الرموز الكتابيَّة.

 

الرموز الكتابيَّة

في البدء كان الكلام يتنقل بين الرهبان المتسامرين، أمام منظر ساحر، توفِّره إطلالة دير مار يوسف - »بحرصاف« في بكفيا - لبنان، وهو يناظر بموقعه السامق مرتفعات المتن، التي مع امتداد المساء، أخذت أضواؤها تعانق نجوم السماء. كان ذلك الكلام عن الكتاب المقدَّس، وما لبثت الأحاديث عنه أن أصبحت ساخنة، وكأنَّه حدث الساعة. ومن سؤال إلى جواب واستفسار وتعليق بين الآباء مارون عطالله ونادر نادر ومارون حايك، توضَّح مسارُ النقاش، فكان صوت الخوري بولس الفغالي مثل النهر المنساب هيّنًا، يتحدَّث وهو حاضر البديهة منتعش وحيويّ. ومضى كاتب السطور يصغي، حتَّى تجمعت في القلب من هنا وهناك سنابل من ذهب، حملها إلى الأب بولس في فجر اليوم التالي، وكان لقاء مع نكهة قهوة مضبوطة، في استعادة منهجيَّة لأبرز نقاط النقاشات التي تمحورت حول الرموز الكتابيَّة، أسلوب التعامل مع النصوص وخلفيَّتها التاريخيَّة، كيفيَّة تفهُّم الرموز الكتابيَّة، والنظرة المسيحيَّة إلى الإلهام في الكتاب المقدَّس، وكانت البداية مع استقراء خبرة الكنيسة مع العَنصرة؟ قال الخوري بولس:

الكنيسة وخبرة العَنصرة

عندما كتب لوقا عن العنصرة في الفصل 2 من سفر الأعمال، سنة 85 م، أراد أن يبيِّن أين كان يوجد المسيحيُّون، فأخذ يعدِّدهم من مختلف الأرجاء، ليعطي لمحة عن مساحة انتشار المسيحيِّين، من عيلام وبين النهرين، ثمّ فريجيا (تركيّا الحاليّة) وغيرها وحتَّى ليبيا. وهذا يختلف عن مجرد قراءة سرديَّة للنصّ. فمن المنطقيِّ جدٌّا أنَّه في يوم العنصرة، كان في أورشليم أناس من كل تلك البلدان، إذ كان يوجد يهود منتشرون في كلِّ مكان. فأراد لوقا أن يوضح أنَّه منذئذ انطلقت البذار التي حملت المسيحيَّةَ إلى كلِّ هذه الشعوب. فيمكننا أن نستخلص أنَّ من الطبيعيِّ أنَّ لوقا، أو الذي أعطاه المعلومات، لم يكن مفترضًا بهما أن يسألا كلَّ واحد من الحضور، كما في مقابلة صحافيَّة، من أيِّ بلد هو قادم. عدَّد الكاتب القوميَّات التي اعتنقت المسيحيَّة كما لو أنها كانت هناك في ذلك اليوم عينه. لكنَّ وراء هذا النصِّ إشارة ضمنيَّة إلى نصٍّ قديم، برج بابل: حيث تبلبلت اللغات وتفرَّقت الشعوب بعد أن كانت واحدة، لتأتي العنصرة فتصبح تلك الشعوب موحَّدة بالروح القدس، حول شخص يسوع المسيح. والآن أيضًا، كلُّ من يقرأ حدث العنصرة على ضوء حياة الكنيسة، يمكنه أن يرى من خلاله الواقع الحاليّ، فكما كانت الكنيسة حاضرة في العنصرة، هكذا الروح حاضر في كنيستنا اليوم، سواء في العراق المتألِّم أو لبنان الضائع سنة 2001. أجل نحن أيضًا نعيش العَنصرة، لأنَّ الروح سيبقى حاضرًا حتَّى النهاية.

التعامل مع النصِّ وخلفيَّته التاريخيَّة

مثل هذه القراءة تنطبق على تعاملنا مع سائر نصوص الكتاب المقدّس، بمعرفة المزيد عن الخلفيَّات الجغرافيَّة والتاريخيَّة والاجتماعيَّة، التي كانت وراء كتابتها. فعندما نقارن بين خبرة الرسل بعد العنصرة، نجدها ترتبط بما جاء في الإنجيل بنحو واضح. ولنا أن نقارن بين ما جاء باقتضاب في إنجيل مرقس »ليس شيء من خارج الإنسان، إذا دخل فيه ينجسه«... (7: 15) وما جاء في الأعمال عن مائدة الأطعمة في حلم بطرس في أعمال الرسل حين قيل له من السماء إنّ »كلَّ الأطعمة طاهرة«. وعندما نقرأ: »وجاء إلى يسوع أبرص« (مر1: 40) كيف يمكن ذلك؟ فالأبرص لا يستطيع أن يأتي إلى يسوع، لأنَّه مرذول وليس له مكان في المدينة، وكان يحمل جرسًا أو ما ينبِّه به الآخرين كي يبتعدوا عنه. فنرى أنَّ يسوع هو الذي يترك المدينة ويذهب إلى البرِّيَّة، وبهذا صار يسوع قريبًا، فدنا منه الأبرص. وإلاَّ لا نستطيع فهم النصِّ وفق ظروف ذلك الزمان. وهكذا يسوع هو المبادر بالخطوة الأولى بمجَّانيَّة وعفويَّة.

تفهُّم الرموز المستخدَمة

وننتقل إلى مجَّانيَّة يسوع التي امتدَّت إلى الكنعانيَّة، بحثًا عن تفسير الرمزيَّة التي تحدَّث بها يسوع بين الخبز والحجارة؟ في موضوع المرأة الكنعانيَّة (مت15: 22)، عندما قال لها يسوع: »لا يجدر أن يُلقى خبز البنين للكلاب«، غالبًا ما يشار في ذلك على أنَّه قسوة غير مألوفة، في حين أنَّ ذلك إشارة فهمتها الكنعانيَّة، بالتمييز بين من هم من الدار ومن هم خارجها، فأجابته على ضوء هذا الفهم المتَّفَق عليه بأنَّ الخبز لأبناء الدار. ونرى في مكان آخر يسوع يستخدم تشبيها مماثلاً بقوله: »من منكم إذا طلب ابنه منه خبزًا يعطيه حجرًا؟«، اشارة إلى الخبز للبنين والحجر للكلاب. وثمّةَ مقاربة مع قول يوحنا المعمدان: »إنَّ الله يستطيع أن يجعل من هذه الحجارة أبناء لإبراهيم«. المبدأ هو أنَّ الرموز محدَّدة أو مزدوجة في كلِّ الكتاب المقدس، نقرأه على ضوئها. والحجارة لها رمزيَّة البناء أيضًا، كما في قول المزمور: »الحجر الذي رذله البناؤؤن أصبح رأسًا للزاوية«... وقد استشهد به المسيح، إذ معه تلك الحجارة المرذولة الملقاة في الخارج، اعتُمدت في الداخل لبناء البيت، في إشارة إلى الوثنيَّين الذين كانوا خارج شعب الله، ثمَّ دخلوا ضمن بناء بيت الله. والقدِّيس بطرس، الذي سمّاه يسوع »الصخرة« (كيفا)، يشير إلى هذا الرمز بقوله: »كونوا أنتم أيضًا مبنيِّين كحجارة حيَّة، بيتًا روحيٌّا، كهنوتًا مقدَّسًا« (1بط2: 5). أمَّا مع زكّا العشار، ففي صعوده الشجرة رمزيَّة عادَتْ به إلى طبيعة الأطفال، فتأهَّل للملكوت. وإذ كان في أريحا وهي في غور البحر الميت، 300 متر تحت مستوى سطح البحر، يُصعده يسوعُ معه حتَّى الجلجلة فيقطف ثمار شجرة الصليب. وفي حادثة زكا أيضًا، ننتبه إلى أنَّ المال عند لوقا يمثِّل الشرَّ والظلم. وما يحتفظ به المرء من المال هو مثل ثقل يضايقه وهو في البحر حتَّى يغرق. ويتحوَّل المال إلى خير، عندما يُوهب: »إعملوا لكم أصدقاء من مال الظلم«، فما إن قال زكا أُعطي أموالي... حتَّى قال يسوع: »اليوم صار الخلاص لهذا البيت«.

هكذا نفهم تباين النصوص

ولا بد أن يتبادر تساؤل عما نجم من خبرة الكنيسة مع أقوال المسيح، من تباين في النصوص الإزائيَّة، في مواضيع مهمَّة مثل الصلاة الربِّيَّة والتطويبات والكلام التأسيسيّ؟ وهنا نحن أمام خطر دائم حين نحسب أنَّ الإنجيل كُتب مثل المسجَّل الثابت. والواقع أنَّنا أمام الأناجيل الإزائيَّة يمكننا أن نتأكَّد أنَّه لا يوجد أيُّ نصٍّ مشابه تمامًا لنصٍّ آخر. الثابت هو الفحوى الأساسيَّة. فمثلاً في معموديَّة يسوع، يرد في إنجيل متى: »هذا هو ابني الحبيب عنه رضيت« أي بصيغة الغائب. وعند مرقس يأتي القول: »أنت ابني الحبيب«. ومع لوقا، نجد النصَّ المعتمد عمومًا: »أنت ابني الحبيب أنا اليوم ولدتك«. في الحقيقة، الجماعة المسيحيَّة توصلت إلى هذا انطلاقًا من شخص يسوع. فعملوا الربط بين هذا الشخص والابن، وقارنوه بإسحق. وكذلك كلام التقديس، أي الكلام التأسيسيّ في القداس. ليس لنا عنه صيغة موحَّدة إلاَّ في الطقس الليتورجيَّ، فلا نراه متشابهًا حرفيٌّا في النصوص التي أوردته: أي في متى ومرقس ولوقا وفي 1 كور 11. لكنَّ عبارة: »هذا هو جسدي، هذا هو دمي«، هي الأساسيَّة، والكنيسة وضَعْتها في إطارها.

وكذا الأمر مع الصلاة الربِّيَّة. أورد فيها الإنجيليَّ متى سبع طلبات، وعدَّد لوقا فيها خمس طلبات. عن هذا التباين نقول: كانت تصدر من يسوع أمام التلاميذ عبارات صلاة تعلَّموها منه، مثل: »لتكن مشيئتك يا رب«. ومرَّة أخرى قال: »ليأتِ ملكوتك يا رب«. فكانت الطلبات متناثرة. وكنيستنا هي التي جمعت سبع طلبات، لأنَّ الرقم سبعة يمثِّل رقم الكمال. أمَّا لوقا فقد جمع الرقم خمسة لأنَّه يُعدُّ رقم القداسة لدى الشعب العبرانيّ أو هو عدد أصابع اليد البشريّة أي رقم العمل والمسار غير المكتمل. من هنا ليس دقيقًا التأكيد أنَّ هذه الكلمات او تلك بالتحديد، هي التي بالضبط خرجت كما هي من فم يسوع، في يوم واحد وتمَّ تسجيلها حرفيٌّا. نعم، المسيح صلاَّها، ولكن قبل كلِّ شيء لم يصلِّها باليونانيَّة، بل بالآراميَّة. كما أنَّه لم يتلُ عباراتها بتسلسلها الحاليّ.

هذا الموضوع ينطبق على الأمثال. إذا أخذناها في إنجيل متى، ليس حتميٌّا أن نفترض أنَّ يسوع جلس وقال: هذا هو المثل الأوّل. بل نراه مرٌّة جالسًا عند بطرس، حيث رأى حماته تعمل العجين وتضع فيه الخميرة، فقال أتعرفون أنَّكم أنتم أيضًا الخميرة! كيف يا معلم؟ فيجيب أنا الخميرة التي تخمِّر عجينكم، وأنتم أيضًا، وإن كنتم جماعة قليلة، سوف تخمِّرون العجنة الكبيرة. واجتاز يسوع في مكان آخر فوجد زارعًا يزرع، فلاحظ مع تلاميذه أنَّ عمل الزارع ينطبق عليهم، فكما الأراضي متنوِّعة، كذلك قلوبهم. أمَّا جمع هذه الأقوال والأمثال، فهذا كان من عمل الكنيسة والكاتب. الإنجيل لم يكتبه المسيح، بل كتبناه نحن معه. لو كان الربَّ كتب الإنجيل بنفسه، لكان لسان حاله كالآتي: ليس لي ثقة فيكم، فأنتم ستخطأون، سوف أعطيكم شيئًا مكتوبًا، تأخذونه كما هو، ولا تناقشونه أبدًا.

إنَّ يسوع يعرف ضعف التلاميذ، ولكنَّه يعرف أيضًا أنَّ الروح القدس معهم، وسيكتبون ما يغذِّي الكنيسة، ليغدو ضعفُهم قوَّة، وجهلُهم حكمة. ومع التطويبات، الشيء عينه: رأى المسيح تصرُّف شخص ما، فعلَّق: طوبى لك، أنت تعمل للسلام. وقال أمام حالة أخرى: هنيئًا لكم أنتم مساكين الرب. هنا أيضا أخذ متى الرقم 7 وكمَّله بالرقم 8، فالسبعة هي الحياة العاديَّة ومسك الختام. في الثامن، نبدأ حياة جديدة. على هذا الأساس، كانوا في لبنان لفترة قريبة، يعمِّدون الأولاد في اليوم الثامن. في إنجيل متى سُمّيت التطويبات عظة الجبل، مقارنة بموسى على الجبل مع الشريعة الأولى، والمسيح هنا على الجبل يعطي الشريعة الثانية. فنحن في إطار موسويّ، على مستوى جبل سيناء، أمام قراءة جديدة للوصايا: قيل لك: »لا تقتل«، هذه الوصية عند يسوع لا تكفي، مع أنَّها مطلوبة، ولكنَّه يريد أكثر من ذلك: لا تغضب، ولا تقل كلمة جارحة...

أمَّا عند لوقا، فالتطويبات أربع، وتسمى عظة السهل، لأنَّ البشارة التي يحملها لوقا هي للعالم وإلى جهاته الأربع. فهو يتوجَّه إلى جميع الشعوب لا فقط إلى شعب محدَّد. ويبقى لوقا مرتبطًا بالكتاب المقدَّس، ولكن بالتلميح. فهو لا يذكر عبارة »كما هو مكتوب«، أو »قيل لكم«... بل يكتب مباشرة، مثلما كان يعمل الأنبياء، ولكن بأسلوب معاكس: كان الأنبياء يهدِّدون في البداية، ثمَّ في الأخير يقولون كلمة الرجاء، أمَّا هو فيبدأ بالرجاء (التطويبات)، ثمَّ يأخذ في التهديد (الويلات). لا بدَّ أنَّ كتابته ارتبطت إلى حدٍّ ما باضطهادات ذلك الزمان.

كلمات خرجت من فم المسيح

بالرغم من كلِّ ما تقدَّم، لعلَّ ثمة من يريد أن يلمس شيئًا من كلام المسيح، مثل الذخيرة المقدَّسة، فيبحث عن الكلمات التي خرجت بالضبط من فمه؟ قبل كلِّ شيء، نعرف أنَّ المسيح تكلَّم بالآراميَّة، والإنجيل كُتب باليونانيَّة، وليس لدينا أيُّ نصٍّ إنجيليٍّ بالآراميَّة، بل كلمات متفرّقة. هذه مسألة يجب أن نفرغ منها، والبحث عن الإنجيل بالآراميَّة، هو فعلاً قضيَّة عاطفيَّة. أوسابيوس القيصريّ تحدَّث عن إنجيل العبرانيِّين المكتوب بالآراميَّة. لكنَّ ذلك كان مجرد رفيق سفر للواعظ: فيه لائحة بمعجزات يسوع وأمثاله وغير ذلك. والرقُّ الذي كان يحتاجه بولس لرحلاته، ولئلاَّ يكون ثقيلاً وغالي الثمن، كان مقتصرًا على مقاطع صغيرة للتذكير. وما يرد في الإنجيل خير موضِّح لذلك: عندما يذكر مرقس (15: 34) أنَّ يسوع على الصليب قال: »إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟« عمليٌّا يسوع أخذ يصلي المزمور22 الذي يبدأ بهذه العبارة.

وإذا وجدنا إنجيلاً آراميٌّا، فلن يكون ملهَمًا، إذ قد أُغلِق الكتاب المقدَّس مع سفر الرؤيا، فلا نضيف ولا نحذف. أعطيك مثلاً صغيرًا على مستوى العهد القديم. ابن سيراخ، دوِّن بالعبريَّة، وقبلته الكنيسة باليونانيَّة. وعندما قمتُ بترجمة الكتاب المقدس، في الترجمة المشتركة، كان النصُّ المستعمل هو السبعينيّ (اليونانيّ). ومع اكتشافات مجمع الفسطاط في القاهرة، سنة 1896 وبعد ذلك نصوص قمران وغيرها، تمَّ العثور على ثلثي ذلك النصِّ العبريِّ، لكنَّه يبقى كمساعد للاستشارة، أمَّا النصُّ الأساسيُّ والملهَم الذي ننطلق منه، فيبقى النصَّ اليونانيَّ. بعد هذا نقول: هناك كلمات آراميَّة، مثلاً في إنجيل مرقس في شفاء الأخرس، قال له: »اتفتاح« وهي تعني »لتُفتح«، ومع معجزة إقامة ابنة يائير (مر5: 41) قال: »طليثا قومي« (يا ابنة قومي). ثمَّ على الصليب: »آلوي آلوي لما شبقتني« (إلهي، إلهي، لماذا تركتني!). وعندنا كلمة »ربُّوني« أي »رابِّي«، المعلِّم، وكلمة »أبّا« كما تُعلُّم الأمُّ ابنها أن يلفظها فيدعو والده: أبّاه أو بابا. وإلى جانب كلمة »هوشعنا« التي ردَّدها الاولاد. تلك هي الكلمات الآراميَّة التي تلفظ بها يسوع، ويمكن أن يوجد غيرها ممَّا جاء مباشرة عن لسان يسوع المسيح. ولنا مثل آخر في حياة المسيحيِّين اليوم. فلدى الظهورات يقال: قالت العذراء كذا أو كذا، وهذه الكلمات خرجت من فم العذراء. والحال، العذراء لدى ظهورها تلامس قلب الرائي، كما الله يلامس قلوبنا، ونحن عندما نتكلَّم عن ذلك نعبِّر عنه باللسان البشريّ.

ولبث الباحث يتحدّث عن خبرة الكنيسة في كتابة الإنجيلَ. وتواصل الحوارُ بين الخوري بولس والشماس (اليوم، الكاهن) نوئيل غرمان في 9 آب سنة 2001.

وهذا ما نقرأه في فصل آخر.

ويبقى ثمَّة سؤال: كيف ظهرت الأناجيل في حياة الكنيسة كأسفار ملهَمة؟ في الواقع، هناك من بقي يعتبر الإلهام الإلهيَّ في الكتاب المقدَّس، كأنَّ كلام الله هو خارج الزمن، يأتي من فوق مباشرة، من الأزل، لا أحد يستطيع أن يمسَّه، بل يؤخذ كما هو. وقد ظهرت بالفعل في المسيحيَّة، شيَع حيَّرها هذا الواقع، فتساءلت لماذا لم يكتب المسيح؟ فالمرقيونيُّون والبرديصانيُّون خصوصًا استغربوا كثيرًا كيف أنَّ المسيحيَّة لم تكتب مرة واحدة نهائيَّة، كتابًا واحدًا جاهزًا إلى الأبد! جاء هذا الاعتراض منذ القرون المسيحيَّة الأولى. أراد برديصان، وغيره من الجماعات الشرقيَّة، أن يكتبوا كتبًا ثابتة، في حين ينبغي أن ننظر إلى الموضوع من خلال مراحل عديدة:

قبل كلِّ شيء، كُتبت أسفار العهد الجديد على أساس خبرة الكنيسة، وشهادتها عن المسيح القائم من الأموات. في المسيحيَّة يُبنى الإنجيل ويرتفع شيئًا فشيئًا. من الذي يَبني؟ يسوع الذي أعطى النواة ونحن نكمِّل. »وكانت كلمة الله تنمو« (أع6: 7)، مثلما كان يسوع ينمو في القامة والنعمة والمعرفة (لو2: 40). في الدرجة الأولى، الانطلاق هو من يسوع »كما عرفناه وسمعناه ولمسناه« (1يو1:1). فيؤكِّد الإنجيل بوضوح في نص »طرد الباعة من الهيكل« يو2: 19)، ولمَّا قام من بين الأموات عرفوا أنَّه لم يتكلَّم عن هيكل من حجر، لكن عن »هيكل جسده«.

هنا العظمة في حياة الكنيسة، لم نُعطَ كلاما مكتوبًا فقط، أُعطينا روحًا، الروح يجدِّد، ولا يكرِّر. فلا ينبغي الارتباط بتعابير متجمِّدة، بل بروح الكلام. وهكذا من الطبيعيِّ ألاَّ يكون هذا النصُّ أو ذاك، خارجًا من فم يسوع حرفيٌّا وكلمة كلمة. فهو الذي أعطى الروح، والكنيسة أعادت قراءة كلمات يسوع وأعماله على ضوء حياتها. فأخذت كلماته تعبيرًا آخر. فمن التعميد »باسم يسوع«، صار التعبير »باسم الثالوث الأقدس« (إذا قارنا بين مت وأع). فخلاصنا لا يتمُّ إلاَّ باسم الثالوث الأقدس، وهكذا صار هناك امتداد لاهوتيّ، استنادًا إلى قول يسوع: »من رآني رأى الآب«، وهو من ثمَّ يوصلنا إلى قلب الثالوث. وفي الحديث عن المخلَّع (مت 9: 8) نتأمَّل كيف أنَّه أعطى البشر سلطان مغفرة الخطايا. أمَّا معجزة الشفاء في هذا النصِّ فهي ثانويَّة. المسيح يقول له أوَّلاً »مغفورة لك خطاياك«، ثمَّ يعطي المعجزة حتَّى يثبِّت ذلك. وهنا ننتقل إلى مرحلة أخرى تعتمد على ما أمر به المسيح، نرى ذلك في إنجيل يوحنَّا: »خذوا الروح القدس، من غفرتم خطاياه، تغفر له«. في المرحلة الثالثة يكون التطبيق العمليُّ لهذه الأوامر، إذ في كنيسة متّى سنة 85م كان الأسقف يُعطي مغفرة الخطايا، »فمجَّدوا الله لأنَّه أعطى البشر (الأسقف أو الكاهن) سلطانًا أن يغفر الخطايا«.

في المرحلة الرابعة يأتي دور الكاتب الملهَم: وهنا مسألة مهمَّة جدٌّا، فإذا لم تكن لديَّ مواهب بشريَّة، لا أقدر أن أكتب الإنجيل: إنّ يوحنّا الحبيب صياد سمك، ولم يقل مرّة واحدة: إنَّه كاتب، بل قال أنا رأيتُ، سمعتُ، لمستُ. وهنا أهمِّيَّة الجماعة. فالإنجيل غير مرتبط بشخص واحد حتَّى إن كان رسولاً، فالكنيسة هي التي تختار الشخص المؤهَّل لهذا العمل الكتابيِّ أو ذاك، فتطلب منه أن يكتب خلاصة تأمُّلات الجماعة، ويضع هو في ما يسطِّره، عبقريَّته ككاتب. وعليه نجد أنَّ النصَّ عن المرأة الكنعانيَّة، كان القمَّة في إنجيل متّى، إذ ينتقل الرسل من انعزاليَّة يهوديّة إلى انفتاح على الوثنيَّين. هذا هو الاختبار الكنسيّ...

خبرة الرسل مع رسالة المسيح

ونتوقَّف أمام رسائل القديس بولس، لنبحث عن علاقة آخر الرسل هذا، مع الرسل الآخرين وما تلقَّوه مباشرة من المسيح، في حين أن هناك من يقول إنَّ فهم المسيحيَّة للإنجيل يعتمد على بولس، أو إنَّه هو فقط مؤسِّس المسيحيَّة، لكنَّ هذا الكلام غير دقيق، فبولس هو »عبد ليسوع المسيح«. وهو لم يذهب إلى بطرس أو غيره ليتعلَّم. فلو ذهب إليه، لقلنا إنَّ بطرس مفكِّر، وإنَّ بولس مفكِّر وقد تفاعل فكرُه مع فكر معلِّمه. ولم يذهب بولس إلى يوحنّا، وهو يشير إلى ذلك بقوله في الرسالة إلى غلاطية إنَّه عاش ثلاث سنوات في بلاد العرب مع الجماعة الكنسيّة هناك، وهي التي علَّمت بولس. وأكَّد في هذا الصدد »ما قصدتُ من هم رسل قبلي« (1: 17). فهو بعبقريَّته عبَّر عمّا تعلَّمَه من يسوع المسيح كما تحياه الكنيسة، وعبَّر عن خبرته. قال: »التقيتُ الربَّ على طريق دمشق«. لو لم تكن تلك خبرةً دينيَّة عميقة، لما تكلَّم كذلك. وإزاء ما يقوله بولس، ليس عندنا مقياس آخر لنقول له أنت على حق! أو أنت على باطل! سوى مقياس الثمرة. بولس كان قد ذهب إلى دمشق لأنَّه رفض من كانوا يقولون إنَّ يسوع هو المسيح، كي يسوقهم إلى المحاكم. وإذا به عندما يرجع من دمشق يعظ قائلاً: إنَّ يسوع هو المسيح. وأنت أيضًا، إذا قلتَ إنَّ عندك خبرة روحيَّة ولم تتبدَّل حياتُك بموجبها، فهذا أمر مُريب. الخبرة الروحيَّة تجعلك تتحدَّث عن علاقة حميمة بينك وبين الله، وإذا تبدَّلت حياتك على ضوئها، فمعنى ذلك أنَّك صادق.

المرحلة الانتقاليَّة إلى ما بعد الرسل

أمَّا المرحلة الانتقاليَّة للكنيسة إلى ما بعد الرسل، وخصوصًا ما يتعلَّق بالرسالة إلى العبرانيَّين، فقد جاء فيها: »أُذكروا مدبِّريكم الذين كلَّموكم بكلام الله، وتأمَّلوا في نهاية سيرتهم« (13: 7)، أي عن موتهم. الكاتب هنا يقصد بطرس وبولس. إذ كان قد تفشى نوع من التراخي في جماعة رومة، لأنَّ أولئك المدبِّرين ماتوا، وكأنَّه لم يعد ثمَّة واجبات تجاه أحد. فتؤكِّد الرسالة على إطاعة مدبِّري اليوم، أي مثلما كان الأمر مع أولئك، فنحن، بعدَهم نسير على نهجهم، ومثلما سمعتم من أولئك الأوَّلين وأطعتموهم، كذلك الأمر مع المدبِّرين الذين من بعدهم.

وما قلناه يصحُّ أيضًا بشأن القديس بطرس. فيوحنَّا كان التلميذ الحبيب، وبطرس المعلِّم وأسقف رومة، ولذا أضيف ملحق إلى إنجيل يوحنَّا هو الفصل 21 من أجل تأكيد مكانة بطرس خشية أيِّ تهميش له لدى المسيحيِّين من الأجيال الصاعدة: فإذا كان التلميذ الحبيب هو التلميذ المثاليّ، فبطرس أيضًا تلميذ مثاليٌّ بحقّ. لأنَّه يُحبُّ يسوع الذي سأله ثلاث مرات: هل تحبُّني؟ فأجاب: نعم. هكذا نقرأ تفاصيل عن تاريخ الكنيسة، وتاريخ السلطة الكنسيَّة بين أسطر الإنجيل.

وطال احتساء فنجان القهوة، والحديث عن الكتاب متعة المتع. تركنا الأناجيل، وعُدنا إلى العهد القديم نطرح الاسئلة العراقيّة حول التاريخ والأساطير، حول خبر الطوفان وتوبة نينوى.

لكنَّ الذي يبحث عن دقَّة النصوص الكتابيَّة، ومن أيِّ أساس ينطلق الكتاب المقدَّس في إدراجها، قد يطرق سمعه أنَّ في الكتاب المقدَّس أساطير أو تخيُّلات كاتب! وقد نكون نحن في الشرق متأثِّرين بما يُكتب في أوروبّا وفي أميركا، كأن يُقال إنَّ هناك أساطير.

قبل كلِّ شيء في الكتاب المقدَّس لا يوجد أساطير بل توجد صور ورموز مُكثَّفة. فهو ينطلق من الوحي ولا ينطلق أبدًا من الخيال، وهنا الفرق. فالوحي يرتبط إمّا بواقع تاريخيٍّ أو بحدث أو بأشخاص، ولا يمكن أن نقول: تخيَّل الكاتب. ونستعرض بعض هذه العناصر:

هناك واقع تاريخيٌّ موثق، يمكننا أن نقارنه مع ما يرد في الكتاب المقدَّس. والآثار الأشوريَّة والبابليَّة والمصريَّة خير مساعد. الحديث عن الملك آخاب ومعركة قرقر مؤكَّدة، فهي واردة في وثائق أثريَّة ترتقي إلى حوالي عام 800 ق.م. مثلٌ آخر، على أيَّام رحبعام ابن الملك سليمان، ومجيء الملك المصري نكو، إلى أورشليم يذكره الكاتب الملهَم عند استيلائه على آنية الذهب والفضة من هيكل أورشليم، لكنَّه لم يكمِّل القصة إلى آخرها لأنَّ الكتاب دينيٌّ ويكتفي هنا بالانطلاق من حدث تاريخيٍّ وليس من قصَّة خياليَّة. أما الفرعون، فدوّن على جدران الأقصر أسماء المدن والحصون التي احتلها، وصولاً إلى أورشليم.

من جهة أخرى، يرتبط محتوى الكتاب المقدَّس بأشخاص من التقليد، أو بمن هم مذكورون في التاريخ مثل: سليمان الذي اقترن بإحدى بنات فرعون، ونحن نعرف من هي، وداود تصاهر مع الفينيقيِّين. وفي وثائق (ماري) بأعالي الفرات، يرد حديث عن سبط بنيامين. هناك أسماء عدُّوها غير موجودة لكنَّهم أخطأوا: فشخصيّة مثل أيُّوب موجودة في كلِّ الآداب التاريخيَّة العالميَّة. بل إنَّ الحديث عنه يعود إلى آلاف السنين قبل المسيح. ودانيال وردت إشارة عنه في الوثائق الأوغاريتيَّة (رأس شمرا، قرب اللاذقيَّة) وهي بحرف مسماريّ ولكن ليست بمقاطع صوتيَّة، بل بحروف كما لدى الفينيقيِّين.

قصة الطوفان

وقد يسأل سائل: وماذا عن نوح والطوفان؟ لقد كُتِب ما جاء في سفر التكوين عنه في القرن 5 ق.م، عندما كان العبرانيُّون مسبيِّين في العراق، حيث النهر يختلف عن نهر نيل مصر الذي ينساب متَّئدًا، بينما دجلة نهر جامح، لذلك أسماه الإغريق تيغريس (النمر)، لأنَّه كان دائم الفيضان. وعندما يفيض دجلة على قرية عند ضفته يُغرقها كلَّها. هنا جاء الوحي ليشير إلى أنَّ البشر كلَّهم خطأة، ويربط بين ذلك وبين الموت. وفي هذا قراءة لاهوتيّة. والذي سيحيا هو البارُّ فقط. أمّا في الوثائق التاريخيَّة الأخرى، فنقرأ: »الآلهة أرادت أن ترتاح من البشر، بسبب ضجيجهم«. في حين يورد الكتاب المقدَّس أنَّ هذا الحدث نشأ منه عهد وحوار بين الله وبين الإنسان.

إلى جانب الأحداث والأشخاص المذكورين في التاريخ، هناك أشخاص معروفون في التقليد، مثل إبراهيم وإسحق ويعقوب. لا يمكن أن ننكر وجود إبراهيم وهو أساس الإيمان اليهوديِّ والمسيحيِّ والمسلم. فإذا كانت أوروبّا تعتمد اليوم فقط على ما يسمَّى بالوثائق المكتوبة، فنحن في الشرق لم يكن لدينا آنئذٍ هكذا وثائق، إذ أكثر ما عندنا هو ما وصلنا من التقليد المرتبط بحياة شعب بأكمله. وهذا لا يمكن أن يكون وهميٌّا. خذ مثلاً قايين: هناك قبيلة القينيِّين، أي أبناء قايين ويأتي ذكرهم في نصوص قديمة جدًا. وكذلك عن شيت، توجد قبيلة شوتو على حدود مصر. هذه الأسماء وغيرها ليست مبتكرة بل أشياء معروفة في تاريخ التقليد، وما يزال هناك أسماء غير معروفة، لم نكتشفها في النصوص القديمة، ولكن من الممكن أن نكتشفها فيما بعد.

توبة أهل نينوى

وماذا نقول عن قصَّة يونان ونينوى، وما يثار أنَّ فيها معطيات جغرافيَّة وتاريخيَّة غير دقيقة. نجيب: إنَّ أسفار الكتاب المقدَّس متنوِّعة، فيها السفر التاريخيّ، وفيها القصَّة التقويَّة وفيها المثل. فإذا قرأنا أنَّ سليمان بنى الهيكل، هذا تاريخ. ولكن مع يونان لدينا مدراش أي قصَّة تقويَّة، المهم فيها أنَّ الله يبعث برسالة إلى الوثنيِّين أيضًا، رغم اعتراض يونان، ذلك الشخص المتزمِّت الذي قُلبت حياته رأسًا على عقب. الواقع الذي انطلق منها الكاتب هو واقع تاريخيُّ أيضًا: إذ سقطت نينوى سنة 612 على يد البابليِّين. فيعلق الكاتب الملهَم ضمنًا: لو أنَّ نينوى تابت لما سقطت. لكنَّ سفر يونان، تناول الوجه الإيجابيَّ مباشرة: لقد تابت نينوى فلم تدمَّر. ولا ننسى أنَّ في ذلك إشارة أيضًا إلى أورشليم التي دُمرت سنة 587، وكأنَّه يقول: لو أنَّ أورشليم تابت لما دُمِّرت. وإذا كانت البشارة قد وصلت إلى العالم الوثنيَّ، أتُراها لم تصل إلى أورشليم؟ هنا الخبر التقويُّ يستفيد من عناصر عديدة، بدون أن يركِّز على دقتها العلميَّة، إذْ لم تشر إلى هذه القصة أيُّ وثيقة تاريخيَّة، فالمهم هو فحوى الرسالة. ويمكننا في هذا المجال أن نتحدَّث عن سفر طوبيا، فيه يقول الكاتب: حتَّى إن كنت بعيدًا عن أورشليم، يمكنك أن تمارس الطقوس الدينيَّة، كيف؟ بأعمال الرحمة! عندما تدفن الموتى وتستقبل الجائعين، كأنَّك قدَّمت ذبيحة إلى الهيكل. وهي أمثولة للمؤمنين المشتَّتين اليوم. تبيَّن أنَّ الصدقة تغفر الخطايا، بدل الذبائح، إذا كان لديك الكثير أعطِ الكثير، وإذا كان لك القليل فعوض عنها بحنان قلبك.

وتأتي هنا الخبرة عينها مع الخطيئة الأصليَّة، إنَّ أصل كلِّ الخطايا هو الكبرياء، وعندما أرفض وجود الله، أعدُّ نفسي مثل الله. ونتذكَّر أنَّ سفر التكوين كُتب في القرن الخامس (ق.م) أي بعد الوصايا بكثير، كأنَّما الخاطئ يقول لله: ما شأني بوصاياك هذه! لماذا تضع لي الوصايا؟ أنا أعرف الخير والشرَّ، وأنت لا حكم لك عليّ، إذ قال المجرِّب »تصيران كآلهة تعرفان الخير والشرّ« (تك 3: 5).

خلاصة القول كلُّ الكتاب المقدِّس ينطلق من أربعة عناصر: التاريخ، الأشخاص، الواقع اليوميّ والخبرة الدينيَّة. ومن دون هذه العناصر، لا يوجد كتاب مقدَّس. وهكذا لا يمكن القول إنَّ الكاتب تخيَّل، لأنَّه دائمًا يوجد فيه رمز مرتبط بالواقع وبالمادة. فهكذا يرتبط الروح بالمادة ارتباطًا، فإذا أُلغيت المادة غاب الرمز أيضًا.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM