البشارة
1: 26- 38
يكون المولود قدوساً وابن العلي يُدعى.
يجب أن يكون يسوع من بيت داود. فداود أبوه، لا يوسف. هذه هي المفارقة. فعلى يوسف أن يؤمّن التواصل في السلالة. فسلالة داود هي علامة تدلّ على أمانة الله عبر التاريخ. إنها هذا الخطّ الذي يعبر الأجيال ويحمل معه مخطّط الله الذي لا يتوّقف.
ولكن انقطاع النسل مع البشارة، جاء يبلبل كل شيء. فالله سيكون أبا ليسوع: سيُدعى ابن الله. لو لم يكن إلا ابن العلي، لكان بكل بساطة مثل سليمان "العظيم" الذي كان ابن داود. فالذي هو ابن داود بحسب الجسد، سيُقام ابن الله بحسب الروح (روم 1: 4). ولن يكون لملكه انقضاء. هذا ما يمنحه قدرة سامية على مستوى القداسة.
وهذه الحقيقة الجديدة لا تحرم يوسف من عظمة أعطيت له. فهو يحتفظ بمهمّة ثقيلة تجعله ينقل إرث الاجيال، إرث الايمان، الذي يمرّ من الآباء إلى البنين كسلسلة الأجداد. إنه أب جديد، أب روحي، أب بالتبني. وسيشدّد خبر متى (1: 18) على دعوة يوسف الرفيعة. أما الخبر الذي نقرأه الآن فهو خبر دعوة مريم.
مريم تؤمّن ليسوع وجوداً في الجسد وحضوراً حقيقياً. فيسوع لا ينزل من السماء ككوكب يسقط على الارض. وهذا بفضلها. إنه حقاً واحد منّا. أما دور الروح فهو حماية مريم وتغطيتها بظلّه في مسؤوليتها العظمى بأن تعطي الله للعالم. مريم ويوسف سيلعبان الدور عينه: يعطيان ليسوع موقعاً في التاريخ وفي حياة البشر.
هناك مقطعان يكوّنان الخبر الذي نقرأ: مقطع عن داود (آ 27- 32)، ومقطع عن الاسم (آ 31- 36). أقيم ملكاً بواسطة يوسف، وسمّي يسوع بواسطة مريم، فهو يستطيع أن يلعب كامل دوره المسيحاني كدّيان ومخلّص. ويتجذّر مجمل الخبر في "الشهر السادس" (آ 26- 36) بالنسبة إلى حبل اليصابات. ظهر حبل أم يوحنا ورُفع عار العاقر. وسيتحرك الصبي في حشا أمه (آ 24). وسيكون خصب من نوع روحي فيه يجدد الله التاريخ ويعيد إليه حيويته. فشعب العهد القديم (اليصابات) وجد في مريم بتولية جيدة وشباباً آخر. حقاً ما من شيء غير ممكن عند الله. فلا تدركه شيخوخة الأيام ولا كرّ السنين.
سُلالة داود لا تنتهي. لقد ضاعت في زاوية خفيّة من زوايا الجليل. ولكن نسلاً ضائعاً ليس نسلاً ميتاً. فسيُولد من جديد بطريقة عجائبية في تواضع زوجَين مثاليين بالشجاعة والاستعداد للعمل بمشيئة الرب.
نحن نتحرّك في ليلة الازمنة وفي سرّ الازل. ففي الحاضر يتمّ تاريخ عظيم، تاريخ حبّ بين الله وشعبه. يصعب علينا أن "ندركه" فيجب علينا أن نخرج من كدماتنا العتيقة المقولبة، لكي نتعلَّم معنى الجديد. حينئذ تجتاحنا سعادة نتذوّقها حين نعرف أننا مع المسيح نبني تاريخاً هيّأه الله لنا منذ الأزل.
"يا ممتلئة نعمة". إنه مصير مريم، هذه الصبية اليهودية ابنة 16- 18 سنة. هذه الصبية التي اختارها الله لتكون أم ابنه، لتعطي جسداً لكلمته. إن مصير مريم يفوق كل تصوّراتنا. ومع ذلك، فهو يعطي صورة نموذجية عن أحد أسس المسيحية: مجانية العهد بين الله والإنسان. إن مخطّط الله هو فيض حبّ. ولا سبب لوجود الحبّ إلاّ الحبّ نفسه.
منذ البشارة وفي بداية الخلاص، إكتشف المؤمنون مدهوشين أن مخطّط الله الشامل، وتجسدّ المسيح، وغفران الخطيئة، وتحرير البشرية، والحياة في الروح والقيامة، أن كل هذا هو عطيّة، هو نعمة من لدن الله.
ومريم هي أجمل صورة عن هذه العطيّة. دهشت. إضطربت. هي لم تدرك حالاً بُعدَ ما يحدث ولا كيف سيحدث. ولكنها تعلن أنها مستعدة لتتقبّل "تيار النعمة" الذي جاء يخصب أرضاً جعلها الشّر عقيمة مجدبة.
مسيرة مريم هي مسيرتنا، وإيمانها هو نداء شخصي وتقبل النعمة، تقبلّ مجانية الله، واصغاء لكلمة ما زالت تُزرَع فينا وتريد أن تتجسّد. هي مسيرة في الايمان بما فيه من نور وظلمة. وثقة بذاك الذي اتخذ المبادرة في هذه المغامرة، في هذه الحياة الحميمة، الحياة الجديدة والسرّية مع ذاك الذي جعل منا "خدّاماً" ولكن خدّاماً مسؤولين.
فإن سمّت مريم نفسها "خادمة" الرب، فهذا لا يعني بأن دورها هو مجرّد "أداة" خاضعة بين يدي الله. لنتجنّب تحقير الانسان لكي نُظهر عظمة الله. فدعوة مريم ورسالتها تدلاّن بالأحرى على جدية نداء الله الذي لا يريد أن يعمل شيئا بدون "نعم" حرّ تتلّفظ به خليقته.
مريم هي صورة عن كرامة وعظمة كل انسان يشارك في مخطّط حب الله. مريم هي البشرية التي توافق بحرّية على ما يطلبه الله. التي تقول "نعم" للحياة، وتؤمن أن لا شيء مستحيل على من يحبّ.
"لا تخافي يا مريم"! حين يجتاح الله حياتنا، فنداؤه يخيفنا دوماً. لأننا نحسّ مسبقاً بمتطلّباته. من قال "نعم" لله قبِل أن لا تجري الامور كما في السابق. ستتبدل خياراتنا وما حسبناه من اولوياتنا. انتهت "الحياة الهادئة المطمئنة"! إن "نعم" كل التزام مسيحي يتجاوز قوانا البشرية وحدها. وهذا المشروع يبعدنا عن الواقع إن لم يكن مشروع الله، وإن لم يغطّ الروح بظله حياتنا لنجسّد فيها حبّه.
لقد اخترت يا رب عبدك داود، وجعلته رئيس شعبك، ووعدته بنسل يكون ابنك الوحيد. واخترت خادمتك مريم التي من الناصرة، وقدتها في الطريق إلى خادمك يوسف، الذي من بيت داود. وأعطيتها ابناً هو ابن العلي. واليوم تختارنا يا رب... أعطنا نعمتك لكي نعرف ما تريده منا فنقول مثل مريم: ها أنا خادم الرب. ها أنا خادمة الرب. فليكن لي كما تقول.