الفصل الخامس :المسيح قام

الفصل الخامس
المسيح قام

تلك هي الصرخة التي يطلقها المسيحيّ في عيد القيامة: المسيح قام. فيجيب الآخر: حقًا قام. وتلك كانت أول صرخة للكنيسة في صباح ولادتها: "ليعلم جميع بيت اسرائيل أن يسوع هذا الذي صلبتموه، قد أقامه الله وجعله مسيحًا وربًا" (أع 2: 32-36). فالكنيسة تبدأ بإعلان واقع ما زالت تعيش منه ولن تزال حتى نهاية العالم: قيامة المسيح. وتقول: "لا نستطيع أن نسكت عمّا رأينا وسمعنا". هذا ما قاله الشهود الأولون.
ونحن سنسمعهم في أناشيدهم واعتراف إيمانهم، في كرازتهم الرسوليّة إلى اليهود ثم إلى الوثنيين. غير أننا نتساءل: ماذا يعني كلام النؤمن الذي نتلوه: "يسوع قد قام"؟ وما علاقة هذا القول بحياتنا اليوميّة؟ نحن نشبه تلميذَي عماوس مع إيمانهما وآمالهما التي خابت. ولكننا لسنا أمام حلم. فهناك أناس أعلنوا قيامة يسوع وضحّوا بحياتهم ولم يتراجعوا عن هذا الاعلان. من أجل هذا سوف نتوقّف عند النصوص الانجيلية التي تتحدّث عن هذه القيامة، ونفهم أن واقع قيامة يسوع المصلوب ليس على مستوى الخبرة البشريّة المباشرة، بل على مستوى الايمان الذي هو يقين يتعدّى كل يقين ويستند إلى شهادة الكتب المقدسة،وشهادة الذين رأوه بعد قيامته. أجل، لقد كُتبت الأناجيل لتجعلنا نلتقي مع خبرة الشهود الأولين التي أطلقت الكنيسة، ونصل إلى معنى أحداث الفصح لكي نؤمن، وإذا آمنا كانت لنا الحياة الأبديّة.
نتوقّف في هذا المقال عند نظرات عامّة إلى أناجيل القيامة. وبعد أن نلقي نظرة إلى كل إنجيل بمفرده، نقدّم ثلاثة نصوص انجيلية تحدّثنا عن قيامة يسوع وظهوره للتلاميذ.

1- نظرات عامة إلى أناجيل القيامة
نتوقّف هنا عند ثلاثة أسئلة. الأول: كيف نقرأ الأخبار الانجيليّة حول القيامة؟ الثاني: كيف تبدو أخبار الظهورات؟ الثالث: ما هو الدور التعليميّ في هذه الظهورات؟
أ- الأخبار الانجيليّة
حين نطالع الأخبار الانجيليّة حول قيامة يسوع، نتوقّف عند فكرتين. الاولى تقول إن الأخبار تبدو مختلفة بعضها عن بعض. والثانية تقول إن هذه الأخبار هي قبل كل شيء شهادات إيمان.
أولاً: أخبار مختلفة
هناك اختلافات هامّة في هذه الأخبار، ونحن نعطي بعض الأمثلة. حسب إنجيل لوقا، يتمّ صعود يسوع يوم القيامة. أما حسب أعماله الرسل، فيتمّ بعد أربعين يومًا. نقرأ في لو 24: 1، 13، 51: "وفي اليوم الأول من الاسبوع... وفي ذلك اليوم عينه... وفيما هو يباركهم... صعد إلى السماء". وفي أع 1: 3، 9: "وهو يتراءى لهم مدّة أربعين يومًا ويكلّمهم عن شؤون ملكوت الله... ولما قال هذا ارتفع على مرأى منهم، وأخذته سحابة عن عيونهم".
حسب يو 20: 22، أعطي الروح القدس للتلاميذ يوم القيامة (خذوا الروح القدس). وحسب أع 2: 1-4، أعطي يوم العنصرة، أي خمسين يومًا بعد القيامة (ولما حلّ يوم الخمسين... امتلأوا كلهم من الروح القدس). واختلف عدد النساء الذاهبات إلى القبر. عند يوحنا امرأة واحدة (هي نموذج عن كل النسوة). عند متّى امرأتان (نحتاج إلى شاهدين لكي تصحّ الشهادة). عند مرقس ثلاث. وعند لوقا أكثر من ثلاث. قال متّى عنهّم إنهن كنّ في فرح، فأسرعن يعلنّ بشرى القيامة للرسل. أما مرقس فأعلن أن الخوف سيطر عليهن فلم يقلن لأحد شيئًا. هذا هو الخوف أمام الحضور الإلهيّ. وأخيرًا كانت الظهورات في الجليل حسب متّى، وفي أورشليم حسب لوقا. ولكن هل يهمّ المكان والزمان، أم الرسالة التي حمّلها القائم من الموت إلى الذين التقى بهم؟
ثانيًا: شهادات إيمان
في الواقع كلٌّ من الانجيليين الأربعة هو على حقّ، وإن اختلفوا في إيراد الوقائع. فالانجيليّ لا يسعى إلى أرضاء فضولنا، بل إلى تغذية إيماننا. لهذا نترك قراءة النصوص وكأنّا أمام حكاية أو نادرة، ونتوقّف عند القراءة اللاهوتيّة. فالانجيليّون لا يقدّمون لنا تقريرًا "مصوّرًا" من أجل "الصحافة"، ولا يحاولون أن يقدّموا لنا صورة دقيقة عن اكتشاف القبر أو ظهورات المسيح. هؤلاء "الكتّاب" هم مؤمنون وهم يتوخّون أن يشهدوا لإيمانهم، وأن يجيبوا على أسئلة طرحها عليهم هذا الإيمان. الانجيليون هم معلّمون ومربّون، لهذا نراهم يقولون يقينهم بلغة يفهمها قرّاؤهم. أعلنوا: "الله أقام يسوع". ثم "وُجد القبر مفتوحًا ولم يكن فيه جسد الربّ يسوع". ثم: "وتراءى يسوع لتلاميذه بعد موته" (أعطاهم أن يروه). ثم: "رُفع إلى السماء وجلس عن يمين الله". وأكّد كلّ من الانجيليين هذه الحقيقة. بطريقته، في لغة رمزية ومصوّرة، لا يبدو معناها واضحًا لكل واحد منّا اليوم. هنا ينبغي أن لا نأخذ هذه العبارات بطريقة حرفيّة، بل يجب أن "نحلّلها" في هذه الأخبار التي تعبّر عن الايمان بالقائم من الموت. كما يجب أن لا نخلط بين تعليم الايمان واللغة التي تحمل هذا التعليم. كل هذا سوف نكتشفه حين ندرس بعض النصوص الانجيليّة.
ب- ظهورات المسيح
بعد أن ندرس لائحة الظهورات، نتطرّق إلى لغة الظهورات التي هي في الواقع أخبار من الفقاهة المسيحيّة.
أولاً: لائحة الظهورات
أقدم لائحة للظهورات نجدها عند القديس بولس: "المسيح مات من أجل خطايانا"... قُبر وقام في اليوم الثالث، وتراءى لكيفا (بطرس) ثم للاثني عشر، ثم تراءى لأكثر من خمسمئة أخ" (1 كور 3:15-7). وبعد ذلك يذكر بولس يعقوب وجميع الرسل. وفي النهاية يذكر نفسه لأنه أصغر الرسل وآخرهم. وتحدّثت الأناجيل عن ظهورات للنسوة (مت 28: 9-10؛ مر 9:16- 11؛ يو 20: 11-18)، ولسمعان (لو 24: 34)، وللأحد عشر (مت 28: 16-20؛ مر 16: 14-18؛ يو 20: 19-20)، ولتلميذين على طريق عمّاوس (لو 13:24-35؛ مر 16: 12- 13)، ولسبعة رسل على شاطئ بحر طبريّة (يو 21: 1-23).
ونستطيع أن نرتّب هذه الظهورات في فئتين: ظهورات من النمط الاورشليمي، كما في لو 24 ويو20. هي تشدّد على التعرّف إلى يسوع، على الانتقال من الشكّ إلى الايمان. وظهورات من النمط الجليليّ (مت 28 ويو 21). هي تقدّم لنا يسوع كالسيّد والربّ الذي يرسل تلاميذه ويؤسّس الكنيسة. ونميّز أيضًا خمسة ظهورات "رسميّة" للتلاميذ المجتمعين. وثلاثة ظهورات "خاصة" للأفراد: تلميذا عماوس، مريم المجدلية، سائر النسوة.
ثانيًا: فقاهة مسيحيّة
* أسلوب واقعيّ
توجّه يوحنا ولوقا إلى مسيحيّين من أصل يونانيّ، لا يؤمنون بقيامة الأجساد، بل يؤمنون فتمط بخلود النفس. ولهذا استعملا أسلوبًا واقعيًا ملموسًا، لكي يدلاّ أفضل دلالة على أن قيامة يسوع هي قيامة في الجسد (لا شكّ في جسد ممجّد يدخل إلى التلاميذ والابواب مقفلة). هي قيامة الشخص كله، نفسًا وجسدًا، لا حياة بعد الحياة ولا على مستوى النفس الخالدة. لهذا، نراهما لا يتردّدان في التحدّث عن المسيح الذي يأكل (لو 24: 30, 41-43؛ لو 1: 21-9-13)، الذي يريهم يديه ورجليه ويدعوهم إلى لمسها (لو 24: 39؛ يو 27:20).
غير أن هذه الواقعيّة الضروريّة من أجل التحدّث عن هذه الظهورات، تصلحها ملاحظات حول سرّ هذه الظهورات التي لا يتوقّعها أحد، هذه الظهورات التي ليست لقاءات عاديّة مع يسوع، على مثال مرتا ومريم حين رأتا من جديد أخاهما لعازر بعد أن أقامه المسيح.
تشير الأناجيل إلى أن يسوع الذي ظهر فجأة، لم يعرفه الرسل. لم يعرفه تلميذا عمّاوس اللذان سارا معه. لم تعرفه مريم المجدليّة. هذا يفهمنا أن قيامة يسوع ليست عودة إلى الحياة على مثال ما حدث للعازر، ولابنة يائيرس، ولابن أرملة نائين. قيامة يسوع هي حياة جديدة. من حيث إنه مات فقد مات مرّة واحدة. ومن حيث إنه حيّ فهو حيّ إلى الأبد.
* خبرة واقعيّة تؤسّس الايمان
احتاج التلاميذ إلى أن يظهر يسوع لهم بشكل يتجاوزهم، لكي يستطيعوا بلوغ الايمان. ودراسة الأخبار تبيّن أن الانجيليّين أرادوا قبل كل شيء أن يبيّنوا مسيرة التلاميذ إلى الايمان. ولقد شهدت هذه الأخبار شيئًا لم نتوقّعه، وهو أن التلاميذ اختبروا أن يسوع هو في الحقيقة حيّ في وسطهم.
فأعلنوا أن يسوع قد ارتبط بهم من جديد ارتباطًا، بعد أن حسبوا أنه قد انقطع عنهم بشكل نهائيّ. وأعلنوا أيضًا أن هذا الارتباط يختلف عن ذلك الذي كان يجمعهم بيسوع قبل الجمعة العظيمة. ورأوا في هذه العلاقة الجديدة عملَ الله الآتي إليهم في شخص يسوع القائم من الموت. وإذ أرادوا أن يؤكّدوا هذه الحقيقة، استعملوا عبارة كانت تدلّ في العهد القديم على ظهور الله: "تراءى القائم من الموت". رفع الناس إليه فرأوه. دلّت أخبار الظهورات هذه، أن هذه اللقاءات مع القائم من الموت هي حقيقيّة وأنها حوّلت أولئك الذين نعموا بها، فانتقلوا من الشك إلى الايمان، ومن اليأس إلى الرجاء. ودلّت هذه الأخبار أيضًا على أن لهذه اللقاءات طابعًا سرّيًا، لا يمكن أن يتصوّره بشر، شأنه شأن ظهورات الله. فيسوع يأتي فجأة ويختفي فجأة بشكل سريّ. ولكن مجيئه يترك وراءه أثرًا.
وهكذا نفهم أن هذه الأخبار هي فقاهة وتعليم حول رباط التلاميذ بالمسيح. فالتلاميذ استطاعوا أن يفهموا، بفضل هذه الخبرات الفصحيّة وعطيّة الروح القدس، أن يسوع هو الربّ. كانوا يتساءلون قبل الجمعة العظيمة من أين له كل هذا السلطان على قوى الشرّ والخطيئة. ورأوا أساس هذا السلطان في الرباط الفريد الذي يربطه بالله أبيه، بذلك الذي يدعوه أبَّا. أمّا الآن ففهموا أنهم أمام قدرة الله التي تقيم فيه. وتأكّدوا من أمر مهمّ: حين يتكلّم يسوع فالله هو الذي يتكلّم. وحين يفعل يسوع فالله هو الذي يفعل. وفهموا أخيرًا أن الله هو عمانوئيل (الهنا معنا) والمخلّص. كما فهموا أنهم شاركوا ابن الله الوحيد في حياته دون أن يعلموا. إذن، هم يعرفون الآن الطريق التي تقود إلى الحياة الأبديّة، وهذه الطريق هي طريق يسوع. ويعرفون أيضًا أنهم تسلّموا مهمّة حمل هذه البشرى إلى العالم كله، وهذا ما أعطاهم جرأة في عملهم وفرحًا في آلامهم. ونحن اليوم بفضل شهادتهم نعلن أن يسوع هو الرب، أنه قام حقًا قام.
ج- الدور التعليميّ في هذه الظهورات
كُتبت جميع النصوص الانجيليّة بعد الفصح والقيامة، فتأثّرت بهذا الحدث. ولكن في ما يتعلّق بقيامة يسوع، نحن أمام نوعين من النصوص: اعلانات الايمان والأخبار.
أولاً: إعلانات الايمان
هناك الكرازة الأولى كما أعلنها بطرس وبولس في أعمال الرسل: "الله جعل يسوع الذي صلبتموه ربًا ومسيحًا" (2: 36). "لأجلكم أقام الله فتاه (أي ابنه) وأرسله لكي يبارككم فيرتدّ كل واحد عن شروره" (3: 26). "ليس تحت السماء اسم آخر أعطي في الناس، به ينبغي أن نخلص" (12:4). "لكن الله أنهضه وتراءى أيّامًا كثيرة للذين صعدوا معه من الجليل إلى أورشليم" (30:13-31).
وهناك الأناشيد الليتورجيّة التي ردّدتها الجماعات في احتفالاتها. "وضع يسوع نفسه، وصار طائعًا حتى الموت والموت على الصليب، لذلك رفعه الله وأنعم عليه بالاسم الذي يفوق كل اسم" (فل 8:2-9). وهناك خلاصات الايمان وما فيها من كلام مكثّف. "المسيح مات من أجل خطايانا، كما في الكتب، وقُبر وقام في اليوم الثالث كما في الكتب" (1 كور 15: 4). "ابنه المولود بحسب الجسد من ذريّة داود المقام بحسب روح القداسة، في قدرة ابن الله، بقيامته من بين الأموات، يسوع المسيح ربّنا" (روم 1: 3-4).
هذه التأكيدات التي هي صدى أول المجهودات للتعبير عن الايمان، تتميّز كلها في أنها لا تحاول أن تبرهن عن القيامة، أو أن تردّ على اعتراضات ممكنة. إنها اعلانات يعترف بها المؤمن بكل بساطة بالمسيح القائم من الموت. والجيل المسيحيّ الأول الذي مرّ في خبرة الفصح والقيامة، قد أعلن بيسوع الممجّد والعائش إلى الأبد حياة جديدة كل الجدّة. حياة في الروح.
ونجد لدى هؤلاء المسيحيين الذين ما زالوا عائشين في حضن العالم اليهوديّ، تماسكًا بين إيمان يعلنونه، وخبرة إيمان يجدونها في الكتب المقدّسة، وكل ما عرفوه عن يسوع الناصريّ وحياتهم في الكنيسة. ما ترجَّاه المؤمنون في العهد القديم قد تمّ وبشكل لا يتصوّره إنسان في انتصار يسوع على الموت. فالقائم من الموت قد دشّن ملكوت الله، وسوف يأتي لكي يكمّل عمله، وكلّهم مدعوون لكي يحيوا شي هذا العالم الجديد.
ثانيًا: أخبار القيامة
إن أخبار ظهورات القائم من الموت والقبر المفتوح، تدلّ على أسئلة جديدة قد برزت. ففي الجماعات المسيحيّة الأولى نجد عددًا كبيرًا من الناس لم يعرفوا يسوع، ولم يعرفوا الكتب المقدسة مثل اليهود. جاؤوا من مناخ حضاريّ يُشرف عليه الفكر اليونانيّ. فإلى هؤلاء المؤمنين الجدد قُدّم تعليم يتكيّف وعقلهم حول الواقع الفصحيّ، خصوصًا لأنهم يميلون إلى رفض فكرة تقول إن الانسان وحدة لا تتجزأ (كانوا يقولون: مركّب من نفس وجسد. تخرج النفس من الجسد الذي هو لها بمثابة سجن). ثم إن هؤلاء الآتين الجدد يطلبون براهين ملموسة. من أجل هذا، تكوّنت الأخبار حول الظهورات والقبر المفتوح لكي تردّ على تساؤلاتهم واعتراضاتهم. وهذان النوعان من الأخبار، اللذان يتأسّسان على خبرات عاشها التلاميذ، سيتّخذان شكل البرهان والدفاع والتبرير. وهي تبدو اليوم أجوبة على أسئلة طُرحت على الكنيسة.

2- أخبار القيامة في الأناجيل الأربعة
بعد هذه النظرات العامّة، نتوقّف عند كلّ إنجيليّ في روايته للقيامة، قبل أن ندرس بعد النصوص بشكل تفصيليّ. ونبدأ مع القديس مرقس.
أ- إنجيل مرقس (16: 1-8)
ينتهي نصّ مرقس في مجيء النسوة إلى القبر. رأين أن جسد يسوع ليس هنا. ووجدن ملاكًا حمّلهن بلاغًا إلى التلاميذ. ويختتم مرقس الخبر بهذه الملاحظة المدهشة: "فخرجن من القبر وفررن، وقد استحوذت عليهن الرعدة، ولم يقلن لأحد شيئًا، لأنهن كنّ خائفات" (مر 16: 8).
وتساءل الشرّاح: هل توقّف مرقس هنا بشكل مفاجئ في خبر مجيء النسوة إلى القبر؟ أو هل ضاعت ورقة من إنجيله؟ أو هل نقصه الوقت فلم يكمّل ما بدأ بكتابته؟ لا جواب أكيدًا. ولكن لماذا كل هذه الافتراضات؟ بل نكتفي بأن نقرأ النصّ كما وصل إلينا.
جاءت مريم المجدلية ومريم أمّ يعقوب وصالومي، لكي يحنطنّ جسد يسوع. وما كنّ ليتخيلنّ قيامة ممكنة. ودُهشن حين رأين أن الحجر الكبير الذي يغلق القبر قد دُحرج. ولما أبصرن الملاك تملّكتهن الرعدة. مثل هذه العاطفة نحسّ بها عندما نكون في حضرة العالم العلويّ، لا أمام شيء لم نعتد عليه.
ما احتاجت النسوة إلى أحد لكي يلاحظن أن جسد يسوع لم يعد في القبر. وكانت تلك دهشتهن الثانية بعد دهشة الحجر المدحرج. غير أن الكائن السماويّ هو هنا، وهو يوجّه أفكارهنّ نحو واقع آخر لا يستطيع الانسان أن يتحقّق منه: "المصلوب قد قام". مثل هذا القول لا يوحيه إلاّ كلام الله، ولا نستطيع أن نقبله إلاّ بالايمان. كانت النسوة أول من لاحظ لا الفراغ، لأن القبر يحتلّه الملاك، بل غياب جسد يسوع من حيث وُضع. وأفهمهنّ الكائن السماويّ معنى ما كان بالنسبة إليهن لغزًا لا حلّ له. ومهمّة الرسل هي أن يكونوا الشهود ويعلنوا الانجيل للعالم كله. وتوقّف إنجيل مرقس هنا. ثم زيد عليه ملحق (16: 9-20) يلخّص بعض ما نجده خصوصًا في إنجيل لوقا.
ولكننا نخطئ إن رأينا فقط في هذا الخبر شهادة (وهي مهمّة جدًا) حول اكتشاف القبر الفارغ بواسطة ثلاث نسوة ذهبهن إلى القبر في اليوم الأول من الاسبوع ليحنطنّ جسد يسوع. فالانجيلي لا يتركنا أمام قبر فارغ يصل بنا إلى البرهان الذي لا يُردّ حول قيامة المسيح. فالاهتمام ينصبّ لا على القبر المفتوح، بل على كلمة الوحي التي يتلفّظ بها الملاك. إذن، نحن هنا أمام سرّ الله الذي يُعلن لنا اليوم كما أعلن للنسوة وهو يطلب منا جوابًا. ثم إن بلاغ الملاك يستعيد عبارات تقليديّة من الكرازة المسيحيّة الأولى، من إنجيل الفصح والقيامة الذي ما زالت الكنيسة تعلنه فنسمعه في الايمان.
ب- إنجيل لوقا (24: 1-53)
جمع القديس لوقا في لوحة واحدة تختم إنجيله، مجملَ الأحداث التي تبدأ باكتشاف قبر لا يحتوي جسد يسوع، حتى الصعود إلى السماء. وقد جمعها كلها في يوم واحد، هو يوم الأحد. وحصرها في موضع واحد هو أورشليم. وهكذا جعلَنا أمام تماسك بين الأحداث التي أوردها. كما صارت هذه الأحداث حدثًا واحدًا هو الحدث الفصحيّ.
واختطاف يسوع في نهاية الانجيل وبداية سفر الأعمال، يربط بين الكتابين، بين مهمّة يسوع التاريخيّة من جهة، ومهمّة الرسل وعمل الكنيسة في التاريخ من جهة ثانية.
وهكذا بدت قيامة المسيح الحدث الأعظم في كل الأزمنة، والمفصل الأهم في التاريخ والحدث الرئيسي الذي يعطي سائر الأحداث معناها.
ويشدّد لوقا على نقطة أخرى: إن قيامة الربّ تشكّل تتمّة جميع الكتب التي لا تُفهم فهمًا تامًا إلاّ على ضوء هذه القيامة.
وقال الملاك للنسوة اللواتي يطلُبن "الحيّ بين الموتى": "تذكرنّ ما قال لكنّ حين كان في الجليل" (6:24). وشرح يسوع نفسه للتلميذين الذاهبين من أورشليم إلى عمّاوس، الكتب المقدسة (27:24-32) "منطلقًا من موسى وجميع الأنبياء". وفتح أذهان الأحد عشر ليفهموا الكتب (24: 44- 45).
غير أن الايمان بقيامة المسيح الذي هو السرّ الأساسيّ في المسيحيّة، ليس بالأمر البسيط. فهو يفترض مسيرة طويلة تهدّدها دومًا العودة إلى اللاإيمان. فليس المطلوب أن نتعرّف إلى حقيقة واقع تاريخيّ يوافق كل الموافقة حقيقة الكتب المقدّسة. فموضوع الايمان هو شخص يسوع نفسه كالربّ الحيّ الذي باسمه يُمنح الخلاص "لجميع الأمم ابتداء من أورشليم" (24: 47).
وبعد أن يُنهي لوقا كتابه مع إرسال التلاميذ في مهمّة، والموهبة التي وعد بها الآب، والتي يُلبسونها قوّة من العلاء (49:24)، ينفتح الانجيل على المستقبل.
وسجد التلاميذ ساعة باركهم يسوع وانفصل عنهم، وعادوا إلى أورشليم "بفرح عظيم" (24: 51-52). غير أنهم لن يبقوا في حدود المدينة الضيّقة التي هي لهم نقطة انطلاق من أجل المهمّة الملقاة على عاتقهم وهي: الكرازة بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم (24: 47).
وتبدو نهاية إنجيل لوقا بشكل انتقالة إلى أعمال الرسل، فتدعونا إلى قراءة ما يلي من أحداث لنرى كيف تابع التلاميذ عمل يسوع ومهمّته، وكيف أن هذه القوّة الآتية من العلاء والتي وعد بها يسوع، جعلتهم يعملون، يبحثون عن السبل الكفيلة بإعلان البشارة في العالم كله. حقًا، لقد بدأت حقبة جديدة مع حدث الفصح والقيامة.
ج- إنجيل يوحنا (20: 1-33)
وفي إنجيل يوحنا يبدأ إنجيل القيامة أيضًا باكتشاف القبر الذي لا يحتوي جسد الرب: تلك معطيّة تنتمي إلى تقليد قديم جدًا عرفه كلُّ إنجيليّ وأورده. ويحدّثنا الانجيل الرابع عن ذهاب بطرس و"التلميذ الآخر" إلى القبر، وتصرّفهما حين وصلا هناك، وردّة الفعل عندهما. كل هذا يجعلنا نفكّر في دور بطرس ويوحنا من أجل الايمان الفصحيّ وفي الكنيسة. كما أن الخبر يوجّهنا نحو تأمّل في مكانة "الحب" ودوره من أجل فهم السرّ.
ويُبرز النصّ فعلين: "رأى وآمن". هذا ما قيل عن "التلميذ الآخر". وسيقال بشكل معاكس في مشهد توما: "طوبى للذين لم يروا وآمنوا" (29:20). وأخيرًا نفهم أن الايمان الفصحيّ المؤسّس على القبر الفارغ والظهورات، لا يدرك ملؤه وكل حقيقته إلاّ حين يكتمل في فهم مخطّط الله كما كشفته الكتب المقدّسة.
ونتوقّف أيضًا عند مشهدين قصيرين ومتوازيين: في الأوّل تجلّى القائم من الموت للتلاميذ. في الثاني نفخ فيهم الروح القدس وأرسلهم في مهمّة (20: 29-23). أما المشهد الأول فيكشف الطريقة العلويّة التي بها يكون يسوع بعد الآن حاضرًا لتلاميذه. فالفرح والسلام المرتطبان بهذا الحضور لا يمحوان ذكرَ الألم كما يمحو النهار صورة حلم رديء. بل إن القائم من الموت يريهم يديه اللتين تحملان آثار جراحه، وجنبه الذي طعنته الحربة. إذن، ذاك الذي قام اليوم من الموت هو الذي صُلب أمس، والقيامة تفترض الصليب. غير أن الانجيليّ يدعونا أيضًا لأن نرى في المسيح حمل الله المذبوح، وفي جراحاته المجيدة الينبوعَ الذي منه تجرى الحياة.
وتحدّد موقع المشهد الثاني في تواصل مع المشهد الأول مع بعض التدرجّ. فإرسال التلاميذ في مهمّة هو مشاركة في المهمّة التي تسلّمها المسيح من الآب. وهي تتضمّن فيهم وفيه فيض الروح. وموضوعها واحد: قلع الخطيئة من العالم. وأخيرًا نلاحظ الاشارات الليتورجيّة والافخارستيّة في هذين المشهدين. نحن في "اليوم الأول من الاسبوع" الذي سيصبح يوم الجماعة المسيحيّة، يوم الأحد. و"المساء" يذكّرنا بالسهرة الفصحيّة. و"مجيء" الرب وسط أخصّائه هو في قلب الليتورجيا الافخارستيّة: "نتذكّر موتك يا رب، وننتظر مجيئك". "تعال أيها الرب يسوع".
إن هذا المناخ الليتورجيّ والافخارستيّ يطبع بطابعه نهاية الفصل (آ 24- 31) الذي يعتبر خاتمة ما دوّنه الانجيليّ. وحين يُقرأ خبر الظهور لتوما في هذا الاطار يأخذ كامل معناه. اجتمع التلاميذ في اليوم الأول من الاسبوع. وجاء يسوع. رأوه. وقال توما: "إن لم أعاين لا أؤمن". وسيفهم الجميع أن الايمان لا يستند إلى يقين مطلق، بل إلى "علامات" نقرأها فندرك معناها، وهي تدعونا إلى الالتزام الحرّ.
د- إنجيل متّى (28: 1-20)
إن اكتشاف خبر القبر الفارغ في متّى، هو أفضل الأخبار صياغة على المستوى اللاهوتيّ وعلى مستوى التفاصيل. بعد ذلك يأتي خبر لقاء الأحد عشر مع القائم من الموت الذي دعاهم إلى الجليل، ومن هناك سوف يرسلهم. هنا نكتشف موضوعين يطبعان بطابعهما خبر القبر الفارغ: لاإيمان "الجنود" الذين يحرسون القبر. انفتاح "النسوة" على الايمان. والزلزلة والملاك "الذي نزل من السماء" يدلاّن على أهميّة الحدث الذي يرافقه تجلّي قدرة الله. نحن هنا في إطار "يوم الربّ"، حيث يتدخّل الله ليُصدر حكمه على واقع التاريخ، ويعلن سلطانه على الكون في ظهور نورانيّ مهيب.
فالحرّاس وجميع الذين يرفضون الحقيقة، قد أصابتهم الرعدة فصاروا كالموتى. أما الذين يطلبون الربّ، فقد تحوّل خوفهم إلى فرح ملأهم ثقة بالنفس فانطلقوا يبشّرون التلاميذ وينقلون إليهم الدعوة بأن يلاقوا الربّ في الجليل.
الجليل هو مقاطعة في فلسطين. هو ملتقى الوثنيّين. فيه كان أول إعلان لانجيل الملكوت وبداية رسالة يسوع (4: 12-25). وفيه دُعي التلاميذ ليتبعوا يسوع ويصيروا صيّادي بشر. وها هو الآن الموضع الذي إليه يدعو تلاميذه للمرّة الأخيرة، ليرسلهم في مهمّة ويكلّفهم بكرازة الملكوت إلى جميع الأمم.
كان المشهد على الجبل. لا نحاول أن نتعرّف إلى الموضع على خارطة مرسومة. الجبل هو الموضع النموذجيّ للوحي. ونستطيع أن نفكر بجبل موعظة يسوع الأولى (ف 5)، أو جبل التجلّي (17: 1-9). ويسوع هو هنا كالمعلّم الذي يعلّم، أو كالمتجلّي لحظة، بل كالربّ القائم من الموت. لهذا، سجد له الأحدُ عشر قبل أن يتفوّه بكلمة واحدة.
وأول ما قاله الرب يسوع كان كلام وحي تبعه توجيه قصير ووعد بحضور يمتدّ حتى انقضاء الدهر. هذا المشهد هو ذو بعد اكليزيولوجي مع كلام عن المعموديّة باسم الآب والابن والروح القدس. والمسيحيّ يبقى مسيحيًا يقدر ما يجعل كل تعليم الانجيل في حياته. وإذ تتأسّس مجموعة التلاميذ على السلطان الخاص بالمسيح في السماء وعلى الأرض، يتأكّد شعب الله من معرفة الرب من الآن وإلى الأبد. أجل، في هذا المشهد على الجبل، يتدشّن بشكل احتفاليّ زمنُ الكنيسة والكرازة الرسوليّة.

3- ثلاثة نصوص انجيليّة
نتأمّل هنا بشكل خاص في ثلاثة نصوص انجيليّة، فنكتشف الاسلوب الذي أخذ به الانجيليّون للتعبير بلغة بشريّة عن خبرة سماويّة، هي خبرة اللقاء بالرب القائم من الموت. نصان من متى، وآخر من يوحنا. اكتشاف القبر المفتوح، ظهور للنسوة وللأحد عشر، ظهور على شاطئ بحر الجليل.
أ- اكتشاف القبر المفتوح (مت 28: 1-8)
أولاً: كلمات النصّ
نبدأ فنتعرّف إلى الكلمات قبل أن نصل إلى بلاغ الايمان ونتوقّف أولاً عند كلمات النصّ. السبت هو يوم مبارك، يوم الراحة، يوم نهاية الخلق (تك 2: 2- 3). طلب الرب من شعبه أن يقدّس هذا اليوم ويرتاح فيه من أي عمل، وذلك في الوصايا العشر (خر 8:20- 11؛ تث 5: 11-15). إذن، هذا اليوم هو في نظر اليهود يوم نخلق فيه من جديد بعد الراحة، ونتذكّر الفصح الذي هو عبور في البحر، من العبوديّة إلى الحريّة.
اليوم الأول من الأسبوع. هو يوم بدء الخليقة (تك 1: 3- 5). يوم ظهر فيه النور حيث كانت الظلمة، ظلمة الشرّ والخطيئة. سيصبح هذا اليوم عند المسيحيين "يوم الرب"، اليوم الذي فيه يتذكّرون قيامة يسوع من بين الأموات.
ملاك الرب. الملاك هو المرسل. وحين يشير الكتاب إلى حضور ملاك، فهو يدلّ على أن بلاغًا قد جاء من الله، بلاغًا ما كان للبشر أن يكتشفوه بقواهم. زلزال عظيم. هو يدلّ على قدرة الله وسلطته على الكون كما في مز 7:114: "من وجه السيد ارتجفت الأرض". الثوب الأبيض. الأبيض هو علامة الظفر والانتصار. لقد انتصر يسوع على الشرّ والموت. هو لون ابن الانسان الآتي على سحاب السماء، هو لون المختارين.
الرعدة والخوف. الرعدة (أو الذعر) هي العاطفة التي يشعر بها الكفّار أو الجهّال (قال الجاهل: لا وجود لله) أمام الله (حك 5: 2؛ سي 22: 22). والخوف هو عاطفة يحسّ به أحبّاء الله. هو اضطراب كله إعجاب. يشعر خدّام الله بعدم استحقاقهم أمام عظمة الله وقداسته، وباحترام عميق يجعلهم يخافون أن يجرحوا ذاك الذي يحبّهم.
ثانيًا: بلاغ الايمان
قدّم متّى في هذا الخبر شهادة عن إيمان المسيحيّين الأولين. "بعد السبت" (آ 1). تدلّ هذه الآية على أن النسوة راعين يوم السبت. وتدلّ أيضًا على أن أسبوعًا مضى وأسبوعًا آخر بدأ. وإذ يقول النصّ إن المشهد يجري "في اليوم الأول من الأسبوع"، فهو يعني أن زمن العهد القديم قد انتهى، وبدأ زمن جديد هو خلق جديد، وعهد جديد. وكل هذا بفضل حياة يسوع المسيح وموته وقيامته.
يعتبر اليهود، ومتّى يكتب لهم، أن النهار يبدأ مع ظهور أول نجمة. إذن، حين بدأ الليل "ينسحب"، سارت النسوة إلى القبر. هنا نتذكّر معنى الليل في التقليد اليهوديّ. في تك 1: 2-3 خلق الله النور في اليوم الأول وانتصر على الظلمة. والنسوة ذهبن في اليوم الأول من الاسبوع. وهناك ليل الفصح والانتصار على ليل العبودية. وأخيرًا هناك الليل الذي فيه ينتظرون مجيء المسيح. كل هذا يدلّ على ارتباط ما يحدث عند القبر بالخليقة، وعيد الفصح، والأمل الذي يحرّك المؤمنين نحو ذلك الآتي على سحاب السماء.
"وجاءت مريم المجدلية". ندهش في السياق الحضاريّ اليهوديّ حين نرى إمرأتين في هذا الاطار المهيب. هما اثنتان. ولا تصح الشهادة إلاّ باثنين. ولكن لا قيمة لشهادة المرأة في العالم اليهوديّ. وسيوضح لو 24: 11 أن التلاميذ اعتبروهما تهذيان. إذن، لماذا ركَّز متّى ثقل هذا النص الهامّ بالنسبة إلى الايمان على كتف هاتين المرأتين؟ ليقول لنا إن الله اختار الضعفاء والجهّال لكي يخزي الأقوياء والحكماء. أما اختار الرعاة كشهود لولادته (لو 2: 8-20)؟ ثم إن هاتين المرأتين كانتا آخر من شهد موت يسوع. التلاميذ هربوا (مت 26: 56). أما هما فظلّتا أمينتين، ورافقتا يسوع حتى النهاية، حتى وضْعه في القبر.
"وإذا زلزال عظيم" (آ 2). إن هذه اللغة الخاصّة بعالم الرؤيا والظهورات السماويّة، تدلّ على أننا في حضرة الله، أننا أمام قدرة الله الذي يحرّك انتظارات البشر ويُتمّ عمل الخلق. ملاك الرب يمثّل الرب. نزل من السماء واتصل بالبشر ليكشف لهم وحيًا هامًا. والعبارة "منظره كالبرق ولباسه أبيض" تعود بنا إلى دا 7: 9-15: "جلس القديم (أي الله) على عرش، وكان لباسه أبيض كالثلج. وجاء إليه على سحاب السماء مثل ابن الانسان. فأعطي له السلطان والمجد والملك، وخدمَته جميعُ الشعوب وملكه لا يزول". إذن، نحن أمام انتصار الله وشموليّة ملكه. فقرب القبر حيث يبدو أن الموت قد انتصر، وحده الله يستطيع أن يعلن مثل هذا الكلام.
ولما أراد متّى أن يعبّر عن انتصار الله، استعمل عبارة قويّة جدًا: "دحرج الملاك الحجر". هذا الحجر يقفل مدخل القبر ويضع حدًا لحياة بشريّة لدى إنسان نزل إلى الشيول (أو: مثوى الاموات) فلم يعد شيئًا، ولم يعد يستطيع أن يسبّح الله (مز 88: 11-12). هناك واقع تاريخيّ للحجر. وهناك واقع رمزيّ. جلس الملاك على الحجر، فدلّ على انتصاره التامّ على الموت الذي يمثّله هذا الحجر. والمسؤولون عن موت يسوع يمثّلهم الحرّاس الذين وقعوا على الأرض "وغدوا كالأموات". بلاغ واضح: لقد انهزم الموت. والرب هو سيّد الموت. ومعه لن يعود الموت موتًا، بل انتقالاً إلى ملكوت الآب. "لا تخفن" (آ 5). هذا هو الاعلان الكبير، إعلان القيامة الذي سيحمله بطرس والمسيحيّون الاولون. لقد قام المصلوب. والقيامة تعني أن عالمًا قد زال وبدأ عالم جديد فيه يقدّم الله نفسه لجميع البشر. ولكن هذا البلاغ الخارق الذي لا يمكن أن يأتي إلاّ من الله، قد سُلّم إلى امرأتين وضيعتين.
أما هما فدلّتا على حبّهما وأمانتهما في سجود، لذلك الذي ظنّتاه بعدُ ميتًا. ولكن حيث انتظرتا وجود جثّة هامدة، سمعتا كلمة الحياة تعلن تحقيق انتصار الشعب اليهوديّ في شخص يسوع.
"إمضين في سرعة" (آ 7). هاتان المرأتان هما شاهدتان لكلمة الله بالنسبة إلى يسوع المسيح الذي قام من بين الأموات وصار بكر الخليقة الجديدة. بل هما تسلّمتا مهمّة حمل البشارة إلى الرسل. "أسرعن". وهذه السرعة هي علامة عن إيمانهما. هما لا تقدران أن تحتفظا بهذا اليقين، يقين انتصار الحياة على الموت. لهذا، انطلقتا تحملان هذا الفرح الفصحيّ لأولئك الذين ما زالوا مسجونين في شكِّهم وارتيابهم. وذكر متّى "الخوف" لأن هاتين المرأتين عرفتا أنهما تحملان بلاغًا يتجاوزهما تجاوزًا لا محدودًا.
ب- ظهور للنسوة وللأحد عشر (مت 9:28- 20)
أولاً: وظهر يسوع للنسوة (آ 9- 10)
بعد اللقاء بالملاك عند القبر، نعمت النسوة بلقاء مع القائم من الموت. هذا الخبر القصير يهيّئ خبر الظهور للتلاميذ. هناك ثلاث نقاط في الظهورات: مبادرة المسيح. انتقال من الشكّ إلى الايمان. إرسال في مهمّة. احتفظ متّى بالأولى والثالثة، ولكنّه لم يتكلّم عن شكّ النسوة. فهؤلاء اللواتي ظللن أمناء ليسوع منذ بداية كرازته في الجليل حتى موته، قد آمنّ بقيامته بعد أن سمعن بلاغ الملاك (28: 8).
كان ليسوع المبادرة. حيّاهن، ففهمن أن العلاقة التي انقطعت بالموت، قد أعيدت وإن بشكل مختلف. عرفته النسوة. سجدن له كما فعل المجوس في ولادته (2: 10- 11). قارب متّى بين مشهد المجوس (الفرح والسجود) وموقف النسوة، فأكّد أن القائم من الموت هو ذلك الذي وُلد في بيت لحم فعرفه الوثنيّون.
وزاد الانجيليّ أن النسوة أخذن بقدمَي يسوع علامة احترام وإكرام. علامة التلمذة. يسوع حاضر في حياتهنّ، يسوع حيّ على الدوام. وهكذا دللن على تعلّقهن به وعلى أنهن وضعن فيه رجاءهن.
ثانيًا: ظهور يسوع للأحد عشر (آ 16- 20)
نترك جانبًا الاشاعة القائلة بأن التلاميذ سرقوا جسد الربّ. فهذا الخبر يدلّ على معارضة خصوم يسوع لتعليمه، وعلى صعوبة الايمان بالقيامة التي ليست يقينًا يُفرض علينا، بل تطلب ارتداد القلب.
دعا يسوع تلاميذه للقاء به. في الجليل أرض الانفتاح على العالم الوثني، لا في أورشليم أرض الانغلاق داخل العالم اليهوديّ. على الجبل الذي يرمز إلى موضع اللقاء بالله. سجد التلاميذ له كما فعلت النسوة: إنه الربّ. هكذا سجد له التلاميذ بعد أن مشى على المياه وقالوا له: "حقًا أنت ابن الله" (33:14). وهكذا فعلت الكنعانيّة (15: 25). أجل يسوع هو الرب الذي انتصر على قوى الشرّ وكشف للبشر أن الله يحبّهم جميعًا، يهودًا ووثنيين.
سجدوا فأظهروا إيمانهم. ولكن بعضهم شكّوا. فالشكّ يرافق الايمان. اقترب يسوع منهم، فزالت المسافة التي كانت تفصله عنهم. وسلّمهم مهمّة التلمذة والتعميد والتعليم، ووعدهم بأن يكون معهم حتى انقضاء الدهر. وهكذا كشف يسوع للأحد عشر أنه رب الأرض كلها. أنه عمانوئيل أي الله معنا. وأن عليهم أن يجتمعوا لكي يكونوا كنيسة تعلن الخلاص الذي يحمله الله إلى جميع البشر.
ج- على شاطئ بحيرة طبريّة (يو 21: 1- 15).
في لوقا وفي يو 20 كانت أورشليم الموقع الذي فيه ظهر القائم من الموت. هناك عرفوه. أما في يو 21 وفي مرقس ومتى، فالظهورات تتمّ في الجليل وتشدّد على المهمّة المعطاة للتلاميذ بأن يحملوا البشارة إلى أقاصي الأرض. أما في يو 21 فنحن أمام صيد عجيب. ماذا يقول لنا هذا النص؟
يحدّثنا عن سبعة تلاميذ. العدد سبعة هو عدد الكمال. وهو يدلي على كنيسة نهاية الأزمنة (رؤ 1: 4). ونلاحظ أيضًا أن لفظة "تلميذ" ترد سبع مرات. هذا يعني أن تعليم الانجيليّ يتوجّه إلى الكنائس السبع، إلى الكنيسة كلها. وجميع التلاميذ مدعوّون للمشاركة في وليمة الربّ. ويتحدّث يوحنا عن سفينة واحدة، وهذا ما يدلّ على وحدة الكنيسة.
كان التلاميذ في البحر ويسوع على الشاطئ، على الأرض اليابسة. في مكان ثابت. هذا ما يؤكِّد الايمان بالقيامة. لا ليس يسوع في البحر الذي هو عالم الشرّ، إنه في العالم الجديد. وهكذا كانت القيامة خلقًا جديدًا وولادة عالم فيه قُهرت بشكل نهائيّ قوى الموت.
عملَ التلاميذُ طوال الليل، ولكنهم لم يصطادوا شيئًا. عادوا إلى منطقتهم، إلى عملهم السابق، فأظهروا أنهم لم يكونوا ينتظرون قيامة يسوع. لقد اعتبروا أن خبر يسوع المصلوب قد انتهى والله نفسه قد "لعنه" (تث 23:21). تركوا أورشليم وعادوا إلى الجليل، إلى مهنتهم القديمة، وكأن شيئًا لم يكن من كل مغامرتهم مع يسوع.
بطرس هو الذي اتّخذ المبادرة. كان قد أنكر معلّمه في "الليل" الذي يرمز إلى الخطيئة واللاإيمان والانقطاع عن الله. وها هم يصطادون في الليل. أي بدون معونة الله الذي قال: "بدوني لا تستطيعون شيئًا" (15: 45). لا يريد الانجيليّ أن يشجب المجهود البشريّ، بل أن يبيّن أن حياة الانسان عقيمة إن لم ترتبط بالله.
"ومع الصباح جاء يسوع". المبادرة دومًا منه. تراءى، ولكنهم لم يعرفوه، لم يستطيعوا أن "يروه". ما إن ظهر حتى زالت الظلمة وأطلّ الصبح. معه دقّت ساعة النعمة والبركة. وبادرهم فقال: "ألقوا الشبكة من جانب السفينة الايمن". أطاع التلاميذ، فكان السمك الكثير 153 سمك. إذا جمعنا 1+ 2، 3... 17 يكون لنا 153. والرقم 17 هو جمع 10 (كلمات الله العشر) و7 (الكمال). بكلمة الله تصل البشارة إلى العالم كله. وهكذا تحقّق ما قاله يسوع في أحد أمثاله: "يشبه ملكوت السماوات شبكة ألقيت في البحر فجمعت من كل جنس" (مت 47:13).
هتف التلميذ الحبيب: "هو الرب". عرفه. وبعده سيعرفه سائر التلاميذ. ورمى بطرس بنفسه في البحر. غطّى عُريه فكان ذلك رمزًا إلى غفران خطيئته. وارتمى في البحر ولكنه لم يغرق، فأوصله إيمانه إلى يسوع.
في لو 5: 1- 11 كانت هناك سفينتان وكأن الكنيسة مقسومة بين مسيحيّين جاؤوا من العالم اليهوديّ، وآخرين جاؤوا من العالم الوثنيّ. أما هنا، فليس إلاّ سفينة واحدة. في خبر لوقا تمزّقت الشبكة. أما الآن، فلم تتمزّق. وهكذا جعلنا يوحنا في عالم جديد قُهر فيه الشرّ بشكل نهائي. وقد مثَّلت الشبكةُ الكنيسة وتجمّعَ البشر في الملكوت. وسيكون بطرس "راعي" هذه الكنيسة هو الذي "يجرّ الشبكة إلى الأرض". إيمان متين، كنيسة واحدة. كل الذين قبلوا أن يخلصوا اجتمعوا في هذه الشبكة وكأنهم قطيع واحد بإمرة راع واحد.

خاتمة
ماذا نكتشف في هذه النصوص التي تتحدّث عن قيامة يسوع من بين الأموات؟ الله قد رفع يسوع وجعله ربًا. يسوع، وابن الله الوحيد والمساوي للآب. هو تجسّدُ الله في العالم. هو إلهنا معنا. والموت قد قُهر. أجل، ليس الموت نهاية الحياة، بل عبورًا إلى الآب، وولادة لشكل آخر من الحياة. والمسيح هو حيّ اليوم. هو حاضر فينا وبيننا، ولو بشكل خفيّ. ما زال يجمعنا، يعمل فينا، يغفر لنا. وفيه ننال الحياة الأبديّة. فحياة الأرض والحياة التي يعدّها الله لنا في الآخرة تتداخلان. فالحياة التي يعدنا بها الآن، نستطيع أن نعيش منها منذ الآن.
وماذا نكتشف أيضًا؟ انتصر الله على الشرّ فكان الخلاص للعالم. أجل، ليست الكلمة الاخيرة للشرّ والخطيئة والموت. بل للحياة. وستكون "أرض جديدة وسماء جديدة" حيث لا مكان للفشل والألم والمآسي البشريّة. فرغم الظواهر، يسير العالم نحو الكمال. والذين نحسبهم أمواتًا هم في الواقع أحياء. هم في عالم الله، في قلب الله. بدأوا يعيشون هذه القيامة التي لن تتحقّق كلها إلاّ في نهاية الأزمنة، وحين يعبر آخر كائن بشريّ عتبة الموت. حينئذ يكون الله كلا في الكل. ويسوع المسيح الذي هو بكر القائمين من الموت يسير في موكبه الظافر ووراءه جميع الذين كُتبت أسماؤهم في سفر الحياة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM