الفصل السابع والعشرون
تقوى كاذبة وسخاء حقيقي
12: 38- 44
ترتبط هاتان المقطوعتان في مرقس، حول ممارسات الكتبة وحول فلس الأرملة، ترتبطان بكلمة عاكفة كما في "أسلوب شفهي": ننتقل من "الأرامل" اللواتي يأكل الكتبة بيوتهنّ، إلى "الأرملة" التي ألقت أصغر قطعة مال يتداولها الناس (فلس أو درهمان...) في "الخزانة"، في صندوق التقادم أو التبرّعات. ثم إن هذين الحدثين يقعان في أورشليم، وبطريقة أدقّ في الهيكل الذي يبدو أن يسوع لم يتركه منذ 11: 27 (يتمشى في الهيكل؛ رج 12: 35؛ لو 20: 1). سوف نتساءل عن الفكرة التحتانية التي تربط بين هاتين القطعتين: ممارسة الكتبة (12: 38- 40)، وفلس الأرملة (آ 41- 44).
نجد هذين المشهدين لا لوقا (20: 45- 47 ثم 21: 1- 4) في الترتيب عينه، وفي ألفاظ شبه مماثلة؟ فإن لو 20: 46 (إياكم ومعلّمي الشريعة) هو قريب من مر 12: 38 ب- 39، أكثر ممّا قريب من لو 11: 43 (تحبّون مكان الصدارة) الذي أقحم في خبر "السفر إلى أورشليم" (9: 51- 18: 14). من الواضح أن لو 20: 45- 21: 4 يتبع مرقس أو أن الإثنين عادا إلى مرجع مشترك (ربما متى الآرامي كما نُقل إلى اليونانية) أو قد يكون لوقا عاد إلى مرقس وإلى المرجع معاً. فالتصحيحات البسيطة التي قام بها لوقا في نصّ مرقس أو في نصّ المرجع، هي طفيفة ولا تتعدّى أسلوب الكتابة. أمّا مضمون النصّ فهو مشترك بين لوقا ومرقس، وهو يرتبط بمواضيع اعتدنا على قراءتها في مرقس.
1- رياء الفريسيين (12: 37 ب- 40)
إن شجب الكتبة في هذا المقطع من مرقس وفي ما يوازيه في لوقا (20: 45 ي)، يلتقي في نقاط عديد مع شجب الفريسيين وعلماء الشريعة في لو 11: 37: 54. وبصورة خاصة، إن لو 11: 43 يكرّر لو 20: 46. فمعطيات هاتين المقطوعتين في لوقا، نجدها مجموعة وموسعة في مت 23 مع اختلافات واضحة في الآيات الموازية. فهناك أسلوب خاصّ بمتى، وأسلوب خاصّ بلوقا. صاغ مت (ف 23) في شميلة واسعة أقوالاً تورد لوم يسوع للكتبة والفريسيين (الويل لكم! تغلقون ملكوت السماوات...). أما لوقا فأبقى على الإنفصال بين ما حمله إليه المرجعان الرئيسيان (11: 37- 54؛ 20: 45- 47). قد يكون المرجع الأول مرقس أو (وبعض الشّراح يضع حرف العطف "و") المرجع المشترك بين الثلاثة. لا شيء يتيح لنا هنا أن نفصل في "المسألة الإزائية". ولكن توازيات لوقا ومتّى تطرحان سؤالين: من هم خصوم يسوع الحقيقيون في هذه المناسبة؟ في أي وقت تفوّه يسوع بهذه الأقوال؟
وقبل أن نجيب على هذين السؤالين، نقدّم بعض الملاحظات التفصيلية. إن فعل "بروساخو" يستعمل في لو 12: 1 (من تدوين لوقا. راجع إستعمال قال مع حرف الجرّ الخاص: بروس) (احذروا من خمير الفريسيين) وفي 20: 46: (احذروا الكتبة). أما في المقاطع الموازية، فيستعمل مرقس (8: 15: احذروا من خمير الفريسيين؛ 12: 38: احذروا من الكتبة) فعل "بلابو". في لو 20: 45 نجد لفظة "لاوس" (الشعب) الخاصة بلوقا. أما ما هو خاص بمرقس: تصغي بسرور (مر 12: 37). في آ 38، يقدّم لنا مرقس بناء خاصاً فيجمع المصدر مع اسم في المفعول به (مريدين السير بالحلل، والتحيّات). صحّح لوقا فادخل اسم الفاعل (محبّين) أمام الاسم (محبّين التحيات). وأخيراً، ربط لوقا آ 47 مع الآية السابقة بواسطة جملة موصولية (الذين يأكلون) فصحّح هكذا بناء مرقس (آ 40: آكلونها البيوت، اسم الفاعل في صيغة الرفع والكتبة في صيغة الجر كمضاف إليه). وبمختصر الكلام، نجد بناء خاصا بلوقا وآخر بمرقس. لهذا لا نستطيع أن نقول بالتأكيد إذا كان لوقا أعاد صياغة مرقس، أو صياغة المرجع المشترك، أو صياغة مرقس والمرجع المشترك.
أ- خصوم يسوع
إذا أخذنا بعين الإعتبار الظروف التاريخية، يكون اللوم الموجّه إلى الكهنة في محلّه في مر 12: 38- 40 (= مت 23= لو 20) أكثر منه في لو 11: 37 ي، حيث نجد قسماً كبيراً من المادة التي جمعها مت 23: 1 ي. ويحدّد موقع هذا اللوم في إطار الأسبوع الأخير، ساعة الانقطاع بين يسوع وخصومه الذين برهنوا بشكل نهائي على نواياهم السّيئة، وسبق لهم فتآمروا من أجل إهلاكه (مر 11: 18؛ لو 19: 47؛ مت 21: 46). إذاً، كانت لمرقس ولوقا أسبابهما حين احتفظا هنا فقط باتهامات بسيطة نسبياً، وجعلا من هذا المقطع ملحقاً وخاتمة لسلسلة المشادات السابقة (مر 11: 27- 12: 37 وز). ثم إن هذا النصّ شكّل مقدّمة صالحة للخطبة حول دمار أورشليم، وهي خطبة حرّكتها قساوة القلب لدى رؤساء الشعب.
أي رؤساء يعني؟ لا يتكلّم مرقس هنا (ولوقا مثله في 20: 46) إلا عن الكتبة. أما في النصّ الموازي في لو 11: 43، فيتوجّه اللوم إلى الفريسيين. أما متى فضمّ المجموعتين: "الكتبة والفريسيون" (مت 23: 2). ولكن هذا لا يسمح لنا بأن نخلط بين الفئتين. فلوقا يحذرّنا من هذا المزج ويحافظ على الفصل في خطبة تهاجم الفريسيين (11: 39- 44) تتبعها خطبة أخرى تهاجم الكتبة (11: 46- 52). بيد أنه كانت عملية "تقريبية" (وربما عن خطا) وجّه فيها لوقا (11: 43) لوماً إلى الفريسيين الذين يحبّون المقاعد الأولى: ينطبق هذا الإتهام بشكل أدّق على الكتبة، على ما يقول نصّ مرقس (آ 39) ولو 20: 46، ونحن نفهم هذه "البلبلة" في الأناجيل لأن الكتبة، مفسّري الشريعة، ينتمون في معظمهم إلى الفريسيين. ولأن الفريسيين العاديين انتموا إلى منظّمات كان الكتبة رؤساءها فنظّموا حياتهم حسب مبادئ وقواعد الكتبة والفريسيين.
ب- سامعو يسوع (آ 37- 38 أ)
"وكان الجمع الغفير يصغي إليه في إرتياح (سرور). وكان يقول في تعليمه...".
نربط آ 37 ب بما يلي لا بما يسبق، وذلك حسب الموازاة في لو 20: 45: "وإذا كان الشعب كلّه يسمع، قالت لتلاميذه".
لا يذكر مرقس التلاميذ. فيبدون غائبين. فبعد وقت قصير سوف يدعوهم يسوع (12: 43: دعا تلاميذه وقال لهم). أم متى الذي يحبّ أسلوب "التكديس" فقال: "الجمع وتلاميذه" (23: 1). وهكذا سيفعل في الآية التالية: "الكتبة والفريسيون" (23: 2): نستطيع أن نرسم المشهد فنتصوّر وجوهاً مصغية في وسط الجمع. وعلى لوحة نستلهمها من خبر لوقا، يحتلّ الشعب خلفية اللوحة. ويتوجّه يسوع إلى التلاميذ المجتمعين أمامه على حدة. وهكذا حصر لوقا السامعين المباشرين، فشدّد على آنيّة تحذير يسوع للتلاميذ في أيام تدوين إنجيله. فعلى المسيحيين أن لا يظنّوا أن تعاليم المعلم قد عفا عنها الزمن. فليسوا بمأمن من شواذات شبيهة بتلك التي وقع فيها الكتبة.
هنا نعود إلى دقائق النصّ. إن لو 20: 45 (وقال لتلاميذه) (وحتى في 9: 43 ب: وبينما هم متعجّبون قال لتلاميذه) يبذل قاصداً سامعي مرقس بطريقة ثقيلة. فيشير إلى أن معطيات المرجعين قد دُمجا (كدّسا) بالنظر إلى الفائدة الحالية التي يجنيها المسيحيون الأولون. والطابع القصدي لوضع التلاميذ في المقدّمة في 20: 45، يثبته ويفسرّه الغاء النداء الذي وجّهه يسوع فيما بعد في مر 20: 45 (دعا تلاميذه) الم يعد لوقا بحاجة إلى هذا النداء في لو 21: 3، لأن التلاميذ يحيطون بيسوع منذ 20: 45: قال لتلاميذه). كما يثبته وضع خاص في لو 12: 1 (قال أولاً لتلاميذه). في هذا الموضع، ألّف لوقا مشهداً مشابهاً لما في 20: 45 ليدخل تحذيراً مماثلاً من الفريسيين (إياكم وخمير الفريسيين). فحين كان الشعب هنا بالآلاف يتزاحم حول يسوع، ها هو يسوع يقول لتلاميذه أولاً: إحذروا من خمير الفريسيين. فعلى التلاميذ، والمسيحيين في عصر لوقا، أن يحذروا (بالنسبة إلى نفوسهم) من الرذائل الفريسية.
نجد في آ 38 أ (وقال لهم في تعليمه) عبارة تأتي من مرجع مرقس الذي يشدّد مراراً على هذا الموضوع، دون أن يفصح عن موضوع هذا التعليم.. ولكن لا شيء يشير هنا إلى نيّته بأن يشدّد على موقف يسوع.
كما أن هناك هجوماً على تعليم الكتبة في 12: 35- 37 أ، ففي 12: 38- 40 نجد شجباً لممارستهم. هذا الهدف يفسرّ لماذا وردت هذه الأقوال فقط. فمرقس (أو سابقه) يرغب أن يبيّن إلى أي حدّ كان الإنقطاع تاماً بين يسوع والرابانيين.
لم يهتمّ مرقس (كما فعل لوقا) بتطبيق تعليم يسوع الخلقي على الحياة المسيحية اليومية (رج 1: 21، 31، 36؛ 3: 7؛ 5: 37؛ 6: 1؛ 8: 34؛ 10: 23، 46؛ 11: 11، 27؛ 12: 43؛ 14: 26؛ 32). ولكن مرقس تفوّق على سائر الإنجيليين حين وحّد يسوع بتلاميذه، وهم قد تجنّدوا معه في كرازة الإنجيل وحمل الصليب. إن كان لا يذكرهم هنا، فلأنه يريد بالأحرى أن يشدّد على الصراع المتنامي بين الكهنة واللاهوتيين الذين يقاومونه. هذا الصراع سيصل بنا قريباً إلى دراما الجلجلة. وقد بدا منذ هذا الخبر: "عظماء الكهنة والكتبة" (رج 11: 18؛ 14: 1).
وهكذا يتخذ ذكر الجمع (أوخلوس- في المعنى الدنيوي. لا "لاوس" كما في لو 20: 45) لوناً خاصاً يحمل القلق والخوف. عند مرقس يبدو الجمع متعاطفاً مع يسوع حتى وقت المحاكمة. ولكنه يصوّر هذا الجمع في وقفة انتظار (كيف ستسير الأمور؟ متقلّبون): قد يستحون من ابن الإنسان (8: 38). قد لا يؤمنون به (9: 19). سيتدخّل هذا الجمع من جديد في 15: 11- 14 حيث نرى عظماء الكهنة يحرّكونه ليطلب موت يسوع، وذلك بعد أن تشاوروا مع الشيوخ والكتبة (15: 1). هل فكّر الإنجيلي بهذا المشهد حين ذكر أن يسوع، خلال عمله الرسولي في أورشليم، كان قد طلب (ولكن عبثاً) من الشعب أن يحذروا من خمير الفريسيين؟ فسرورهم (أو ارتياحهم) بأن يسمعوه لا يمتلك جذوراً عميقة (4: 16- 17، أرض صخرية لا عمق فيها). وليس من قبيل الصدف أن لا نجد في كل الأناجيل عبارة "يصغون إليه بسرور" إلا هنا ولا مر 6: 20، وذلك في معرض الحديث عن هيرودس الذي تأثر بقداسة يوحنا وأقواله، ولكنه، مع ذلك، تراخى أمام حيلة هيروديا.
ج- حبّ الظهور عند الكتبة (آ 38 ب- 39)
قدمت إتهامات يسوع ضد الكتبة بشكل تصاعدي على مستوى الخطورة. أولاً، حبّ الظهور: الثياب الطويلة، التحيات في الساحات، أماكن الصدارة. ثانياً: استغلال الأرامل. ثالثاً: الرياء الديني بالمعنى الحصري. ذكره الإنجيلي في نهاية المقطع ليشدّد على شّره بشكل خاص.
لن نتساءل هنا إذا كان الكتبة قد استحقوا كل الإستحقاق هذه الإتهامات. فهناك مؤرخون (خصوصاً من اليهود)، اعترضوا على هذه الإتهامات. غير أن التلمود نفسه يشهد أن لهذه الإتهامات أساساً عند قسم كبير منهم. ثم لا ننسى أن الأسلوب "النبوي" ينطلق من تحذيرات فيصل إلى لعنات. ثم يعمّم الحالات الفردية على فئة كاملة أو شعب كامل. ثم إن مجمل الأناجيل تساعدنا على بعض التصحيحات الطفيفة: يلاحظ لوقا بعض المرات ذلك فيقول في 6: 2: "نفر من الفريسيين" (ق مت 12: 2: رآهم الفريسيون؛ مر 2: 24: فقال له الفريسين)؛ وفي 11: 5: "بيد أن بعضهم قالوا" (ق مت 12: 24: وسمع الفريسيون فقالوا). حسب مرقس (12: 28- 34)، امتدح يسوع كاتباً لحكمته. ونجد هنا وهناك فريسيين "صالحين" مثل نيقوديمس، يوسف الرامي. ونقرأ في متى (13: 52: كل كاتب يخرج من ذخائره؛ 23: 34) أن يسوع يشيد بمثال الكاتب المسيحي. بل هناك كاتب سيقوله ليسوع: "أتبعك أينما تذهب" (مت 8: 19).
لام يسوع الكتبة أولاً لأنه يحبّون أن "يمشوا (يتجوّلوا) في الحلل". هذا هو الرداء (ربما الجبة) التي يستعملها الرابانيون. كانون يطيلون أطراف هذا الرداء ليدلوا على أنهم ممارسون أمناء للشريعة فيجتذبون علامات الاكرام (مت 23: 5؛ رج عد 15: 37 ي؛ تث 22: 12). نحن أمام حبّ الظهور على مستوى اللباس: رذيلة معروفة في الماضي واليوم، ولكن شر ما فيها هو استعمالها على مستوى الدين واستغلالها من اجل الكرامة والجاه.
ويحبّون التحيات في الساحات. هذه رذيلة من النوع نفسه. هناك التجّار وعامة الشعب وأشخاص عديدون لا عمل لهم. كل هؤلاء ينحنون أمام واحد من هؤلاء "المعلّمين" ويقولون له: رابي. ويستغل الكاتب هذه الشرفيات من أجل أنانيته وحياته الباهتة. وهذا ما يزيد شّر "تباهيه وخيلائه".
ونقول الشيء عينه عن الشكل الثالث من "الظهور الساطع": يحبون المقاعد الأولى في المجامع وفي الولائم. يقول الرابانيون الذين بعد زمن المسيح، إن الكتبة الذين ورثوا سلطة الشريعة على "كرسي موسى" (مت 23: 2) كانوا يحتلّون مقاعد خاصّة في المجامع، ووجوههم إلى الشعب. وليس من المدهش أن يستفيد بعضهم من هذا المركز المميّز في المجمع ليطالبوا به في كل مكان (مثلاً: في الولائم).
إن هذه المقطوعة التي ندرس، ليست وحدها في الإشارة إلى انتقاد يسوع لمثل هذا التصرف. فالمدعوّ إلى وليمة في العرس يتعرّض إلى أن يُعزل من مكانه ويخزى، إن هو اختار المقعد الأول. بل عليه بالأحرى أن يختار المقعد الأخير ومضيفه يكرمه فيرفع مقامه الو 14: 7- 11). حين قال يسوع هذا الكلام، لم يشأ أن يعلمنا حب الظهور والحسابات البشرية (أقول: أنا لست بشيء فأعطى مديحاً مضاعفاً). نحن هنا أمام مثل (آ 7) بشكل مفارقة، مثل يشدّد فقط على درس في التواضع: "من ارتفع اتضع، ومن اتضع ارتفع" (آ 11). لقد ألّف لوقا بنفسه هذا المشهد الذي كان سبب الخبر: دُعي يسوع إلى مائدة أحد الفريسيين، فلاحظ كيف يختار المدعوّون المقاعد الأولى. قد لا يكون هذا الإطار التاريخي معقولاً جداً. ولكن شجب يسوع لهذه النوع من الكبرياء الفريسية والموقف الأناني الذي يفترضها، يثبته نص مرقس (12: 39: مقاعد الشرف في الولائم). من يتجرّأ أن يقول أننا تخلّينا عن مقاعد الشرف في العالم وفي الكنيسة؟ وذكّر متّى المسيحيين هنا، فجاء تذكيره لا وقته. ذكّرهم بنصحية أعطاها يسوع في هذ المناسبة أو غيرها: "العظيم فيكم يكون خادماً لكم" (مت 23: 11).
هنا نتذكّر أم 25: 6- 7: "لا تكن متباهياً أمام الملك، ولا تقف في مكان العظماء. خير أن يقال لك: إرتفع إلى هنا. من أن يُخفض مقامك لدى الأمير". ونجد التحذير عينه عند رابي شمعون بن عزاي (حوالي 110 ب م): "إنزل من حيث أنت جالس درجتين أو ثلاثاً، وهناك اخترَ مكانك. فخير أن يقال لك: إرتفع، من إن يقال لك: إنزل". إن نصّ بن عزاي هذا ينتهي بقول لهلال (20 ق م): "إنخفاضي هو ارتفاعي. وارتفاعي هو انخفاضي". نلاحظ أولاً كيف أن يسوع هو ابن محيطه. يستعمل أقواله وأمثاله ولغته. ونلاحظ أيضاً كيف أن يسوع حوّل إلى تنبيه اسكاتولوجي قول حكمة عملياً يبحث عن صالحه. إن لو 14: 14 يتحدّث عن قيامة الأبرار. ونلاحظ أخيراً أن خاتمة المثل (من ارتفع اتضع) نجدها في نهاية مثل آخر (زادها لوقا هنا ليدلّ على نداء إلى التواضع نقرأه في هذا المثل) يندّد بتكبرّ الفريسيين (لو 18: 14)0 أمّا متى فجعل هذه الخاتمة في نهاية مقطوعة (23: 1- 12) موازية لتلك التي ندرس. وهذ ما يدلّ على التقابل بين هذه المقطوعة ومثل المدعوين الذين يختارون لنفوسهم المقاعد الأولى (لو 14: 7- 11).
د- إستغلال الأرامل وتظاهر بالتقوى (آ 45)
طالت الهجماتُ السابقة أولى فرق الفريسيين السبع التي يقرّ بها التلمود: "فريسيّو الكتف". هم أولئك الذين يحملون أعمالهم على كتفهم لكي يراها الناس فيمتدحوهم. هذه الهجمات توافق جملة متى القاسية في تلميحها: "يعملون كل أعمالهم لكي يراهم (يلاحظهم) الناس" (23: 5). ومع هذا، فنحن أمام اتهامات أكثر خطورة لم يحتفظ بها متى. زادها مرقس تاركاً اسم الفاعل في صيغة الجرّ. عائداً إلى صيغة الرفع (آكلون بيوت). وحّل مرقس البناء الغراماطيقي فأدخل جملة موصولية موضع اسم الفاعل: الذين يأكلون بيت الأرامل.
أولاً: إستغلال الأرامل
نعرف عن الكتبة أولاً أنهم "يأكلون بيوت الأرامل". كان وضع الأرامل سيّئاً بحسب الشريعة. فلا حقّ لهن بميراث أزواجهن (رج عد 27: 9، 11؛ 1 مل 17: 8- 15؛ 2 مل 4: 1- 7). لهذا السبب ربما، كانت هذه الأرملة "فقيرة". ولكن يسوع لا يهاجم هنا الشريعة في حدّ ذاتها، بل يعارض تجاوزاتها.
ظنّ بعض الشّراح أن الكتبة العارفين بحيل القانون، توصّلوا إلى إلغاء الشريعة السارية من أجل الأرامل اللواتي جعلن أموالهن عندهم وديعة (مت 15: 3- 9 وز). أو أنهم نعموا بمساندة مادية من قبل نساء متحمسات، فاستفادوا من سخائهن ليستولوا على أموالهن. وتحدّث آخرون عن كتبة فضوليين يدخلون البيوت ويستغلون سذاجة مضيفيهم.
مهما يكن من أمر، إن استغلال الأرامل اللواتي هن نموذج عن الأشخاص الضعفاء والعاجزين عن المدافعة عن حقوقهم، هو خطيئة بغيضة جداً في نظر المشترع وفي نظر أنبياء العهد القديم (خر 22: 21 ي؛ تث 27: 19؛ أش 1: 23؛ 10: 2؛ إر 7: 6؛ 22: 3؛ مز 94: 6). ومن ساعد الأرملة واليتيم، اقتدى بالله (تث 10: 18- 19؛ مز 68: 6؛ 146: 9؛ سي 35: 14- 15). إن مساعدة الأرملة واليتيم هي أولى أعمال الرحمة (تث 14: 28- 29؛ 24: 17- 22؛ 26: 12- 13؛ أي 29: 13؛ 31: 16؛ يع 1: 27).
إحتفظ لنا المعلّمون المسيحيون الأوّلون بقول يسوع هذا. وهو ينبّهنا إلى مواقفنا تجاه كل الأشخاص الضعفاء اجتماعياً واقتصادياً. وتجاه كل المظالم التي نحاول أن نبزرها لكي نخفي خطأنا أو تقاعسنا.
ثانياً: التظاهر بالتقوى
وأخطر لوم ليسوع هو هذا الأخير: "يطيلون الصلاة رياء" (أو: خبثاً). يتظاهرون بأنهم يطيلون الصلاة. هناك عدد من الكتبة يخفون كبرياءهم وتجاوزاتهم تحت قناع من التقوى الظاهرة أو بالأحرى، هم يشوّهون صلاتهم حين يرغبون بأن يراهم الناس. الإتهام قريب مما نقرأ في مت 6: 5: "حين تصلّون لا تتشبهوا بالمرائين: فإنهم يحبّون الصلاة قياماً في المجامع وفي زوايا الساحات لكي يراهم الناس".
لا يلوم يسوع الكتبة لأنهم يصلّون في الأماكن العامة. فيسوع صلىّ في المجامع. وقد يكون صلى في الهيكل في أيام الحجّ الكبرى. ولا يلومهم لأنهم يطيلون صلاتهم! مرات كثيرة قضى يسوع ليلته في الصلاة. بل يلومهم لأنهم يتظاهرون بالتقوى. أو يصلّون تباهيا أمام الناس، فلا تعود صلاتهم موجّهة إلى الله، بل إلى نفوسهم. يحاولون أن يضلّوا الله، أن يضفوا الآخرين، فإذا هم يضلون أنفسهم.
ويأتي تهديد أخير بحكم أشدّ قساوة في الدينونة الأخيرة، فيصيب على ما يبدو، اللومين الأخيرين. حين تصل بنا الكبرياء إلى الرياء الديني. وحين يغطي هذا الرياء جشعاً يهاجم الأرامل والناس الضعاف، حينئذ يصلّ الشّر إلى ذروته ويستحق أقسى العقاب.
2- فلس الأرملة (12: 41- 44)
أ- معنى الخبر في حدّ ذاته
رأينا في بداية هذا المقال أن الإنجيلي انتقل من هجوم على الكتبة إلى الحدث التالي بواسطة الكلمة العاكفة (أرملة، أرامل)، والموقع الواحد للمقطوعتين. إن مرقس "زاد" خبر الأرملة (وتبعه لوقا) على مجموعة سابقة (مر 11: 15- 17؛ 11: 27- 33؛ 12: 13- 40). هذا رأي. وهناك رأي آخر يرى مجموعة سابقة لمرقس تبدأ في 11: 27 وتنتهي في 12: 44.
نحن هنا أمام "قول سيروي" أي خبر قصير من حياة يسوع يتركّز على قول تذكّرته الكنيسة. هذا الخبر هو أوجز ما يكون. وهو عند لوقا أقصر منه عند مرقس. حسب لوقا، شاهد يسوع الأغنياء. يرمون تقادمهم في الخزانة (صندوق التبرّعات). ثم شاهد امرأة فقيرة رمت فلساً أو درهمين. رمت أصغر قطعة نقدية في التداول. ويوضح مرقس أن يسوع جلس تجاه الخزانة واخذ يراقب الناس. جاء كثير من الأغنياء ورموا نقوداً كثيرة. وبين ما تساويه تقدمة الأرملة في العملة الرومانية (ربع أس، أي ثمن قيمة كمية الخبز التي توزّع كل يوم على الفقراء). كل هذا يجعلنا في أرض فلسطين.
ويُطرح السؤال: أين حصل المشهد؟ هل نحن أمام الصناديق الثلاثة عشر التي تحدّد المشناة مواقعها في رواق النساء، أم أمام الخزانة؟ في هذه الحالة الأخيرة، يعلن المعطي للكاهن بصوت مسموع، عن قيمة تقدمته، ونيّته في تقدمتها. هذا ما يفسرّ كيف عرف يسوع ما قدّمت الأرملة. ولكن هذه النصوص اختفت من الخبر الإنجيلي. في هذه الفرضية، كان العاطي يفسرّ معنى فعلته بالتجاهي والتكبرّ. ولكن النصّ لا يشدّد على هذا الخطأ.
كل شيء يوجّه أنظارنا إلى الجملة الأخيرة (من حاجتها ألقت كل ما تملك لمعيشتها). وهذه الجملة لا تلوم الأغنياء على ثروة جمعوها ظلماً أو شكّلت لهم خطراً على خلاصهم. ولا تلومهما بسبب تباهيهم في عطائهم الكبير. رغم الكمية الصغيرة التي قدّمتها الأرملة الفقيرة، فقد وضعت "أكثر منهم كلّهم": إن النسبة بين عطائها وإمكانياتها، تجعلها تتفوّق على الذين ألقوا تقدمة مادية أعظم من تقدمتها. هذا ما يفترض استعدادات كبيرة، لأنها لم تعطِ ما فاض عنها، بل أعطت كل ما كان لها من أجل معيشتها.
لا يستنتج النصّ أي درس خلقي من هذه الملاحظة. ولكن التلاميذ الذين تعوّدوا على تعليم المعلّم، استخرجوا تعاليم عديدة. أولا، نحذر من الحكم على الناس وعلى أعمالهم انطلاقاً من الظواهر. هذا ما أشار إليه التنبيه السابق (يتظاهرون بالصلاة الطويلة، 12: 40؛ رج مت 23: 27- 28: القبور المبيّضة). فأكثر الناس سخاء وأكثرهم تقوى ليسوا بالضرورة أولئك الذين يظهرون هكذا أمام عيوننا. الله وحده يرى الخفايا (مت 6: 4، 6، 18). يعرف القلوب (لو 16: 15؛ رج أع 1: 24؛ 15: 8). فالقلب (أو: الباطن) هو الذي يعطي الأعمال البشرية صفتها الحقيقية (مت 15: 19 وز)، لا القيمة المادية. وبين هذه الأعمال، هناك الصدقة التي هي عمل محبّة وتجرّد حين نقوم بها بنية صافية، وهي من الأمور التي تسرّ الربّ جداً (مر 9: 41 وز؛ مت 6: 3- 4؛ 25: 31- 46؛ مر 10: 21 وز).
ب- نظرة مرقس ولوقا
أولاً: مرقس والجماعة الأولى
لا شكّ في أن الكنيسة الأولى عرضت موقف هذه الأرملة التي أظهرت سخاء كبيراً، على عيون الأرامل المسيحيات ليقتدين بها. وخصوصاً أولئك اللواتي تسجّلن في مجموعة الأرامل. وبعد أن مارسن مختلف أعمال الخير (1 تم 5: 10) التزمن بالمثابرة في هذه الممارسات.
ولكن الجماعة المسيحية أحسّت نفسها معنيّة بخبر الأرملة وبالدروس التي يمكن أن نستنتجها. هذا ما شدّد عليه مرقس حين لاحظ (آ 43) أن يسوع (الذي كان يتحدّث فيما قبل إلى الجموع) دعا تلاميذه، نواة الكنيسة المقبلة، لكي يكشف لهم قيمة عمل هذه المرأة الفقيرة.
وتفرّد مرقس في ذكر رواح الشعب ومجيئه. إن يسوع يقابل هذه الأرملة بالجمع (لوقا يقابلها بالأغنياء فقط): إنها نموذج لديانة باطنية، ديانة القلب التي تعرف أكثر من الشعب أن تحفظ نفسها من تأثير الكتبة وتقواهم الشكليّة. وهكذا لا يكون الرباط بين حدث الأرملة والتنديد السابق بالكتبة (الذي ينهي سلسلة من المجادلات) رباطاً على مستوى الألفاظ فقط. بل يشكل انتقالة حتى على مستوى الأفكار، بين الإعلان عن شجب المعلّمين (آ 40 ب) والإعلان عن دمار الهيكل.
ثانياً: لوقا
أما لوقا فقد شدّد مراراً على الصدقة (6: 30؛ 11: 41؛ 12: 33؛ 16: 9؛ 19: 8؛ 21: 1- 4؛ أع 9: 36؛ 10: 2؛ 11: 29) وعلى التخليّ عن المال. وهذا ما جعله يهتمّ إهتماماً خاصاً بخبر الأرملة: إن كان من الخير أن نعطي صدقة كبيرة تبعد الغني عن الشّر الذي يتهدّده (16: 24)، فكم تكون مدهشة صدقة أرملة (مثل أرملة صرفت صيدا، 1 مل 17: 9- 15؛ رج لو 4: 25- 26) ضحّت بكل ما لديها. أعطت كل ما تحتاجه من أجل معيشتها!
ومقابل هذا، إن "فضلة" الذين أعطوا (لو 21: 4) تجعلنا نفكر بالغني الجاهل الذي يبدأ خبره بهذا التنبيه: "إنتبهوا وتحفّظوا من كل طمع. فما حياة الإنسان بكثرة أمواله" (لو 12: 15). فالمرأة الوضيعة التي أعطت من فقرها، تعاكس هذا الملاّك الغني الذي "يجمع الكنوز لنفسه" (لو 12: 21). وذاك الغني (الفريسي ربما) الذي لم يفكّر بأن يترك للعازر الفقير حتى الفتات المتساقط عن مائدته (لو 16: 21).
خاتمة
إن الذي يعرف الكلى والقلوب (العواطف والأفكار) (رؤ 2: 23؛ رج مز 7: 10؛ إر 11: 20؛ 7: 10)، ولا يؤخذ بالظواهر، قد نبّه تلاميذه بأن لا تغشّهم مظاهر تقوى تخفي الكثير من الكبرياء. أن لا يغشهم الجشع والطمع والخبث، ولا صغر أعمال محبّة يقوم بها الفقراء والجهالة. ليحفظوا نفوسهم من معلّمين خادعين يخفون مظاهرهم الخادعة وظلمهم للناس تحت قناع من التقوى.
فليستندوا إلى نعمة الله ووعي ضعفهم ووضاعتهم (لو 18: 13)، لئلا يقتدوا بهم (مت 6: 5) لئلا يسيروا بحسب أعمالهم (مت 23: 3). بل مقابل هذا، ليعرفوا أن يكتشفوا في تقدمة بسيطة لأرملة مسكينة، الحبّ البطولي الذي تخفيه. وليستلهموا هذا المثال ليتخلّوا هم أيضاً عن كل ما يملكون. وليتذكّروا كلام الرب: "بيعوا ما تملكون وتصدّقوا بثمنه على الفقراء. واقتنوا أموالاً لا تبلى، وكنزاً في السماوات لا ينفد، حيث لا لصّ يدنو، ولا سوس يفسد. فحيث يكون كنزكم، هناك يكون قلبكم" (لو 12: 32- 34).