عيد العيلة

عيد العيلة

الرسالة: كو 3: 18- 4: 1

الإنجيل: لو 2: 41-52

خضوع ومحبّة وطاعة

يا إخوتي، أيّتها النساء اخضعن لأزواجكنّ كما يليق في الربّ. أيّها الرجال أحبّوا نساءكم ولا تكونوا قساة عليهنّ. أيّها البنون، أطيعوا والديكم في كلّ شيء لأنّ هذا يرضي الربّ. أيّها الآباء، لا تغيظوا أبناءكم لئلاّ ييأسوا.

أيّها العبيد، أطيعوا في كلّ شيء سادتكم في هذه الدنيا، لا بخدمة العين كمن يرضي الناس، بل بنقاوة القلب ومخافة الربّ. ومهما تعملوا فاعملوه من كلّ قلوبكم كأنّه للربّ لا للناس، عالمين أنّ الربّ سيكافئكم بميراثه، فأنتم تخدمون الربّ المسيح. أمّا الذي يعمل الشرّ فسينال جزاء عمله، ولا محاباة.

أيّها السادة عاملوا عبيدكم بالعدل والمساواة عالمين أنّ لكم أنتم أيضًا سيّدًا في السماء.

للعيلة وجهان، بل ثلاثة وجوه في أيّامنا. الوجه التقليديّ القديم جدًّا، حيث الجدّ هو ربّ العيلة. والأبناء وإن تزوّجوا يبقون تحت كنفه مع عيالهم، بحيث إنّ كثيرين توفّوا وما قسموا أرزاقهم بين أولادهم. فالجميع عيلة واحدة، وابن أخ كأنّه ابن الأخ الثاني. هي العيلة الواسعة التي كادت أن تزول إلاّ من القرى. والوجه الثاني يرينا الأب والأمّ والأولاد. هناك أسر يكثر فيها الأولاد. وأسر لا يتجاوز فيها الأولاد الاثنين أو الثلاثة. وقد يكونون أربعًا أو خمسة في أبعد تقدير. هي العيلة المسيحيّة العاديّة، سواء في الشرق أو في الغرب. نستطيع أن نسمّي هذه العيلة "السلام على الأرض" حين يكون فيها الوفاق في كلّ شيء. والتكامل بين الرجل والمرأة، والحياة المشتركة مع الأولاد الذين ينمون النموّ الذي يجعلهم في المستقبل رجالاً ونساء يُفرحون قلب والديهم.

والوجهة الثالثة بدأت تتفشّى في شرقنا، وبين المسيحيّين بشكل كبير. هي عيلة مفسّخة. ما عاد الشابّ يؤمن بالنظام العائليّ الذي رتّبته الكنيسة منذ صار لها وجود في المجتمع. منعت الطلاق. وتعدّدت الزوجات. وكرّست حبّ الرجل لامرأته والمرأة لزوجها، وطلب الإنجيل أن يمتنع الواحد عن النظر إلى امرأة غيره (أو المرأة إلى رجل غيرها) لئلاّ يقع في زنى، تفكّكت العيل. يعيش الرجل هنا والمرأة هناك. والأولاد مشلّعون وكلّ واحد يريدهم له وكأنّهم سلعة اشتراها ويريد أن يحافظ عليها، نكاية بالآخر، أو عن أنانيّة. هذا عدا الذين لا يريدون الزواج. وهناك نموذج جديد: يتزوّجان زواجًا مدنيًّا، ويعيش كلّ واحد على حدة. يتشاركون في المصروف والأمور الخارجيّة، ولكن يبقى كلّ واحد طليقًا. غاب الحبّ. وانغرس كلّ واحد في أنانيّته. ونتساءل بعد ذلك: لماذا الضياع؟ لماذا اليأس والشبّان والشابّات الذين ينهون حياتهم بالانتحار؟ فالإنسان لا يستطيع وحده أن يكون سعيدًا. سعادته التي هي كيف وبسطٌ هي في الواقع مرارة. يئس بعض الوقع نفسه. وحين يزول فعلُ التحذير، تزداد مرارته مراة وبؤسه بؤسًا.

من أجل هذا، تأسّس عيد العيلة الذي لا نحتفل به فقط يومًا في السنة، بل يجب أن نحتفل به في كلّ يوم، بل في كلّ ساعة. إذا كانت العيلة هي الموقد الذي نجد قربه الدفء في أيّام البرد والصقيع، فلماذا ندمّرها. نحسّ بالحاجة إليها، ولكنّنا لن نجدها في ذلك الوقت بعد أن دمّرناها. لحمتها المحبّة. نارها حبّ متبادل وتضحية. فإن غاب كلّ هذا، غابت الحياة وسيطر علينا الموت، فما نفع وجودنا بعد ذلك.

ونحن نقرأ اليوم ما يقوله الرسول حول ثلاث فضائل يجب أن تكون في العيلة لكي تثبت العيلة ولا تتفكّك، لا نقف عند الأسلوب الأدبيّ الذي يوزّع ثلاثة أفعال على ثلاث فئات: الطاعة للأولاد، الخضوع للمرأة، الحبّ للرجل. كلاّ. فكلّ واحد، الرجل والمرأة والولد، يطيع، يخضع، يحبّ. وإن وُجدت هذه الفضائل عند كلّ منهم، نستطيع أن نتكلّم عن عيلة تكون كنيسة مصغّرة، في قلب الرعيّة التي تجمع العيال المختلفة حول الآب السماويّ.

1- الخضوع

الخضوع كلمة ثمينة جدًّا. تعني أوّلاً التواضع. فالمتكبّر لا يعرف الخضوع حتّى لله. تلك هي الخطيئة التي هي نموذج كلّ الخطايا. فالإنسان، كلّ إنسان (أي آدم المأخوذ من التراب وكلّ إنسان هو آدم يريد أن يكون الله، يعرف ما هو خير وما هو شرّ) لا يريد أن يتعلّم لأنّه يعرف كلّ شيء. ولا يريد أن يسمع سوى صوت شهوته وميله إلى الأنانيّة والشرّ.

والخضوع استسلام للآخر. هذا يعني الثقة. نرضى أن ننقاد لرأي آخر. يكون الآخر قائدًا لنا. الرجل رأس المرأة. إذًا، المرأة تخضع لزوجها. والمرأة قلب الرجل. لهذا يخضع لها لأنّها تفهم بقلبها أكثر ممّا يفهم الناس بعقولهم وتحليلاتهم. والرسول لا يحصر الخضوع في المرأة، بل يجعله وصيّة للاثنين. لهذا قال في المقطع الرائع الذي يشبّه علاقة الرجل بالمرأة، مع علاقة المسيح بالكنيسة: "إخضعوا بعضكم لبعض في خوف الله" (أف 5: 21)، بل إنّ بطرس يطلب من الشيوخ أن يخضعوا للأحداث كما الأحداث يخضعون لهم: "أيّها الأحداث، إخضعوا للشيوخ، وكونوا خاضعين بعضكم لبعض وتسربلوا بالتواضع، لأنّ الله يقاوم المتكبّرين" (1 بط 5: 5).

الرجل يخضع، والمرأة تخضع، وهكذا تكون العيلة في سلام. فيسلّم الواحد أمره للآخر ولا يخاف، لا سيّما وأنّنا في خوف الله. في خشية الله. في خشوع وخفض صوت، كأنّنا في صلاة صامتة مع الربّ أو أمام الربّ.

2- الحبّ

ربط النصّ الخضوع بالمرأة. ولكن على الرجل أن يكون خاضعًا أيضًا. لم تعد المرأة عبدة الرجل وملبّية طلباته ومربّية أولاده، وكأنّهم ليسوا لها. في هذا الإطار، هم "قطيع" يستثمره الأب وحده. أمّا الأمّ فتنظر من بعيد. هذا يعني أنّ الحبّ غاب، وصار الرجل عدوّ المرأة والمرأة عدوّ الرجل، وذلك في إطار الخطيئة. ماذا فعلت يا آدم. هي المرأة. إشتكى عليها وطلب لها القصاص. وسيقول الكتاب بعد ذلك للمرأة بفم الله، وكأنّه يصف الوضع السائد في العهد القديم: "إلى رجلك يكون اشتياقك، وهو يسود عليك" (تك 3: 16). تقودك رغبة عريزيّة إلى الرجل. إلى قوّته في مجتمع بدائيّ لا يعرف سوى القوّة التي لا يختلف فيها الإنسان عن الحيوان. قيل: الرجل سقف البيت. فإن غاب الرجل، ما عاد من حماية للمرأة.

مع الحبّ يتبدّل كلّ شيء. الرجل يحبّ امرأته. والمرأة تحبّ زوجها. وتنطلق المحبّة من الوالدين إلى الأبناء، ومن الأبناء إلى الوالدين. هكذا تتأسّس العائلة في المسيح. لا على الحسب ولا على المال والعظمة، ولا على جمال الجسد وخفّة الدم وغيرها من الأمور الخارجيّة. كلّها تزول ولا يبقى سوى حبّ الله الذي يجمع الزوج بالزوجة والزوجة بالزوج. وحبّنا يكون على مثال حبّ الله. ننعم بالعطاء والتضحية. ننظر في إلى الآخر، كما قبل أن ننظر إلى نفوسنا. نهتمّ بحاجات الآخر قبل أن نهتمّ بحاجاتنا. ونقرأ رأي الآخر في عينيه وفي إشارة يده. أيّها الرجال أحبّوا نساءكم وتجاوبوا مع حبّهنّ لكم. وكذا يقول الرسول للنساء وللأولاد.

3- الطاعة

تلتقي الطاعة مع الخضوع. وحين يعرف الأولاد أنّ المسيح كان خاضعًا حتّى الموت والموت على الصليب، لن يعودوا يتساءلون: لماذا الطاعة؟ أنا شابّ ولا أحتاج أن أطيع بعدُ أحدًا، أنا حرّ. لا بمعنى: أريد أن أصقل شخصيّتي بحسب مواهب نلتها. بل أريد أن أعمل ما يروق لي. هكذا كان الابن الأصغر، الابن الشاطر. شطر ماله عن مال أخيه. شطر نفسه، فصلها عن البيت الوالديّ، ومضى. هكذا صار بعيدًا عن الطاعة. ولكن إلى أين وصلت به الأمور؟ إلى رفقة الخنازير. بل "كان يشتهي أن يملأ بطنه من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله، فلم يعطه أحد" (لو 15: 16).

وفهم في قلب شقائه ما هي الطاعة. رجع إلى نفسه. لا أستحقّ بعد أن أكون ابنًا. فالابن يطيع. هذا إذا اعتبر نفسه ابنًا شرعيًّا. ومن رفض الطاعة، من رفض التأديب، كان ابن زنى، لا ابنًا شرعيًّا. في هذا قالت الرسالة إلى العبرانيّين: "أطيعوا مدبّريكم واخضعوا لهم (وأطيعوهم) لأنّهم يسهرون لأجل نفوسكم، كأنّهم سوف يعطون حسابًا. لكي يفعلوا ذلك بفرح، لا بحسرة، لأنّ هذا غير نافع لكم" (عب 13: 17).

الطاعة ليست الخضوع والذلّ. ليست الانصياع وركوع العبد أمام سيّده. الطاعة ترتبط "بالخضوع"، أي ملء الإرادة، تلقاء النفس، بدون إكراه. لا شكّ في أنّ هناك من يطلب، من يأمر. وهناك من يطيع بصعوبة أو بسهولة، فيكون سلس القيادة أو صعبها. وهنيئًا له إن عرف أن يطاوع الآخر، يوافقه الرأي والنظرة من أجل عمل يكون في النهاية خير للجميع، ولا سيّما للذي يطيع.

هكذا تكون طاعة الأولاد لوالديهم. بل إنّ الوالدين يبادلون أولادهم الطاعة. يعملون معهم، لا بالإكراه والاستبداد والإخضاع المذل، ولا سيّما في مناخ من الغضب وحدّة الأعصاب، بل باللطف. وقد قال لهم الرسول: "أيّها الآباء، لا تغيظوا أبناءكم لئلاّ ييأسوا" (آ 20).

هكذا تكون العيلة التي نعيّدها اليوم. هي حاضرة منذ البدء، يوم ترك الرجل أباه وأمّه، والتصق، اتّحد بامرأته، فصار الاثنان جسدًا واحدًا. ويوم نسي الشعب اليهوديّ هذا الأمر الإلهيّ المرتبط بخلق الإنسان، فأخذ الرجل يطلّق امرأته لأجل كلّ علّة، حتّى ولو حرقت له الحساء، أعاد يسوع ما قيل في الابتداء (مت 19: 4). عيلة جمعها الله، فكيف يجسر الإنسان أن يفرّقها (آ 6). وهي تفترق حين تسيطر "قساوة القلوب" (آ 7) بحيث لم يعد للحبّ والحنان من موضع فيصبح البشر وحوشًا في غابة، لا جسدًا واحدًا يجمعه الله في المسيح "الذي يجمع في شخصه كلّ ما في السماء وما على الأرض" (أف 1: 10).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM