الفَصل السَادس: طَريق التّجْربَة وَالمِحْنَة

الفَصل السَادس
طَريق التّجْربَة وَالمِحْنَة
15 : 22 – 18 : 27

أ- المقدّمة
يتضمّن هذا الفصل بصفة خاصّة أحداثًا سيعيشها الشعب بين خروجه من مصر ووصوله قبالة جبل سيناء. هذه الأحداث هي صورة عن واقع يوميّ يعيشه هؤلاء البدو الذين يجابهون صعوبات الصحراء: العطشَ والجوعَ، الأعداءَ من الخارج، الفوضى في الداخل. لن ننتظر أن نجد هنا رواية يوميّة مفصّلة عن تلك المسيرة المتعبة عبرَ الصحراء، بل خبرًا لخمسة أحداث نموذجيّة ظلّت عالقة في ذاكرة بني إسرائيل، فكانت لهم الدليل أنّ الرب الذي خلّصهم من البحر، لن يتخلّى عنهم في هذه البريّة، وأنّ الذي أمَّن نجاتهم من يد الفرعون، يهتمّ بهم ويؤمّن لهم حاجاتهم.
وهكذا نتوقّف في هذا الفصل على خمسة أحداث: الحدَث الأول: مياه مارة (15: 22-27) الحدَث الثاني: المنّ والسلوى (16: 1-36) الحدَث الثالث: المياه الخارجة من الصخر (17: 1-7) الحدَث الرابع: النصر على بني عماليق (17: 8-16) الحَدَث الخامس: لقاء موسى بيترو، وتنظيم القضاء في الشعب (18: 1-27).

ب- تفسير الآيات الكتابيّة
1- الحدَث الأول: مياه مارة (15: 22-27)

لم يجد الشعب في الصحراء ماءً إلاّ ماء مرّة في "مارة"، فذهب الى موسى فعلّمه الرب أن يرمي في المياه عودًا من شجرة موجودة هناك، فلما رمى العود في المياه صارت عذبة.
(آ 15: 22-23) إسم هذه الصحراء "شعور" بسبب السور الذي كان يحمي المضيق (حيط العجوز بالنسبة الى العرب). أيكون صحراء شور هو ذاته صحراء إيتام (عد 33: 8)، وهو يقود السائر فيه الى واحة قادش؟
مسيرة ثلاثة أيام. (رج 3: 18؛ 5: 3؛ 8: 23؛ 33: 8). أتكون واحة مارة مركز حجِّ توجّه إليه بنو إسرائيل بعد خروجهم من مصر؟ يقول التلمود إنّ الرب أعطاهم هناك بعضَا من وصاياه وفرائضه المتعلقة بإكرام الوالدَيْن وحفظ السبت (رج 15: 26).
لا نعرف أين تقع مارة. أتكون عين الحوارة، أم عيون موسى؟ فالأماكن التي تكثر فيها المستنقعات كثيرة في ذلك المكان.
إرتحل بنو إسرائيل، نزعوا (راجع " نسع" في العبرية) أوتاد خيامهم، وانتقلوا من مكان الى مكان، وسعوا (راجع العبرية "سعا ") الى مكان الراحة الذي إليه يتطلّعون (يش 21 : 43-45 ؛ عب 4: 1- 11)
(آ 24-27) الشعب يتذمر (" لون " في العبرية. راجع "لام " في العربية). الصحراء هي مكان التذمّر والمحنة (14: 11؛ 3:16؛ 17: 1-7)، ولا يخرج الإنسان منها إلاّ بالإيمان والرجاء (مز 78: 1 ي؛ عب 3: 17-19).
وهناك امتحن (" نسا " في العبريّة راجع " نسي " السريانيّة) الربّ شعبه. ومن هنا جاءت كلمة "ماسه " (7:17).
في آ 26 نجد كرازة تحثّ المؤمنين على العمل بموجب الشريعة: الله ضرب المصريّين وهو يعفو عن شعبه، إن كان أمينًا على وصاياه، لأنّه الإله الذي يرأف ويتحنّن: بهذه الكلمات نحن قريبون من الأسلوب الاشتراعيّ (رج تث 7: 15؛ 39:32؛ ار 14:17؛ 17:30 ؛ مز30: 17؛5:41).
نجد في محلّة إيليم 12 عين ماء على عدد أسباط بني إسرائيل، وسبعين نخلة على عدد أبناء يعقوب السبعين (1: 5؛ تك 27:46)، أو عدد شيوخ الشعب السبعين (24: 1؛ عد 16:11 راجع في التقليد المسيحيّ لو 10: 1 والتلميح الى 12 رسولاً و 70 تلميذًا)
يدلّ هذا الحدث الأوّل الذي شرحناه أنّ الله الذي خلّص شعبه ما زال يخلّصهم. فهو يؤمّن لهم حاجاتهم اليوميّة في مسيرة الصحراء الصعبة، بواسطة موسى الذي سلَّطه على البريّة ليستخرج منها لبني إسرائيل طعامهم وشرابهم. ونتعرّف أيضا الى الإله الذي يحوِّل الشرّ الى خير (تك 50: 20) والمرارة الى عذوبة، وخطر الموت الى وعد بالحياة (رج 2 مل 19:2-22).
2- الحَدَث الثاني: المنّ والسَلوى (16: 1-36)

يرجع هذا المقطع الى التقليد الكهنوتيّ، وهو يقابل ما نقرأه من التقليد اليَهْوَهيّ في سفر العدد (11: 1ي). أمّا مواضيعه فعديدة: تذمّر الشعب، المنّ والسلوى، شريعة السبت التي نقرأها في هذا النصّ وللمرّة الأولى. رأى المسؤولون أنّ غلّة يوم السبت كانت ضعف غلّة سائر الأيام، فأعلموا موسى بذلك. حينئذ أعلن موسى شريعة السبت والفرائض المتفرّعة عنها. وهكذا سنقرأ هذا المقطع بمواضيعه الأربعة: تذمّر الشعب وجواب الله (16: 1-12)، المنّ والسلوى (آ 13- 21) شريعة السبت (آ 22-30)، ملحق عن المنّ ( آ 31-36).

الموضوع الأول: تذمّر الشعب وجواب الله (16: 1-12).
(آ 16: 1-3) تقع سين بين إيليم وسيناء (رج عد 33: 10-14)0 الوقت الذي حدثت فيه المعجزة هو الشهر الثاني بعد خروج بني إسرائيل من مصر. تتذمّر الجماعة المنظّمة في جماعة صلاة، على موسى وهارون، وتستعيد ذكريات حياتها في مصر، والسعادة التي كانت تتمتعّ بها أمام مأكولاتها الشهيّة. أجل، ما زال الشعب يرفض أن ينطلق في طريق المغامرة مع ربّه!
(آ 4- 5) أعلن الله أنّه سيمطر خبزًا من السماء، وعلى كلّ واحد من بني إسرائيل أن يلتقط طعام كل يوم في يومه، وأن يلتقط يوم الجمعة طعام الجمعة والسبت.
يعطيهم خبزًا فيمتحنهم ويعرف هل يسلكون في شريعة السبت أم لا، وهل يثقون بعطاء الرب الذي لا ينقطع.
(آ 6-8) أبلغ موسى بني إسرائيل ما أمره الربّ به: سمع ملامتكم وتذمّركم.
(آ 9-10) لا حاجة إلى أن يلتفت الشعب الى الوراء، فيعود بقلبه الى مصر! وتجلّى مجدُ الرب في السحاب، وكأنّي به يقفز أمام العبرانيّين مهدّداً إيّاهم إن أرادوا الرجوع، واعدًا إيّاهم بالخير إن تابعوا المسيرة.
(آ 11-22) طلب بنو إسرائيل لحمًا كالذي أكلوه في مصر، فأعطاهم الربّ السلوى وقال لهم: ستأكلون لحمًا في المساء وخبزًا في الصباح.
وكما كانت معجزة المنّ مناسِبة، تضع أمام عيونهم شريعةَ السبت، كذلك كانت مُعجزة السلوى مناسبةً ليعرفوا أنّه الرب القويّ الذي أخرجهم من مصر، وما زال يهتمّ بهم. وهكذا ارتبط عطاءُ الرب لشعبه بحادث خلاص مصر (الخروج) وبإعلان الشرائع عليه، ولكن هذا الإله القريب من الشعب هو أيضا ذلك الإلهُ السامي (16: 7، 10) الذي يكشِف عن ذاته عبرَ أعماله، ومن خلال السحاب الداكن والغمام المضيء.
الموضوع الثاني: المَنّ والسلوى (16: 13- 21)
(آ 13-15) عند المساء صعدت السلوى وغطّت المحلّة. أتكون هذه الظاهرة قد حصلت مرّةً واحدة، فما ذكَرها الكتاب المقدّس إلاّ في سفر العدد (11: 4 ي)؟ ولكنّنا نعرف أنّ السلوى هي من الطيور الرحّالة التي تصل منهوكة الى الشاطىء، فيأخذها الناس بسهولة.
أمّا المَنّ فهو نُسْغ أو ماء بعض الأشجار، وهو يجمد عندما يقع على الأرض ولكنّه يذوب في حرارة الشمس. إسمه المَنّ لأنّ العبرانيّين تساءلوا: ما هو (في العبرية "من هو"). هو مِنّة الله وعطيّته. أن يكون في البرية "مَنّ " فهذا أمر طبيعيّ، ولكن أن يكون بهذه الكثرة فيُشبع بني إسرائيل الجائعين الصارخين الى الربّ، فتلك هي المعجزة.
(آ 16- 21) نقرأ هنا أهميّة تعليمات الله لشعبه. كلّ واحد يلتقط الكميّة التي تكفيه وتكفي عياله خلال يوم واحد. وكانت معجزة ثانية لمّا ظلّت المساواة في ما بينَهم: من أخذ كثيرًا لم يَفضُلْ عنه؛ من أخذ قليلاً لم ينقصه. سيورد القديس بولس هذه الآية عندما يتحدّث عن جَمعْ الحسنات للمسيحيّين في أورشليم (2 كور 15:8).
لا يُبقي أحد شيئًا من المَن الى صباح اليوم التالي، وإلاّ دبّ فيه الدود وأنق. ولكنّ أناسًا لم يسمعوا لموسى، فوبّخهم موسى لأنّهم لم يؤمنوا بعناية الله بهم. فالمَنّ ليس خبز السماء فحسب، بل علامة المساواة بين الجميع، ونداء الى مسيرة الإيمان دون أن نهتمّ بالغد (رج مت 6: 11، 25-26).
إعتبر معلّمو اليهود أنّه كان للمَنّ كلُّ طَعم نشتهيه. طَعْم الخبز وطَعْم اللحم وطَعْم الزيت وطَعْم العسل. ولقد قال في ذلك سفر الحكمة (16: 20- 21): "أمّا شعبك فأطعمتهم طعامَ الملائكة (رج مز 78: 25 حسب الترجمة السبعينية) وأرسلت لهم من السماء خبزًا مُعَدًّا لا تعب فيه، يتضمّن كلّ لذة ويلائم كلّ ذوق، لأنّ جوهرك أبدى عذوبتك لبنيك، فكان يخدم شهوة المتناول، ويتحوّل إلى ما شاء كل واحد". هذا المنّ السماويّ الذي يسمّيه المزمور (105: 4) خبزَ السماء أو حنطة السماء وخبزَ الأقوياء (مز 78: 24-25) وزادًا للشِبعَ (رج 1كور 10: 3: طعام روحي) سيرمز الى المسيح الخبز الحقيقيّ الذي نزل من السماء ليحيا من يأكل منه الى الأبد (يو 6: 50- 51).

الموضوع الثالث: شريعة السبت (16: 22-30)
(آ 22-26) لقد سبق لنا وقرأنا في سفر التكوين (2:2-3) عن شريعة السبت التي تفرض على الإنسان الراحة من عمله، كما استراح الله بعد أن خلق الكون. وها نحن نقرأ شيئًا مماثِلاً عن تقديس يوم السبت وتكريسه لله، فلا نعمل فيه عملاً دنيويًّا (راجع "شبت " في العبريّة، وسبت في العربيّة). ينطلق موسى من واقع حياة بني إسرائيل في البريّة فيقول لهم: الحِصّة المضاعفة في اليوم السادس تعلّمكم أن لا تعملوا في اليوم السابع، يومِ السبت. فهذا اليوم مخصَّص لله، ولهذا يهيّىء بنو إسرائيل الطعام في اليوم السابق. وهذه الفريضة محفورة في شريعة الكون: فالمنّ الذي ينزل كل يوم لا ينزل يوم السبت، والمنّ الباقي إلى الغداة يَفسُد ويُنتِن، أمّا منُّ يومِ السبت فلا يتغيّر طعمه ولا لونه. وهكذا يلتقي نظام الشريعة نظامَ الكون والطبيعة. إنّ التقليد الكهنوتيّ ربط شريعة السبت مرًّة أولى بالخَلق، وها هو يربطها بالطبيعة بانتظار أن يربطها بوجود إسرائيل التاريخيّ. فالإله الخالق هو ذاته الإله المخلّص، ومن نعبده سيّدَ الطبيعة هو أيضًا سيّدُ التاريخ. بهذا نفهم أنّنا لسنا أمام شريعة جديدة نظّمها موسى، بل أمام شريعة قديمة جعلها موسى وصيًّة جديدة، وأعطاها أبعادًا ترتبط بحياة الشعب وتاريخه.
(آ 27-30) وفي اليوم السابع خرج بعضُهم ليلتقطوا... مَن عصى شريعةَ السبت يكون قد رفض الطاعة لوصايا الله. وهكذا يمكننا القول إنّ عطاء المَنّ وشريعةَ السبت يعبّران عن نعمة الله وعطيّته، ويحويان ما تطلبه منا الشريعة لنكون أمناء للعهد.

الموضوع الرابع: ملحق عن المنّ (16: 31-36)
(آ 31) نجد هنا تفسيرًا للمنّ: هو كبِزْر الكزْبرة لأنّه أبيض، وطعمه كقطائف بعسل.
(آ 32-34) أمر الرب موسى أن يحفظ بعض المنّ في وعاء، ويجعله مع لوحتي الوصايا العشْر (25: 22؛ 31: 18؛ 40: 30) أمام خيمة الشهادة (رج عب 9: 4).
(آ 35-36) أعطي المن للشعب مدةَ أربعين سنة، أي مدّة تجوالهم في البريّة. ولما دخلوا أرضَ الموعد انقطع المنّ عنهم، فأكلوا من غلّة الأرض (يش 5: 12)، ولكن لم تنقطع عنهم عناية الله الذي باركهم في أرض كنعان، كما باركهم في الصحراء.
3- المياه الخارجة من الصخر (17: 1-7)

حصل حدَثان في رفيديم يرتبطان بمعجزة يصنعها موسى، عندما ينفّذ أمر الرب بواسطة عصا الله التي بيده.
خَبَرُ إخراج المياه من الصخر بسيط وقصير. لم يجد الشعب ماءً يشربه، فتذمّروا على موسى. صرخ موسى إلى الربّ فأمره أن يذهب الى صخرة هناك، ويضربها بعصاه. ضربها فسالت المياه. شرب الشعب وشبع، وسمىّ ذلك المكان "مسة" أي مياه المحنة والتجربة، و" مريبة " أي مياه الخصومة والشكّ والرِيبة.
يتفوّه الشعب بكلمتين: الأولى (آ 3): أعطونا ماءً نشربه. الثانية (آ 7): هل الربّ بيننا أم لا؟ وتتمّ المعجزة ربّما مرّتين وفي محلّتين مختلفتين: في "ماسة" حيث امتحن الشعب الله وطلب اليه أن يظهر قدرته (في "مارة" امتحن الشعب الله أيضًا)، وفي مريبة حيث خاصم الشعبُ موسى وهارون، وارتاب بحضور الله وقدرته على صنع المعجزات.
وصل الشعب الى رفيديم، أي الى مكان الراحة، أو مكان الرِفد والعطاء، وهي على ما يبدو وادي الرفيد، شماليَّ جبل موسى. ولكنّ الكتاب يجعل رفيديم في جبل حوريب، موضعِ حضور الله.
ونتساءل: هل نحن أمام معجزة واحدة روَتْها بطريقتها الخاصّة المصادرُ اليهوهيّة (مارة، مسة في 15: 22-27) والإلوهيميّة (مسة- مريبة في 17: 1-7) والكهنوتيّة (مريبة- قادش في عد 20: 1-3)، أم نحن أمام معجزاتٍ ثلاثٍ حصلت في الصحراء، وقضيةُ الماء فيها قضية موت أو حياة؟ لا شكّ في أنّ كل هذه المصادر تشير الى الحاجة الى الماء، والى تذمّر الشعب، والى الصخرة التي تخرجِ منها المياه بضربة عصا موسى أو هارون. وبما أنّ المعجزة "الأولى" حدثت حالاً بعد الخروج من مصر (15: 22-26) والمعجزةَ " الأخيرة " تمّت قبل دخولهم أرض الميعاد، فكانت المدّةُ بين الأولى والأخيرة أربعين سنة، لذلك اعتبر المعلّمون اليهود أنّ هذه الصخرة كانت تتنقّل معهم من مكان الى آخر، لتعطيهم الماء الضروريّ لحاجاتهم.
معجزةٌ واحدة أم ثلاثُ معجزات ما الفائدة من هذا السؤال النافل، وحياة الشعب في البريّة كانت معجزة دائمة رغم تذمّر بني إسرائيل وامتحانهم لربّهم. والرب سيستفيد من امتحان الشعب له، ليبيّن لهم أنّه لا يتركهم، بل يؤمّن لهم كلّ يوم وبطريقة عجيبة ما يحتاجون إليه بواسطة عبده موسى. ولهذا كانت الصخرة في البريّة رمزَ العناية الإلهيّة التي لم تخلّص الشعب من العبوديّة لتميتهم في البرية.
ذكر القديس بولس هذا الحدث في رسالته الاولى الى أهل كورنثس (10: 1-13)، فدلّنا على المعنى الروحيّ لمعجزة المنّ ومعجزة الصخرة، بعد أن دلّنا على أنّ عبور البحر الأحمر كان رمزًا للمعموديّة. إنّ الخلاص من مصر كما يَرويه سفرُ الخروج هو للمسيحيين نموذج عن الخلاص من الخطيئة بواسطة المسيح. أمّا القول بأنّ الصخر هو المسيح، فيستنتجه من حضور الربّ فوق الصخر (17: 6) ومن كلام المزمور (3:18): إنّ الرب هو صخرة إسرائيل. فالقديس بولس الذي ينسب الى المسيح الموجود منذ الأزل كلّ صفات يهوه، يستخلص للمسيحيّين عِبرةً يعتبرون بها: ما أصابتكم تجربة فوق طاقة الإنسان، لأنّ الله صادق فلا يكلّفكم من التجارب غيرَ ما تقدرون عليه، بل يهبُكم مع التجربة وسيلةَ النجاة منها والقدرةَ على احتمالها.
4- النصر على بني عماليق (8:17-16)

وفي رفيديم انتصر بنو إسرائيل على بني عماليق.

أولاً- القتال والنصر (17: 8-13)
بنو عَماليق شعبٌ قديم العهد أقام شماليَّ جزيرة سيناء قربَ قادِش (تك 7:14؛ عد 13: 29؛ 14: 25 -43). كانوا تجّارًا يجيبون المِنطَقة، وقد أرادوا أن يمنعوا بني إسرائيل أن دخول مِنطقتهم والتقدّمِ الى أرض كنعان، ففشلوا وهُزموا.
فقال موسى ليشوع. هنا نقرأ اسمَ يشوعَ بنِ نون، وللمرّة الأولى، وكان موسى قد سمّاه بهذا الاسم الذي يعني الخلاص (عد 13: 8). سيكون يشوع الساعد الأيمن لموسى (13:24؛ 17:22؛ 33: 11؛ عد 11 :28؛ يش 1: 1) وسوف يَخلِفه في سلطته الحربيّة والسياسيّة (عد 27: 8 ا-29)، تاركًا لغيره السلطة الكهنوتيّة.
نقرأ هذه الآيات فلا نجد ذكرًا لاسم يهوه، بل ليد موسى: ترتفع فيتمّ النصر للعبرانيّين، تسقط فتتمّ لهم الهزيمة. أنكون أمام عمل سحريّ؟ كلا، وموسى يرى يديه للصلاة، والصلاةُ تفعل أكثرَ من السلاح. بالإضافة الى ذلك تصوّر الآباء موسى وعصاه على صدره بشكل صليب، فأبرزوا أنّ النصر الحقيقيّ على قوى الشرّ التي تمنعنا من الدخول الى أرض الميعاد، يتمّ بواسطة الصليب حافِظِنا وحامينا والمدافعِ عنّا.
أجل، صعد موسى الى جبل الله ليكون قريبًا منه، ورفع يديه للصلاة. إن ثابر على الصلاة انتصر شعبه، وإن تخاذل في الصلاة انهزم شعبه. الله وحده يعطي النصر، وما على الشعب إلاّ الإيمانُ بالربّ والمثابرةُ على الصلاة. لذلك لم يذكر النصّ وقائع المعركة، لأنّ المنتصر الحقيقيّ غيرُ منظور. وسفر يشوع (6: 1 ي) لا يذكر أيضًا بأيّ سلاح احتلّ العبرانيّون أريحا، بل اكتفى بذكر صلاة الشعب وطَوافهم. هتف الشعب فأسلم الرب إليهم المدينة.

ثانيًا- تدوين الحدَث (17: 14-16)
أمر الرب موسى أن يدوَّن هذا الحدَث. في أي كتاب؟ لا ندري.إنّما يجب القول بوجود نصوص مكتوبة في شعب إسرائيل منذ ذلك الوقت. فالكتابة كانت معروفة بالرموز منذ آلاف السنين قبل المسيح، وبالأحرف منذ الجيل الخامسَ عشرَ ق. م، وقد اكتشفت كتابات في بريّة سناء، حيث كانت المناجم، وفي رأس شَمرا وجبيل وصيدا. وهكذا نقلت التقاليدُ الدينيّة والتاريخيّة في كتب ذكرت لنا منها التوراة كتاب حروب الرب، وكتاب الصديق...
وبنى موسى مذبحًا في ذلك المكان، فشهد هو ايضاً على حضور الله وما فعله من أجل شعبه. هكذا فعل يعقوب بعد الرؤيا التي حصلت له وهو في طريقه الى حاران (تك 28: 16- 21)، وهكذا سيفعل يشوع (4: 1 ي) بعد عبوره الأردن. ينظر الشعب الى المذبح، فيتذكّر جيلاً بعد جيل خلاصَ الربّ في شعبه.

5- لقاءُ موسى لحَمِيه وتنظيمُ القضاء (18: 1-27)

أولاً: لقاء موسى لحميه يترو (18: 1-12)

موضوع هذا الفصل لقاء موسى ليترو حميه وكاهن مديان، ولقاء بني إسرائيل لبني مديان خلال مسيرة البريّة. لهذا سنقسم هذا الفصل 18 إلى قسمين: اللقاء (آ 1-12) ثم تعيين قضاة يعاونون موسى في عمله (آ 13-27).
( آ 18: 1-4) يهم، حَمُو موسى، تحدّثنا عنه وعن اسمه في (2 : 15-16).
وكان يترو قد استرجع صفّورة... وكنّا قد قرأنا في (4: 20) أنّ موسى أخذ امرأته وابنه معه الى مصر. وهكذا نكون أمام تقليد آخر عن عائلة موسى، تُخبرنا أيضًا أنْ كان له ابنان، لا ابنٌ واحد، جرشوم (كنت غريبًا ونزيلاً) وأليعازر (الله عوني).
(آ 5-9) جبل الله. هذا كان اسمه حتى في بني مديان، وهو يدلّ على المكان الذي تراءى الله فيه.
أخبر موسى حَماه بكل ما صنعه الربّ. هذه أوّل كرازة لغير أبناء الشعب، وهي مثال لكل دعوة الى اعتناق دين يهوه: يرى الوثنيّون أعمالَ الله فيمجّدونه.
(آ 10-12) نسمع هنا فعل إيمان: تبارك الرب المخلّص، إنّه أعظم من جميع الآلهة. وبما أنّ يترو صار من المؤمنين بالله، فله الحقّ أن يقدّم الذبيحة، وسيشاركه الشيوخ في ذبيحته ويأكلون منها معه.

ثانيًا: تعيين قضاة يعاونون موسى (13:18- 27)
(آ 13-14)، وجلس موسى ليقضي... لعب موسى دور هؤلاء الشيوخ الذين عرفتهم القبائل، فكان يستمع الى الشكوى ويقضي للشعب. ولكن الحِمْل كان ثقيلاً على موسى.
(آ15-16) أُعلِّمُهم إرادة الله. كانوا يعتبرون القضاء عطيّةً من الله، بحيث إنّ كلّ حُكْمٍ عادل يأتي منه. للحصول على مثل هذا الحُكم كانوا يلجأون الى شخص جدير بالاحترام، وفيه روح الله مثلَ موسى.
أعرّفهم فرائض الله. بعد اختبار طويل في القضاء سيبرز جسم القوانين الذي سيغتني شيئًا فشيئًا تابعًا تطوّر الزمن.
(آ 17-23) ونصح يتْرو موسى بأن يُولّي على الشعب رؤساءً أو قضاة يُعلنون لهم الفرائض والشرائع ويعرفونهم الطريق القويم. وعلى كلّ الشعب أنْ يتعلّم شرائع الرب، وذلك خارج الإطار العائلي.
أمّا صفات القضاة فهي على الشكل التالي: أمناء، يخافون الله، يكرهون الرَشوة.
هم يقضون في الأمور الصغيرة، ويتركون الأمور الخطيرة لموسى.
(آ 24-27) وفعل موسى بما نصحه حَمُوه.

ج- علاقة بني إسرائيل ببني مديان.
هناك ثلاثةُ نصوص عن اختيار هؤلاء القضاة. في سفر العدد (11: 11-30) نقرأ أنّ الله هو من عيّن هؤلاء القضاة، بناءً على طلب موسى. في سفر التثنية (9:1-18) نقرأ أنّ موسى اتّخذ المبادرة بنفسه، فاختار قضاة يحكمون بالعدل بين الرجل وأخيه. وفي هذا النصّ نقرأ أنّ موسى عيّن قضاة بناءً على نُصْح حَميه، يحكمون في الأمور الصغيرة ولا يرفعون الى موسى إلاّ كلَّ أمر عظيم.
ونشير أيضًا الى أنّ الكاتب جعل خَبَرَ بني مديان بعدَ خبر بني عماليق، ليدلّ على نوعين من العلاقات بين بني إسرائيل وجيرانهم: عداءٌ دائم مع العماليقيين (18: 16)، صداقة دائمة مع المديانيّين.
وهنا نطرح السؤال عن تاثير المديانيّين (وقبيلة القينيّين) على بني إسرائيل. نعرف أولاً أنّ موسى عاش بين بني مديان، يوم هَرَبِه من مصر، وأنّه تزوّج بابنة كاهنهم (2: 15-22). في مديان تراءى له الربّ في العلّيقة المتّقدة، وكشف له عن اسمه يهوه (3: 13-14). وخلال لقائه ليترو حَمِيه (13:18-27) ، سيأخذ موسى بالتنظيم الاجتماعيّ الذي عرفه بنو مديان، فيجعل رؤساءَ على الألوف والمِئات والخمسينات والعشرات.
ونَزيد على ذلك فنقول. إنّ يتْرو كان كاهن الربّ يهوه، وهو من ذبح له ذبيحةً ليشكر له صنائعَه من أجل موسى ومن أجل بني إسرائيل. وهكذا يكون بنو إسرائيل قد تبنَّوا الكثير من الأمور الدينيّة والاجتماعيّة التي عرفوها عن بني مديان. إلاّ أنّ المصادر الكتابيّة سوف تغربل هذه النصوص القديمة، فتظهر أنّ بني مديان هم الذين تعلّموا من بني إسرائيل، وأنّ يتْرو عرَف يهوه، الإلهَ الحقيقيّ، لمّا اتّصل بموسى وببني إسرائيل. ونقول نحن: لقد اوحى الله الى موسى بأمر جديد له ولشعبه، فاستفاد موسى من مدنيّة سبقت مدنيّة بني إسرائيل، فعبّر عن إيمانه بلغة الناس الذين عاش بينهم، ونظّم شعبه على مثال بني مديان. إعتبر الكاتب الملهم أنّ هذا الأمر لا يَمسّ الإيمان بالإله الحقيقيّ، فذكر النواحي التي ربطت بني مديان ببني إسرائيل، ولم يتأثر بالعِداء بين المديانيّين والإسرائيليّين في ما بعد. كان أمينًا للتقاليد القديمة، فأورد هذه المعلومات، وهَمُّه قبل كل شيء أن يسمع شعبه شهادة إيمان يترو: "الآن علمت أنّ الربّ (يهوه) أعظمُ من جميع الآلهة" (18: 11).
هؤلاء القضاة أوِ الحكّام عيَّنهم موسى، وجعل لكلّ واحد سلطة تلائم عدد الذين يقضي فيهم. القاضي هو "شفط " في العبرية (راجع شبطو في السُريانيّة، وتعني السوط والصولجان) وهو من يقضي بالحكم والانصاف (سافت في قرطاجة هو الحاكم). سيكون هؤلاء الرجالُ أقوياء، قديرين، أغنياء، يخافون الله ويتعلّقون بأهداب الحقّ. يُبغضون الرَشْوة والربح غيرَ المشروع، لأنّهم يرفضون تحريف الحقّ مقابل المال. ويقول فيهم سفرُ التثنية (1: 13-17): يكونون حكماء، عقلاء، معروفين. يحكمون بالعدل، لا يهابون وجه أحد في الحكم. يسمعون للكبير كما يسمعون للصغير. ولا يهابون وجه إنسان.
إنّ جماعة تقوم على المساواة والعدل والإنصاف ستنمو وتكثُر ببركة الله لها. ولكنّ بني إسرائيل سينسَون هذه القِيَم، فيسمعون وعيد الأنبياء ملعلِعًا. قال أشعيا (1: 23): "كلٌّ يحبّ الرَشْوة ويتتبّعون الربح. لا يُنصفون اليتيم، ودعوى الأرملة لا تصل إليهم " وتحدّث عاموس (3: 10) عن هؤلاء الذين يَخْزُنون في قصورهم الظُلمَ والسَرِقة. ولهذا سوف يتطلعّ المؤمنون الى زمن الحياة في البرّية، يوم كانت الحياة مع الربّ حلوةً، والمعاملةُ مع الإخوة مبنيّةً على المساواة والانصاف والعدالة.

د- بعض المعاني الكتابيّة.
نتطرّق هنا الى ثلاثة معانٍ كتابيّة: شريعةِ السبت، رمزِ الصخر المتدفّق ماءً، ومفهومِ المنّ في تقليد الإيمان.
1- شريعة السبت

السبت يومُ الراحة كما عرفنا ويومُ عطلة للرب.
يشدّد قانون العهد (23: 12) على الوُجْهة الإنسانية لهذه الراحة: يستريح ثورُك وحمارك، ينتعش ابن جاريتك والغريبُ الذي يعمل معك. ويلفِت الشَرْع الكهنوتيّ انتباهنا إلى أنّ الانسان يتشبّه بالله، فيعمل عمله في ستة أيّام، ويستريح في اليوم السابع: في ستّة أيّام تعمل، وفي اليوم السابع سبتُ عُطلةٍ مقدّس للرب (31: 15)
وكانت الشريعةُ قد عدّدت الأعمالَ التي لا يحِقّ للإنسان أن يعملها يومَ السبت: إشعالُ النار (3:35)، جَمعْ الحطَب (عد15: 32) تهيئةُ الطعام (16: 32)... فعلى المؤمنين أن يحفظوا يوم السبت، ومن دنّسه فعمِلَ فيه عملاً، يقتلُ قتلاً.
أمّا تقديس يوم السبت فهو علامة على العَهد بين الله وشعبه. الله هو مقدِّسُ شعبه (31: 13)، ولهذا يحفظ المؤمنون هذا اليوم ويقدّسونه (تث 5: 12)، عندما يجتمعون للصلاة وسمَاعِ كلام الله ( لا 23: 3) ويقدّمون الذبائح (عد 28: 9- 10) ويجدّدون خبز التقدمة (لا 8:24). ولقد بلغ تكريم الغَيورين على السبت مَبْلغًا جعلهم يُذبَحون، ولا ينجّسون السبت بحمْلهم للسلاح ليدافعوا به عن نفسهم (1 مك 32:2-38).
ولما جاء يسوع لم يُلغِ شريعةَ السبت، بل كان يذهب فيه الى المجمع، فيُعلن البشارة على بني قومه (لو 4: 16). وعندما هاجم الفريسيين، فهو لم يهاجمهم بسبب تقواهم، بل لانعدام الرحمة في قلوبهم. حسِبوا أنّ الإنسان هو للسبت. أمّا يسوع فقال إنّ السبت هو للإنسان. وإنّ واجب المحبة فوق واجب المحافظة على السبت (مت 12: 5؛ لو 13: 10-16؛ 14: 1- 5)، وربّ السبت هو ابن الإنسان (مر 28:2).
بعد صعود يسوع الى السماء، ظلّ تلاميذه يحفظون السبت، ثم جعلوا يوم الاحد، اليومَ الأوّل من الأسبوع، يومَ قيامة الرب، يومَ الربّ يحفظونه، وفيه يجتمعون لسَماع كلام الله في الكتاب المقدّس والاشتراك في كسر الخبز. حينئذ صار السبت صورةً عن الأحد، كما صار المَنّ صورة عن جسد المسيح.
أمّا آباء الكنيسة فسينظرون الى السبت على أنّه رمز الى الزمن المقدّس كما أنّ الهيكل رمز الى المكان المقدس. لقد كان الهيكل سرّ تكريس الخليقة كلّها، بتكريسه مكانًا خاصًّا لعبادة الله، كذلك كان السبتُ سرَّ تكريس التاريخ كلِّه بتكريسه يومًا خاصا بالله. وسينظرون أيضًا الى راحة السبت، فيعطونها أبعادًا روحانيّة. لن تعود الراحة امتناعًا عن العمل وحسْب، بل امتناعًا عن الخطيئة (رج إش 1 : 13-19).
وسيكون أمامَ الآباء، مشكلة صعبةٌ بالنسبة إلى إلغاء السبت كيوم راحة وصلاة. من جهة أوصى الله بتقديس السبت، وهذا ما نقرأه في كتب نعتبرها نحن المسيحيّين مقدّسة، ومن جهة ثانية لم يعد السبت بالنسبة إلى الكنيسة إلاّ رمزًا وصورةً عن الأحد. كيف نوفِّق بين هذين القولَين، وهل من تناقضٍ في كلام الله؟ وبرز تيّاران متطرّفان، تيّار أولُ متأثر باليهود يفرض تقديس يومِ السبت كما قبلَ المسيح، وتيّارٌ ثانٍ متأثر بالغنوصيّة، ينبذ العهدَ القديم كلَّه، وينبذ معه طقوسه ونُظُمه. ولكنّ الكنيسة فهمت أنّ عليها أنْ تؤكّد قدْسيّة أسفار العهد القديم، وتؤكّد في الوقت ذاتِه أنّ شريعة السبت بطَلت والتغت.
قال يوستينوس في هذا الشأن مخاطبًا اليهود: لم يعمل نوحٌ ومليكصادق بالختان، ولم يحفظوا السبت، مع أنّهم أرضَوا الربّ مثل موسى. بإبراهيم بدأت شريعة الختان، وبموسى شريعةُ السبت، وبإرادة الله زالت هاتان الشريعتان في ذلك الذي وُلد من عذراء، من نسل إبراهيم الذي هو المسيح ابنُ الله. وسيقول مثلَه ترتليانوسُ وأوريجنس وإيريناوس وغيرُهم من الآباء والكتّاب المسيحيّين، فيشدّدون على أنّ نظام السبت قد وجدَ كماله في سرّ المسيح. أُلغي خبزُ التقدمة، فصار للكنيسة خبزًا آخر هو جسد المسيح، هُدم هيكل أورشليم ولكنّ جسد المسيح هو الهيكلُ الجديد. بَطَل السبتُ وتمّ في المسيح، ولكنّنا نتذكّر قيامة المسيح يومَ الأحد.
2- رمز الصخر المتدفّق ماءً

لا ينبُت على الصخر شيء، ولكن قدرة الله تجعل المؤمن يأكل ثمارًا في الصحراء، ويرَضع العسلَ من الصخر والزيتَ من الصوّان (تث 13:32). يكفي أن يكون الربّ حاضرًا ليتحوّل وادي الجفاف الى عيون ماء، وتمتلىءَ البريّة بالمطر (مز 7:84 ؛ اش 35: 6-7). أجل، إنّ الله يُظهر سلطته على الخلائق، عندما يفجّر المياه من الأرض الجافّة والصخرِ القاسي، كما فعل في مريبة.
إنّ مُعجزة الماء تتمّ في الإنجيل. فقد قال يسوع عن المؤمنين الذين سينالون الروح القدس: "إن عطشَ أحد فليجِيء إليّ ليشرب، ومن آمن بي، كما قال الكتاب، تفيض من صدره أنهار ماء حيّ (يو 37:7-39) . وهذا الماء الحيّ يعطيه الربّ لنا فيصير فينا نبعًا يفيض بالحياة الأبديّة (يو 4: 14).
وينطلق القديس بولس من مُعجِزة الصخر المتفجّر ماءً فيقول: " وكلُّهم كانوا يشربون شرابًا روحيًّا من صخرة روحيّة ترافقهم، وهذه الصخرة هي المسيح " (1 كور 10: 4). من خلال كلمات الرسول نرى تلميحًا الى أسطورة تناقلها المعلّمون اليهود، وهي تَروي أنّ نبعًا متحرّكاً خرج من الصخر ورافق العبرانيّين في تَجوالهم عَبْرَ البريّة. عندما ينصبون خيامهم يقوم النبع قرب خيمة الاجتماع، وعندما يقولون له: إجرِ أيّها النبع، كان يجري فيحمل معه الخِصب. قال المعلّمون إنّ هذا الصخر يرمز الى يهوه الربّ، وقال القديس بولس إنّه المسيح الذي يعطينا خِصبًا وحياةً أبديّة.
سترتبط صخرة حوريب بمعجزة المنّ لتدلّ على حموّ الأسرار المسيحيّة. يقول القديس أمبروسيوس: تفجّرت المياه من الصخرة لليهود، أمّا لك، أيّها المسيحيّ، فَدَمُ المسيح. المياه سكَّنتْ عطشهم لساعة، والدم يُطفىء عطشكَ إلى الأبد. يشرب اليهودي الصورة، والدم هو الحقيقة. فإذا كانت الصورة عجيبةً في عينيك " فكم تكون الحقيقة التي تتكامل صورتها!
ويقول القديس أغوسطينوس جامعًا بين معجزة الصخر ومعجزة المنّ: كلّهم شربوا شرابًا روحيًّا. شربوا شرابًا، ونحن شربنا شرابًا آخر، والشرابان لا يفترقان إلاّ بالمظهر الخارجيّ لأنّهما يَعنِيان الشيء عينَه الذي فيهما. كيف شربوا الشراب عينَه؟ كانوا يشربون من الصخر الذي يرافقهم، وهذا الصخر هو المسيح: الصخر هو صورة المسيح، والمسيح الحقيقيّ هو في الكلمة المتجسّدة.
3- معجزة المنّ في تقليد الإيمان

المنّ هو الطعام العجائبي الذي أعطاه الربّ لشعبه في البريّة، والمعجزةُ تكمُنُ في أنّ هذا الطعام رافق العبرانيّين منذ خروجهم من مصر إلى دخولهم أرضَ الميعاد. وتكمُنُ أيضًا في أنّ هذا الطعام كان على قدَر حاجة كلّ يوم بيومه، ما عدا اليومَ السادس. في سائر الأيام كان الدود يَدخله فيُنتن؛ أمّا في يوم السبت فلا يدوّد بل يظلّ سليمًا؟ وتكنُ المعجزة أخيرًا في ما سيذكره التقليد عن خبز السماء وخبز الاقوياء وخبز الملائكة. هو الخبز الذي يدلّ المؤمنين على حضور الله بينهم وعنايته بهم، وهو يطلب إليهم أن يتجاوبوا وهذا الحضورَ، فلا يجمعوا أكثرَ من حاجتهم اليوميّة، ولا يذهبوا إلى الخارج يوم السبت ليلتقطوا قوتهم، لأنّ السبت يوم عطلة وراحة مقدّسة للرب. هل يطيع المؤمنون الربَّ ووصاياه أم لا؟
هذا الطعام الذي أكل منه العبرانيّون أربعين سنة، أي خلال تنقّلهم في البريّة، سيأتي يومٌ يجدون فيه أن لا طعم لهذا الطعام، بعد أن امتحنهم الله عبرَ الطاعةِ التي طلبها منهم. وها هو يمتحنهم مرّةً ثانية ليُفهمهم أن لا يجعلوا اتّكالهم على طعام الأرض، بل على الطعام الآتي من السماء. يقول سفر التثنية (3:8): إنّ الله امتحن شعبه بالتعب والجوع، تم أطعمه المنّ لكي يعلّمه أنّ الإنسان لا يحيا بالخبز وحدَه، بل بكل كلمة تخرج من فم الله.
هذه الحقائق سيعيشها يسوع، وهو الذي جُرِّب في البريّة فقال للشيطان إنّ كلمة الله هي حياة الإنسان (مت 4: 1-4)، وهو الذي أطعم شعب الله خبزًا عجائبيًّا، فأشبعه (مت 14: 20؛ 37:15). ولكنّ هذا الشعب لم يَفهم عطيّة الله، والفريّسيون طلبوا آيةً من السماء (مت 16: 1-4؛ يو 6: 30- 31). قال يسوع: "ما أعطاكم موسى الخبزَ من السماء. أبي وحدَه يعطيكم الخبز الحقيقيّ من السماء، لأنّ خبز الله هو الذي ينزلق من السماء ويعطي العالم الحياة... أنا هو خبز السماء" (يو 6: 32-34).
إنّ الخبز الحقيقيّ الذي ينزل من السماء ليس المنَّ، ذلك القوتَ الفانيَ الذي أكله الآباء في البريّة وماتوا. الخبز الحقيقيّ هو جسدُ يسوع، ذلك القوتُ الباقي للحياة الأبديّة، فيحيا الى الأبد من يأكلُ منه. هذا الخبز نتقبّله بالإيمان طعامًا لحياة العالم: إن كنتم لا تأكلون جسد ابن الإنسان ولا تشربون دمه، فلن تكون فيكم الحياة. ولكن من أكل جسدي وشرب دمي فله الحياة الأبديّة، وأنا أقيمه في اليوم الأخير (يو 53:6-54).
ويحدّثنا القديس بولس عن المنّ فيقول: كلّهم أكلوا طعامًا روحيًّا، كلّهم كانوا يشربون شرابًا روحيًّا، ومع ذلك، فما رضي الله عن أكثرهم، فسقطوا أمواتًا في الصحراء... حدَث لهم هذا كلُّه ليكون لنا نذيرًا، وهو مكتوب ليكون عبرةً لنا نحن الذين انتهت إليهم آخرُ الأزمنة (1 كور 3:10- 11). نحن شعب العهد الجديد نمرّ في الامتحان الذي مرَّ فيه شعبُ العهد القديم، ومن غلب أعطاه الروح المَنّ الخفيّ وحَصاةً بيضاء منقوشًا فيها اسمٌ جديد (روء17:2) هو اسمُ يسوعَ الذي به تسميّنا في العماد.
المَنّ والصخرة، الطعامُ والشراب سيكونان الموضع الذي يتوقّف عنده آباء الكنيسة. فيقول يوحنّا فم الذهب: لقد أريتك المائدة والاشتراك في الأسرار، والقديس بولس يقول: إنّهم أكلوا الطعام الواحد. وأنت أيّها المسيحيّ، عندما تصعد من جُرن العماد، وتتقدّم من المائدة، تذكّر أنّهم هم أيضًا صعدوا من الماء، وجاؤوا الى مائدة جديدة وعجيبة، عَنَيْتُ بها المَنّ. وكما أنّ لك شرابًا سريًّا، هو دمُ يسوعَ الخلاصيّ، كذلك كان لهم شرابٌ عجيب وماء غزير تفجّر من الصخرة الصمّاء.
ويزيد تيودوريتوس في هذا المعنى: كانت الأشياء القديمة صورةً عنِ الأشياء الجديدة. فشريعة موسى هي الظِلّ والنعمة هي الجسم. لاحق المصريّون العبرانيّين فعبر هؤلاءِ البحر الأحمر، ونَجوا من ظُلمِهم. البحر هو رمز جُرن المعموديّة، والسحاب صورة عن الروح القدس، وموسى رمزٌ عن المسيح المخلّص. وكما أنّ هؤلاء عبَروا البحر الأحمر، ثمّ ذاقوا طعامًا إلهيًّا، وشربوا مياهًا عجيبة، كذلك نشترك نحن في الأسرار الإلهيّة بعد العماد الخلاصيّ.
ويذكر أمبروسيوس المَنّ، تلك المعجزةَ التي منحها الرب للآباء. "كانت السماء تغذّيهم بطعام روحيّ كما كتب: أكل الإنسان من طعام الملائكة، ومع ذلك، فالذين أكلوا هذا الخبز ماتوا في الصحراء. أمّا الطعامُ الذي تَقْبَله أيّها المسيحيّ، هذا الخبزُ النازل من السماء، فهو يعطيك جوهر الحياة الأبديّة لأنّه جسد المسيح. فالنور أعظمُ من الظلّ، والحقيقةُ من الصورة، وجسدُ الخالق مِنْ مَنِّ السماء.
"وهذا الطعام الروحيّ له وجه منظور ووجه غيرُ منظور. بوجهه المنظور هو حاضر اليوم في الكنيسة طعامًا يوميًّا للمؤمنين. وبوجهه غيرِ المنظور هو رفيق شجرة الحياة ورمز عن الخيرات الإلهيّة التي ستكون لنا في الحياة الأخرى. وكما أنّ الله غذّى شعبه في الخروج الأوّل، هكذا سيغذّيه في الخروج الثاني، يغذّيه بجسد ابنه ودمِه، بانتظار اشتراك الكنيسة في عُرس الحَمَل الذي تعطى فيه خبزَ الحياة وماءَ الحياة مجّانًا".

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM