المؤمن ضيف على الله مزمور:61

المؤمن ضيف على الله

مزمور:61

أحبّائي، نقرأ اليوم المزمور 61. عنوان هذا المزمور: المؤمن ضيف على الله. أنا، أنت، كلّ واحد من السامعين، هو ضيف على الله.

1 - أطل أيّام الملك

نقرأ المزمور 61: لكبير المغنّين على القيثارة لداود: اسمع... نذوري. آية 7: أطلْ أيّام الملك يا ربّ. قد تكون هذه الآية صلاة الكاهن الذي يستقبل الملك الآتي إلى الهيكل لكي يرفع صلاته إلى الربّ، لكي يلجأ إلى حمايته ويطلب منه العون. وقد يكون أيضًا هذا الكلام صلاة الملك. بدل أن يقول أطل أيّامي أنا، أيّها الملك، قال الصلاة في صيغة الغائب. إن كان الأمر الأوّل، فهذا يعني أنّ هذا الملك أتى يصلّي، أتى يطلب، أتى يقدّم الذبيحة، أتى ينذر للربّ النذور.

عندئذٍ في الآية 7 قال الكاهن: أطل أيّام الملك، يا ربّ، واجعل سنيه مدى الأجيال. نتذكّر هنا المزمور 118 حين يأتي الحجّاج. من يأتي إلى هنا؟ نحن آتون. افتحي أبوابك يا أورشليم، واستقبلي ملك المجد. من هو ملك المجد؟ وفي المزمور 15 والمزمور 24: من يحقّ له أن يدخل إلى الهيكل؟ والكاهن هو الذي يقدّم الجواب أو هو يصلّي مع الداخل إلى الهيكل، ولا سيّما إذا كان المصلّي هو الملك.

في المزمور 20 يقول له الكاهن: ليستجب لك الربّ في كلّ حين. الملك جاء وهو يريد أن يكون ضيفًا على الله. هذا الملك ربّما هو بعيد عن صهيون ربّما هو خارج البلاد، كما كان الوضع بالنسبة إلى داود الذي لاحقه شاول، أو ربّما هو بعيد عن صهيون، عن أورشليم، قد تكون يداه تلطّخت بالدماء كما قيل عن داود في حروبه المتكرّرة أو حتّى في انتقاماته من الذين كانوا معادين له. فهل يسمح له الله أن يأتي إلى الهيكل؟ أن يدخل إلى الهيكل؟ هل يستطيع أن يأتي ليحتمي تحت أجنحة الكروبيم؟ ولا ننسَ أنّ الكروبيم، هما تمثالان، فوقهما كانوا يظنّون أنّ الله يقيم. فالله لا صورة له ولا تمثال، الله الذي لا يُرى. هو هنا فوق الكروبيم، ويعتبر الملك أنّ الله يجلس هنا فوق العرش، وهكذا يودّ هذا الملك، هذا المؤمن، أن يأتي ويجلس تحت هذا العرش، تحت أجنحة الكروبيم كما يجلس الصوص، الطير الصغير، تحت جناحي أمّه لكي تحميه من البرد ومن الأعداء ومن الصعوبات، بل وحتّى من الحرب.

2 - الحماية بالربّ

هذا المؤمن، هذا الملك جاء إلى الربّ ليحتمي تحت جناحيه. وخصوصًا هذا الملك لا يأتي لكي يطلب حقّ اللجوء خوفًا على حياته، ربّما يكون ذلك، ولكن هذه العاطفة فيها الكثير من المنفعة، خاف فأتى إلى الربّ كما الولد يخاف فيختبئ في ثوب أمّه. لا بأس بهذه العاطفة، ولكنّها تبقى ناقصة. ليس الخوف من أن نغيظ الله، ليس الخوف الذي هو بداية المحبّة، بل هو الخوف من الخطر. لولا الخطر لما كنّا نخاف ونلتجئ إلى الربّ. مثل هذه العاطفة تبقى ناقصة، وإن استعملت أكثر من مرّة، وإن استفاد منها المؤمن، وربّما الربّ لكي نحسّ أنّنا بدون الربّ لا نستطيع شيئًا، أنّ معونتنا بيده. هذا المؤمن قد يأتي لأنّه يخاف على حياته، يخاف من الموت، فكأنّي به إنسان يطلب من الله المال. أتراه يهتمّ لله أم للمال؟ يطلب من الربّ أرضًا. أتراه يهمّه الله أم الغنى والأراضي؟ لكن هذا المؤمن هو أعظم من كلّ ما تقدّم. هو يأتي لكي يلجأ إلى الربّ، لكي يحتمي لدى الربّ خوفًا على حياته.

هذا المؤمن، نستطيع أن نقول إنّ عنده قضيّة، فجاء يسلّم هذه القضيّة إلى الربّ. هو مثلاً مهدّد بالموت، هناك ألسنة سوء، هناك محاكمة، هناك ظلم، كلّها أمور صعبة. فيأتي المؤمن المرتّل لكي يسلّم قضيّته إلى الربّ. أنا لا أستطيع شيئًا والبشر ما استطاعوا أن يفعلوا لي شيئًا أو هم ما أرادوا إن هم استطاعوا. وأنا جئت يا ربّ أسلّم إليك قضيّتي. كلاّ هذا المؤمن ليس من هذا النوع من الطالبين، لا هو جاء يطلب اللجوء في ساعة الخطر ولا هو جاء لكي يسلّم إلى الربّ قضيّة تُتعب قلبه وتهدّد حياته.

3 - الاشتياق إلى الله

هذا المؤمن يرفعنا كثيرًا، يرفعُ عقولنا إلى فوق. ماذا جاء يفعل؟ هذا المؤمن جاء يعبّر عن اشتياقه إلى الحضور أمام الله. كما يشتاق الأيّل إلى مجاري المياه كذلك تشتاق نفسي إليك يا الله. اشتياق المرتّل هو اشتياق العطشان إلى نقطة ماء، هو اشتياق القريب من الموت إلى الحياة. هذا الشوق، هذه الرغبة. هو لا يستطيع أن يعيش بدون الله، هو لا يستطيع أن يعيش بعيدًا عن الله، مثل الولد تمضي أمّه فيبدأ بالصراخ. كيف يعيش وأمّه ليست بقربه؟ كيف يمشي في الليل ووالده ليس بقربه، لا يمسك بيده؟ هو وحيد، هو قريب من الشقاء، قريب من الموت.

هذا المرتّل يقول للربّ: أنا مشتاق، لا يمكنني أن أعيش بعيدًا عنك. وحين تذكر هذه الصورة الجميلة، حيث الربّ هو العريس وكلّ واحد منّا هو العروس لأنّ هناك علاقة حبّ وغرام، الربّ مغروم بنا، يحبّنا. كدت أقول بطريقة بشريّة »يموت فينا« وهنيئًا لهذا المرتّل وهنيئًا لكلّ واحد منّا إذا أحبّ الله هذه المحبّة، إذا انغرم به، إذا مات في حبّه. هنيئًا له هذا الاشتياق الذي يمكن أن يقود إلى الموت. وهنا نفهم الشهداء الذين ما خافوا الموت: هم مشتاقون أن يكونوا قرب الربّ في الأبديّة، لأنّ القيام بقرب الربّ على الأرض هو في خطر، لا من قبل الربّ الذي هو أمين دائمًا، بل من قبلنا، من ضعفنا، من خطيئتنا، من محاولات ابتعادنا عن الله من سقوطنا في التجربة، من تعلّقنا بأمور الأرض بحيث ننسى أمور السماء، من تعبُّدنا للمال على حساب تعبّدنا للربّ وحده.

عندما يقول الحبيب لحبيبته: أنا أعبدك. هي عاطفة لدى هذا المرتّل: أنا أعبدك. أحبّك من أجل الحبّ، حتّى ولو أنا أكون كما يقول نشيد الأناشيد خاتمًا في يدك، تنزعه ساعة تشاء وتضعه ساعة تشاء. هذا المرتّل يعبّر عن اشتياقه العميق، اشتياق الطفل إلى حضن أمّه، اشتياق العروس إلى عريسها والعريس إلى عروسه. هذا المؤمن يعبّر عن اشتياقه إلى الحضور أمام الله، كيف نبعد الطفل عن أمّه؟ عذابه لا يطاق. كيف نبعد العروس عن عريسها والحبيب عن حبيبته؟ هو أقصى ما يمكن أن نفعل لإنسان من تعب، من ألم، من عذاب. هذا المؤمن هو مشتاق لحضوره أمام الله. وهذا الحضور يبدّل حياته، يجدّد حياته. فالربّ لا يحضر في حياتنا إلاّ لكي يخلقنا من جديد: وحين يأتي إليه هذا الملك.

هذا المرتّل لا يمكن أن يعود فارغًا. أتى إلى الربّ والربّ ملأ يديه ببركاته. عندئذٍ يستطيع أن يعود إلى شعبه، لا يعود فارغ اليدين لأنّنا مهما أعطينا تبقى عطايانا قصيرة المدى. إذا كنّا نحن كالعشب الذي هو أخضر اليوم وغدًا يابس، إذا كنّا نحن كالزهرة التي ما تعتّم أن تذبل، فماذا تكون عطايانا البشريّة؟ هي تزول سريعًا، هي مثل فقاقيع الصابون، فيها بعض الألوان، فيها بعض الجمال السريع الذي يزول ويزول، دون أن يترك وراءه أثرًا.

4 - نحمل عطايا الربّ

أمّا إذا كانت عطايانا من عطايا الربّ، إذا كانت البركة التي نحملها هي امتداد لبركة الربّ، عندئذٍ نستطيع أن نقول حقٌّا، حقٌّا أعطينا شيئًا، أعطيناه وهو يدوم. حين يعطي الوالدان الحياة لأولادهما، هذه الحياة تدوم لأنّها من عند الربّ، كما قالت حوّاء وهي صورة عن كلّ امرأة: رُزقت ولدًا من عند الربّ. ونحن نعطي الإنسانَ محبّتنا، عطفنا، حناننا، فإذا كان نابعًا من قلب الربّ، فلا يمكن إلاّ أن يدوم.

نحن في النهاية نحمل إلى الذين حولنا بركة الربّ، محبّة الربّ، حنان الربّ، نأخذ من هذا الينبوع الذي لا ينضب، ونحمله إلى الآخرين. نعم اشتاقَ هذا الملكُ لأن يعيش في حضرة الربّ، لأن يأخذ منه البركة ولا يبقيها لنفسه، بل يحملها إلى الآخرين.

صلاة خاصّة ربّما قالها أحد المؤمنين، ربّما قالها أحد الملوك الأتقياء، مثل داود الذي كان بحسب قلب الربّ، مثل حزقيّا الملك الذي أراد أن يقوم بإصلاح لم يصل به إلى النهاية، مثل يوشيّا الذي قام بإصلاح لشعبه فعيّدوا عيد الفصح وكأنّهم يعيّدونه للمرّة الأولى، بعد أن صار مشروع الطقوس لا حياة فيه ولا فرح ولا أيّ شيء، ممّا يفهمنا أنّنا أبناء الله وأنّنا نعيّد مع الله، والله يعيّد معنا.

هذه الصلاة لم تبقَ فقط صلاة مؤمن من المؤمنين، لم تبقَ صلاة ملك من الملوك. صارت صلاة الشعب، لهذا أخذها كبيرُ المغنّين وجعلها بين مزامير داود. وهذا لا يعني أنّ داود هو الذي كتبها، هو الذي قالها، هو الذي بدأ بها. بل ارتبط كلّ مزمور بشخص داود الذي كان أوّل من أخذ القيثارة وأنشد: ارحمني يا الله كعظيم رحمتك. كبير المغنّين، إمام الغناء، هو هنا رئيس الجوقة. أخذ آلته الموسيقيّة، أخذ القيثارة، وبدأ يعزف عليها وهو يدعو كلّ واحد منّا لأن يشاركه في الصلاة، لكي يشاركه في النشيد. لا، صلوات المزامير ليست فقط صلاة فرديّة، وإن كنّا نحتاج أن نردّدها في ساعات خاصّة من حياتنا، إن لم يكن في كلّ دقيقة من دقائق حياتنا.

5 - المزامير صلاة الجماعة

ولكنّ هذه المزامير هي صلاة الجميع، صلاة الجماعة، وخصوصًا هذه الجماعة التي كانت عائشة بعيدة عن الهيكل، ولا سيّما بعد المنفى، حين تشتّت المؤمنون. فاللاويّون والكهنة ابتعدوا آلاف الكيلومترات عن الهيكل. لا شكّ، كانوا ينظرون إلى الهيكل من بعيد. يفهمون في أنّه في هذه الجهة أو تلك. ويحسّون مع أنّهم مشتّتون أنّهم جماعة واحدة. ومع أنّهم بعيدون هم قريبون، لأنّ قلبهم هو في الهيكل، لأنّ إرادتهم، شعورهم، وعواطفهم هي في الهيكل. هذا الملك الذي كان في البعيد ربّما يكون يواكيم الذي ذهب إلى المنفى سنة 597 قبل المسيح، هو ينشد هذا المزمور بعد أن ابتعد عن ملكه، ابتعد عن شعبه. وقد يكون صلاَّه باسم جميع الذين تشتّتوا حين دُمّرت أورشليم، تشتّتوا، صاروا بعيدين عن الهيكل فشابهوا طوبيت وابنه طوبيّا اللذين أحسّا بهذا الألم في بعدهما عن الهيكل وحاولا أن يعوّضا عن هذا الابتعاد بأعمال الرحمة، بإطعام الجياع، بمساعدة المرضى، بدفن الموتى إلى آخره.

هذه الصلاة لم تعد فقط صلاة مؤمن من المؤمنين وملك من الملوك، صارت صلاة جماعة، الجماعة كلّها التي هي موجودة في البعيد، التي هي مشتّتة، التي هي بعيدة عن الهيكل. وتتمنّى: متى آتي وأحضر أمام الله؟ وستصبح صلاة اللاويّين، هؤلاء الذين تعوّدوا أن ينشدوا، تعوّدوا أن يعزفوا على الآلات الموسيقيّة، وهم الذين كانوا مع المؤمنين المشتّتين بعيدًا عن الهيكل.

6 - في حضرة الربّ

هم يبتغون البقاء في الهيكل، ورؤية وجه الله كلّ يوم وكلّ ساعة، لهذا كانوا ينشدون من البعيد ليحسّوا أنّهم قريبون. وهنا نفهم كلام الربّ يسوع: صلّوا ولا تملّوا. يعني كونوا دومًا في حضرة الربّ. هذا ما تمنّاه هؤلاء المؤمنون ولا سيّما اللاويّين منهم.

صلّوا ولا تملّوا. عيشوا حياتكم كلّها تحت نظر الله. هو ينظر إليكم فما عليكم إلاّ أن ترفعوا عيونكم وتنظروا إليه. فانظروا إلى قلبه، إلى محبّته، إلى حنانه. ونظرتُنا وصلاتُنا وطلبُ حضور الله في حياتنا لن يكون فقط كلامًا، لن يكون فقط أقوالاً. فالكلام إن لم يصدر من القلب يبقى كلامًا، والأقوال إن لم تصدر من عمق العاطفة من عمق الإنسان، تبقى أقوالاً وحسب، لكنّ حياتنا كلّها تصبح صلاة وحضورًا للربّ.

وهنا يقول لنا بولس الرسول: صلاتنا ليس فقط نطلب بها حضور الربّ، بل أعمالنا كلّها. إن أكلتم أو شربتم أو مهما عملتم، فليكن هذا لمجد الله يعني نعمل كلّ عمل من أعمالنا ونحن عائشون في حضرة الربّ، ونحن نحسّ بحماية الربّ، ونحن نحسّ بحنان الربّ، إن أكلتم أو شربتم أو مهما عملتم، فأنتم في حضرة الربّ، عندئذٍ لن يكون الله بعيدًا عنّا. في الماضي كانوا يحصرون هذا الحضور في الهيكل، أمّا مع يسوع المسيح الذي هو الهيكل الجديد الحاضر في الكون كلّه، فحيثما نجتمع، وحيثما تجتمع الجماعة المصلّية، فالله هو بينها: إذا اجتمع اثنان أو ثلاثة فأنا أكون بينهم.

نعم يا ربّ، أنت بيننا. نطلب حضورك، نشتاق إليك اشتياق العروس إلى عريسها والولد إلى أمّه. فاملأ قلوبنا اشتياقًا فوق اشتياق ومحبّةً فوق محبّة. آمين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM