تقديم

تقديم

درب الصليب قاد المسيح خلال حاشه وآلامه، من دار الوالي بيلاطس إلى الجلجلة. وحتّى اليوم، لا نزال نرى ما اكتُشف من قاعة مبلّطة كان عليها بيلاطس خلال محاكمة يسوع، كما يقول يو 19: 13: "فلمّا سمع بيلاطس كلام اليهود، أخرج يسوع وأجلسه على كرسيّ القضاء (ليهزأ منه، مع أنّه هو الديّان) في موضع يسمّى البلاط (في اليونانيّة ليتوستراتوس) وبالعبريّة (أو الأراميّة) "جباتا" أي المكان المرتفع".

جذور درب الصليب قديمة، وهي تنبع من إكرام المؤمنين للأماكن المقدّسة، ولا سيّما المواضع التي مرّ فيها يسوع ليصل إلى الجلجلة، قمّة خلاص البشريّة. فمنذ القرن الأوّل المسيحيّ، اعتاد المؤمنون أن يزوروا القبر الذي خرج منه يسوع ظافرًا، منتصرًا على الموت. ودليلهم إلى ذلك النسوة اللواتي أتين باكرًا إلى موضع الجلجلة حيث تمّ الصلب والقيامة. ونحن لا ننسى أنّ بطرس ويوحنّا زارا القبر الذي وُضع فيه جسد الربّ يسوع (يو 20: 3).

ومن الذين زاروا أورشليم، إيجيرية أو أيتيرية، تلك السيّدة الشريفة التي توقّفت عند الأماكن المقدّسة، سنة 381-384. ثمّ كتبت رسائل إلى أخيّاتها التقيّات فتحدّثت عن المدينة المقدّسة وعن جوارها: القبر المقدّس، صهيون، جبل الزيتون، الأسبوع المقدّس أو أسبوع الآلام، وما نسيت الاحتفال بالشعانين وعيد الفصح.

وتحدّث إيرونيمُس، مترجم الكتاب المقدّس إلى اللاتينيّة (347-420)، الذي أقام مدّة طويلة في مغارة بيت لحم، عن رغبة المؤمنين في عصره بالمجيء إلى الأرض التي تقدّست بمرور المسيح فيها. وهي رغبة تواصلت فحملت الآلاف إلى فلسطين في بداية القرن الثاني المسيحيّ.

خلال القرن الرابع عشر والقرن الخامس عشر، قُدِّم للمؤمنين الذين لا يستطيعون أن يزوروا الأماكن المقدّسة، ممارسة تقويّة تعيد مراحل الآلام بشكل تأمّل في النصوص الإنجيليّة. عندئذٍ بدأوا يقيمون الصلبان ويرسمون الجدرانيّات التي تمثّل هذا المشهد أو ذاك. وهكذا بنوا أكثر من جلجلة يرتفع عليها الصليب.

أمّا في أورشليم القدس، فاعتاد المؤمنون أن ينطلقوا من كنيسة القيامة إلى قصر هيرودس بشكل تطواف، بما أنّ التقوى توجّهت منذ القرن الحادي عشر باتّجاه بشريّة يسوع المسيح، توقّف المؤمنون عند ساعاته الأخيرة التي عاشها في جسده على الأرض، فتأثّروا بما كتبه برنردُس (1090-1153) ثمّ فرنسيس الأسّيزيّ (1182-1226) وسائر المتصوّفين. ودُوِّنت كتب التقوى التي قسّمت خبر الالام إلى مشاهد يتأمّل فيها المصلّون في ساعات النهار أو في أيّام الأسبوع المقدّس.

منذ سنة 1312، تسلّم الرهبان الفرنسيسكان حراسة الأراضي المقدّسة، فحملوا معهم إلى أوروبّا "صورًا" عن درب الصليب. فبنى الطوباويّ ألفارو من قُرطبا (إسبانيا) كابلات محقّقة لكلّ مرحلة من مراحل الآلام. ومثله فعلت الطوباويّة أوستوخيوم (+ 1498) من راهبات الكلاريس في مسّينة (إيطاليا). ونظّم الطوباويّ هنري سوزو (+ 1366) درب الصليب "روحيًّا"  مؤلّفة من سلسلة مراحل في طريق الآلام.

وفي القرن الخامس عشر وما بعد، تركّزت التقوى في ألمانيا وهولندا، على بعض الأويقات التي توثّر في عاطفة المؤمنين: سقوط يسوع أكثر من مرّة، مسيرته المتعثّرة والتي لا تراجُع فيها حتّى الوصول إلى قمّة الجلجلة. وإن أراد المؤمنون أن يتّحدوا بآلام المسيح "بأجسادهم" يزورون عددًا من الكنائس. هي عادة بقي لنا منها زيارة سبع كنائس يوم خميس الأسرار.

وما انتهى العصر الوسيط حتّى كانت عناصر درب الصليب قد تكوّنت. فبقي أن تنتظم في مسيرة تجعل المؤمنين يشاركون المسيح في طريق الحاش والآلام، دون أن يمضوا إلى أورشليم. هنا لعب الفرنسيسكان دورًا كبيرًا. حدّدوا أوّلاً المسيرة، كما قلنا، من دار الوالي إلى بازيليك القيامة. وانطلق آخرون من العليّة التي فيها أكل الربّ عشاءه الأخير، العشاء السّرّيّ، مع تلاميذه، فوصلوا إلى الصعود. وقفة ثالثة ما كانت تتعدّى الموت على الجلجلة. فبرز درب صليب من 18 مرحلة، أو 10 مراحل، أو 8 مراحل. وسوف ننتظر نهاية القرن السابع عشر لتكون المراحل 14 كما هو الحال الآن. ظهرت فيها تقوى القرون الوسطى في ثلاث مرّات سقط فيها يسوع تحت الصليب. كما ظهرت "الأيقونة الحقيقيّة" لوجه يسوع المسيح، فيرا إيكونا، كما قال اللاتين، التي صارت فيرونيكا. هذه الإيقونة التي انطلقت من العالم السريانيّ فوصلت إلى العالم اليونانيّ، قبْل أن تعود إلينا من العالم اللاتينيّ في اسم امرأة تُدعى فيرونيكا، انطبعت في الأناجيل وسائر أسفار العهد الجديد، بانتظار أن تنطبع في الكنيسة وفي قلب كلّ واحد منّا.

وتبقى نقطة الانطلاق الأناجيل: منذ الحكم على يسوع بالموت في دار بيلاطس، حتّى وضع جثمان يسوع في القبر مع ذكر لأمّ يسوع مرّتين: حين تلتقيه، وحين تضعه في حضنها جثّة ميتة. من هذا المشهد الثاني وُلد النشيد في أربع عشرة قطعة تُتلى في نهاية التأمّل بكلّ مرحلة: "كانت الأمّ الوديعة، والدموع منها سريعة، واقفة تحت الصليب. أُلّف البطريرك يوسف اسطفان "زيّاح الصليب" و"درب الصليب" الشّعبيّين. ومنذ بضع سنوات، قدّم المونسنيور يوحنّا كوكبانيّ مقاطع يغلب فيها الطابع اللاهوتيّ على الطابع العاطفيّ.

ما ذُكر أحدٌ من الرسل ولا من التلاميذ في مسيرة يسوع إلى الجلجلة، بل سمعان القيرينيّ، ذاك الفلاّح الراجع من الحقل. كان أصله من قيريني، في ليبيا الحاليّة، وعُرف ولداه في الكنيسة الأولى، في رومة، إسكندر وروفس (مر 15: 21؛ روم 16: 13). كما ذُكرت نساء أورشليم اللواتي "كنَّ يلطمن صدورهنّ وينُحن على يسوع" (لو 23: 27).

وتعرّفت الكنيسة المارونيّة، في خطّ الكنيسة اللاتينيّة، إلى درب الصليب فجعلت أربع عشرة صورة تمثّل يسوع أمام بيلاطس، يسوع حاملاً صليبه... وهي تأتيها من الخارج، ولا سيّما من إيطاليا. ومنهم من جعل فقط 14 صليبًا. أما التقوى الفرديّة، فتقدّر أن تكتفي بصليب واحد. وقد يحمل صور المراحل الأربع عشرة. فالمهمّ هو التأمّل بآلام المسيح لا لكي نزداد بغضًا لليهود الذين قتلوه. فالمسيح غفر لهم لأنّهم ما كانوا يدرون ما يفعلون. وقد قال عنهم بولس الرسول: "لو عرفوه، لما صلبوا ربّ المجد". ولا لنبصق على يوضاس، يهوذا، الذي سلّم الربّ لقاء حفنة من المال. فلمّا كُتبت الأناجيل، تذكّرت هذا "الخائن" لتقول للمسيحيّين في ذلك الوقت، ولتقول لنا نحن اليوم أيضًا، أنّ هناك مسيحيّين يسلّمون إخوتهم لقاء قبضة من المال. هو عمل شنيع. ليت من يفعل هذا لم يُولد. نحن نتأمّل في حاش يسوع وآلامه. لنتعلّم كيف نحمل صليبنا ونتبع مخلّصنا كمل فعل سمعان القيرينيّ. قال عنه القدّيس لوقا: "ألقوا عليه الصليب فحمله وسار وراء يسوع".

اعتادت الكنيسة المارونيّة أن تحيي درب الصليب كلّ يوم الجمعة في زمن الصوم المبارك، ويوم الجمعة العظيمة. وهناك مؤمنون، ولا سيّما بعض الراهبات، يعيشون درب الصليب بشكل متواتر. لأجل هذا، قدّمنا هذه الباقة المتنوّعة، من هنا وهناك. من أجل هذا، نستطيع أن نكون أحرارًا عندما نمارس هذا العمل التقويّ. نأخذ بالتأمّلات الشعبيّة التي اعتدنا عليها منذ القرن التاسع عشر. أو بطريقة الرابطة الكهنوتيّة كما قدّمها المونسنيور يوحنّا كوكباني، رحمه الله، وطُبعت في دليل المؤمن في طبعتيه الأخيرتين. وكانت تأمّلات: واحدة كتبها البابا يوحنّا بولس الثاني، وأخرى البطريرك برتولوميوس الأوّل البطريرك المسكونيّ، كلّ مؤمن يختار ما يوافق نفسيّته، ولا يُسرع في التلاوة، بحيث يكون درب الصليب مناسبة نرافق فيها يسوع، كما نرافق أمّه والتلميذ الحبيب هناك نبكي مع النسوة خطايانا، ونقف بجانب مريم فنتعلم منها أنّ الصليب ليس النهاية. هو مرحلة مرفوعة على كلّ جلجلة، ولكنّه يقودنا إلى القيامة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM