الفصل الخامس: تعليم رسولي من أجل عصرنا

الفصل الخامس
تعليم رسولي من أجل عصرنا
1: 17- 21

نحن هنا في فقاهة أولى وتعليم يتوجّه إلينا. لهذا نبدأ فنقدّم هذه الرسالة في مجملها قبل أن نفسّر هذه المقطوعة آية آية.

1- السمات العامة في يع
إن رسالة يعقوب، رغم عنوانها، لا تملك الأسلوب الرسائلي. هي بالأحرى فقاهة، فتبدو وكأنها تتوجّه إلينا اليوم.
أ- هي فقاهة
لا نجد فيها توسّعات تتتابع بحسب ترتيب منطقيّ، بل سلسلة من التوجيهات العمليّة حيث تكثر العبارات التي ترد بشكل أقوال مأثورة تشبه ما في سفر الأمثال أو يشوع بن ميراخ. وهذه الأقوال تذكّرنا بما في أم. مثلا، 1: 19؛ رج أم 11: 12؛ 29: 20؛ يع 3: 2؛ رج أم 10: 19؛ 12: 3؛ يع 3: 6؛ رج أم 16: 27؛ يع 3: 10؛ رج أم 18: 21.
بالاضافة إلى ذلك، تبدو هذه الفقاهة إرشادية. ونستطيع أن نميّز فيها بشكل خاص موضوعين. الأول يتحدّد موضعه في منظار الفقر الانجيلي وخطر الغنى كما في الموعظة على الجبل (1 مت 5: 3- 11؛ يع 1: 9- 11؛ 1: 27- 2: 9؛ 4: 13- 5: 6). هنا نشير إلى أن يع تتضمّن 108 آيات، ونستطيع أن نجد تعاليم يسوع في 46 منها. وفي 22 حالة نحن قريبون من العظة على الجبل. أما الموضوع الثاني فهو يشدّد على ضرورة إيمان يتفتّح في الأعمال (1: 22- 27؛ 2: 10- 26).
في هذا المجال، يتّخذ الكاتب موقفاً مباشراً وواضحاً (2: 14- 26). هل نحن تجاه جدال ضد تعليم بولس أو أقلّه ضد بعض النتائج التي استخلصها الناس من تعليم رسول الأمم؟ ليس من الضروري أن يكون الأمر كذلك، وإن نكن أمام تعارض بين موقف يعقوب وبولس، وإن عاد يعقوب إلى مثال ابراهيم بطريقة تختلف عن عودة بولس إلى المثل نفسه (2: 14- 25؛ رج روم 3: 20- 31؛ غل 2: 16؛ 3: 2، 11؛ فل 3: 9). فمسألة العلاقات بين الايمان والأعمال لا بدّ من طرحها في محيط مسيحيّ متهوّد. وقد يكون بولس ويعقوب طرحاها في الكرازة والفقاهة. لا يتّفق موقف الواحد مع موقف الآخر، ولكنهما يتكاملان.
ب- فقاهة من الكنيسة الأولى
إن رسالة يعقوب هي من أقدم أسفار العهد الجديد (أقلّه في صيغتها الأولى). توجّهت إلى جماعات مسيحيّة تكوّنت في شمال الجليل وخارج حدود فلسطين. وقد تكوّنت هذه الجماعات من يهود مرتدّين في زمن كانت الكنيسة في مجملها متهوّدة ولم يكن سيطر بعد عليها العنصر الهليني. وما كان بولس قد باشر بعد رحلاته الرسولية الكبرى. لا نجد في يع أثراً لجدالات ولا لمسائل أثارها ارتداد الأمم الوثنيّة إلى الايمان، وهذا ما يهدّد التواصل بين العالم اليهوديّ الرسميّ والايمان بالمسيح.
وإذ تركّزت هذه الرسالة على القيم الأخلاقيّة، لم تهتمّ إطلاقاً بالاخطار التي تحملها الوثنيّة إلى المرتدّين الجدد. لا نجد ما يشبه اهتمامات بولس الذي لا يني يحذّر المؤمنين من عودة واعية أو لا واعية إلى الوثنيّة. فإذا كان قرّاء يع قد نجوا من كل عدوى وثنيّة، فنحن نفهم هذا الموقف بارتباطهم الوثيق بالعالم اليهوديّ.
ويدلّ التعليم في يع على أن الرسالة قديمة في الكنيسة الأولى. فهي تشبه الأناجيل الإزائية في أساسها الأقدم، فتحدّد موقعها في إطار العهد القديم وفي تواصل معه حتى في التعبير عن جديد التعليم المسيحيّ. فالوحدانيّة اليهوديّة هي أساس هذا التعليم (2: 19)، والوصايا العشر هي الشرعة الأساسيّة التي يعرفها الجميع (2: 8). فإن أراد الكاتب أن يُفهم المسيحيين أن الايمان بدون أعمال عقيم (2: 20- 25)، أو أن يحرّضهم على الصبر في المحن (5: 10- 12)، فهو يلجأ فقط إلى أمثلة مأخوذة من العهد القديم. أما بولس الذي تطرّق إلى المواضيع عينها ولجأ إلى ذات الأمثلة، فقد جعل نفسه في منظار آخر (غل 3: 1 ي؛ 5: 6؛ روم 4: 1- 27؛ رج عب 12: 3). كانت عودته صريحة إلى المسيح، ونحن نفهم هذه العودة بالنظر إلى تنوّع القرّاء وإلى نموّ ظاهر على مستوى التعليم المسيحيّ.
هذا لا يعني أن المؤمنين الذين توجّه إليهم يعقوب جهلوا "إنجيل" المسيح، كما ظنّ بعض الشرّاح. فقد أعلن لهم هذا الانجيل في شكله الأقدم كما في عظة الجبل لا في شكله المتطوّر كما نجده اليوم في نص الأناجيل الإزائية أو إنجيل يوحنا.
وأخيراً، إن نحن وجدنا في يع عناصر كرستولوجيّة (1: 1؛ 2: 1، 7؛ 5: 15) وشهادات حول تنظيم الجماعات المسيحيّة (3: 1؛ 5: 14- 16)، فالجماعة ما زالت تُسمّى "مجمع" لا "كنيسة" كما سوف تسمّى في ما بعد.
ج- فقاهة من أجل زماننا الحاضر
إن المسيحيّين الذين توجّه إليهم يعقوب، قد حفظوا نفوسهم من كل تلوّث مع العالم الوثني، لأنهم لم يساوموا على مستوى إيمانهم بالله الواحد. أما نحن العائشون في عالم مطبوع في عمقه بالروح الوثنيّة، فنجد صعوبات عديدة لكي نبقى بمنأى عن كل تأثير وثنيّ في طريقة حكمنا على الأمور وفي ردّات الفعل عندنا. لهذا تبدو هذه الرسالة قريبة منا.
كان قرّاء يع في وضع حياتيّ يشبه وضع أكثريّة المسيحيين اليوم: أناس من الطبقة الوسطى أو أدنى. يعرفون الحياة القاسية التي لا تمنحهم السهولات الماديّة (2: 5- 8). هم يرغبون في حياة من الرفاه، لهذا نراهم يحسدون الأغنياء وينتقدونهم بعنف مع بعض الحقد. وهكذا تذكّرنا طريقةُ كلام الكاتب بـ "صراع الطبقات" الذي نجده في عالمنا (4: 1- 9).
لم يكن عدد الأغنياء كبيراً هذه الجماعة. ولكن موقفهم لم يكن بالموقف الإنجيليّ. ويندّد يعقوب بهذا الموقف بكلمات نستطيع أن نسمعها اليوم تجاه "المالكين" الذين تبدو شهادتهم مشكّكة ومعارضة للإنجيل (4: 1- 9). وتلمّح يع أيضاً إلى توبيخ يصل إلى "رجال الكنيسة": ممالقة الاغنياء في الكرامة المحفوظة هم وقلت شعائر العبادة (2: 1- 4): "لا تلبّسوا إيمان ربنا يسوع المسيح بمحاباة الوجوه".
وإذا انتقلنا إلى المناخ الروحي في الجماعة وإلى صعوباتها، نجد أن النصّ يتوجّه إلينا اليوم. فالألفاظ التي يستعملها الكاتب (2: 14- 17) قد تصلح لوعّاظ عصرنا حين يوبّخون بعض المؤمنين حول "الضمير الصالح" الذي يجعلهم يقيمون في طمأنينة كاذبة، في رياء يجعلهم يقولون إنهم مسيحيّون، مع أنهم لا يعيشون إيمانهم بطريقة ملموسة: تقواهم كاذبة لا يترجمونها في الأعمال. والتعارض واضح بين أقوالهم ومحبّتهم. وهناك الحسد والانقسامات التي تزرع الشكوك. هل نسوا أنه ليس من مصالحة بين الله والعالم؟
إن رسالة يعقوب قريبة بنظرتها من الجماعات المسيحيّة في احتفالها بيوم الأحد. وقد فعل يعقوب كما يفعل اليوم عدد من الرعاة، فحرّض المؤمنين على عيش أفضل للأنجيل في كل نقاوته داخل العلاقات البشريّة والاجتماعيّة، في إطار حياتهم الملموسة وصعوباتها. لهذا نقول هي فقاهة قديمة حديثة. كُتبت في بداية الانتشار المسيحيّ أقلّه في خطوطها الكبرى وأعيد تدوينها في ما بعد في إطار هليني. أمّا تعليمها فهو يتوجّه إلينا اليوم طالباً منا أن نجدّد حياتنا على ضوء إنجيلنا.

2- دراسة المقطوعة (1: 17- 21)
أ- سياق المقطوعة
بعد تحيّة قصيرة يوجّهها يعقوب "إلى الاسباط الاثني عشر الذين في الشتات" (1: 1)، ها هو يشرح للمؤمنين ما يجب أن يكون عليه تصرّفهم وسط صعوبات الحياة ومحنها (1: 2- 12). كان هؤلاء المرتدّون الجدد من العالم اليهوديّ، وقد ظنّوا أن المسيح يحمل إليهم نهاية آلامهم كلها. ولكنهم اختبروا عكس ذلك، فضاعوا وتحيّروا. عند ذلك صحّح يعقوب نظرتهم، ووضعَ الأمور في نصابها. يجب أن نطلب من الله الايمان والحكمة الحقّة (1: 6). حينئذٍ يفهمون أن عليهم أن يبتهجوا "حين يتعرّضون لمحن متنوّعة" (1: 2). والقراء قد دعاهم الله لكي يحيوا روح التطويبات (لو 1: 52؛ مت 5: 3)، حينئذٍ يُرفعون إن كانوا وضعاء (1: 9). أما الاخوة الذي يملكون الغنى، فهم يجدون الباعث الحقيقيّ على الفرح في الله، لا في الخيرات الزائلة: هذه الخيرات هي سريعة العطب والزوال (1: 10- 11)، هي لا تحمل إلا الضعف للإنسان. وهكذا يجد الفقراء والأغنياء جزاءهم في الربّ الذي يحبّهم، إذا عرفوا أن يحتملوا المحنة (1: 12).
بعد هذا يأتي توجيه حول التجربة (1: 13- 18). يسقط بعضهم في التجربة فيعذر نفسه قائلاً: الله جرّبني، فكيف يمكن أن أقاوم (1: 13)؟ رفض يعقوبُ مثل هذا الكلام. فالله لا يجرّب أحداً. "كل واحد تجرّبه شهوته الخاصة" (1: 14). والشهوة تضلّنا فتقودنا إلى الخطيئة التي تولّد بدورها الموت (1: 14- 15). ذاك هو السياق المباشر للمقطوعة التي ندرس.
ب- عطيّة من فوق (آ 17)
إذا أخرجنا هذه الآية من السياق الذي رسمناه، فمع ذلك هي تبقى كمقدّمة للنصّ الذي نقرأ. فلفظة "دوسيس" ولفظة "دوريما" لا توجدان إلا مرتين في كل العهد الجديد (فل 4: 15؛ روم 5: 10). إنهما تدلأن ولا شكّ على تدرّج في السخاء. ومهما يكن من أمر، فهذه الموهبة المعطاة لنا، هي الفداء الذي مُنحناه "بنعمة إنسان واحد، يسوع المسيح" (روم 5: 15). وهي تجعل جميع البشر أبراراً ومشاركين في الحياة الأبديّة التي أبعدتهم عنها خطيئة إنسان واحد (روم 5: 12 ي).
وهكذا نكون منذ البداية أمام تذكّر لسرّ نحتفل به كلَّ أحد. وما يُثبت هذا التفسير، هو أن العطيّة لم توضح كما لم توضح الخطيئة التي تتصوّرها الشهوة، وحين تصل إلى حدّها تلد الموت (1: 15). فتكرار لفظة "كل" قبل كل من الكلمتين، يشدّد على البعد العام لمعناهما.
لاحظ الشرّاح أن بداية آ 17 تشكّل جزءاً من شعر، أو من مثل من الأمثال. نحن أمام قول مأثور عرفت عدداً مثله الرسالةُ إلى يعقوب. "كل عطيّة صالحة، كل هبة كاملة".
"كل هبة كاملة تأتي من فوق". ترد العبارة "انوتان استين" مرات عديدة في إنجيل يوحنا (3: 3، 13، 27؛ 8: 23، 27، 31). إنها تدل على الأصل الإلهيّ للموهبة (يع 3: 15، 17). الهبة هي النعمة. وهكذا تعني الطابع المجاني للدعوة المسيحيّة. وهذا التذكّر لا ينفصل عن الكرازة بالسرّ منذ البداية (أع 15: 7- 12).
ونُسبت الهبة إلى "أيي الأنوار". أي ذلك الذي خلق النور والكواكب. سيستعمل بولس لفظة "أب" ليدلّ على "الخالق" حين يتكلّم عن الله (2 كور 1: 3؛ أف 1: 17). ويقول يوحنا قياساً إن إبليس هو "أبو الكذب" (يو 8: 44).
حين سمّى يعقوب الله خالق الكواكب (أو: الأنوار)، جعل نفسه في خطّ العهد القديم الذي يدعو الله "الرب الصباؤوت". هذه التسمية كانت معررفة لدى المسيحيّين المتهوّدين. ففي مباركة تلي صلاة "شماع" (اسمع يا إسرائيل)، نقرأ: "مبارك إلهنا الذي خلق الكواكب". وهنا نتذكّر أيضاً الصلاة المسيحيّة: "أبانا الذي في السماوات". ذاك هو المعنى الحرفيّ.
ولكننا لا نستبعد المعنى الاستعاريّ بسبب ما نقرأ في آ 18 حيث يقال إن أبا الأنوار قد ولدنا في الحقّ. وبعد ذلك (1: 21، 27)، سيمتدّ معنى النور إلى كل بهاء أخلاقيّ: كل ما هو صالح وكامل.
وتنتهي آ 17 بصورة استلهمها يعقوب من النور لا من الكواكب. ليس الله كالكواكب الخاضعة لنواميس دورانهم. فهو لا يعرف غروباً. وليس من وقت يتوقّف فيه عن إعطائنا نعمته على مثال الشمس التي لا تنيرنا في الليل أو القمر الذي قد يختفي نوره. فالله دوماً هو هو، ولا شيء يستطيع أن يبدّله. والعطيّة التي يعطينا إياها لا تتوقّف. وهنا نرى كيف تأثّر يعقوب بالعهد القديم الذي قابل بين الله الذي لا يتبدّل والكواكب الخاضعة للتبدّلات. نقرأ في سي 27: 11: "حديث التقيّ في كل حين، أما الجاهل فيتغيّر كالقمر".
ج- ولدنا بكلمة الحق (آ 18)
بعد أن شدّد يعقوب مرّة أخرى على الطابع المجاني للهبة التي يهبنا الله إيّاها، بحريّة، فهو يحدّد ما تقوم به هذه الموهبة كما يحدّد نتيجتها. هذا ما يشرحه جاعلاً نفسه عمداً على مستوى الله دون أن يعير انتباهه إلى الاستعدادات البشريّة المطلوبة. هذا لا يبرّر نكران الحريّة البشريّة كما قال بعضهم بسبب "بمشيئته" التي قد تعني أن خيار الله الحرّ قد تبعته إرادة فاعلة. غير أن آ 19- 21 ستدلّ على أن هذه العطيّة تلزم المسؤوليّة البشرية.
الله "ولدنا" على المستوى الفائق الطبيعة، على المستوى العلويّ. نجد الصورة في العهد القديم (تث 32: 6، 18؛ رج أش 63: 16؛ سي 33: 1- 4؛ حك 2: 16). فقد سُميّ الشعب "ابن الله" بشكل إجمالي، لا كلّ شخص بمفرده. وهذا المعنى ظلّ هو هو عبر العهد الجديد بقدر ما الكنيسة هي إسرائيل الجديد (روم 9: 6- 24؛ 11: 5- 8، 16- 29؛ 2 كور 3: 18؛ غل 3: 26- 28؛ أف 2: 11- 23؛ 3: 10- 12). غير أن العهد الجديد قد واصل التطوّر الذي بدأ به الأنبياء، فطبّق فكرة الولادة الإلهية على كل مسيحيّ بطريقة شخصيّة. والنصوص عديدة. نذكر منها 1 بط 1: 3؛ يو 1: 12- 13؛ 3: 3- 10؛ غل 4: 19؛ تي 3: 5. قال يو 10: 35: "إذن الشريعة تدعو آلهة هؤلاء الذين توجّهت إليهم كلمة الله".
وينسب يعقوب أيضاً هذه الولادة الإلهية إلى "كلمة الحقّ" (1 بط 1: 23). في العهد القديم، كلمة الحقّ هي تعليم الشريعة (مز 119: 43). في العهد الجديد، كلمة الحقّ هي الوحي المسيحيّ (أف 1: 13؛ كو 1: 5؛ 2 تم 2: 15)، هي المسيح نفسه (1 يو 1: 12- 13؛ 10: 35). لا نجد في يع أل التعريف، وهذا يعني أن المعنى ليس محدّداً. ولكن لا شكّ في أننا أمام الوحي المسيحيّ الذي اتخذ فيه الله كل مبادرة، والذي تقبّله المؤمنون كقاعدة حياة بحسب الله (1: 19- 25؛ 5: 25). غير أن السياق المباشر وما يقوله العهد القديم، يدلأن على أننا أمام فاعليّة هذه الكلمة (تك 1: 8؛ مز 33: 9؛ مز 107: 20؛ أش 55: 10- 11) وهذا ما تشدّد عليه آ 21.
هذه الكلمة تجعل منا "باكورة الخليقة" نوعاً ما. أي عن طريق القياس. لا نستطيع أن نتكلّم إلا بهذه الطريقة عن مثل هذه المواضيع. فالمسيحيّون الذين إليهم يتوجّه يعقوب، كانوا أول من نعمَ بكلمة الحقّ: هكذا كانوا باكورة الخليقة كلها (حك 13: 5؛ سي 36: 20؛ 1 تم 4: 4؛ رؤ 5: 13؛ 8: 9). وهكذا كان أيضاً مسيحيّو كورنتوس في بلاد أخائية (1 كور 16: 15). وهكذا كان بنو إسرائيل بالنسبة إلى جميع المؤمنين الذين سيأتون إلى الايمان (إر 2: 3؛ روم 3: 2؛ 11: 15).
ولكن سياق فكر يعقوب المضمّخ بالعهد القديم، قد يُعطي لفظة "باكورة" عمقاً آخر. ففكرة الباكورة ترنبط في العهد القديم بفكرة العبادة والتكريس للربّ. فحين يقدّم المؤمن باكورة غلأته وقطعانه، فهو يقرّ بسلطان الله السامي على كل شيء، كما يكرّس له جميع أملاكه (خر 22: 29- 30؛ تث 18: 4). وبالختان كان الشعب كله يرى نفسه مكرّساً لله بواسطة هذه الفعلة الطقسيّة. والمسيحيّون المتهوّدون الذين كانوا أول من آمن، صاروا باكورة بالنسبة إلى سائر المؤمنين، كما يمكن أن نكون نحن باكورة بالنسبة إلى الذين يأتون بعدنا. وبالمؤمنين الذين يلتصقون بكلمة الحياة، صارت البشريّة كلّها مقدّمة ومكرّسة لله.
د- استعدادات الانسان وفاعليّة الكلمة (آ 19- 21)
على الانسان أن يتجاوب مع مبادرة الله التي ولدتنا بكلمة الحياة. وقدّم يعقوب هنا ثلاثة توجيهات محدّدة: نعرف الاستماع والتكلّم (آ 19 أ). نتجنّب الغضب ونرفض كل نجاسة وكل شرّ (آ 19 ب- 21 أ). نتقبّل الكلمة بوداعة واستعداد القلب (آ 21 ب). وفي كل هذا يشدّد النصّ على أن الكلمة تحمل في ذاتها الخلاص: "تخلّص نفوسكم".
هنا يذكّر يعقوب المسيحيّين أنهم يعرفون كل ما قاله لهم. وأنه لم يحمل إليهم جديداً. ويناديهم من جديد: "اخوتي الاحبّاء". وهكذا يدلّ على ثقته بهم وعلى محبّته. هو لم يجعل صيغة الأمر (اعلموا)، بل صيغة الحاضر (أنتم تعلمون) وإلأ بدا كلامه مترفّعاً قاسياً. ولكنه أراد أن يقدّم بنحافة ورهافة هذه المتطلّبات لئلا يصدم أحداً، بل يحثّ الجميع على العمل بها.
"ليكن كل واحد سريعاً إلى الاستماع، بطيئاً عن التكلّم". إن الاعتدال في التكلّم، والتنبّه إلى الاستماع، هما من المواضيع التي عرفتها كل حكمة بشريّة ودينيّة. نقرأ في أم 10: 19: "كثرة الكلام لا تخلو من زلّة، ومن ضبط شفتيه فهو عاقل". وفي سي 5: 11: "عن سريعاً في الاستماع، وكثير التأنيّ في الجواب". رج أيضاً سي 19: 16؛ 20: 6؛ 22: 8، 27؛ 25: 8؛ 28: 26.
في الجماعة التي توجّهت إليها الرسالة، كان ميل إلى المجادلات المزعجة التي تولّد الخلافات والمنازعات (3: 18؛ 4: 11). فدعا يعقوب قرّاءه لكي يوقفوا هذا الوضع، ويتنّبهوا إلى سمملا كلمة الحياة. مثل هذا التذكير يليق بكل جماعة مسيحيّة. فحين نهتم بالاستماع إلى كلمة الله والتعمّق فيها، نتوصّل إلى العيش بسلام مهما كانت الاخنلافات.
لقد وصلت المنازعات بين الاخوة إلى الذروة. هذا ما يدلّ عليه كلام الكاتب: "ليكن كل واحد بطيئاً عن الغضب". نحن هنا أيضاً أمام نصيحة نجدها مراراً في الأسفار الحكميّة. "الطويل الأناة كثير الفطنة، والقصير الصبر يظهر سفهه" (أم 14: 29). "الطويل الأناة خير من الجبّار، والذي يسود على روحه أفضل ممّن يأخذ المدن" (16: 32)؛ رج أم 19: 11- 12؛ سي 1: 22؛ 27: 30؛ مت 5: 22؛ أف 4: 25. نقرأ في حكمة بتاح حوتب: "إن رغبت في سلوك صالح وبعيد عن كل شرّ، فاحذر كل إفراط في المزاج الصعب... وهدّىء حرارة القلب المشتعل".
"فإن غضب الانسان لا يُجري برّ الله" (آ 20). هذه الرذيلة لا تحقّق ما هو بار ومقدّس في نظر الله. لا تحقّق الكمال الأخلاقيّ الذي تفرضه الشريعة الإلهية. هذا المعنى يتوافق كل الموافقة مع السياق المباشر (آ 21- 27) ومجمل الرسالة. وهكذا نكون أمام صدى لتعليم يسوع بحسب مت 5: 6- 20؛ 6: 33.
"إطرحوا كل نجاسة، وكل بقيّة شرّ" (آ 21). تُطرح النجاسة كما يُطرح ثوب بالٍ. ويقابله فعل "البسوا" الذي يستعمله بولس مراراً (روم 13: 12؛ أف 4: 22- 24). استعمال هاتين اللفظتين في المعنى الاستعاريّ أمر طبيعيّ، والمعنى واضح (أف 4: 25؛ كو 3: 8؛ عب 12: 1). ثم إن اللباس في الكتاب المقدّس يدلّ على الحالة النفسيّة (أش 61: 10؛ زك 3: 4- 5؛ مت 22: 11؛ رؤ 3: 18). وقد توسّع الكاتب هنا في الاستعارة، فدلّ على كل نجاسة وشرّ يغطّي النفس كالطين على الوجه. نحن نطرحه كما نطرح لباساً وسخاً: إن هذا ضروري لكي نتقبّل الكلمة.
"تقبّل الكلمة، اقتبال الكلمة". عبارتان معروفئان في الكتاب المقدّس (إر 9: 19؛ أم 2: 1؛ أع 2: 41؛ 17: 11؛ 1 تس 1: 6؛ 2: 13). لسنا هنا أمام اقتبال أول، ولكن أمام فهم أفضل للكلمة التي نحاول أن نعيشها (مت 13: 3- 23). وهذه الكلمة هي كلمة الحقّ (آ 18) التي سوف يسمّيها يعقوب "الشريعة" (أو: الناموس) (آ 25) على مثال ما في تث 2: 8؛ 30: 11- 14.
هذه الكلمة نتقبّلها بوداعة. يشدّد الكاتب على هذه المزيّة التي لم تكن عاديّة لدى قرّائه (3: 13- 14). فالكلمة مزروعة في قلوب المؤمنين. نجد فعل "امفيتون" هنا فقط في كل العهد الجديد: "غُرست". نحن هنا في جوّ المفارقة: كيف نقول: "تقبّلوا الكلمة"، بينما الكلمة "غُرست فيكم"! كيف نخفّف من حدّة المفارقة؟ نلاحظ أنّ المؤمنين نالوا فعلاً الكلمة حين آمنوا. ولكن عليهم أن يقبلوها يومياً، ويوافقوا معها حياتهم الملموسة (1 يو 1: 7؛ 2: 4).
ولكن إن قابلنا هذه الصورة (غرست) بالكلمات التي تلي، تتّخذ المفارقة كامل معناها. فالكلمة التي غُرست فيكم "تقدر أن تخلّص نفوسكم". في العهد القديم، الكلمة والاسم والمجد والحضور والسماوات، هي طرق بها ندلّ على الله الذي يتجلّى ويفعل، ولكننا نتحاشى ذكر اسمه. إذن، الكلمة هي طريقة ملموسة بها ندلّ على حضور وعمل الله الذي يخلّص البشر. هذا السياق قد عرفه العالم اليهوديّ، ونحن نجده في عدد من نصوص العهد الجديد (1 تس 1: 8؛ 2 تس 3: 1؛ فل 2: 16؛ 1 كور 14: 36؛ كو 3: 16؛ 4: 3؛ تي 1: 3؛ 1 بط 1: 23).
إذن، نقرب آ 21 من أمثلة الزارع (مت 13: 3- 23) وحبّة الخردل (آ 31- 32) والخمير (آ 33) والزرع الذي ينمو وحده (مر 4: 26- 29)، ومن نصوص يُقال فيها إن كلمة الله تنمو وتتكاثر (أع 6: 7؛ 12: 24؛ 19: 20). وأخيراً، نلاحظ أن بولس في وداعه لشيوخ أفسس قد سلّمهم "إلى الله وكلمة نعمته" (أع 20: 32). فنحن نجد في هذا النصّ المفارقة التي وجدناها في يع 1: 21. فرسول الأمم كان قد قال لهؤلاء الشيوخ إن مهمّة الرسول تقوم "بالشهادة لإنجيل نعمة الله" (أع 20: 24). عند ذاك يصبح نصّ يعقوب واضحاً، ولن يكون مفكّكاً حين يقول: "تقبّلوا كلمة الله التي غُرست فيكم". بل العكس هو الصحيح. فالكلمة هي زرع يحمل فاعليّته في ذاته. والرسل والواعظون هم خدّام هذه الكلمة. وهم يعلنونها (لو 1: 2؛ أع 6: 2- 4؛ 2 كور 4: 1- 2؛ كو 1: 25). وقد جُعلت هذه الكلمة في قلب الانسان بيد الله الذي يمنح الايمان (آ 17- 18). هي واقع حيّ وفاعل، وهي تلج إلى النفس (عب 4: 12؛ 1 تس 2: 13) وتتّحد فيها بقدرتها الذاتيّة وتتوسّع. وتُنتج عند الذين يتقبّلونها الخلاصَ الذي تحمله.
فعلى الانسان أن يكون في الاستعدادات الصالحة لكي تحمل الكلمة ثمارَها. هذا ما ذكّرنا به يعقوب في آ 19- 21. وسيقول بعد ذلك إنه لا يكفي بأن نكون "سامعين يضلّون أنفسهم" (1: 22)، بل يجب أن نكون "عاملين بهذه الكلمة" (1: 23). غير أن هذه الاستعدادات مهما كانت ضروريّة، إلاّ أنها تبقى ظروفاً فيها تنمو الكلمة.
فاعليّة الكلمة. تلك هي الفكرة المركزيّة في هذه المقطوعة التي أكّدت على مبادرة الله الذي منه تأتيكل عطيّة، الذي منه يأتي الخلاص.

خاتمة
لا نستطيع أن نقدّم في إطار شامل تعليم يع 1: 17- 21. فهذه الآيات الخمس ليست توسّعاً، وإن سريعاً، في فكرة واحدة. ولكنها ليست أيضاً أقوالاً مأثورة جُعلت بعضها قرب بعض. لهذا نستطيع أن نستخلص موضوعين أو أقله طريقين من أجل الفقاهة. هناك أولاً مجانيّة مطلقة للنعمة التي بها ولدنا الله لحياة فائقة الطبيعة، مع تشديد على هذه العطيّة التي لا رجوع عها (آ 17- 18، 21). حين نتوسّع في هذا الموضوع في منظار الرسالة، نشدّد على الدور الأول للكلمة في عمل هذه الولادة الجديدة. فكلمة الله هي في أصل كل شيء. هي صفة من صفات الله الحقيقيّ. وهي أيضاً الشريعة التي تفرض نفسها على الانسان الذي يقبلها بوداعة. وهذه الشريعة هي منذ اليوم تعليم المسيح. وحين نتقبّل هذه الكلمة، نصبح باكورة الخليقة. أما الموضوع الثاني فهو ضرورة جعل هذه الكلمة تثمر بحياة مقدّسة، على مستوى الواقع اليومي والعلاقات البشرية. هي كلمة تفعل ولا تنتظر إلاّ تجاوبنا معها لكي تصبح حياة في حياتنا وفي مجتمعنا.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM