الفصْلُ الثالِث
عُبُور الأردُن
3 : 1 – 17
أ- المُقدمّة
1- يمكن أن نسمّي ف 3-6 قِصّة تابوت العهد. يذكره النصّ عشر مرّات في ف 3 وسبع مرّات في 4: 5-18، وعشر مرّات في 6: 4-13. إذًا إليه يجتذب الكاتب انتباهنا. فالتابوت هو علامة حضور الله، ولهذا يقول النصّ في المعنى نفسه: مر أمام الربّ، مر أمام تابوت العهد (6: 6-8). وعبُور الأردن سيكون قبل كلّ شيء عبور الربّ الذي يقود شعبه، وعُبور الشعب حول إلهه.
2- عندما نقرأ ف 3-5 نشعر أنّنا أمام أحداث ترتبط بندر الأردن، ولكها لا تجد أية وحدة داخلية. نلاحظ تقارُبًا بين هذه الفصول وخبر الفصح وعبُور البحر الأحمر في سفر الخروج ف 12-15. وهكذا تكون هذه الفصول احتفالاً بحدث الخروج وعبور البحر الأحمر، يعيشه بنو إسرائيل في إطار تاريخي وجُغرافي. نحن إذًا أمام تأوين ليتورجيّ لتقاليد قديمة.
3- أمّا ف 3، ففيه بعض الفوضى، لأنّ الكاتب الاشتراعي عاد في تدوينه له إلى مراجع متعددة، تُعطينا صُورًا مختلفة عن حدث واقعي، هو عُبور الأردن. لا اختلاف على الحَدَث بل على التفاصيل. ضاعت ظروف المكان والزمان، وغاب الأشخاص، وبقي عمل الله حاضرًا في ذاكرة شعبه وليتُورجيّتهم.
4- يُراوح الخبر مكانه فلا يتقّدم. يقول لنا النصّ تسع مرّات، إنّ الكهنة حملوا تابوت العهد (آ 3، 6، 8، 13، 14، 15، 17)، وأربع مرّات أن الأمر أعطي للشعب لكي يتقدّم (آ 3، 4، 5، 9، 10-13). إذًا نحن لا نملك خبر انسانٍ شاهدٍ للحدث بل خبر مؤمنٍ ، يهمّه أن يُبيّن أعمال الله العجيبة.
ب- تفسير الآيات الكتابية
1- ألاستعدادات قبل العُبور (3: 1-13)
(آ 3: 1) ترتبط بـ ف 2: رفعوا الخيام ووصلوا، فكان رحيلهم نتيجة مُباشرة للأَخبار السارّة التي حملها الجاسوسان. كلّ شيء على ما يرام لاحتلال المدينة: وعدت راحاب بالمساعدة، والله أسلم المدينة إلى أيديهم (2: 21-24). ولكن آ 1 ترتبط في الواقع بـ 1:18. تأكّد يشوع أنّ الشعب يتبعه إلى حيث يُرسله الرب (1: 16 ي) فرفع الخيام وارتحل. قضى الشعب ليلة واحدة عند شاطىء النهر، فاستعدّ لعُبوره.
(آ 2-4) ترجع إلى التقليد الاشتراعي الذي أعاد صياغة النصّ، ولو على حساب الخبر القديم. قال الكاتب إنّ بني إسرائيل ظلّوا ثلاثة أيام على الشاطىء الشرقيّ للنهر. فإذا دخلنا في إطار ف 3- 5، نفهم أنّ الشعب خرج من النهر في 10 نيسان، أول شهر من أشهر السنة القمريّة بحسب الروزنامة البابلية الجديدة (هناك نصوص حافظت على الروزنامة الكنعانية القديمة رج خر 3: 4؛ 23: 15؛ 8:34؛ تث 16: 1؛ 1 مل 38:6 ؛ 8: 2). وإنطلق من شطيم، فخيّم على نهر الأردن في الثامن من نيسان، أي قبل اسبوع واحد من الاحتفال بالفصح (ليلة 14-15 نيسان رج 5:10-12). لهذا التوقّف دور ليتورجي، لأنه يُعِدّ الشعب للاحتفال بالفصح. ولكن يختلف النصّ هنا عما قرأنا في 2: 22 اذ انتظر الجاسوسان أيضًا ثلاثة أيام. ولكن ما يهمّ المؤرخ الاشتراعي، هو وجود أسبوع من الزمن يستعدّون فيه لعيد الفصح.
يسير الشعب وراء التابوت، وتكون مسافة بينهما. هذا ما تُحدّده الشعائر الدينية القديمة. فالإنسان غير المكرّس، لا يحقّ له أن يمسّ التابوت (رج 1 صم 6: 1 ي ؛ 2 صم 6: 1 ي). ألتابوت رمز حضور الله، وهو يقود الشعب الذي لا يعرف الطريق، ولم يمرّ فيها من قبل. أما التابوت فيعرف طريقه إلى أريحا، كما سيعرفها عندما ينطلق من أرض الفلسطيّين الى بيت شمس (1 صم 7:6 ي).
(آ 5) يدعو يشوع الشعب ليتقدّسوا. نحن هنا في تقليد ليتُورجيّ قديم. ألشعب يتقدّس بمناسبة حدث عجيب سيجترحه الله، والتقديس يقوم بطُقوس الطهارة والامتناع عن بعض المأكولات، والاعتفاف عن الممارسة الجنسية (7: 13؛ رج 19 :10-14 ؛ عد 18:11). سيصنع الله عجائب تدهش المؤمنين، فعليهم أن يستعدوا لها.
(آ 6) حين يُحمَل التابوت، يتدخّل الله فيقود المسيرة. ولكن هذا لا يعني أنّ المؤمنين يُوجهّون الربّ كما يشاؤون بأعمال طقسيّة، هي أقرب إلى السحر منها إلى الصلاة. وهذا ما سيتعلّمه شعب الله الذي أخذ تابوت العهد إلى المعركة مع الفلسطيين، فخسر المعركة وتابوت العهد (1 صم 4: 1 ي).
(آ 7) بدأ يشوع يسير على خُطى موسى عبد الله، إلى أن يصير مثله في 29:24. إختار الربّ قائدًا موهوبًا ليقود شعبه، وسيكون معه كما كان مع موسى.
(آ 8-9) سيلعب يشوع دور الوسيط بين الله والشعب. ولكن هل فلق الماء أو أوقفه، كما فعل موسى في البحر الأحمر؟ هذا معقول. ولكنّ النصّ يُشدّد على اقتراب التابوت المحمول على أكتاف الكهنة، وينبّهنا بالأحرى إلى فاعليّة كلمة الله.
(آ 10) هنا تبدأ خُطبة يشوع: هذه هي العلامة أنّ الله معكم. ألله هو الحي، وهو يفترق عن آلهة كنعان الذين يموتون ويقومون مع الطبيعة، لأنهم خاضعون للطبيعة، فلا يُؤثرون على التاريخ. أمّا الربّ فهو سيّد الطبيعة والتاريخ، ولا يسمح لأحد أن يتدخّل في العالم معه.
نجد لائحة بسبعة شعوب (رج تك 19:15؛ خر 8:3-17؛ تث 7: 1؛ 20: 17) أقاموا في أرض كنعان، في القرون الأولى للألف الثاني. الكنعانيون يقيمون في المدن الساحلية، والحثيون جماعات متفرقة، توزّعت على أرض كنعان وسوريا الشمالية وآسية الصُغرى (كانوا في حبرون رج تك 23: 1 ي، وفي مواضع أخرى رج تك 26: 34؛ 36: 2؛ 1 صم 6:26؛ 2 صم 23: 39)0 الحويّون هم عشيرة حورية أقاموا في شكيم (تك 2:34 بحسب السبعينية) ومنطقة جبعون (7:9 بحسب السبعينية). ألأموريون أقاموا على الهَضَبات لا على الساحل (تث 1 :7، 19، 20، 44؛ يش 10: 5؛ رج تك 48: 22) فشكّلوا آخر تحرّك سكّانيّ من الساميين الغربيين. أليبوسيّون هم سكان أورشليم (18: 16، 28؛ قض 19: 10). أما الفرزيون والجرجاشيون فلا نعرف عنهم شيئًا.
قال يشوع: بهذا تعلمون. ربط بين معرفة الله وأعماله العجيبة، فنقل المؤمن من عالم التجريد إلى أرض التاريخ، حيث يدين الله فيُعاقب أو يرحم.
(آ 11) الله هو ربّ الأرض كلّها (مي 4: 13؛ زك 4: 14؛ 6: 5؛ مز 97: 5) وله الحقّ أن يتصرّف في الكون كما يشاء.
(آ 12) إختاروا اثني رجلا، واحدًا من كلّ سْبط: هناك اثنا عشر حجرًا في الأردن، واثنا عشر عمودًا في المَعبد.
(آ 13) يُعلن يشوع ما سيحدث: ستنفلق مياه الأردن.
2- مُعجزة عُبور النهر (3: 14-17)
هذه المعجزة التي تُشبه، في ظاهرها، مُعجزة البحر الأحمر، قد تكيّفت وحالة مَعْبَد الجِلْجال. ويُشدّد التقليد على الطابع العجيب للحَدَث، ويُقابله بحَدَث عُبور البحر الأحمر. هذه المعجزة تمّت، لا في نهاية الصيف، يوم يكاد النهر يجفّ، بل في الربيع (الاسبوع الثاني من نيسان)، وبعد ذوَبان الثلوج.
توقّفت المياه عند أدام، وهي اليوم تلّ الدمية، حيث يلتقي اليَبُوق (أو نهر الزرقاء) بالأردن. هذا يعني أنّ المعجزة تمّت على بُعْدِ كيلومترات عديدة إلى الشمال من أريحا والجِلْجال. أمّا صرتان فنجهل مكانها إلى اليوم.
ولكن كيف نفسّر هذه المعجزة؟ يبدو أنه يُمْكِنُ أن نرجع إلى عوامل طبيعية. ففي ليلة 7-8 كانون الأول 1267، توقّفت المياه في النهر بفعل انهيار، توقّفت عن الإنحدار نحو البحر الميت 16 ساعة. وكذا حصل سنة 1906. وفي 11 تموز سنة 1927 حصلت هزّة أرضية، فتوقّفت مياه النهر عن الجريان 21 ساعة ونصف. ولكنّ المياه، في هذه الحالة، ما تُعتّم أن تفتح لها مجرى جديدًا. كلّ هذا لا يجعل المعجزة حدَثًا طبيعيًا ولا أمرًا عاديًا بل يُدخلها في سِياق التاريخ.
كيف نتصوّر عُبور النهر؟ بشكل طَوافٍ ينطلق من الجِلْجال. وبعد أن يلمس الكهنة بأرجلهم مياه النهر، كانوا يعودون إلى المكان الذي منه انطلقوا. فكما أنّ أشعيا (40: 30؛ 41: 17؛ 43: 2، 16؛ 51: 12) الثاني يعود إلى معجزات الخروج، ليُحدّثنا عن رجوع مجيد للمنفيين إلى أرضهم، كذلك سيذكّرنا الواعظ الاشتراعي باحتفال هذا الحَدَث في الجِلْجال على الأردن، ويستفيد من الليتُورجيا ليُلقي عِظَته.
ج- ملاحظات حول الفصل الثالث
1- ماذا نعرف عن تابوت العهد؟ نعرف أنه كان وسط المعبد في قادش، حيث تنظمت الحياة الدينية للعِبرانيين في زمن موسى، وقبل مجيئهم إلى أرض كنعان. ممّا تألف هذا "الصندوق" الطقسي؟ لسنا ندري، ولكنّ مدلوله كان واضحًا: فهو يمثّل حضور الله الخفيّ الذي يعضد شعبه المتعبّد له. ولقد أورد كتَاب تقاليد التوراة نصوصًا تُبيّن كيف يسير التابوت في البرية أمام شعبه (عد 10: 33-36). وبعد أن لعب دوره عند وصول العِبرانيين إلى كنعان، جُعِلَ في مَعْبَد الجِلْجال.
2- ونقرأ خبر عبور نهر الأردن، بصيغته الملحمية، وقد لمّح إليه نشيد دبورة (قض 5: 4- 5) ومزمور الخروج من مصر (مز 3:114-4) فكيف نفهمه اليوم؟ إنّ التقليد احتفظ بعبُور النهر كرمز. فكما كانت مصر أرض العبودية والهلاك، كانت البريّة (يش 10) موضع المِحْنة والخطر. فالعبور إلى الأرض الخصبة التي اختارها الرب وباركها، يعني عُبورًا من الشقاء إلى النعمة، من الموت إلى الحياة، ومن الخطيئة إلى الله. وهكذا صار عُبور البحر وعُبور الأردن رمز العِمَاد المسيحيّ.
في هذا الأردن، سيُعّمِد يوحنا الجُموع التي ارتدّت إلى الله بكرازته، ويسوع نفسه سيُعمّد الجُموع أيضًا (مر 1 :4- 11؛ مت 30: 1-17؛ لو 3:3- 21-22؛ يو 1 :25-34). فالعماد الذي هو سرّ الدخول في الميراث الموعود، في عالم الله، في الكنيسة، في الاتحاد بالمسيح، يَجِدُ عنه صورة بعيدة في دخول العبرانيين إلى أرض الموعد، عَبْر مياه تُشكِّل حاجزًا وعتبة.
3- وإذا أردنا أن نبقى قريبين من نصّ يشوع، نقول إنّ الفصل الثالث يذكّرنا بعُبور تابوت العهد وسط شعب الله، ودخول الربّ الإحتفالي في الأرض التي اختارها ليجعل فيها مقامه. لا شكَّ في أنّ هذا الخبر، يُكمّل ما قرأناه في سِفْري الخروج والعدد، ولكنّ أفكار كاتب سفر التثنية تُسَيْطِرُ على المعنى العام. ففي يوم من الأيام، سيُقيم تابوت العهد في أورشليم التي ستُصبح المَعْبد الوحيد للربّ. ولكن، بانتظار ذلك الوقت، سيتخذُ الجِلجال، أول مَعْبد للعِبرانيين، أهميّةً عظيمةً في أيّام يشوع، وشيلو في أيام القُضَاة. وحين يملك داود، يُنْقَلُ تابوت العهد إلى أورشليم