سر الملكوت.

 

5- سر الملكوت.

تحدَّثنا في ما سبق عن يسوع حين أرسل التلاميذ الاثني عشر وأعطاهم وصاياه. ولكن ما هي الرسالة التي حمَّلها يسوع للتلاميذ وخلفائهم؟ وما هو التعليم الذي سوف يكرزون به؟ إنَّهم سوف يتكلَّمون عن سرِّ ملكوت السماوات. هذا الملكوت الذي جاء يسوع يدشِّنه، حيَّر اليهود الذين انتظروا مسيحًا يؤسِّس مملكة على غرار ممالك الأرض. غير أنَّ ملكوت الله يدلُّ على سلطة الله قبل أن يدلَّ على منطقة يسيطر عليها يسوع وعلى شعب يستعبده. الملكوت هو حضور الله على الأرض وهو يبدو سرٌّا مخفيٌّا على الحكماء والفهماء وظاهرًا للوضعاء والأطفال (مت 11: 25-27)، ولهذا لم يتعرَّف إليه الشعب اليهوديّ إجمالاً، لأنَّهم رفضوا التخلّي عن أفكارهم الخاصَّة لقبول سرِّ ملكوت الله بروح التواضع. لن يقبلوا بمسيح سيعرف الذلَّ والتحقير والصلب والموت، فطلبوا ملكًا زمنيٌّا يبهر العين دون أن يؤثِّر في القلب. لقد قال يوحنّا الانجيليّ إنَّ يسوع جاء إلى خاصَّته وأهل بيته، غير أنَّ خاصَّته لم تقبله. أحسَّ يسوع بهوَّة عميقة تفصله عن الشعب، ومع ذلك شعر أنَّه لا بدَّ له من أن يحدِّثهم عن ملكوت الله: »توبوا، فإنَّ ملكوت السماوات اقترب« (4: 17). ولكن كيف يبشِّرهم بالملكوت؟ عن طريق الأمثال.

أمثال قرأناها وحفظناها غيبًا، ففرحنا بأسلوبها وطريقة إخبارها. يبقى علينا أن ندخل في معناها المقصود. المثل يفهمه أيُّ إنسان وقد استعان به يسوع ليكلِّم الجموع، والمثل يخفي أسرارًا عميقة على بساطته، وهو يتطلَّب لذلك اجتهادًا من السامعين.

المثل كما نعرفه يصوِّر فكرة مجرَّدة بطريقة منظورة وملموسة. كيف التحدُّث عن رحمة الله؟ من منكم إذا كان له مئة خروف، فأضاع واحدًا منها، لا يترك التسعة والتسعين في البرِّيَّة ليبحث عن الخروف الضائع حتّى يجده؟ من هو قريبنا؟ ليس قريبنا ابن عائلتنا وابن ضيعتنا وابن ديننا وحسب، إنَّه كلُّ إنسان نلتقي به ونشعر أنَّه يطلب حاجة. »كان رجل نازلاً من أورشليم إلى أريحا...«. يجب علينا أن نغفر بعضنا لبعض لأنَّ الربَّ لا يغفر لنا إن لم نغفر.

ونحن نفهم المثل عندما نربطه بالواقع الذي دفع قائله إلى قوله. تذمَّر الفرّيسيّون من طريقة معاملة يسوع للخطأة فأعطاهم مثل الخروف الضائع. وعندما سأل أحد معلِّمي الشريعة، من هو قريبي؟، أجابه يسوع بمثل السامريّ الصالح. وأورد يسوع مثل العبد القاسي القلب حين تساءل بطرس: كم مرَّة يخطأ إليه أخوه ويغفر له.

وفي هذا الفصل 13 من إنجيل متّى نقرأ سبعة أمثال عن سرِّ الملكوت نفهم معناها على ضوء الفصلين السابقين 11-12، حيث وجدنا أمام يسوع فئتين من السامعين، فئة أولى ترفض وفئة ثانية تتقبَّل تعليم الربّ. هاتان الفئتان يحدَّثنا عنهما يسوع بالأمثال. فالرسل الذين تبعوا يسوع يشبهون ذلك الرجل الذي يبيع كلَّ ما يملك لكي يشتري الملكوت، لا ذلك الشابّ الغنيّ الذي مضى حزينًا لأنَّه كان ذا مالٍ كثير. والفرِّيسيُّون يشبهون تلك الأرض الحجرة التي لا ينبت فيها زرع. وذلك الزؤان الذي سيحرق في نهاية العالم، وتلك السمكة الرديئة التي سترمى خارجًا، فإن لم يتوبوا سيهلكون جميعًا. والشعب الذي جاء إليه يسوع يزرع فيه كلام الله كما يزرع الزارع حبَّه في الأرض، يتوزَّع بين الذين لا يبالون بكلام الله وبين الذين يثمرون ثلاثين وستّين ومئة. ونتوقَّف بخاصَّة على مثل الزارع، ومثل الزؤان.

مثل الزارع (13: 3-23)

خرج الزارع ليزرع... بهذا المثل بدأ يسوع يكلِّم الجموع المحتشدة على شاطئ البحيرة ليدلَّ على نوعيَّة السامعين لكلامه والفاتحين قلوبهم ليفهموه أو يرفضوه. هذا الكلام يتوجَّه إلى اليهود في زمن المسيح ويتوجَّه إلينا أيضًا نحن المؤمنين اليوم، فيقسمنا إلى أربع فئات. فئة أولى تشبه جانب الطريق الذي يقع فيه الحبُّ فتأتي الطيور وتأكله. هذا ما يحدث لنا عندما يأتي الشرّير وينزع من قلبنا ما زرعه الله فيه من كلام طيِّب ونوايا حسنة. فئة ثانية تشبه الأرض الصخريَّة الحجرة التي لا عمق فيها ولا تراب: ينبت الحبُّ بسرعة وييبس بسرعة: ونحن كذلك: نتقبَّل كلام الربّ وإلهاماته بفرح، ولكن إن حدث ضيق أو اضطهاد نتراجع حياء »فنفضِّل رضى الناس على رضى الله، ننكر المعلِّم كما أنكره سمعان ونبيعه كما باعه يهوذا بأقلّ من ثلاثين من الفضة، فئة ثالثة تشبه أرضًا كثيرة الشوك، ينمو فيها الشوك أسرع من الزرع ويخنقه؛ ماذا نقول عن إنسان احتلَّت قلبه هموم هذه الدنيا ومحبَّة الغنى، فاهتمَّ ببطنه أكثر من ربِّه وعبد المال بدل الله، أما قال الشيطان ليسوع لمّا جرَّبه: «أعطيك ممالك الدنيا ومجدها إن سجدت لي وعبدتني«؟ غير أنَّ يسوع ما جاء ليبني مملكة من ممالك الأرض، بل ليؤسِّس ملكوت السماوات، ويطلب إلينا أن نعيش بروح التجرُّد التي عاشها إذا أردنا أن نكون أهلاً للملكوت. فئة رابعة تشبه الأرض الطيِّبة التي تعطي أفضل الثمار؛ فإذا وجد كلام الله استعدادًا عندنا فما تكون النتيجة؟ يكون لنا هؤلاء المسيحيّون الذين يمجِّدون الله بأعمالهم الحسنة، يكون لنا هؤلاء المؤمنون الذين لا يتلاعبون بضميرهم ويصمُّون آذانهم عن سماع صوت الله في داخلهم، يكون لنا هؤلاء القدّيسون الذين نفتخر بهم ونطلب شفاعتهم ونسعى إلى التمثُّل بهم. هذا كان فحوى مثل الزارع.

مثل الزؤان (13: 24-30، 36-43)

أمّا مثل الزؤان فيدلُّنا على زارعَين يعملان في قلبنا، واحد يزرع الزرع الجيِّد وهو يسوع المسيح، وواحد يزرع الزؤان وهو إبليس. فعلى المؤمنين أن لا يعتبروا نفوسهم أبرارًا وما سواهم من الناس أشرارًا. فالحدُّ الفاصل بين الخير والشرِّ هو في قلبنا. في قلبنا نجد الزرع الجيِّد كما نجد الزؤان، وفي قلوب أهلنا وإخوتنا وأولادنا وجيراننا نجد الشرَّ قرب الخير، فيطلب إلينا يسوع أن لا نقتلع الزؤان قبل الأوان لئلاّ نقلع القمح معه، أن لا ندين الناس قبل الدينونة الأخيرة، أن لا نحسب الناس أشرارًا لأنَّهم ليسوا من ديننا أو وطننا أو لأنَّهم لا يفكِّرون مثل تفكيرنا ولا يتصرَّفون كتصرُّفاتنا. وهنا نفهم أنَّنا نعيش حربًا لا تنتهي، لا حربًا مع الناس، بل حربًا مع ذواتنا وضدَّ قوى الشرِّ في قلوبنا. سلاحنا لن يكون درعًا وسيفًا وترسًا وسهمًا وغيرها من الأسلحة، بل سلاح الله؛ فنأخذ الحقَّ والاستقامة درعًا، والإيمان ترسًا نطفئ به جميع سهام الشرّير، ونلبس خوذة الخلاص، ونتقلَّد سيف الروح الذي هو كلام الله، ونصلّي في كلِّ وقت لنقدر أن نقاوم في يوم الشرِّ ونبقى ثابتين (أف 6: 10-18).

لماذا يرضى الربُّ بوجود الاشرار في العالم؟ لماذا لا يقتلع الشرَّ ومسبِّبيه؟ هذا ما يصلّيه صاحب المزامير (5: 10-11) فيقول في مضايقيه: «لا صدق في أفواههم، وفي قلوبهم يعشقون الشرَّ. حلوقهم قبور مفتوحة وبألسنتهم يتملَّقون. أحكم عليهم يا الله. وليسقطوا بسبب مؤامرتهم. أخضعهم لكثرة معاصيهم لأنَّهم تمرَّدوا عليك.«

ويقول أيضًا (35: 4-5): «الخزي والهوان لطالبي حياتي، والهزيمة والعار لمن يفكِّر عليَّ بالسوء. يكونون كالتبن في مهبِّ الريح ويصرعهم ملاك الرب«. لاشكَّ في أنّنا نكره سماع مثل هذه الكلمات وقد علَّمنا يسوع أن نغفر، ولكنّنا عندما نطلب إلى الربِّ المعونة، فنحن نريد أن تظهر عدالته فيقتلع الشرَّ عن الأرض ليعمَّ عليها الخير والسلام والسعادة. ولكنَّنا في طلبنا نستعجل الله كأنَّنا لا نريد أن ننتظر وقت الحصاد، أي وقت الدينونة الأخيرة، ساعة يفرز ابن الإنسان القمح عن الزؤان، ويجعل الخراف عن يمينه والجداء عن يساره. غير أنَّ الله يدعونا إلى الصبر والانتظار لأنَّ حكمه في نهاية الأزمنة، وسيتمُّ انتصاره عندما يأتي ملكوته حقٌّا، هذا الملكوت الذي نصلّي لأجل مجيئه في الأبانا.

ما هو دور الأبرار؟ أن يضيء نورهم أمام الناس (مت 5: 16) بانتظار أن يشرقوا كالشمس في ملكوت أبيهم السماويّ (13: 43). أن يجتهدوا لكي يكونوا نورًا للعالم وخميرًا في العجين وملجأ في الأرض، فيحذرون أن ينقلب النور الذي فيهم ظلامًا (6: 23)، ويخسر الملح الذي فيهم طعمه فلا يعود ينفع شيئًا فيطرحونه في الخارج ليدوسه الناس. دور الأبرار أن يقاوموا الشرَّ دون أن يبغضوا الأشرار، أن لا ييأسوا وتضعف نفوسهم، ولو كلَّفتهم المقاومة بذل الدم في مصارعة الخطيئة. دور الأبرار أن يكونوا قدّيسين لأنَّ الله الذي دعاهم قدّوس فيكونون بسلوكهم نداء للأشرار علَّهم يتوبون. تلك هي العبرة التي نستنتجها من مثل الزؤان عن أبناء الملكوت.

بالأمثال حدَّث يسوع الجموع عن الملكوت، هذا السرّ الذي يعرف طبيعته ويوحي بحقيقته إلى البسطاء، لا إلى الحكماء. وهو يوحي بسرِّ الملكوت عبر كلامه تدريجيٌّا إلى أن تأتي القيامة والعنصرة حيث يعلِّم الروح القدس الرسل كلَّ شيء ويجعلهم يتذكَّرون كلَّ ما قاله لهم المسيح. هذا السرّ الذي كتمه الله طوال الدهور والأجيال وكشفه الآن لقدّيسيه ومؤمنيه (كول 1: 26). هذا الملكوت الذي أعلم به الرسل، ونحن من بعدهم، لم يَظهر بعد في تمام مجده، وعندما يظهر لنا نعرف حقيقة ما جاء يسوع يعلِّمنا. نحن الآن نعرف معرفة ناقصة ولكن عندما يزول كلُّ نقص ويظهر كمال الله، حينئذٍ سنعرف سرَّ الملكوت معرفة كاملة على مثال معرفة الله لنا. ولكن بانتظار تلك الساعة، سنمرُّ مع يسوع عبر آلامه وموته قبل أن نرافقه في مجد قيامته.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM