الوكيل الخائن
16: 1- 13
أبناء هذا العالم أكثر فطنة من أبناء النور.
لقد ندّد يسوع بالمال كما فعل الأنبياء قبله. فالمال يأسرنا ويستعبدنا. ونحن لا نعبده، بل نعبد الاله الذي صار فقيراً من أجل الفقراء. نحن لا نخدم المال، بل نجعله لنا خادماً، وهكذا نهتمّ بخدمة الآخرين.
وأعطانا يسوع مثل الوكيل الخائن. مزج أموراً معقولة وعناصر مدهشة. يبدأ "الخبر" بحديث عن تبدّل كبير في حياة وكيل يعمل لدى رجل غني. إتهّم بأنه يبذّر مال سيده، بأنه يسيء الادارة، ولهذا عزله سيّدُه.
وحين استعد ليؤدّي حساباً، أظهر حكمة توافق هذا الوضع الدقيق الذي وجد نفسه فيه. فما كان بداية انحطاطه صار مناسبة لانطلاقة جديدة في حياته. نادى مديوني سيّده وجعلهم مديونين له. وهي ديون مهمّة. ما يساوي غلة 150 زيتونة أو زراعة 40 هكتاراً من الحنطة.
يدهشنا هذا المثل، بل يشكّكنا: إنتظرنا من السيد أن يحكم على هذا الوكيل الذي جاوزت إمكانية الضرر بمعلّمه كل معقول. بل إن السيد (ومن خلاله، يسوع الراوي) امتدح هذا الرجل "الكاذب" لأنه بدا حكيماً.
المثل هو فن خطابي يحاول أن يصدم السامع. فالراوي يضخّم الامور حتى اللامعقول لكي يلفت الانتباه. وهكذا جعل يسوع الوكيل يترك ديوناً هامة لمديوني سيده. وهذا ما كان يجب أن يغضب سيده ويعجّل في عقابه. وتعلّق السامع بالخبر، لا سيما وأن يسوع استعمل خبراً يعرفه الناس. ماذا سيحدث لهذا الوكيل؟ عاقبه سيّده؟! لا، بل امتدحه مع أنه غشّه مرّتين.
لا يهدف هذا الخبر "اللاأخلاقي" أن يعطينا أمثولة أخلاقية. نجح يسوع في استجلاب انتباه السامعين لكي ينقل إليهم تعليمه: "أنتم مستاؤون؟ مهلكم! أنتم في وضع هذا الوكيل: رأى السكين تهدّد حياته، رأى حياته إلى الضياع. والأزمة التي تهدّدكم هي أعظم مما يهدّد هذا الوكيل من خطر".
كان هذا الرجل حكيماً لأنه فهم وضعه الحرج. فلم يترك الأمور تسير مسارها دون أن يتحرّك. بل عمل في اللحظة الأخيرة قبل أن يحلّ به الشّر. هو لم يعمل بحسب "ضميره"! ولكن ليس هذا هو الأمر الذي يشدّد عليه يسوع. هذا الرجل تجرّأ وتصرّف بحكمة. قرّر أن ينطلق في حياة جديدة. ما تطلبه منك الساعة الحاضرة هو أن تكون حكيماً. فحياتك هي كلها في خطر.
يهدف المثل إلى أن يؤثر علينا، أن يطرح سؤالاً، أن يدعونا إلى التوبة. وعبارة "مال الغش" (أو: مال الظلم، المال الباطل) تقدّم لنا أمثولة أخرى حول علاقتنا بالمال. فالذي يوزّع أمواله على الفقراء يربح حلفاء له ثمينين لدى الله. قال أحد المعلمين: الأغنياء والفقراء يحتاجون الواحد إلى الآخر. فالأغنياء بغناهم يساعدون الفقراء في هذا العالم. والفقراء يساعدون الأغنياء في العالم الآتي.
ونطرح السؤال: هل يسوع من حزب هذا الوكيل "الغشّاش"؟ لا بسبب غشه، بل بسبب حكمته للخروج من الوضع الحرج الذي وجد نفسه فيه. كان فطناً وتصرّف بسرعة، فاعملوا مثله.
قال يسوع: "لا تستطيعون أن تعبدوا الله والمال معاً". المال هو "شخص" حي! نجعله تجاه الله! بل نرفعه فوق الله! هذا هو الموضوع: إن المال يزاحم الله في قلبنا وفي حياتنا.
لا أحد يفلت من سلطان المال. لا الأغنياء ولا الفقراء، لا الكهنة ولا الرهبان والراهبات، ولا المؤمنون. المال هو غشّاش، يجرّ إلى الظلم. المال هو باطل.
لا نريد مشاكل مع المال؟ إذن نلغيه! هذا مستحيل. فجماعة يسوع نفسها امتلكت كيساً من الدراهم و"محاسباً" هو يهوذا.
يبقى علينا أن نعير أذننا لدرسين نتعلّمهما في هذا اليوم: كونوا حكماء وأحراراً. والدرس يرتبط بالآخر. فالحكمة السميا بالنسبة إلى المال هي أن نعطيه. والحرية الكبرى هي إمكانية إعطائه.
ليس من السهل أن نكون أحراراً بالنسبة إلى المال لكي نعطيه لمن هو أفقر منا. أو أننا نخاف أن لا يبقى لنا ما يكفينا، أو أننا مأخوذون بجمع المال وتكديسه. لقد لاحظ الناس الذين يجمعون الحسنات من أجل المشاريع: الأغنياء هم أقل الناس عطاء (نحن أمام المجانية. فلو كانت لهم مصلحة لأعطوا). وهكذا يتحكّم المال بنا إما بواسطة الهمّ (من يؤمّن لنا حياتنا؟). وإما بواسطة السحر الذي يحب به الإنسان أمام المال.
هذا ما نعرفه ولكننا لا نريد أن نراه: نحن نخدم الله ونخدم أيضاً حسابنا في البنك. فما هو السبيل لكي نتبدّل؟ أما يجب أن نربح لكي نؤمّن المستقبل، لا شكّ في ذلك. ولكن نجعل المال في مكانه، أي داخل ثقتنا بالله واتكالنا على عنايته.
نحن نخدم الله حين نثق به ثقة تامة. فسلام القلب وحرية القلب هما العلامة الواضحة أن الرب هو السيد الوحيد الذي نعبده. وداخل ملك الله على قلوبنا غير المقسّمة، نستطيع أن نهتمّ بالمال، أن نشتري، أن نحسب هذا الحساب أو ذاك.
المهم أن لا نصمّ أذنينا عن نداء يسوع: بما أنكم لا تستطيعون أن تخدموا الله والمال أقول لكم: "لا تهتموا" (مت 6: 24- 25).
كم نُسحر يا رب بالمال الغشّاش. فنبتعد عنك وعن اخوتنا! عرّفنا إلى قيمة الانسان وليكن نورك جل مبتغانا. كم نحسّ يا رب أننا على هامش المجتمع لأننا فقراء، عاطلون عن العمل. علّمنا يا رب أننا في عينيك فوق كل ما يحوي العالم من ذهب. كم نحسّ يا ربّ أننا ضعفاء ولا نملك إلاّ إمكانيات محدودة. أعطنا نحن تلاميذك أن نكون العلامة الحية لحضورك وسط البشر، ولعنايتك الحانية على كل واحد منا.