لخاتمة
ماذا نتعلم من كتاب الملوك؟
1- من الواضح إلى كلّ القراء، أنّ قصّة ملوك إسرائيل ويهوذا، كتبت لتحذّر المؤمنين. هي في قسمها الأكبر قصة الجهالة والضَياع، ولها قيمة واضحة لهؤلاء الإسرائيليين العائشين في المنفى في بابل، والذين كانوا أوّل من قرأها. فالأمثولة الظاهرة وافقت آمالهم، وكثير منهم أفاد منها. ولا شكّ في أنّه حين انتهى الجلاء، عزمت الجماعة التي أقامت أيضًا في أورشليم، أن لا تعود إلى الكَذِب في ديانتها وأن لا تُشارك الشعوب المُجاورة في أفكارهم وعاداتهم. فالجماعة المتجددة كانت مستعدة لأن تكون مقدسة، وأول خطوة في طريق القداسة الانفصال عن العالم الذي يُحيط بها.
2- ولكننا نقرأ كتاب الملوك من وجهة نظر العائشين في منفى بابل (أو المُقيمين في أورشليم بعد تجديدها) فماذا يعني لنا هذا الكتاب؟ ألجواب على هذا السؤال يتعلّق بقدرتنا على الدخول في هذه الحياة المرسومة أمامنا. إن لم نقدر على ذلك، فالكتاب لا يعني لنا شيئًا، لأنّ المخيلة والانسجام ضروريان لقراءة التاريخ قراءة مفيدة. فيبقى علينا أن تعلّم الوجهة التي منها دُوّن الكتاب. لن نوافقه دومًا على أحكامه، ونحن نعرف أنّه وضع في تاريخه أمورًا كنّا نتمنّى لو لم تكن، وأنّه أهمل أمورًا كنّا نودّ أن نقرأها. تعلّمنا حياة الشعب مع الله، وتعرّفنا الى طبيعة إله إسرائيل: إختار بني إسرائيل وأحبّهم، وحاول المرّة بعد المرّة، أن يُرجعهم عن جحودهم وحياتهم الفاسدة. إذًا كتاب الملوك يُحدّثنا عن تصرّف الله مع شعبه، ويخبرنا الكثير عن طبيعة الله.
3- وعرفنا أيضًا هوية هذا الشعب. دُعوا ليقطعوا عهدًا مع الربّ، ولكنّ تصرّفهم وصل بهم إلى الفاجعة بسبب هذه الدعوة وعجزهم عن قبولها. ألدعوة أن يكون بنو إسرائيل شعب الله، تعني بالنسبة إلى الكاتب شيئًا هامًا وواضحًا في حياة الشعب، تعني أولوية العبادة. ولهذا شدّد الكاتب على الهيكل وكلّ ما يرتبط به، وبالأخصّ الأواني المقدسة التي سلبت المرّة بعد المرّة. لن يكون إسرائيل ما يريده الله منه إلا إذا قبل بهذه العبادة كما يُريدها الله. ألعبادة هي تقدمه العابدين لربّ جماعات وأفرادا. والعبادة تكون كاذبة إذا كانت الجماعة كاذبة، وإذا كانت حياتها وقيَمها غير مقبولة لدى الله. وهكذا تكون العبادة أداة نقيس بها الحرارة الروحية للجماعة. والعبادة لا تنفصل عن حياة الجماعة اليومية. فالحياة والعبادة يسيران معًا. هذا ما طالب به الدستور الاشتراعي الذي استند إليه يُوشيا في إصلاحه، وهذا ما طالب به الأنبياء الذين قدّم لهم كتاب الملوك كلّ احترام.
4- هذا الاهتمام بالعبادة جاء في إطار خاص، فبيّن لنا شعب إسرائيل في نقطة خاصّة من تطوّره. أقاموا في كنعان ليُنافسوا جيرانهم. اتصلوا بمجتمع جديد وطريقة حياة لم يعرفوها من قبل. أرادوا أن يحصلوا على القوة، وفكروا أنهم بحاجة إليها ليستمروا في الوجود، وأن عليهم ان ينمّوا النظم والمؤسسات مثل جيرانهم. وهكذا واجهوا تجربة الاقتداء بجيرانهم اقتداءً كاملاً، فنقلوا طريقة عيشهم وأخذوا بقِيمهم فتركوا طريقة عيشهم الخاصة وقيِمهم الخاصة، بل تركوا إلههم. في هذه الطريق قاد الملوك شعبهم. أما الأنبياء فلا. وكان على الشعب أن يختار: أن يتبع المثال الملكي أو المثال النبوي. أما ما يُقدّمه الانبياء فهو: أن نكون في العالم دون أن نكون من العالم، كما يقول المسيح (يو 18:15 ي)، أن نأخذ موقفًا من الصراع بين يهوه والبعل، بين الله والمال (مت 6: 24)، بين عبادة الله وعبادة الأوثان (1 كور 10: 14).
5- قرأنا تاريخًا من التواريخ، تاريخ قبائل أقامت في أرض كنعان في أوقات مختلفة، ووعت وحدتها الروحية منذ عهد داود وسليمان. إطلّعنا على أحداث من تاريخ بني يهوذا وبني إسرائيل، واكتشفناها مرتبطة بأحداث من تاريخ الشرق، ألممتد من بلاد الرافدين إلى مصر، مرورًا بآرام وموآب وامون وفينيقيا. ما يهمّنا من هذا الكتاب هو الوجهة الدينية والحياتية. هذا الكتاب هو نموذج لنا، نحكم به على كلّ تاريخ نعيشه اليوم. فكما تجاسر الأنبياء أن يقولوا الحقيقة ولم يخافوا أحدًا ، مما زلنا نحتاج اليوم إلى من يقول كلمة الحق، ولو كلّفته حياته. وكما تدخّل الشعب ليبقي على التقاليد الحقة المرتبطة بداود وسليمان، هكذا يجب على كلّ شعب أن يستيقظ من سُباته العميق، فيعبّر عن ارادة الله في تصرّفاته. اليوم وفي كلّ يوم، تعيش الكنيسة في هذه المنطقة أو تلك، اختبار تاريخ الملوك. أليوم يثور الشعب على الظُلم وكَبْت الحرية وإذلال الإنسان، أليوم يقوم أنبياء يتكلّمون باسم الله، فيساعدون الشعوب على تحرير، هو رمز إلى ذلك التحرير النهائي الذي سيَتمّ للبشرية جمعاء، حين يجمع المسيح أبناء الله المشتتين، ويوحّدهم في شخصه