أظهر مجده.

أظهر مجده

هكذا ينتهي الإنجيل الذي نقرأ في نهاية زمن الدنح المجيد وبداية الصوم الخلاصيّ. أَجرى يسوع معجزة في قانا الجليل، فحوّل الماء خمرًا من أجل عرسٍ أرضيٍّ، بانتظار عرس آخَر في بداية رسالة يسوع مع »الساعة«، وانتهى على الصليب مع »أُمّ يسوع والتلميذ الحبيب«. هناك ظهر مجدُ يسوع في أرفع ذروة من تاريخ البشريّة.

كلّ هذا تعيشه الكنيسة في قدّاسها وفي سائر احتفالاتها. فالقسم الأوّل أو ما نسمّيه خدمة الكلمة يبدأ بالمجدلة: »المجد للآب والابن والروح القدس«. وكذلك نقول عن القسم الثاني أو مائدة القربان. وأوّل نشيد تُطلقه الجماعة: »المجد للّه في العلى وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر«. هو نشيد الملائكة ليلة ميلاد يسوع. صارَ نشيدَ البشر الذين اكتشفوا مجد اللّه حين تجلّى في العالم، فانتظروا السلام بمجيئه، وملأوا قلوبهم بالرجاء تطلّعًا إلى خلاص يصل إلى البشريّة كلّها. فالقدّاس في الأساس هو عمل نمجِّد به اللّه. لهذا، تنتهي كلُّ صلاة من صلواتنا بعبارة: »نرفع المجد«. نرفعه مع الشكر. أو نقول: »فإنّ لك المُلك والقدرة والمجد من الآن وإلى الأبد«. فما هو المجد؟ وما ارتباطه بزمن الدنح الخلاصيّ؟

1 ـ مجد اللّه

المجد في لغتنا هو العزّ والرِّفعة. يرتبط العزّ بالقوّة والكرامة والشرف. وهو ينفي الضعف والذلّ. والرِّفعة تدلّ على علوّ القدر. المجد هو نتيجة صفات حميدة بها يفتخر البشر. والمجد يرتبط بالعطاء، وبالعطاء الكثير.

كلّ هذا نرفعه إلى اللّه. حين نقول إنّه المجيد، لا نكتفي بأن نجعله في قمّة البشر كما كانوا يفعلون مع »الآلهة« في العصور القديمة، حيث إنسان من الناس يقوم بأعمال بطوليّة فيُرفع إلى مصافّ الآلهة. ولا نقول فقط هو ذاك المعلِّم الذي ما جاراه معلِّم من المعلِّمين. على ما قال الذين سمعوا يسوع: »تعليم جديد يُلقى بسلطان« (مر 1: 27). وقال إنجيل متّى في المعنى عينه: »كان يعلِّمهم مثلَ مَن له سلطان، لا مثل معلّمي الشريعة« (مت 7: 29). وحين أرسل رؤساء الكهنة حرسًا ليقبضوا على يسوع، رجع الحرس وهم يقولون: »ما تكلَّم إنسان من قبل مثل هذا الرجل!« (يو 7: 46).

أَهذا يدلّ على مجد اللّه؟ نحن هنا في البداية. وما نقوله عن اللّه نُسرع فننفيه. يسوع معلِّم ولكن لا كسائر المعلِّمين الذين لا نعرفهم. هو قدير، ولكن لا قدرة تماثل قدرته. كلّهم حملوا تعليمهم من البشر. أمّا تعليم يسوع فمن عند الآب: »تعليمي من عند الآب الذي أرسلني«.

هذا المجد ظهر في عماد يسوع في نهر الأردنّ. أُعلن في خلق جديد ينطلق من الماء، في خطّ الخلق الأوّل حين كان الروح يرفّ على المياه لكي يخرج منها كلّ حياة (تك 1: 2). تساءَل الناس أو ما تساءَلوا: »مَن هذا الآتي ليعتمد؟« أَهو خاطئ شأنه شأن سائر الخطأة بحيث إنّه حين »تعمّد الشعبُ كلّه تعمَّد يسوع أيضًا؟« (لو 3: 21). هو مع الخطأة، ولكنّه ليس خاطئًا. هو البريء الذي لا عيب فيه. شابهنا في كلّ شيء ما عدا الخطيئة.

مجد يسوع أشرق كالشمس في التجلّي على الجبل: »تغيّرت هيئة وجهه، وصارت ثيابه بيضاء لامعة« (لو 9: 29). وقال متّى: »تجلّى بمشهد منهم (كشف عن ذاته). فأشرق وجهُه كالشمس، وصارت ثيابه بيضاء كالنور« (مت 17: 2).

وظهر مجد يسوع في طريقه إلى الموت والقيامة. قال: »جاءت الساعة (ساعة الموت) التي فيها يتمجَّد ابنُ الإنسان« (يو 12: 23). وكيف يتمجَّد؟ حين يكون مثل حبّة الحنطة التي تقع في الأرض، تموت، فتُخرج حَبٌّا كثيرًا (آ 24). عندئذٍ يتمجَّد اسمُ الآب. سُمع صوت من السماء: »مجَّدته وسأمجّده« (آ 28). ذاك الصوت رعد في المعموديَّة: »هذا هو ابني الحبيب«. وفي التجلّي طُلب من التلاميذ أن يسمعوا له. هو الصوت الأخير بعد موسى وإيليا اللذَين رافقاه. بل هو الكلمة التي لا كلمة بعدها.

2 ـ السماوات والأرض

هتف المرنِّم في مز 19: »السماوات تنطق بمجد اللّه، والفلك يُخبر بعمل يديه. فيُعلنه النهارُ للنهار، والليل يُخبر به الليل. بغير قول ولا كلام، ولا صوت يسمعه أحد« (آ 2 ـ 3). ونادانا قال في مز 29: »قدِّموا للربّ يا أبناء اللّه، قدِّموا للربّ مجدًا وعزّة، قدِّموا للربّ مجدًا لاسمه، اسجدوا للربّ في بهاء قدسه« (آ 1 ـ 2). وبعد أن يدور حول فلسطين طالعًا من البحر واصلاً إلى الأرز منتهيًا في بريّة قاوش. يعلن: »كلٌّ من هيكله يهتف: المجد لكَ يا اللّه« (آ 9).

المجدُ هو »صورة« منظورة للّه غير المنظور. هو الأثر الذي يتركه مرورُ الربّ في العالم. السماء، الأرض، القمر، الكواكب. كل هذا يدلّ على مجد اللّه، على الربّ المجيد. النهار السابق يروي للنهار اللاّحق ما صنع اللّه فيه. وكذا نقول عن الليل. وإذا كان اللّه في بداية الخلق قد رأى أنّ ما صنعه حسن، بل حسن جدٌّا، انتظر من هذا الجمال أن يخبر بمجده. وخصوصًا الإنسان الذي »كلّله بالمجد والكرامة« (مز 8: 6). جعله على صورته ومثاله، فقال فيه القدّيس أيريناوس: »مجدُ اللّه الإنسانُ الحيّ«. فهنيئًا إن مجَّدنا اللّه بهذه الطريقة. وقد قال لنا يسوع: »يرون أعمالكم الصالحة، ويمجِّدونَ الآب الذي في السماوات« (مت 5: 16). وإلاّ »استهان باسم اللّه بسببنا« (روم 2: 24).

ما كان يدلّ على مجد اللّه، هو تابوت العهد، ذاك الصندوق الذهبيّ الذي يتضمّن جرّة المنّ الدالّة على عناية اللّه. والوصايا العشر التي هي مُلخَّص كلام اللّه، وعصا هارون الرامزة إلى كهنوت يشارك فيه الشعب كلّه. كان »التابوت« يرمز إلى حضور اللّه. وحين يدخل إلى الهيكل، بعد التطواف، كانوا »يرون« اللّه داخلاً إلى هيكله، إلى الموضع الذي اختاره ليقيم فيه اسمه. لهذا هتف المؤمنون: »إرفعي رؤوسكِ أيّتها الأبواب، ارتفعي أيّتها المداخل الأبديّة، فيدخل ملكُ المجد« (مز 24) . فيجيب الذين في الداخل: »مَن هذا ملك المجد؟«. فيجيب الداخلون: »هو الربّ العزيز، الجبّار، الربّ الجبّار في القتال« (آ 8). ويُطرح السؤال مرّة ثانية: »مَن هو ملك المجد؟«. ويأتي الجواب: »ربّ الأكوان هو ملك المجد« (آ 10).

هذا المجد لا ينحصر في السماء، وكأنّ اللّه يُقيم في عليائه، فلا يرى البشر ولا يسمع صراخهم. هو يصل إلى الأرض. قال المرتّل: »إرتفع على السماوات يا اللّه، وليكن مجدك على كلّ الأرض« (مز 57: 6). ومجده يظهر في خلاص يقدّمه للمؤمنين. فقال المرتّل: »خلاصه قريب ممَّن يخافونه، ومجده يسكن في أرضنا«. وهكذا توازى المجدُ مع الخلاص، كما سبق وتوازى مجد الربّ مع عمل يديه (مز 19: 1 ـ 2). ماذا يبقى علينا؟ أن نرفع المجد في خوف ورهبة. إذا كانت أُمم الأرض تخاف اسم الربّ، وإذا كان الملوك كلّهم يتطلّعون إلى مجده (مز 102: 16)، فما يكون تصرّف المؤمنين حين يتراءى هذا الإله »في بهاء مجده«؟ (آ 17). يلتفت إلى المحرومين. لا يحتقر صلاتهم (آ 18)، بل هو يتمجَّد حين يقدِّم لهم الخلاص الذي ينتظرون.

3 ـ مجد اللّه فوق كلّ مجد

في العالم القديم، كان لكلّ شعب إله. يهوه للعبرانيّين، ملكارت لأهل صور، هدد لدمشق، بعل لأُوغاريت، مولك لبني عمّون، كموش لموآب. كلّ واحد يمجّد إلهه الخاصّ به. وهكذا انقسم الإله الواحد آلهة عديدة، فكاد يضيع ربّ السماء والأرض بين عدد من التماثيل والصور، على مثال ما نرى على واجهة الهياكل الهنديّة. من أجل هذا قالت الوصيّة: »لا تصنع لكَ تمثالاً منحوتًا ولا صورة شيء ممَّا في السماء« (خر 20: 4). وتطوّر الوضعُ، فحسب كلّ شعب أنَّ إلهه هو الأقوى. والعبرانيّون رأوا في مَن يعبدون »إله الآلهة وربّ الأرباب«. هو الإله فوق سائر الآلهة والربّ فوق سائر الأرباب. وسوف ننتظر أشعيا الثاني لكي تُلغى الآلهة، فلا يبقى سوى الإله الواحد الذي قال عنه سفر التثنية في صلاة يتلوها اليهوديّ كلّ يوم: »الربّ إلهنا ربٌّ واحد« (تث 6: 4).

هل يستطيع المؤمنون بعد اليوم أن يعبدوا البعل واللّه في الوقت عينه؟ هم يعرجون بين الجنبَين، إن فعلوا. »إذا كان الربّ هو الإله فاتبعوه« (1 مل 8: 21). لبث الحاضرون لدى إيليّا لا يجيبون. ما عرفوا أن يقولوا كلا، نحن لا نعبد البعل. وكانت الحرب قاسية مع النبيّ هوشع الذي أرسل كلامًا قاسيًا على السامرة حيث يقيم يربعام: »زَنِخَ عجلُكِ أيّتها السامرة، وحَميَ غضبي على بنيكِ. فإلى متى لا يقدرون أن يطهروا (أن ينزعوا النجاسة. الأصنام من بينهم). صانع إسرائيل صنع عِجلَك أيّتها السامرة فكيفَ يكون إلهًا؟« (هو 8: 5 ـ 8).

أَنقابل مجد الذي هو بمجد مردوك، إله بابل؟ أَنوازي بين الإله الحقيقيّ والبعل، لأنّ الذاهبين إلى بعل كثيرون مثل الذاهبين إلى الذي هو؟ هنا نستطيع أن نسمع أشعيا النبي: »مجدُ الربّ فوق كلّ شيء« (4: 5)؛ »هو الربّ القدير، ربّ الأكوان. الأرض كلّها مملوءة من مجده« (6: 3). ولا مكان في الكون لا يغطّيه مجد اللّه. وإلاّ عاد إلى العدم. لهذا هتف النبيّ باسمه: »أنا الربّ، وهذا اسمي. لا أعطي لآخَر مجدي. ولا للأصنام تسبيحي« (42: 8). فماذا تنتظر أقاصي الأرض، والجزر البعيدة والمدن والأقطار، ماذا ينتظرون »ليعطوا للربّ مجدًا«؟ (آ 11 ـ 12). وبالحريّ المؤمنون. أما عليهم أن يرفعوا المجد باسم الأرض كلّها. عندئذٍ يجيء الربّ ليجمع »شمل جميع الشعوب والألسنة ليروا مجدي« (66: 18). بل جاء سكّان ترشيش و»توبال ويادان والجزر البعيدة الذين لم يسمعوا بصيتي ولا رأوا مجدي، فينادون بمجدي بين الأمم« (آ 19).

المجد يدلّ على الثقل. هو وزن الإنسان. إن كان خفيفًا، فلا وزن له ولا قيمة. قال مز 62: 10: »نفخة ريح بنو آدم، كالذباب بنو البشر. في الموازين تشيل كِفَّتُهُم فهم جميعًا أخفّ من نسمة«. أمّا أشعيا فبيّن عظمة اللّه فوق جميع الخلائق. ليس البحر بإله. ولا السماء. ولا الشمس. ولا القمر. كلّها في يد اللّه: »مَن كال البحار بكفِّه، وقاس السماوات بالشِّبر؟ مَن كال بالكيل ترابَ الأرض وقَبَّنَ الجبال بالقبّان، ووزن التلال بالميزان؟« (أش 40: 12).

بعد هذا، نحاول أن نضع »اللّه« في الميزان؟ وتابع النبيّ: »فبمَن تشبّهون اللّه؟ وأي شبه تعادلون به؟ أبتمثال يسكبه الصانع، ويغشّيه الصائغ بالذهب، ويزيّنه بسلاسل من الفضّة؟« (آ 18 ـ 19). ويطرح النبيّ السؤال أيضًا: »بمَن تشبِّهونني وتعادلونني؟ إرفعوا عيونكم وانظروا! مَن خلق السماوات هذه؟ مَن يَعُدُّ نجومها واحدةً واحدة، ويدعوها جميعًا بأسماء؟« (آ 25 ـ 26). وبعد ذلك، يصنعون آلهةً بأيديهم »بخشب لا ينخره السوس« (آ 20). فيوبّخهم إرميا: »هل استبدلت أُمَّة آلهتها، مع أنّها آلهة مزعومة؟ أمّا شعبي فاستبدل إلهه، وهو عنوان مجده، بآلهة لا نفع فيها. فاذهلي أيّتها السماوات وارتعدي، واعجبي من ذلك كلّ العجب« (إر 2: 11 ـ 12).

الخاتمة

مسكينة الشعوب القديمة. قدّموا المجد لمَن ليس بإله. عبدوا الشمس وما وصلوا إلى ضالّتهم. وألَّهوا القمر. بل قدّموا أولادهم ذبائح لآلهة مزعومة اخترعوها وصنعوها بأيديهم. حملوها وخلّصوها من العدوّ لأنّها لا تقدر أن تخلِّص نفسها. وإنسان اليوم له أبطاله، مخلِّصوه، آلهته. أشخاص من لحم ودم. أحياء أو أموات. يرفعهم فوق الإله الواحد. يمجِّدهم. يُنشد لهم ولا يُنشد ذاك الإله الخالق والمخلّص. وبعد ذلك، يعجب إن هو لم يجد سعادة في قلبه وفرحًا! ترك ينبوع الماء الحيّ، وذهب يبحث عن مياه آسِنةٍ هنا وهناك. فما تركه العطشُ ولا الجوع. نرفع المجد إلى اللّه فيرفعنا. نرفع المجد إلى الإنسان، إلى الحزب، إلى بدعة من البدع، فننحدر وننحدر في العبوديّة. من أجل هذا، نجتمع لنشارك في الذبيحة الإلهيّة. نرى في إيماننا مجد اللّه يتجلّى لا من خلال سماوات وأرض وحسب، بل في جسد يُعطى لنا ودم يُراق فيمنحنا حياة فوق الحياة. يبقى علينا أن نتذكّر كلام الرسول في روم 8: 30: »الربّ عيّننا، دعانا، برّرنا. وفي النهاية: مجّدنا. وهكذا صرنا على صورة ابنه«.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM