إيليّا النبيّ القويّ بقوَّة الله.

إيليّا النبيّ

القويّ بقوَّة الله

سنة 736 ق.م.، حاصرت الجيوش أورشليم من الشمال والشرق والغرب، فاضطرب قلب الملك، وقلب شعبه، اضطراب شجر الغاب في وجه الريح. الجميع ارتجفوا وخافوا واعتبروا أنَّ أورشليم سقطت، وحده النبيّ قال: هذا لا يحدث. هذا لن يكون. فهؤلاء الملوك هم مثل لهيب ذنب مشتعل وقد بدأ يدخِّن. فهو سينطفئ قريبًا. وهكذا كان. وفي النهاية، دعا النبيّ الشعب إلى الإيمان، إن أرادوا أن يكون لهم الأمانُ والسلام.

1- على جبل الكرمل

ونطرح السؤال: أو أنَّ هذا النبيّ مجنون لا يعرف ما يقول، والقوى السياسيّة والعسكريّة غير متكافئة، أو أنَّه يستمدُّ قوَّة من عند شخص هو أقوى من هؤلاء الملوك المتحالفين على أورشليم. وفي النهاية، هو سينتصر. ذاك كان وضع إيليّا على جبل الكرمل. من جهة، هو وحده، وفي الجهة المقابلة هناك أربعمئة وخمسون رجلاً يعتبرون نفوسهم أنبياء. هم أنبياء البعل، ويأكلون على مائدة الملكة. فماذا يستطيع أن يفعل ذاك الذي قال »أنا الآن وحدي بقيت نبيٌّا للربّ«؟ ومع ذلك، كان النصر لإيليّا، لا لأنبياء البعل. فقد نزلت النار على ذبيحته مع أنَّ الماء جرى حول المذبح وملأ الخندق. أمّا الآخرون، فصرخوا وهشَّموا نفوسهم. وفي النهاية، انتقل الشعب من جهة إلى أخرى، كان بجانب الأنبياء وبالتالي بجانب الملكة إيزابيل، فتحوَّل أمام هذه القوَّة الخارقة، وهتف بعد أن سجد إلى الأرض »الربُّ هو الإله، الربُّ هو الإله«. وهذا في الواقع هو معنى اسم إيليّا.

2- أنا أكون معك

لا ليس النبيُّ هو ذلك المجنون الذي يرمي الناس في الهلاك بسبب تهوُّره فيكون كملك معه عشرة آلاف لا يحسب حساب الآتي عليه بعشرين ألفًا. وليس النبيُّ ذاك السائر في المجهول وهو لا يعرف أين يمضي فيجعل حياته في خطر. لماذا؟ لأنَّه كان له لقاء مع الربّ، وسمع منه الكلمة التي لا يمكن إلاّ أن تفعل. أنا أكون معك. خاف موسى من لقاء الفرعون، أكبر ملك في ذاك الزمان. قال له الربّ: أنا أكون معك. والشيء نفسه حصل لجدعون الذي سمع الملاك يقول له: »الربُّ معك أيُّها الجبّار«. ثمَّ سمع صوت الربّ: أنا الذي أرسلك. أنا معك. أمّا النبيّ إرميا الذي أراد أن يتهرَّب من الرسالة »لأنَّه صغير«، لأنَّه لم يبلغ سنَّ الثلاثين الذي فيه يستطيع أن يمارس مهمَّته في الهيكل، فقد قال له الربّ: »جعلتك اليوم، يا إرميا، مدينة حصينة، وعمودًا من جديد وسورًا من نحاس... يحاربونك ولا يقوون عليك لأنّي معك«.

ولا يكتفي الربُّ بالكلام، بل هو يفعل. وكلمته لا تعود إليه إلاَّ بعد أن تنفَّذ ما أرسلها لتفعل. لهذا، حين كان إيليّا تجاه أنبياء البعل، بل تجاه الملكة نفسها، كان له النصر لأنَّه تقوّى بقوَّة الله. فالمزمور يقول: معونتنا باسم الربّ الذي صنع السماوات والأرض. فذاك القدير الذي أبدع الكون، أتراه يترك من يؤمن به ويتَّكل عليه؟ كلاَّ ثمَّ كلاَّ. فالإنسان، مهما قوي، هو كعشب الأرض. أمّا كلمة الله فثابتة إلى الأبد. والنبيّ الذي يحمل هذه الكلمة، الذي يتعلَّق بهذه الكلمة، الذي يرسله الله، يبقى وحده ثابتًا ولو ارتجف الجميع واضطرب اضطراب ورق الشجر في وجه الريح.

3- خاف إيليّا وهرب

بعد مشهد جبل الكرمل، هدَّدت الملكةُ إيليّا بالموت. ويقول الكتاب »فخاف إيليّا وهام على وجهه حتّى وصل إلى بئر سبع«. أي هرب، مضى إلى الصحراء خوفًا على حياته. أين مضت قوَّته؟ وقف بوجه آخاب ووبَّخه لأنَّه ظلم نابوت جارَه في مدينة يزرعيل، فقتله وأخذ منه كرمَه ليوسِّع باحات القصر. وحذَّر الملكة إيزابيل من الموت الذي يتهدَّدها عقابًا على أفعالها. وجاء خوف النبيّ قريبًا من اليأس. فهو الهارب من الموت طلب الموت لنفسه. قال الكتاب: »سار (إيليّا) في البرِّيَّة مسيرة يوم حتّى بلغ شجرة ونزل وقعد تحتها وتمنّى الموت وقال: »كفاني الآن، يا ربّ، فخذ حياتي. فما أنا خير من آبائي«. أجل، أحسَّ النبيُّ بالتعب والسأم. وليدلَّ على أنَّه يريد الموت »نام تحت الشجرة«. تلك هي المفارقة. ذاك هو الشيء الذي يدهشنا عند الأنبياء. حين يكونون وحدهم، هم ضعفاء. لا تجاه من أن يمكن أن يكون »عدوَّهم« بل تجاه أهلهم وأقربائهم ومن يُفرض منهم أن يكونوا بجانبهم. كم مرَّة هدَّد الشعب موسى. وإرميا نال الاضطهاد من الملك الذي وضعه في قعر بئر موحلة. وميخا بن يملة الذي دعاه الملك ليسأله كلمة من عند الربّ، نال صفعة على وجهه وجُعل في السجن مع قليل من الخبز والماء، لأنَّه رفض أن يكون كلامه ككلام سائر الأنبياء. بل قال: »حيٌّ هو الربّ. ما يقوله لي الربّ أقوله أنا«. ويوحنّا المعمدان سوف يُقطع رأسه لأجل فتاة رقصت أمام الملك فأعجبته.

ومع ذلك، فالأنبياء هم أقوياء حين يريدهم الربّ، لا من أجل نفوسهم، بل من أجل الرسالة التي يبعثهم إليها. في هذا المجال، قال بولس الرسول: إن كان لا بدَّ من الافتخار، فأنا أفتخر بضعفي وأوهاني. ولكنّي قويٌّ بالذي يقوِّيني. وهذا ما نفهمه لا في ظروف الحياة اليوميّة، حيث يمكن أن يُغلَب النبيُّ على المستوى البشريّ، بل في النهاية. فحين نرى التأثير الذي تركه إيليّا أو إرميا وسائر الأنبياء، نفهم مصدر هذه القوَّة التي تفوَّقت على قوَّة الملوك والحكّام بحيث دُعيَ إيليّا: »يا مركبة (مملكة) إسرائيل وفرسانه«. ومثله سيُدعى إليشع تلميذه الذي جاء إليه الملك يطلب عونه، حين رآه يموت.

خاتمة

ذاك هو النبيّ. دخل في سرِّ الله، فحمل الكلمة وما خاف، لأنَّ قوَّته من قوَّة الربّ، ولأنَّ الله حاضر معه يرافقه. حين نتذكَّر الملوك والحكّام منذ العصور القديمة، نرى أنَّهم زالوا كلُّهم. أمّا صوت الأنبياء فما زال يدوِّي اليوم في حياتنا. والأنبياء لم يكونوا فقط في الكتاب المقدَّس، بل هم حاضرون في العالم بعد أن دعانا المجمع الفاتيكانيّ: شعب أنبياء. نحن أنبياء حين نحمل كلمة الله ولا نخاف. ولكن إذا زال الأنبياء، فهناك الضياع. وهذا ما نعيشه اليوم. ربَّما لأنَّنا نسمع الكلام الذي يدغدغ آذاننا، لا كلمة الله التي حسبَها الملكُ آخاب »شرٌّا« له. وأنهي كلامي بما قاله هتلر وهو في عزِّ قوَّته عن البابا بيوس الثاني عشر الذي رفض أفكاره النازيَّة: »هل تعرفون ما هو عدد جيوش هذا الرجل وأساطيله ودبّاباته؟« ومن لا يعرف قوَّة يوحنّا بولس الثاني الذي فعل ما لم تفعله الدول العظمى: هدم جدار برلين، فكان هذا الهدم صورة عمّا فعله يسوع حين قتل العداوة بصليبه، كما تقول الرسالة إلى أهل أفسس، ففتح الشعوب بعضها على بعض وأحلَّ السلام والتقى القريب بالبعيد.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM