الفصْلُ الثّاني; مَواسِمُ النِعّمَة وَالتّوبَة

الفصْلُ الثّاني
مَواسِمُ النِعّمَة وَالتّوبَة
2 : 1 – 3 : 6

أ- المقدّمة
1- أعطى الفصل الأول السبب التاريخي الذي منع العبرانيين من فَرْض سُلطانهم في كنعان: عرف الكنعانيون أن يُدافعوا ضِدّ كلّ هجوم أو تسلّل. ذاك كان الواقع الذي عرفه بنو إسرائيل في زمن القضاة، فاعتبروا الكنعانيين أعداءهم الذين وضعوا يدهم على أرض، هم أحقّ بها منهم. هذه هي سنّة التاريخ، وما فيه من ظُلْم. على كلّ حال، يقول النصّ إنّ الآتين الجدد اكتفوا بالمناطق غير المأهولة، وتركوا الأرض الطيبة لسكّان الأرض الأصليين.
2- وها هو الفصل الثاني يعطي السبب اللاهوتي الذي منع العبرانيين من احتلال أرض كنعان احتلالاً كاملاً. أجل، لم يُكتَب سفر القضاة ليُعطي تقريرًا مفصلاً عن أحداث العصر، بل ليُقدّم لنا لاهوتًا نبويًا، فيجعل تاريخ الشعب في إطار إيمان شعب مسؤول عن أعماله أمام الربّ. هذا الشعب يعرف أنّ وجوده في هذه الأرض نعمة، وأنّ مصيره وسلوكه يرتبطان بهذه النعمة.
3- لا يُشكّل الفصل الذي نقرأه كلامًا متناسقًا. فهو يقدّم لنا تفاسير عديدة تعود إلى مراجع مُختلفة، أخذها الكاتب ووضع بعضها قرب الآخر. ونحن نستطيع أن نتبين ثلاثة رسوم تُعطينا صورة عن الوقائع: خُطبة لملاك الله (2: 1- 5)، مقطع يربط بين سفر القضاة وسفر يشوع (6:2-10) وينتهي بتفكير لاهوتيّ في تاريخ سفر القضاة (2: 11-23)، وملحق عن الأسباب التي منعت الشعب من السيطرة على أرض كنعان (3: 1-6).
4- إنّ الكاتب الذي وضع اللمسات الأخيرة، أعطى لسفر القضاة مقدّمة تجعل من هذا الكتاب تعليمًا ساميًا، وكرازة عن التوبة بروح سفر تثنية الاشتراع. وهذا التعليم له قيمته لمعاصريه في مملكة يهوذا، ألعائشين في خطر في نهاية القرن السابع ق. م.، وله قيمته أيضًا لشعب الله في كلّ زمان، لأنّ مسألة أمانتنا للربّ مطروحة دائمة وهي تطلب منّا جوابًا. بهذا المعنى نقول إنّ سفر القضاة كتاب نبويّ يكلّمنا باسم الله.

ب- تفسير الآيات الطبية
1- ألربّ يحكم على سلوك شعبه (2: 1- 5)

يُنهي الكاتب الملهم لوحته التاريخية، فيستنتج التعليم الأخلاقي. إذا كانت الإقامة في أرض كنعان محفوفة بالخطر، فالشعب هو السبب، لأنه ترك الله ووصاياه.
(آ 2: 1-3) هذه خُطبة ملاك الرب مكتوبة بأسلوب اشتراعي: أخرج من مصر، أدخل الأرض، نقض العهد، الوثنيون صاروا لكم فخًا...
ملاك الرب هو رسولهْ، ويمكن أن يكون نبيًا من الأنبياء. ألمهمّ لا الرسول بل الرسالة. والكاتب استعمل أسلوبًا ليعبّر عما لا يُعبَّر عنه. ولكنّ الواقع اننا أمام خطبة حاضرة في الكتاب المقدّس، أونّها النبيّ من أجل شعب مشتّت مُضعْضَع.
ذكرَّهم " الملاك " بعهد الربّ مع أبائهم (خر 34: 10 ي؛ لا 26: 44)، وَوَعْدِه لهم بالمساعدة. ولكن كان على الشعب أن يحفظ فرائض محدّدة: لا مُعاهدة مع الكنعانيين ولا تَزاوج، بل تحطيم المذابح الوثنية. لم يسمع الشعب لربّه، فاقترفوا ذَنبًا دينيًا وعباديًا، فعاهدوا الكنعانيين وآلهتهم وتسامحوا في أمور الشِرْك. فلماذا يطرد الرب الكنعانيين؟ سيبقون هنا فيُخاصمون الشعب أيضًا ويُضايقونه: إذًا بقاء الكنعانيين عقوبة وتجربة..
(آ 4- 5) هذه الخُطبة أثارت بكاء الجماعة وندامتهم على ما سلف، فقدّموا ذبيحة عن خطاياهم.
أجل صعد "الملاك" من الجِلْجال، ذلك المعبد المعروف، إلى موضع الباكين وهو معبد آخر قريب من بيت إيل (تك 8:35، بلوطة الباكين).
2- دورة مُفجعة (6:2-23)

