بين المرض والشر في حياتنا مزمور:51

بين المرض والشر في حياتنا

مزمور:51

أحبّائي، نواصل قراءتنا للمزامير ونتعلّم أن لا نسرع في القراءة، بل نتوقّف عند كلّ كلمة من كلمات الله. لا شكّ يقولون هي كلمات بشر: نعم البشر صلّوها، ردّدوها، وحدهم أو في جماعة. وربّما وقفوا وراء اللاويّ، وراء الكاهن: هو يقول وهم يردّدون وراءه. ويجعل كلّ واحد منهم قلبه، نفسه، حياته في ما يقول من صلاة. وهذا هو الواقع بالنسبة للمزامير.

1 - مرض يصل إلى الموت

كم يليق بنا، كم ننتفع عندما نتوقّف عند أمور بسيطة، صغيرة، نقرأها بسرعة ولكن عندما نعود ونتمعّن بها، نكتشف معنًى لم نكن اكتشفناه قبل ذلك الوقت. إذًا، مثلاً قرأنا آية 10 من المزمور 51:

»أسْمِعني سرورًا وفرحًا فتبتهج عظامي التي سَحَقْتَها«

ما معنى هذا الكلام: هناك إنسان مريض والمرض في الماضي ليس الزكام البسيط. المرض في الماضي هو مرض خطير وقد يصل بنا إلى الموت.

يقول الكاتب »اسمعني سرورًا وفرحًا فتبتهج عظامي التي سحقتها«.

نتخيّل أحد المرضى، مثلاً القدّيسة رفقا، وعظامها - وهي التي كان على ما يبدو فيها سرطان العظم - هذه العظام التي تُسحق، ولا ننسَ أنّ المرض يأتي من الربّ كما الصحّة من الربّ: هي طريقة بها نتكلّم لندلّ على أنّ حياتنا هي في يد الله. في النجاح والفشل، حياتنا في يد الله. في الصحّة والمرض، حياتنا هي في يد الله. وهو يحوّل الألم فينا، المرض، الحزن، يحوّل كلّ هذا، يعطيه وجهًا جديدًا.

الربّ سحق صفيّه، سحق هذا التقيّ الآتي لكي يطلب الغفران. وهذا مهمّ جدٌّا. لماذا يأتي ليطلب الغفران؟ - يأتي لأنّهم كانوا يعتبرون المرض إنذارًا من الربّ، تنبيهًا من الربّ للمؤمن. ربّما أراد المؤمن أن يُخفي خطيئته. أراد ألاّ يقرّ بها.

في أيّ حال، إذا رجعنا إلى داود النبيّ، نفهم أنّه اعتبر خطيئته مستورة وبالتالي مغفورة، لا يجسر أحد أن يعاتبه، أن يلومه أو يوبّخه. ولكنّ هذا المرض الذي أصاب داود أو غيره، جعله ينتبه إلى أنّ وراء هذا المرض الجسديّ، هناك مرض آخر أكثر شرٌّا، أكثر سوءًا، هناك الخطيئة.

إذًا، أحسّ هذا المرتّل بالمرض، فدفعه هذا الإحساس إلى التوبة. من هنا طلب التجديد، يقول هنا في آية 12: »قلبًا طاهرًا اخلق فيّ يا الله«. إذًا، أنا محتاج إلى غفران خطاياي. »وروحًا جديدًا كوِّن في داخلي« يعني الربّ لا يردّ المريض كما كان من قبل، الربّ لا يردّ الخاطئ كما كان من قبل، بل يجعله إنسانًا جديدًا، يجعله مؤمنًا جديدًا، يخلقه من جديد.

وهكذا فهمنا أنّ المرض كان المناسبة لكي يذكّر المؤمن أنّه خاطئ. ويجب أن يعود إلى الربّ. يا ليتنا في كلّ مرّة نحسّ بهزّة في حياتنا، على أيّ مستوى كان: على مستوى عملنا، تجارتنا، صحّتنا، دروسنا وانطلاقتنا، نعود إلى الربّ لنكتشف فيه، في كلامه، هذا التحذير، هذا التنبيه. ففي النهاية، وهنا نتذكّر مار بولس، هذا الشخص يُطرد من الجماعة، يُسلّم إلى »الشيطان« يعني إلى المرض، إلى الشرّ، لكي يعود. إذا أردنا أن نقسم بين الجسد والنفس نقول: يتألّم جسده لكي تنجو روحه.

2 - الجسد والروح

والجسد هو ارتباطنا في الأرض، أمّا الروح فارتباطنا في السماء. وفي أيّ حال: أنا جسدي وأنا روحي؛ وأنا لا أفصل بين الاثنين. ولكن هنا، هذا التنبّه على مستوى الإحساس الداخليّ يقودنا إلى تنبّه آخر على الإحساس العقليّ، على الإحساس الإيمانيّ.

ونعود، أحبّائي، إلى الآية 16 في المزمور 51:

»نجّني من الدماء يا الله أيّها الإله مخلّصي«

تحدّثنا في مرّة سابقة عن خوف داود، الذي سفك الدماء، عن خوفه من الانتقام: أن يُسفَك دمه وتتواصل أعمال الانتقام بين قبيلتين بحيث تفنيان معًا.

وهناك معنًى ثانٍ يرتبط بالذبيحة التي تحدّثنا عنها في المرّة السابقة: »نجّني من الدماء«: لا أريد بعد أن أقدّم ذبيحة على مذبحك. لماذا سفك الدماء، والدماء فيها الحياة؟ فكأنّي بالمرتّل يعود إلى سفر التكوين (فصل 1: 26 - 28) حيث لا يأكل الإنسان إلاّ النبات: كان يُمنع سفك الدماء، دماء الذبائح. وسوف ننتظر بعد الطوفان، مع نوح، الوقت الذي فيه يُسمح بسفك الدماء. يقول له: يمكن أن تأكل الحيوان، لكن لا تأكل لحمًا بدمه. بدون شكّ نحن تعدّينا هذه الأمور مع يسوع المسيح، فصارت الخليقة كلّها في خدمة الخالق. ولكن ما يطلبه المرتّل، لا نريد بعد أن نسفك ذبائح دمويّة. لماذا؟ لأنّنا مرّات عديدة استندنا إلى هذه الدماء، ولم نفعل شيئًا بعد ذلك.

لا شكّ، الذبيحة، وكلّ فعل من أفعال العبادة يريده الله، يرضى عنه. ولكن إن توقّفنا عند هذا المستوى الخارجيّ فالربّ لا يرضى عنّا.

لا أريد بعد ذبائح دمويّة. شخص مثل طوبيّا أو طوبيت: طوبيت الأب وطوبيا الابن: كان طوبيت في نينوى، في المنفى، بعيدًا عن أرض الربّ، بعيدًا عن أورشليم وعن هيكلها. فكيف يستطيع أن يقدّم ذبيحة ينال بها غفران الخطايا؟ عرف أنّ الصدقة تنجّي من الخطيئة، فما كان يأكل يومًا وحده. كان يرسل ابنه: امضِ، هل تجد أحدًا على الطريق، لا مأكل له، ادْعُه وليأكل معنا.

كيف نستعيض عن الذبائح التي صارت بعيدة عن طوبيت، في نينوى في شمال العراق؟ - بسيط جدٌّا: الأعمال الصالحة: يطعم الجياع، يسقي العطاش، يزور المرضى، يدفن الموتى، كلّ هذه، أعمال الرحمة، حلّت محلّ الذبائح في هيكل أورشليم ولاسيّما أن لا مكان غيره يمكن أن تذبح ذبائح أو تقدّم تقادم.

3 - القلب الخاضع محلّ الذبيحة

حلّ محلّ الذبيحة، الروح المنسحق، الروح المنكسر، القلب الخاضع والمتواضع. واكتشف كيف تكون الذبيحة.

يمكن أن أعطي ذبيحة تحرق على المذبح، فأدلّ على تجرّدي من كلّ شيء، كرامة للربّ، وهذا لا بأس به. ويمكن أن أقدّم ذبيحة أشرك فيها الأهل والأقارب واليتيم، وفيها مع الإكرام لله، الانتباه إلى القريب، ولاسيّما على مستوى المحبّة الأخويّة والمحبّة العائليّة، بل أبعد من ذلك على مستوى العطاء؛ كما يقول الإنجيل: إن دعوت من يدعوك فلا أجر لك: تدعوه وتنتظر أن يدعوك. لكن إن دعَوت من لا يقدر أن يدعوك عندها يكون ذاك المدعوّ هو المسيح نفسه، هو الله

أما هكذا استقبل ابراهيم الرجال الثلاثة، كما يخبرنا سفر التكوين فصل - 18 -الله استقبلهم بإجلال وإكرام، وكان له ذاك اللقاء مع الربّ الذي أدخله في سرّه وأفهمه إلى أين تصل الخطيئة بالبشر: توصلهم إلى ما وصلت إليه سدوم وعمورة، بعد أن مارستا ما مارستا من زنًى.

»نجّني من الدماء يا الله أيّها الإله مخلّصي«:

في ذبيحة السلامة، أشارك في ذبيحتي، أعطي بعضًا من عندي. ولكن نبقى بعيدين عن إنجيل القدّيس لوقا: لأنّ الذي دعوتُه اليوم من الأهل والأقارب، قد يدعوني في وقت آخر. أمّا عندما أحسن إلى شخص آخر، أقدّم له صدقة، من الأكيد أنّه لا يستطيع أن يردّ إليّ المال بالمال، وهكذا يكون عطائي مجرّدًا كلّ التجريد على ما يقول الإنجيل: كلّ ما فعلتموه مع أحد إخوتي هؤلاء الصغار، فمعي فعلتموه. لا حاجة بعد إلى ذبائح دمويّة، فأعمال الرحمة تساعد، أعمال المحبّة تحلّ محلّ هذه الذبائح. الذبيحة لله: علّمنا هذا المزمور:

»ذبيحتي لك يا اللهلله روح منكسرَة

والقلب المنسحق المنكسر لا تحتقره يا الله«.

نعم، يا ربّ، من مثل هذه الذبائح نجّني. وأنا اليوم في العهد الجديد، في قلب الكنيسة، في ما أقدّم من صلوات ونذور وعبادات وزيارات روحيّة، تشبه إلى حدّ بعيد هذه الدماء التي رفض المؤمن أن يقدّمها. أريد يا ربّ أن أعود إلى ذاتي. أطلب الرحمة منك، لأنّني لم أكن صادقًا معك. لم أقدّم الذبيحة الصادقة. كنت كاذبًا. جعلتُ شفتيّ، كلامي عندك، لكنّ قلبي كان بعيدًا عنك. كما قال أشعيا النبيّ: »هذا الشعب، يكرّمني بشفتيه، وأمّا قلبه فبعيد عنّي، هم باطلاً يعبدونني«.

4 - صلاة القلب وصلاة الشفة

أما هذا هو وضعي، يا ربّ؟ مرّات عديدة أصلّي لك بالشفة دون القلب. أردّد الكلمات، وهذه الكلمات لا تمرّ في حياتي. كمياه تمرّ في أنبوب ولا تسمح لي أن أشرب وأنا العطشان »كالأيّل في الصحراء«.

هي عبادات، ممارسات خَسِرت الحياة فيها. صارت كأنّها حيوان يُذبح أو بعض الحنطة يُقدّم.

نجّني يا ربّ من مثل هذه الدماء، من مثل هذه العبادات.

إن صلّيتُ، تكون صلاة القلب. إن شاركتُ في القدّاس، تكون مشاركة القلب. إن شاركت في تطواف، في زيّاح، في زيارة، في حجّ يكون الهدف الأوّل، لا الحشريّة والفضول، بل العودة إلى الذات، العودة إلى اله، والمسيرة مع الذين يسيرون إليك يا الله، كما يقول المزمور:

»دخلت بيتك يا الله وإلى مذبحك اقتربت«

ها أنا أتٍ إلى بيت الله، أرافق الناس، أدخل في قلوبهم، أحمل خطيئتي وخطيئتهم معي، عندئذٍ تصبح الذبيحة حقٌّا الروح المنكسر، والقلب المنكسر. »نجِّني من الدماء يا الله« نجِّني من ذبائح لا تبدّل شيئًا منّي.

وفي النهاية يطلب المرتّل في آية - 20 -:

»أحسن برضاك إلى صهيون واٌّبنِ أسوار أورشليم«

صهيون، هناك كان الهيكل، وأورشليم هي المدينة المقدّسة بأسوارها الثلاثة. لماذا دُمّرت أورشليم؟ لماذا أُحرق الهيكل؟ - بسبب خطيئة الشعب. والآن بعد أن عاد الشعب إلى الله، لماذا لا يرضى الله عن شعبه؟ لماذا لا يرضى الله عن مدينته وعن هيكله؟ - في الواقع، توبة الإنسان هي رمز بعيد عن توبة الجماعة. وعودة المؤمن إلى الله رمزٌ بعيد عن عودة الكنيسة إلى ربّها.

سيعود المنفيّون وسيبنون أورشليم وسيبقون فيها إلى أن تُهدَم مرّة ثانية. أمّا المهمّ، لا صهيون هذه ولا الهيكل: فهذا الهيكل تعدّاه الزمان ولم يعد لنا من هيكل إلاّ جسد المسيح؛ لا ذاك الذي ندخل فيه وحسب، بل ذاك الذي يدخل فينا. ولم تعد أورشليم تلك التي بُنيَت المرّة بعد المرّة، وهُدمت، ثمّ أعيد بناؤها على أيّام الفاتحين الذين توالوا على السيادة عليها، لا. أورشليم التي نتطلّع إليها نحن هي أورشليم السماويّة، هي أرض السلام، السلام الحقيقيّ الذي يقدّمه لنا الربّ، وخصوصًا في زمن الفصح المجيد: حيث لا يدخل مرّة على الرسل، إلاّ ويقول لهم: »السلام لكم، السلام معكم«.

أورشليم التي هي اليوم أرض الدماء، أرض الحرب، أرض القتل، أرض الظلم، أرض انتهاك الحرّيّات، ليست تلك الأورشليم التي يتوق إليها المؤمن، ولا تلك التي نتوق إليها نحن اليوم، نحن المسيحيّين حين نزورها أو نفكّر فيها من بعيد، أورشليم الحقيقيّة هي موطن الله. هناك كان الفداء، هناك كان الصليب، هناك كانت القيامة ومن هناك انطلقت بشارة الخلاص. قال لهم يسوع: »تكونون لي شهودًا في أورشليم واليهوديّة والسامرة وإلى أقصى الأرض«.

عودة هؤلاء اليهود الذين كانوا في المنفى، كانت عودة ناقصة. متى تكون العودة تامّة؟ عندما لا نعود إلى مدينة مبنيّة من حجر بل إلى مدينة مبنيّة بحجارة حيّة، بمؤمنين اعتمدوا في موت الربّ وقيامته، بمؤمنين صارت أعمالهم الصالحة نورًا يضيء على العالم. إلى مِثل أورشليم هذه ننطلق، ونحن عارفون أنّ الربّ حمل إلينا الخلاص. فلا نعود ننتظر أورشليم أخرى ومسيحًا آخر. فمسيحنا هو هو، اليوم وأمس وإلى الأبد. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM