على المذبح قربانك، وذكرت لأخيك شيئًا عليك، فدع هنالك قربانك، وبادر فصالح أخاك أولاً، ثم عُد، وقرّب القربان. بادر وصالح خصمك، ما دمتما في الطريق، لئلاّ يسلمك الخصم إلى القاضي، والقاضي إلى الشرطيّ، وتلقى في السجن« (متى 5:23-25).

فيجب أن ينتهي كل شيء بمصالحة شاملة وعودة إلى العهود والعلاقات الطيبة (2 قور 5:11). ومشروع المصالحة والسلام هو عمل الله الثالوث (اف 2:18)، في عهدة الإنسان المؤمن بالثالوث.

وجوهر »السرّ« (اف 3:3)، عنوان إنجيل بولس، وميزة دعوته، هو دعوة الشعوب الوثنية جميعها إلى الخلاص، قصد الله الأزليّ، ومصالحتها مع شعب التوراة، واتحادها معه في جسد سريّ واحد.

وسلام المؤمنين (اف 4:3) ينبع من سلام الشعبين اليهوديّ والوثنيّ مُصالحَين بدم المسيح (اف 2:14 - 17). ففي »إغضبوا ولا تخطأوا« (اف 4:26) يرى شرّاح أن المقصود هو الإصلاح الأخويّ والمصالحة الأخويّة، في مدّة لا تتجاوز غروب الشمس. وهذا المعنى نجده في قانون جماعة قمران.

 

13- حريّة الإيمان

»إن شئت«. »إن تبغِ دخول الحياة فاحفظ الوصايا« (متى 19:17)؛ »من أراد أن يتبعني، فليحمل صليبه كل يوم ويلحقني«. فالإيمان عرضٌ إلهي ينتظر جواب الانسان الحر المسؤول. فقرار الإيمان قرار حرّ يتحمّل الانسان مسؤوليته، أمام نفسه وأمام الله والناس. فعلى الانسان العاقل المؤمن أن يعلم أن للإيمان متطلّبات. فمن اعتنق الإيمان التزم ضمنًا بمقوّماته.

هكذا يشدّد بولس على احترامه الكامل لحريّة المؤمنين في إقناعهم بإنجيل المسيح، وعلى وضوحه التام في رسالته أمام الله، آملاً أن يكون واضحًا أمام ضمائر المؤمنين (2 قور 5:11).

ويحرّض بولس المؤمنين على امتحان أنفسهم هل هم راسخون في الإيمان بيسوع المسيح، لئلاّ يكونوا »غير ممتحَنين«، أي راسبين في الإمتحان (2 قور 13:5)، لأنّ الإيمان بيسوع المسيح هو وحده المبرّر (غل 3:23) والمحرّر. فـ »اذهبوا وبشّروا كل الأمم« (متى 28:19) بالإنجيل، إنجيل المسيح. الإيمان الحيّ سعي نحو الهدف (غل 5:7).

»عمل في الإيمان« (2 تس 1:11). حرفيًا: »عمل إيمان« (1 تس 1:3). في هذه الآية، يربط بولس ربطًا وثيقًا أرادة الله بحرية الإنسان. والانسان الحرّ يختار بالإيمان وبإرادة شاملة صافية أن يلبّي دعوة الله القدّوسة.

 

14- الحريّة المسيحيّة مبدأ

الأفكار هي التي توجه السلوك والمواقف. والرب والمعلّم أعطانا، في تعليمه، مبادئ للتفكير والحياة والالتزام: »طوبى للذين يعلمون ويعملون«. فالحريّة مبدأ وجودي وفكري وديني وخلقيّ.

يدافع بولس عن مبدأ الحريّة المسيحيّة (غل 1:4؛ 4:7؛ 5:1 و13)، التي نالها اليهود، وقد كانوا عبيدًا للشريعة (غل 4:1 - 5)، والامم، وقد كانوا عبيدًا لآلهة غربية (غل 4:9). كان همّ بولس أن يحافظ على الوحدة والشركة مع الرسل من جهة، وعلى الحرية المسيحيّة دوم مساومة مع أي منصب أو سلطة في الكنيسة، من جهة أخرى.

15- »المسيح للحريّة حرّرنا«  (غل 5:1)

تربط مخطوطات هذه الجملة بالآية السابقة 31: »أولاد الحرّة بالحريّة التي حرّرنا المسيح«. وفي التعبير تشديد على مدى الحريّة الكاملة المطلقة التي منحنا إياها المسيح. فـ»لا تعودوا تخضعون لنير العبوديّة، الخضوع ثانية لأحكام الشريعة تنكّرٌ للحرية التي نالها المسيحيّة من الإيمان بالمسيح (روم 6:15).

 

16- الحريّة في سبيل الخدمة

»اخدموا بعضكم بعضًا بالمحبة« (غل 5:13)؛ حرفيًا: »تعبّدوا بعضكم لبعض« )(doulenete allhloss"؛ ليست الحريّة المسيحيّة أنانية وهوى لأنّ هذه ضَربٌ من العبوديّة لـ »شهوة الجسد« (غل 5:16)، إنّما الحريّة الحقة قِوامها التحرّر من الأهواء الأنانيّة، وهدفُها المحبّة والخدمة الكاملة المجانيّة حتى العبوديّة للجميع.

»لا تُتمّوا شهوة الجسد« (غل 5:16): يحيا الإنسان إمّا على حسب الجسد، وإمّا على حسب الروح (روم 5:5؛ 7:5). إنّ من انقاد للروح (غل 5،:18 و25؛ روم 8:14)، عاش على حسب الروح (غل 5:22-23)، وابتعد عن الأعمال التي مصدرها شهوة الجسد المضادّة للروح (غل 5:19-21). فالانسان المؤمن يعلم ما يريد، لأن ارادته غدت، مبدئيًا، مطابقة لإرادة الله. فبإمكانه أن يريد ويسعى أن يتحرّر من سلوكه اللحميّ الضعيف الخاطئ (روم 7:14-23)، من »أعمال الجسد« (غل 5:19-21)، أي أعمال الظلمة (روم 13:12)، والخطيئة التي تضاد »ثمر الروح« (غل 5:22-23)، أعمال »فجور ونجاسة وعهر« متفشيّة في كل العالم الوثني المعاصر لبولس (2 قور 12:21)، و»عبادة أوثان وسحر«، مقرونة بخرافات مختلفة وممارسات عنف وأذى (2 قور 12:20)، و»عداوة وخلاف وغيرة وسخط وعصيان وشقاق، بدعة وحسد« تفسد العلاقات بين الناس فيخاصم بعضهم بعضًا، و»سكر وقصوف« يتبعها مجونٌ وتعدّ على حقوق القريب (روم 13:13). جميع هذه الأعمال تصدّ الإنسان عن بلوغ هدف دعوته الحقّ.

 

17- الحريّة الحقة صَلب الجسد

ما من شريعة تنقض »ثمر الروح«، بل كل شريعة، طبيعيّة كانت، أم دينيّة أم مدنيّة، تنقض ضمنًا »أعمال الجسد«. لذا فـ»الذين هم للمسيح يسوع قد صلبوا الجسد وأهواءه وشهواته« (غل 5:24). وهذا الصّلب هو الشرط الأساسيّ للحريّة المسيحيّة؛ من كان للمسيح و»في المسيح« (2 قور 5:17) فقد صُلب مع المسيح وصار المسيح هو الحيّ فيه (غل 2:19-20)، ومات مع المسيح بالنظر إلى الخطيئة (روم 6:2 - 11) والشريعة (روم 7:4 - 6)، مدى الحياة.

 

18- الحريّة في الحق

»روح الحق« (يو 14:17)، »يقود خطاكم في الحقّ كلّه« (يو 16:13). »تعرفون الحق، والحق يحرّركم« (يو 8:32). »وتجدّدتم بالروح في عقلكم، ولبستم الإنسان الجديد الذي خُلق على مثال الله، في البرّ وقداسة الحق« (اف 4:23-24). كلمة »الحقّ« تأخذ في هذه الرسالة معنىً كاملاً، كما في الانجيل الرابع، وفي خطّ التيّار الحكميّ والرؤيويّ. إنها تعني ملء الروحي، الذي تمّ في شخص يسوع المسيح، وتقبّله المؤمنون بحريّة تامّة، وقلب صادق (اف 1:13؛ 4:21 و24؛ 5:9؛ 6:14)، في التبشير والتعليم، إلى نهاية العالم. الخلاص يقوم بـ»معرفة الحق« (1 طيم 2:4) وهذه تفرض إلتزامًا جذريًا حيًا (يو 8:32؛ 10:14).

»وكثيرون سيتبعون عهرهم، وبسببهم يجدّف على طريق الحقّ« (2 بط 2:2): تعبير يدلّ على الإيمان المسيحي، والفهم الجديد الذي عاشه المسيحيّون الأوّلون (رسل 9:2). و»الزرع« (1 يو 3:9) هو »الحقّ المسيحيّ« (2 يو 2) مبدأ كل قداسة.

 

19- الحريّة في الخضوع

كونوا »خاضعين بعضكم لبعض بمخافة المسيح« (اف 5:21). »لتخضع النساء لرجالهنّ كما للربّ« (اف 5:22). قد يشقّ هذا »الخضوع« على ذهنية إنسان اليوم، لأنه يعكس ذهنيّة قديمة، تحطّ من حريّة المرأة ومساواتها للرجل، وكرامة الشخص الانساني. لكنّ الاستعمال المسيحيّ غيّر معنى الكلمة، من خضوع عبديّ إلى خضوع إيمان ومحبّة (1 قور 15:28؛ 16:16؛ روم 13:1 و5)، »بمخافة المسيح« (اف 5:21)، و»للربّ« (5:22)، و»كما تخضع الكنيسة للمسيح« (5:24) الذي اتّخذ »صورة عبد« (فل 2:7)، المثل الأعلى للخضوع الكامل، والطاعة المطلقة، والتواضع المسيحيّ. »واضع ذاته« (فل 2:8).

الربّ يسوع المسيح مخلّصنا، يجعل جسد ضعفنا »على صورة جسد مجده« (فل 3:21). إن جسد المسيح الممجد، المشعْ بمجد الله الآب، هو الشكل المثالي، الذي سيصير إليه جسدنا الوضيع، فيشابه الجسد المسيح، ويصبح خاضعًا له (فل 3:10؛ قول 3:1 - 4؛ 1 قور 15:42 - 49 و53).

يكرّر الرسول بطرس على المؤمنين طلب الخضوع (2:13ي؛ 3:1؛ 5:5)، اقتداء بالمسيح، »خادم الله«، المتواضع المتألّم (2:21 - 24).

يبرّر بطرس الخضوع للحكّام بأسباب أربعة: مسيحيًا، كرامة للربّ (1 بط 2:13)، وطبيعيًا، ثوابًا وعقابًا (آ 14)، ودينيًا، تتميمًا لإرادة الله (آ 15)، وجدلياً، إسكاتاً للجهّال المتّهمين (آ 15). يرى شرّاح أن بطرس تعلّم الخضوع للسلطات من يسوع عينه (متى 17:26 - 27).

20- الحريّة في الطاعة

الكلمة المتجسد، ابن الله، عاش حريّته الانسانيّة في طاعة كاملة للآب. لذلك »رفعه الله جدًا« (فل 2:9). »إذًا، يا أحبائي، فاعملوا لخلاصكم بخوف ورعدة، كما أطعتم على الدوام« (فل 2:12)، أي الله، كما أطاع المسيح نفسه، مثال كل مؤمن (2:8). الطاعة لله هي جواب الانسان المؤمن، وخضوعه الكامل الحرّ لله (روم 1:5). يعطي بولس نفسه قدوة (3:13؛ 4:9)، هو الملتزم جذريًا، وفي نوع كامل، بطاعة المسيح. فـ»أطيعوا في كلّ شيء« (قول 3:22). ينادي بولس بحريّة جديدة، نابعة من الإيمان بالمسيح يتساوى فيها العبيد والأرباب (3:11).

 

21- الحريّة سلوك في المسيح  (قول 2:6)

بعد أن امتلأ أهل قولسّي من معرفة سرّ المسيح (1:9)، »سرّ الله المسيح« (قول 2:2)، وتحرّروا من سلطان الظلام (1:13)، يحذّرهم الرسول من أن يعودوا ينقادون للتعاليم البشريّة الكاذبة، تسحرهم وتنهبهم وتستعبدهم. لأنّ كل مؤمن قد تحرّر منذ الآن بالمسيح في المعموديّة من كل سلطان ورئاسة، وحصل نهائيًا على الخلاص الأبديّ (قول 2:12؛ اف 2:5-6). »قد متّم مع المسيح« (قول 2:20) إشارة إلى المعموديّة، بها يدخل المسيحيّ المؤمن بحرية كاملة في حياة جديدة مصيريّة مع المسيح المصلوب والقائم. »أميتوا إذًا أعضاءكم السالكة على الأرض« (3:5)، »فانبذوا أنتم أيضًا جميع ما هو غضب« (3:8)، »خلعتم الانسان العتيق« (3:9)، »لبستم الجديد« (3:10)، »فالبسوا حنان الرحمة« (3:12): حرفيًا: »أحشاء رحمة«، إحدى الفضائل التي تميّز سلوك الانسان الجديد، على نقيض سلوك الانسان العتيق (3:5 و8).

»أحبّوا بعضكم بعضًا بالقلب حبًا مستمرًا، وقد طهّرتم أنفسكم بالطاعة للحق« (1 بط 1:22). »الحقّ« هنا ليس حقيقة فلسفيّة عقليّة، بل حقّ يسوع المسيح وإنجيله (قول 1:5)، وهو يفترض قبولاً وطاعة وخضوعًا حرًا، لتصميم الله الخلاصيّ، في المسيح يسوع (1:2 و14؛ روم 1:5؛ 16:26).

 

22 - »شريعة الحريّة«  (يع 1:25)

يذكرها يعقوب (2:12)، بمساواة لـ»الشريعة الملكيّة« (2:8)، شريعة المحبة. كانت الشريعة اليهوديّة القديمة تضمن الحريّة لأبنائها (سي 15:14؛ يو 8:31-35). لكنّ يعقوب ينظر إلى الشريعة نظرة مسيحيّة (راجع متّى 5:21-48؛ 19:18-19)، ويدعوها »شريعة كاملة«، ويرى فيها كمال الشريعة القديمة (راجع غل 5:14؛ روم 13:9-10؛ يو 13:34-35)، لأن الله أظهر فيها إرادته كاملة؛ فمن  حفظها، وإن عثر بشيء (3:2)، فقد نجا من الدينونة (2:12-13؛ 1 يو 3:14-20)، وتمتّع بحريّة أبناء الله (روم 8:21).

»هكذا تكلّموا وهكذا اعملوا كأنّكم ستدانون بشريعة الحريّة« (يع 2:12).

 

الخاتمـــة

»الدهر الحاضر الشرير« (غل 1:4) لا يزال يعمل عمله ليعود ويستعبدنا. لذلك لا نزال ننتظر الحريّة الكاملة والخلاص النهيوي، يوم مجيء المسيح (روم 5-8).

فـ»سيروا إذًا سيرة« جديرة بانجيل المسيح« (فل1:27). ان المواهب المتعلّقة بـ»معرفة مشيئة الله« هي ينبوع الحياة المسيحيّة العمليّة الأصيلة (قول 1:28؛ 2:2-3 و23؛ 3:16؛ 4:5). وقد تجلّت في شخص يسوع المسيح (قول 2:3)، وينبغي أن تتجلّى في المؤمنين، بسلوك جدير بيسوع المسيح (1:10).

»إذًا كما تقبّلتم المسيح يسوع الربّ، ففيه اسلكوا« (قول 2:6).

والمطلوب هو السلوك الحسن، وإرضاء الله، والنموّ المطّرد نحو الكمال (1 تس 4:1).

»وأنتم أيضًا كحجارة حيّة، ابنوا أنفسكم بيتًا روحيًا، فتكونوا كهنوتًا مقدّسًا، لتقرّبوا ذبائح روحيّة مرضيّة لله بيسوع المسيح« (1 بط 2:5): أي حياة خلقية مسيحيّة بأعمال رحمة ومحبة وإيمان وعبادة وشكر ومديح. »لتكن مسيرتكم بين الأمم طيّبة، حتى إذا افتروا عليكم كأنكم فاعلو سوء، يلاحظون أعمالكم الطيّبة، فيمجّدون الله يوم الافتقاد« (1 بط 2:12)، علامة خير وخلاص (لو 1:68؛ 7:16؛ 19:44).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM