الفصْلُ الخامِس
جَدعُون وَيَوم مديَان
6 : 1 – 8 : 35
أ- المقدّمة
1- ألفصول 6-9 تروي خلاصًا جديدًا لبني إسرائيل، وأوّل محاولة لإقامة المَلَكية، ولكنّها محاولة تنتهي بالفشل. تُحدّثنا عن جدعون الذي أرسله الله، فطرد الغزاة المديانيين، وقتل قائدهم، ثمّ مات بعد شيبة صالحة، ولم يرض أن يكون ملكًا. أما أبيملك فسيحاول أن يكون ملكًا على الشعب، ولكن الوقت لم يأت بعد.
2- مُجابهة شعب إسرائيل ليست الآن مع الملوك، كما في قصّة عتنيئيل وأهود ولا ضِدّ الكنعانيين كما في خبر معركة يزرعيل. فالكنعانيون والعبرانيون يقفون صفًا واحدًا، ليُدافعوا عن نفوسهم ضدّ البدو الآتين من الصحراء الشرقية والجنوبية، ضدّ المديانيين والعماليقيين وأبناء المَشرق عمومًا. هؤلاء ينتظرون زمن الحصاد، فيهجمون كالجراد، ويمرّون فلا يتركون شيئًا وراءهم.
3- وقصّة جدعون ليست فقط قصة انتصاراته في الحرب، بل انتصاره على عدوّ آخر يختلف عن الملوك، وهو أقوى منهم، لأنّه مُقيم في قلب البلاد ووسط بني إسرائيل، عَنَيْتُ به البَعْل. لم يكن لإنسان أن يتبارى مع هذا "الربّ والسيّد". ولكنّ يهوه كان مع جدعون، فانتصر لأنّه لا قوة على الإطلاق تقف أمام قوّة الله. هنا يكمُن البُعْد الديني لهذه القِصّة بل لكلّ سِفْر القُضاة.
4- تتكون قِصّة جدعون من 12 مرحلة أو خَبَرًا، نستطيع أن نُوردها على الشكل التالي: وضع بني إسرائيل الماديّ والأخلاقي قبل بداية القِصّة (6: 1-10). دعوة جدعون خلال رؤية من عند الله (6: 11-24). خبر ثانٍ لدعوة جدعون الذي قلب مذبح بَعْل، ليُطيع أوامر الله (6: 25-32). نداء إلى الحرب يُوجّهه جدعون إلى القبائل الإسرائيلية (33:6-35). ظهور النَّدى كعلامة ملموسة لحضور الربّ مع جدعون (6: 36-40). إنتصار جدعون ورجاله الثلاثماية على مديان (7: 1- 22). تدخّل الإفرائيميين لملاحقة بني مديان في مخاضة الأردن (7: 23-8: 3). غزوة جدعون لشرقيّ الأردن، ومُعاقبة سكوت وفنوئيل وتنفيذ ثأر الدم (8: 4- 21). ألسلطة بيد جدعون الذي يصنع صنمًا، يسجد له بنو إسرائيل (8: 22-27). ملاحظة قصيرة عن أيّام جدعون (28:8). نسل جدعون وموته (8: 29-32). عودة بني إسرائيل إلى خيانة الربّ بعد موت جدعون (33:8-35)
5- نتعرّف من خلال الأسلوب والمضمون، إلى العبارات العامة في المُقدّمة والخاتمة. ونلاحظ أيضًا خبرين لدعوة جدعون مع بناء مذبحين. لا شكّ في أنّنا أمام تقليدين متوازيين، وُضِعَ الواحد قُرْبَ الآخر، وهذا ما يُفسّر بعض التنافر في سياق القصة. كلّ هذه المُعطيات، أخذها الكاتب الاشتراعي وجمعها، فكوّن قِصّة بطولات جدعون منذ النداء الذي سمعه من الربّ الى نهاية ولايته وموته.
ب- تفسير الآيات الكتابية
1- رسالة جدعون محرّر شعبه (6: 1 - 40)
(آ 6: 1- 10) هذه هي مقدمة قصّة جدعون، وهي تذكّرنا بخطيئة بني إسرائيل وتوبتهم في زمنين. ألزمن الأوّل: مُضايقة بني مديان لهم (آ1-6)، ألزمن الثاني: كلام النبيّ يُنبهّهم إلى العودة إلى الربّ (آ 7-10).
ونبقى مع قبائل الشمَال، منسّى (6: 15) وأشير وزبولون ونفتالي (6: 35) وإفرائيم (7: 24). لا يذكر الكاتب يساكر ولا قبائل شرقيّ الأردن التي تتحمّل الضيق ولا تُقاوم. من هم المديانيون؟ مجموعة قبائل بدوية تنتقل من شرق خليج العَقَبة إلى هِضَاب موآب. قُهروا في زمن موسى (عد 31: 1ي)، ولكنّ خطرهم لم يُزل. كانوا كلّ سنة يغزون البلاد، ويَحْمِلُون خيرات العبرانيين الذين تركوا حياة البداوة وأخذوا بالزراعة.
صرخ بنو إسرائيل، فأرسل إليهم الربّ لا ملاكًا (2: 1- 5) بل نبيًا. ذكّرهم باحسانات الربّ (1 مل 10: 18)، منذ الصعود من مصر، والخروج من بيت العبودية إلى التحرّر من المُضايقين، والإقامة في أرض الوَعْد (خر 34: 11). وفى الله بوعده، وها هو يطلب من شعبه الأمانة: فليتجنّبوا كلّ معاهدة مع الوثنيين (2: 2؛ 3: 6؛ خر 34: 12 ي)، وكلّ إكرام لآلهتهم (آلهة الأموريين، سكّان البلاد). ولكنّهم لم يسمعوا صوت الله ولم يعملوا بوصاياه.
(آ 11-24) دعوة جدعون ومذبح ربّ السلام. ملاك الربّ هو الله بالذات، وهذا واضح إذا قابلنا آ 11، 12، 14، وآ 20، 21، 23. ألبطمة شجرة مقدسة مثل نخلة دبورة (4: 5) وبلوطة العرافين (37:9). عفرة ابيعزر تقع في أرض منسّى (يش 17: 2) وهي الطيبة البعيدة 11 كم إلى الشمَال من بيت شان. نميّزها عن عفرة بنيامين (يش 18: 23؛ 1 صم 13: 17). جدعون (رج جدع، قطع) كان بعيدًا عن القرية، لئلا يُلْفِتَ نظر الغزاة. قال له الملاك: ألربّ معك (تك 28: 15؛ خر 3: 12؛ يش 1: 5)، ليَدُلّ على حماية الربّ القديرة له. ولكنّ جدعون تساءل: أين هي حماية الربّ والشعب يعيش في الذُلّ والضيق؟ إلتفت الله إلى جدعون لفتة الرضى، وأرسله ليُخلّص شعبه. هنا أجاب جدعون مثل موسى (خر 3: 11) وشاول (1 صم 9: 21)، فحدّث الربّ عن ضُعفه وضعف عشيرته. ولكنّ الكاتب يُواجه حكمة البشر بحكمة الله الذي سيكون مع الذي اختاره. حينئذ نتساءل: هل الله هو الذي يُكلّمه أم لا؟ ولهذا طلب جدعون علامة مثل موسى (خر 4: 1-9) وحزقيا (2 مل 8:20-9).
وجاء جدعون بتقدمته التي تصلح لضيف بشري أو كذبيحة لله. ولكن ملاك الربّ لمس التقدمة بالعصا فاحترقت، ففهم جدعون أنّه أمام الله. خاف أن يموت لأنه رأى الله، ولكنّ الملاك هدّأ رَوْعَه: سلام لك، لا تخف. حينئذ بنى جدعون للربّ مذبحًا سماه سلام الربّ، لأنه تحدّث إلى الربّ وظلَّ سالمًا.
(آ 25- 32) دعوة جدعون أو يربعل. نقرأ خبرًا آخر لدعوة جدعون، وهو يعود إلى تقليد آخر. حاول الكاتب المُلهم أن يُوَفّق بين التقليدين، فتحدّث عن ثور ثانٍ ومذبح آخر... سنكتشف في هذا المقطع، جدعون الرجل القويّ ومحرّر الشعب والمتقي للربّ الذي سيقوم بواجبه العائلي كمُنتقم للدم.
هدم جدعون مذبح البَعْل، وبنى محلّه مذبحًا لله، وقطع الاشجار التي هناك ليُحرق ذبيحته... غضب أهل المدينة. أمّا يوآش والد جدعون فقال: ليُدافع البعل عن نفسه. ولهذا سُمّي جدعون يربعل أي ليدافع بعل عن نفسه، أو ليكن بعل عظيمًا.
(آ 33-35) هنا تبدأ معركة التحرير بالنداء إلى التعبئة العامة. جاء المديانيون وخيّموا في سهل يزرعيل. حينئذ حلّ روح الرب على جدعون كما حلّ على أهود (27:3) فنفخ في البوق، فاجتمعت عشيرته ثمّ سائر قبيلة منسّى، وانضمّ إليهم أشير (الذي تهرّب في زمن دبورة بسبب علاقاته الطيبة مع الكنعانيين) وزبولون ونفتالي.
(آ 36- 40) هنا يُقْحِمُ الكاتب حدث جزّة جدعون ويذكر الله لا يهوه، وهذا ما يُوجّه أنظارنا إلى نصّ الوهيمي، يروي لنا مرة ثالثة. دعوة جدعون. طلب جدعون مرة أولى، أن ينزل الندى على الصُوف المجزوز، وتبقى الأرض يابسة، فكان كما طلب. ثم طلب مرة ثانية أن ينزل الندى على الأرض ويبقى الصوف المجزوز جافًا، فسمع له الله. أجل، إنّ نعمة الله تحترم طبيعة الإنسان، وتعامل كلاً منا حسب نَفْسِيَّته. هي لم تبدّل طريقة أهود القاسية في تصرّفه مع عجلون ملك موآب، وهي تتعامل مع جدعون الخائف الحذر، رغم إخلاصه لقضيّة الله.
(آ 7: 1-8) ونعود مع الكاتب إلى الحرب مع المديانيين. تأكّد جدعون (أو يربعل) من معونة الرب، فقام في الصباح. وفي نهوضه الباكر ما يدلّ على اهتمامه بالعمل. خيّم في عين حرود (أي الرعدة) الواقعة غربي بيت شان، تُجاه بني مديان في تلّ المورة (أي الرائي القريبة من تابور) والمشرفة على سهل يزرعيل.
ولكنّ المقاتلين كثيرون في نظر الرب، وسيفتخرون بأنّهم هم الذين انتصروا، وينسون أنّ الله القدير وحده ينتصر، وله وحده يعود كلّ مجد. إذًا لا بدّ من إنقاص الجيش، وجدعون هو ممّن يفضّلون الحيلة على الحرب المنظمة. فبدأ أولاً بإعلانه: من كان خائفًا ليرجع، فرجع كثيرون. ثم أنزلهم الى الماء فمن ولغ الماء بلسانه ولم يجث استبقاه جدعون، فكان عدد المقاتلين 300 رجل، وبهذا العدد القليل سينتصر بنو إسرائيل.
(آ 9-22) بعد أن اختار جدعون رجاله، تصرّف بحكمة، فعرف أين يُقيم الأعداء، ليأخذهم على حين غفلة. ذهب بنفسه إلى المُخيّم مع خادمه عفرة، وتعرّف إلى جيش المديانيين. وحين عاد سمع أحد الجنود يروي لصاحبه حلمًا: رغيف خبز من شعير يتقلّب في معسكر مديان، وصل إلى الخيمة فسقطت الخيمة. فسرّ له صاحبه الحُل: ألخيمة تمثّل البدو، ألرغيف سيف جدعون. نشير هنا إلى أنّ الرجوع إلى الاحلام أمر معروف في التوراة: حُلم يعقوب في بيت إيل (تك 28: 10-17)، حُلم يعقوب في حاران (تك 31 :10-13)، حُلم يوسف (تك 37: 5- 11)، حُلم سليمان في جبعون (1 مل 3: 5- 15).
سمع جدعون الحلم وتفسيره، فشكر الرب وتشجعّ، ودعا رجاله إلى الحرب. قسم جيشه ثلاث فرق، كلّ فرقة مئة، وعلّمهم كيف يتصرّفون. وصلوا حوالي نصف الليل، ونفخوا بالأبواق وكسروا الجرار، فدبّت البلبلة في بني مديان، فهربوا إلى بيت الشطة (بيت السنط المجهولة) نحو صريرة (أي صرتان المذكورة في يش 3: 16) وآبل محولة، وكلاهما تقعان في منطقة بيت شان. إذا بعد أن تحارب العدو بعضه مع بعض، وأسرع في الهرب نحو الأردن، قبل أن تُقطعَ الدربُ عليه.
(آ 23- 25) عرفت القبائل المجاورة (نفتالي، أشير، منسى) بنجاح حيلة جدعون. أمّا رجال إفرائيم فأغلقوا ممرات نهر الأردن في بيت بارة (جنوبي بيت شان)، بناءً على طَلَب جدعون، فقبضوا على قائدي بني مديان عوريب (أي الغُراب) وزيب (أي الذئب)، وقطعوا رأسيهما في مكانين نجهل موقعهما.
(آ 8: 1-3) ولكنّ بني إفرائيم عاتبوا جدعون: لماذا لم تَدْعُنا إلى حرب مديان. بهذه الصورة تدلّ قبيلة إفرائيم أنّها الأولى في قبائل الشمَال. ولكن كيف يُجيبهم جدعون وسلطته ضعيفية بعد؟ خصَاصَةُ إفرائيم أفضل من قطاف ابيعزر. أي بضع حبات من العنب (قتل بنو إفرائيم الملكين) أفضل من القطات. وهكذا هدأ ثورة غضبهم بفطنته.
(آ 4- 21) ولكن لا بدّ من مُلاحقة المديانيين في عُقْرِ دارهم، والانتقام من الدم الذي سفكوه في أرض إسرائيل. نقرأ هنا حملتين مزجهما الكاتب.
وعَبَر جدعون الأردن فم يستقبله أهل سكوت (أو الخيام، وهي في أرض جاد شماليّ اليبوق أو نهر الزرقاء) ولا أهل فنوئيل (أو وجه الله، ألمشهورة بظهور الله على يعقوب تك 32: 31-32، تلول الذهب الحديثة التي تبعد 8 كم عن سكوت باتجاه مجرى يبوق، خوفًا من بني مديان الذين ما زالوا أقوياء. فهدّدهم جدعون حين رجوعه.
كان القائدان زاباح (أي الذبيحة) وصلمناع (أي الظلال)، قد بَعُدا فوصلا إلى قرقر (أو الأرض المنخفضة)، فتبع جدعون جيشهما الكثير (لا ننسى المغالاة) شرقيّ نوبح (اسم عشيرة ومنطقة في أرض منسّى عد 42:32) وبجبهة (تبعد 20 كلم الى الجنوب الغربي من فنوئيل. رج عد 35:32) وقهرهما فهرب القائدان إلى سكوت.
في آ 13-17 نرى كيف انتقم جدعون من أهل سكوت وفنوئيل وفي آ 18- 21 يثأر لدم إخوته الذين قُتِلوا في تابور.
(آ 22-27) ربح جدعون قَلْبَ الشعب بسياسته وعمله التحريري، فقدّموا له المَلكية، رفض الاسم ولكنه مارس حقوق المَلكية، فبنى معبدًا خاصًا به (آ 24-27)، واتخذ لنفسه نساء كثيرات. ثمّ فعل جدعون، كما فعل هارون قبله، فجمع المصاغ ليعملمنها وثنًا. هل يُعتبر عمله تقدمة لجزء من الأسلاب لله (عد 28:31-30، 50) أو شركًا مذمومًا (رج خر 32: 1 ي)؟ مهما يكن من أمر التقليد، فالمؤرخ الاشتراعي يعتبر عمل جدعون عبادة للأوثان: فَجرَ هو، وفَجرَ معه شعب إسرائيل، يقول الكاتب.
ألأفود الذي يتحدّث عنه النصّ، هو صَنَم أو وَثَن، لأنّ النصّ يقول إنّ بني إسرائيل "زنوا" بتأدية شعائر العبادة له (17: 5؛ 18: 14- 20؛ 1 صم 2: 28؛ 31:14 ؛ 9:21-10)
(آ 28) ويُقدّم الكاتب ملاحظة عن الراحة التي عرفتها أرض الربّ في أيام جدعون: 40 سنة (آ 29-32). إتّخذ جدعون، شأنه شأن ملوك الشرق، نساء عديدات فولدن له بنين كثيرين، ومنهم أبيملك (أمه من شكيم) الذي سنتحدث عنه في الفصل المُقبل. ومات جدعون.
(آ 33-35) بعد موت جدعون، عاد بنو إسرائيل إلى عمل الشرّ، واتبعوا بعل بريت (أي بعل العهد) في معبده الكنعاني في شكيم.
ج – مُلاحظات حول الفصل الخامس
1- ورأى جدعون الربّ. ليس من السهل أن نروي لقاء الانسان بالله الحيّ الذي لا تستطيع صورة أن ترسمه. وشعب إسرائيل كان مُتيقنًا أنه من المستحيل على الإنسان أن يرى الله ويسمعه، ويبقى حيًا بعد ذلك (خر 20: 19؛ 33: 20). ومع ذلك أوردت التوراة لقاءات الله ببعض البشر: مع إبراهيم (تك 18: 1-33؛ 22: 11-18)، مع هاجر (تك 7:16-14؛ 21: 17- 20)، مع يعقوب (تك 25:32- 31؛ 9:35-15)، مع موسى (خر 3: 1-22؛ 4: 1-17؛ 33: 11- 21) مع يشوع (يش 13:5-16)، مع منوح (2:13-23)، مع إيليا (1 مل 19: 5-18).
هذه الظهورات يجعلها الكاتب حضورًا لملاك الربّ ورسوله الذي سيصير في سياق الخبر الله بالذات. مكان منعزل، وقت غير عادي ويمكن أن يكون الليل (تك 15: 12-17؛ 20: 3-7؛ 28: 11-19؛ 46: 1-4؛ 2 صم 4:7-17؛ 1 مل 3: 5-15). كلّ شيء يبقى سريًا، ولا شاهد مع الإنسان الذي يحدّثه الله. هذا الرجل لا يشعر عادة أنّه أمام ظهور إلهيّ، ولكنّ الحديث مع "المجهول" ومعنى الكلمات والعلامات المُدهشة، تكشف له عن حضور الله. فيعي فجأة الحالة التي هو فيها، ويُحس بالخوف الديني، ويعتبر المكان الذي ظهر الله فيه مقدسًا وشاهدًا لرؤيا وسامعًا لكلام. حينئذ يبني مذبحًا، ويُعبّر عن إيمانه وتقواه وشكره بذبيحة يقدّمها.
2- يروي لنا الكاتب كيف رأى جدعون الله. ألإطار: قرية في سهل يزرعيل، على الطريق بين تابور وبيت شان، في دار فيها شجرة مقدسة أمام معصرة محفورة في الصخر. هنا يقف هذا المزارع ويدوس الحنطة. شخص مجهول، يعبرُ من هنا، يقترب منه، يسلّم عليه. ويبدأ حوار جميل بين الله والإنسان: انطَلِقْ وخلّص بقوتك شعبك، فأنا أرسلك الآن... أنا أكون معك... ولما علم جدعون أنّه أمام ملاك الرب، خاف جدًا، فقال له الربّ: عليك الأمان، لا تخف.
هنا نتذّكر لقاء آخر بين الله وانسان، حيث تم تبادُل كلماتٍ مُشابهة (خر3: 11-15). ألرسالة هي هي: إذهب وخلّص شعبي. ويعي المُختار الفرق الشاسع بين العمل المعيّن له والامكانيات الوضيعة التي في يده. ولكنّ الله سيقول لجدعون كما لموسى: أنا معك، يعني سأساعدك من دون شكّ، وأعطيك قوة لا تُقهر، شرط أن تجعل قواك الخاصة تُتَمِّمُ عمل الله. وكما طلب موسى علامة فأعطيت له، كذلك أعطيت علامة لرجل الإيمان، فلا يَغُشّ نفسه ولا يَضِلّ.
3- قال الربّ: جيشك أكثر من أن أسلِّم إليه بني مديان، ورجالك سيفتخرون عليّ، ويعتبرون أنّهم خلّصوا نفوسهم بنفوسهم (2:7). هذا هو موضوع العلاقة بين عمل الله السامي ونشاط الإنسان الحرّ، وهو يدفعنا إلى التأمّل في "مسكنة" يعيها الانسان ويتقبّلها، فتظهر فيها عطايا الله وعونه الضروريّ الخلاصيّ القدير.
لقد مال الناس دومًا إلى أن ينسبوا إلى نفوسهم كلّ نجاح أحرزوه. قالوا بلسان عاموس: بقوتنا حصلنا على هذا السلطان (عا 13:6). أجل، نَسِيَت الآلة أنّها ليست شيئًا من دون اليد التي تُحرّكها (أش 10: 13-15؛ ار 9: 22-23). وقال لنا بولس الرسول (اكور 7:4): أيّ شيء لك لم تنله من الله؟ فإن كنت نِلْته فماذا تفتخر كأنك ما نلته من الله بل حصلت عليه بتعبك؟ وسيتوسعّ سِفْر التثنية على خطى هو 2: 10 في هذه الأفكار، فيحدّثنا عن إقامة بني إسرائيل في البريّة ويقول: لا تفكروا أنكم حصلتم على هذا الغنى بقوّتكم وقُدرتكم الذاتية. أذكروا أن الربّ أعطاكم القوة لتكتسبوا هذا الغنى (تث 8: 17-18). إن كنت نلت هذه الأرض، فليس بسبب بِرّك وأمانتك، بل لأنّ الرب أراد أن ينيَ بالوعد الذي وعد به آباءك (تث 9: 5)
هذا هو تعليم مار بولس: ما يبدو حماقة من الله هو أكثر حكمة من حكمة الناس، وما يبدو أنه ضُعف من الله هو أقوى من قوّة الناس. ما يزدريه العالم، يختاره الله حتى لا يفتخر بشر أمام الله (اكور 1: 25-31).