هذه هي المُقدّمة الأولى لسِفْر القضاة. بعد أمانة الشعب للربّ في أيّام يشوع (آ 6-10) جاءت أيّام من الخيانات في زمن القضاة، يُلخّصها الكاتب في أربع كلمات: الخطيئة (آ 10-13)، العِقاب والتوبة (آ 14- 15)، التحرّر والسقوط من جديد (آ 16-19). إنّ الربّ سمح ببقاء الأمم الوثنية في كنعان، بسبب سُلوك الشعب مع ربّه (آ 20-23). الخطيئة تجرّ العِقاب، والتوبة تبعث الخلاص. وهكذا نحن أمام تعليمين: تعليم أول يُفهِم الشعب أنّ شقاءه متأتٍ عن خطاياه التي تعاقبها العدالة الإلهية، وتعليم ثان يُفهمنا أنّ الله الأمين والرحوم اختار شعبه وهو ثابت في اختياره، لهذا يُخلّص أحبّاءه حين يتوبون. نحن هنا أمام أمثولة مسؤولية جَمَاعيّة، وثِقَة ناشطة بالرب.
(آ 6-9) أمانة في زمن يشوع (رج يش 28:24- 31). أطلق يشوع كلّ قبيلة إلى ميراثها، فظلّت أمينة لفرائض الله خلال حياة يشوع والشيوخ الذين خلفوه. وتوفي يشوع وهو ابن 110 سنوات، وسُمّي عبد الرب. ودُفِنَ في تمنة حارس أو بالأحرى تمنة سارح (يش 19: 50، 24: 30) التي هي خربة تبنة البعيدة 15 كلم إلى الشمال الغربيّ من بيت إيل. لا تتحدّث النصوص الكتابية عن جبل جاعش إلاّ هنا، أمّا 2 صم 23: 30؛ 1 أخ 11: 22، فيذكران وادي جاعش.
(آ10-13) خطيئة بني إسرائيل. بعد زمن الشهود لأعمال الله العظيمة، جاء جيل الذين لم يعرفوا الربّ ولا صنائعه لشعبه. وهكذا خسر بنو إسرائيل القُواد الصُلاّح الذين سهروا عليهم. ما كانت خطيئة الشعب؟ تركوا الربّ وسجدوا للآلهة.
بعل هو الزوج والسيّد والمالك (22:19)، وهو لقب يدلّ على إله يُشبه سيدًا إقطاعيًا، يطلب تَقدِمَة البواكير، ويُقاسم شعبه حياتهم ومصيرهم. عشتاروت هي إلهة الحُبّ، وهي ترمُز إلى ينبوع الحياة في الطبيعة. كان الناس يكرّمونها بالبغاء المكرّس. هل ترك الشعب يهوه؟ لا، بل جعلوه بعلاً كسائر بُعُول العالم السامي، ونسوا أنّه الإله الغَيُور (أر 10:13؛ 6:25 ؛ 15:35).
(آ 14-15) عقاب وتوبة. ما رضي الله عن هذا السلوك، ما رضي أن يُخالف شعبُه بنودَ العهد، لهذا نفّذ وعيده فيهم، فحرمهم من عَوْنه القدير، وتركهم لقواهم الخاصّة وآلهتهم الضعيفة. والنتيجة جاء الغُزاة كالمديانيين في زمن جدعون، فتأوّه الشعب من الضيق وأحسّوا أنهم لا يقدرون أن يخلّصوا أنفسهم بأنفسهم.
(آ 16-19) تحرير وسقوط من جديد. ألشقاء التاج لخيانات الشعب، جعلهم يفكرّون ويعودون إلى ممارسات قويمة تمنحهم خلاص الربّ: حينئذ أرسل إليهم القضاة أي قوادًا وأبطالاً ومُخلّصين، فحررّوهم باسم الرب.
كانوا يفجُرون أو يزنون. بما أنّ النظرة النبوية تعتبر الربّ زوج شعبه، فكلّ مخالفة لوصاياه، تُعتبر خيانة وزنىً وفُجورًا.
ونتساءل: لماذا ترك يهوه هذه الأمم؟ وتحن بني إسرائيل ويعرف إلى أي مدى يثبُتون في أمانتهم. نحن هنا أمام تقليدين جمعهما الكاتب المُلهم.
ما كانوا يسمعون للربّ ولا يُطيعون أوامره ويعملون بكلامه. ولكن حين يقوم "القاضي" يعودون. ثمّ بعد موت "القاضي" يرجعون إلى ما كانوا عليه من قبل، مُتناسين قُدرة الله ورحمته على مثال آبائهم الأقربين.
(آ 20-23) ولهذا أبقى الله الكنعانيين لكونوا عقابًا وفخًا لشعبه. هل يقتدي الشعب بآبائه؟ هل يُقاوم إغراءات الآلهة الوثنية؟
3- الوثنيون يُشكلّون ضربة للعبرانيين (3: 1-6)

(3: 1-2) ترك الربّ الكنعانيين في الأرض، ليمتحن شعبه الذي لم يعرف حروب كنعان في وقت يشوع. ألربّ يعاقب لينّبه ويرّبي، ولا يعاقب ليُعاقب.
(آ 3) من هم الشعوب الباقون؟ ألفلسطيون، وهم شعب البحر الذين قهرهم رعمسيس الثالث سنة 1192، فأقاموا على الساحل وسيطروا بقوّة أسلحتهم الحديدية.
خاف الساميون هؤلاء القامات الطويلة، واعتبرهم العبرانيون غرباء بسبب أصلهم وعبادتهم، وخاصّة لأنهم لا مُمارسون الختان وسط العالم السامي.
الكنعانيون أقاموا في سهول شارون ويزرعيل الخصبة. ألصيدونيون هم الفينيقيون، وصيدون كانت أولى مدنهم من الألف الثالث ق. م. ألحويون أو بالأحرى الحثيون. أقاموا شمالي كنعان. جبل بعل حرمون أو بالأحرى بعل جاد يقع تحت جبل حرمون. ليبو (مدخل) حماة (عد 13: 21؛ 8:34) هو مضيق يفصل السلسلتين الشرقية والغربية في لبنان.
(آ 4- 5) ويعود الكاتب الى المحنة التي تشكّلها هذه الشعوب لبني إسرائيل (خر 8:3 ،17؛ تث 1:7؛17:20؛ يش 10:3؛ 9: 1-2).
(آ 6) ويُلّخص الكاتب موقف العبرانيين أمام المحنة: لم يقاوموا أعداءهم، بل عاهدوهم. هذه الآية تجعلنا نُلاحظ أنّه كانت فترات سِلْم في أيّام القضاة، فيها ارتبط العبرانيون بجيرانهم بعلاقات حميمة، ممّا جرّهم إلى عبادة الأوثان (خر 34: 15-16؛ يش 23: 12-13).

ج- ملاحظات حول الفصل الثاني
1- نقرأ في هذا الفصل حقائق ثلاث: ألتحرير من مصر، عطيّة الأرض، عهد الله مع شعبه. وهذه الحقائق متماسكة: ألشعب يكون حرًا في أرض محررة ليعبد ربّه بحرية. والنتيجة العملية لهذا البرنامج: لا مساومة مع الكافرين ولا تسامح ديني تُجاههم. مثل هذا الكلام يشكّك نظرتنا الحديثة إلى الأمور. ولكن لا ننسى أنّ هذه النصوص، لم تكتب في زمن يشوع والقضاة، ولا في زمن داود أو احاز، بل في القرن السابع، في مملكة يهوذا الصغيرة، ألمهددة بالعالم الوثني. دوَّنها الكاتب الاشتراعي، فحارب بروحه اِلنبوية، مُعتقدات وعبادات تهدّد بإزالة إيمان بني اسرائيل بالله الوحيد الذي يحملون وحيه.
2- إزدهرت عبادة البَعْل في كنعان في زمن الملكية (1 مل 11:-5-8؛ 4: 9-15، 22-24؛ 2 مل 2: 4؛ 14: 4؛ 15: 4، 35). ولقد حاول العبرانيون أن يقفوا بوجه هذا المدّ الوثني: كرازة إيليا وعمله المتصلّب، يرويهما الكاتب بطريقة ملحمية (1 مل 18-19)، إصلاح حزقيا، يرويه 2 مل 8:14 بصورة مقتضبة جدًا، إصلاح يوشيا الجذري والمُهم الذي اعتُبر حربًا فاعلة ضِدّ الديانات الكنعانية، يرويه 2 مل 22- 23.
قام جوهر هذا الإصلاح على تطهير أمكنة العبادة، والاهتمام بتقديم العبادة الواجبة ليهوه وحده. ولكن حدث بعض المرّات، أن امتزج الشرّ بالأشرار فذبح إيليا انبياء البَعْل (1 مل 18: 20) وقتل الملك ياهو عُبّاد البَعْل (2 مل 10: 0 2-27)، وضحّى يوشيا بكهنة المشارف على جبل السامرة (2 مل 23:20). ولكن تلك كانت عادات العصر، وذلك كان تصرّف جماعة دينية، تُحسّ بالخطر على نفسها.
3- إنّ تعليم سِفْر القُضاة، يُبرز رسالة هؤلاء المُخلّصين الذين اسمهم "قضاة". وقصّة هؤلاء الناس تُبيّن لنا خلاص إنسان بالنعمة. ثمّ إنّ شعب إسرائيل ما فتىء يُعيد اخطاءه، ويتألّم من جديد بسبب الشقاء الذي يرسله الله إليه بسبب خطاياه. مع أنّ الله لم يتعب من مَنْحِ الغُفران والحياة والسلام، إلا أنّ توبة العبرانيين لم تكن نهائية، بل عُرْضَةً للتجربة ومتناسية للربّ. كان بنو إسرائيل لا يشعرون بعطيّة الله ولا بالحاجة إلى هذه العطية، ولهذا كانوا يسقطون في الكُفر وبالتالي في أيدي أعدائهم.
نَقْص في الثبات، مُحاولات لا تدوم، توبة لا عُمْقَ فيها، إصلاح يُولد ميتًا، هذه هي قِصّة شعب إسرائيل من موسى إلى صدقيا والجلاء. لا شك في أنّه كانت أيّام خير في زمن يشوع أو داود، فكان الشعب مع ألربّ، يحفظ وصاياه ويعمل بها، ولكنّه كان أكثر المرّات يعود سريعًا إلى الشرّ، لقساوة قلبه وعناده (تث 9: 6-7).
مثل هذه القِصّة تدفعنا إلى اليأس لو لم تكن قصة أمانة الله لشعبه، رغم خيانات شعبه. فالكاتب يعرف ضُعف الإنسان وتقلّبات قلبه، ولكنّه يؤمن أنّ قدرة الله ورحمته تخلصان الإنسان. أمّا ما هي وسائل الله؟ أناس يختارهم مثل نوح وإبراهيم ويعقوب وموسى ويشوع والقضاة، وداود... وهكذا ينطلق الشعب من خلاص إلى خلاص، منتظرًا الخلاص النهائي الذي يقدمه الله بنفسه

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM