الفصل الثامن عشر
دخول يسوع إلى أورشليم
10: 1- 10
إن خبر دخول يسوع إلى أورشليم يرد في الأناجيل الأربعة (مر 11: 1- 10؛ مت 21: 1- 11؛ لو 19: 28- 40؛ يو 12: 12- 19). الاختلافات عديدة بين نصّ ونصّ. بعضها يلفت النظر حالاً. والبعض الآخر يتطلّب عيناً متفحّصة. وكل اختلاف لا يتّخذ معناه إلا في التدوين الاجمالي للنسخة التي ينتمي إليها. فإذا أردنا أن ندرك بُعد صفحة انجيلية، يجب أن نتعرّف إلى تفكير كاتبه وردّة فعله أمام الأحداث. إن العودة إلى سياق النصّ ضرورية لنربط ربطاً ديناميكيا عنصراً معطى مع مجمل الكتاب الذي يتخّذ منه ماويته وقوته.
نبدأ دراستنا بتحليل اللغة المستعملة في الخبر الإنجيلي بنسخاته الأربع. ثم نتفحص كل نسخة في نظرتها الخاصة إلى هذا الحدث من حياة يسوع: دخوله إلى أورشليم.
1- ينابيع اللغة
تستعمل مختلف أخبار دخول يسوع إلى أورشليم لغة مؤلّفة (في جزء منها) من إشارات رمزية وحضارية يجدر بنا أولاً أن نحلّلها. ونتيجة هذا التحليل نستطيع أن نهفم كل مقطع إنجيلي في ديناميته الداخلية.
أ- جبل الزيتون والمسيح
يرتدي مجيء يسوع إلى جبل الزيتون وإقامته القصيرة فيه طابعاً مسيحانياً حقاً على ضوء النظرات اليهودية المعاصرة. وقد يكون نصّ زك 14: 4 نقطة انطلاق لتقليد، أو شاهداً على ولادة اعتقاد حول المسيح. يقول زكريا: "وتقف قدماه في ذلك اليوم على جبل الزيتون، قبالة أورشليم من الشرق، فينشّق جبل الزيتون من الشرق إلى الغرب وادياً عظيماً جداً...".
إن هذه الكلمات تصوّر تدخّل الله شخصياً في حرب اسكاتولوجية تكون أورشليم مسرحها، وذلك في نهاية الأزمنة (رج حز 11: 23: وصعد مجد الربّ عن المدينة ووقف شرقيها). وسيكون فلافيوس يوسيفوس (مؤرخ يهودي في نهاية القرن الأول المسيحي) صدى لهذا التيار في مقطع من "القديميّات اليهودية": "في ذلك الوقت جاء إلى أورشليم مصريّ يدّعي النبوءة، فنصح الشعب بأن يصعد معه إلى الجبل المسمّى جبل الزيتون، الذي هو قبالة المدينة، ويبعد عنها خمس غلوات. وردّد أمام الناس أنه يريد أن يدلّهم من هناك كيف أن أسوار أورشليم ستهدم طاعة لأمره، وعدهم بأنه يفتح لهم هكذا طريقاً".
إذن، من المعقول أنه في زمن يسوع والإنجيليين، ارتبط قول زك 14: 4 بتمثلاًت تدلّ على الحدث المسيحاني. ففي مدراش (درس) إخباري (ها غاده) (اسمه: سفر الياهو. دوّن في القرن السادس أو السابع ولكن مواده قد تعود إلى القرن الثالث ب م) نتعرّف إلى الدور الهام الذي لعبه زك 14 بين نصوص التوراة ذات البعد المسيحاني. جبل الزيتون (آ 4) له مركز الصدارة. لهذا، ندرك كل البعد المسيحاني الذي اتخدته إقامة يسوع وتلاميذه على جبل الزيتون في خبر مرقس حول رسالة يسوع في أورشليم (مر 11: 11 ي).
ويرتبط بجبل الزيتون: بيت عنيا وبيت فاجي.
بيت عنيا هي بيت الفقير والتواضع وصاحب العناء. في إطار القسم المرقسي الذي فيه يدخل خبر الدخول إلى أورشليم، قد يلعب معنى "بيت عنيا" مدلوله بالنسبة إلى يسوع. هتفت له الجموع، ولكنه لم يتوقّف في أورشليم. اكتفى بالمرور فيها مساء الدخول الاحتفالي (11: 10) ثم خرج إلى بيت عنيا.
بيت فاجي هي بيت التين الفجّ. هنا نتذكّر أن متتالية الدخول إلى أورشليم والإقامة في بيت عنيا، تجد امتدادها في مقطوعة التينة العقيمة (11: 12- 14).
ب- حمار وجحش ابن أتان
في الشرق القديم، ارتبط الحمار بُسطُر وعبادات آلهة عديدة. فهناك في مصر سطرة تيفون (أو سيت) إله الشر وخصم اوزيريس، إله الخير. الحيوان المكرّس لتيفون هو الحمار. والاله نفسه يصوّر بشكل إنسان رأسه رأس الحمار. والحمار هو أيضاً مطية ديونيوسيوس إله الخمر...
في العهد القديم، نرى الحمار حاضراً في أخبار عديدة من تقليد الآباء. إنه مطية الملك وبالتالي مطية المسيح. هنا نورد نصين فسرّا تفسيراً مسيحانياً في التقليد اليهودي. الأول، قول لا يهوذا (تك 49: 11): "يربط بالكرمة جحشه". والثاني في زك 9: 9: "ها هو ملكك يأتيك، إنه عادل منتصر، إنه متواضع وراكب على حمار".
لقد ربط التقليد المدارشي بين هذين النصين في توسّعاته التعليمية حول المسيح ومجيئه. مثلاً نقرأ في "براشيت ربه" ما يلي: "يربط حماره بالكرمة... (تك 49: 11). يفسّر المعلمون هذه الكلمات هكذا: قالت الله: أنا مرتبط بالكرمة (أي إسرائيل) وبعنب هذه المدينة (أي أورشليم) الثمين. صغير الأتان. أي حين يأتي ذاك الذي قيل فيه (زك 9: 9): فقيراً وراكباً على حمار".
لا شك في أن هذه التعاليم دوّنت بعد الأناجيل بقرون من الزمن، ولكن التفكير اللاهوتي الذي أشرف على أول تعبير لها وعلى نقلها، هو قديم، بل معاصر لبناء الهيكل الثاني. لهذا، فهي تلقي ضوءاً مهماً على تكوين خبر دخول المسيح إلى أورشليم.
هو جحش ما ركب عليه أحد. هذا ما يقوله مرقس (11: 2) ولوقا (19: 20). حيوان مكرّس لم يستعمل أبداً. إنه كحيوان الذبيحة. هذا ما نقرأ في عد 19: 2 عن البقرة الحمراء: "صحيحة، لا عيب فيها، ولم يرفع عليها نير". رج تث 15: 19 عن البكر من الغنم والبقر: 21: 3؛ 1 صم 6: 7.
وإذ يحدّثنا الخبر الإنجيلي عن دخول يسوع إلى أورشليم فهو يتذّكير مقاطع عديدة من العهد القديم يتوّج فيها الملك. مثلاً في 2 مل 9: 13 (عن ياهو): "فأسرع كل واحد منهم وخلع عباءته (أو: رداءه) عنه وفرشها تحت قدميه عند أعلى الدرج. ونفخوا جميعاً في البوق ونادوا: ياهو ملك". ولكننا نتوّقف بشكل خاص عند 1 مل 1: 33 حيث يعطي داود أوامره بشأن تكريس سليمان. "خذوا معكم رجال حاشيتي وأركبوا ابني سليمان على بغلتي وانزلوا به إلى جيحون".
إن الفعل "ابيبيبازو" (أركب على) لا يوجد في كل العهد الجديد إلا في لوقا (10: 34؛ 19: 35) وفي أعمال الرسل (23: 24). نحن نجده في خبر لوقا عن دخول يسوع المسيحاني إلى أورشليم (لو 19: 35): "أركبوا يسوع". أما الإنجيليون الثلاثة الباقون فقالوا: "أجلسوه" (مت 21: 7؛ مر 11: 7؛ يو 12: 14: إكاتيسان).
لا نستطيع أن نعزل مر 11: 1- 10 وز من إطار الاستقبالات الاحتفالية إكراماً للملك في المدن الهلنستية. مثلاً هناك عبارة "للقائه" في يو 21: 13 (رج في إطار آخر مت 8: 34، 25: 1 والعذارى). كان ذاك الدخول في العالم القديم جزءاً من طقوس "المجيء" أو "باروسيا". وهي زيارة رسمية للملك في مقاطعة أو مدينة. وهكذا بدا دخول يسوع إلى أورشليم بشكل زيارة المسيح لعاصمته الملكية أورشليم.
ج- هوشعنا، مبارك الآتي
يرد مز 118: 25- 26 في الأناجيل الأربعة (مت 21: 9؛ مر 11: 9؛ لو 19: 38؛ لو 12: 13) وقد جعل فيه كل إنجيلي تحويرات لها معناها. أما النص العبري فهو: "يا رب خلص، يا رب أحسن إلينا: تبارك الآتي باسم الرب. نبارككم من بيت الرب". هذا المزمور هو آخر الهلل وهي مجموعة من المزامير (113- 118) بها يهلّلون لله (يمدحونه، يسبّحونه) في بعض الاحتفالات مثل أعياد الحج الكبرى (عيد الفصح، عيد العنصرة، عيد المظال بأيامه الثمانية، عيد تدشين الهيكل) أو في ذبيحة الصباح. كان نشيد الهلل يدلّ بصورة خاصة على الاحتفالات الفصيحة عامة ورتبة الطعام خاصة (رج مت 26: 30؛ مر 14: 26).
وكان هذا النشيد يرتدي عظمة كبرى في عيد المظال. فعند بعض الآيات، تحزك الجماعة "اللولب" وهو حزمة مؤلّفة من أغصان النخل والصفصاف حسب لا 23: 40 (سمّيت الأغصان بعض المرات: هوشعنا).
أوصنا هي الصيغة اليونانية للآرامية هوشعنا. وفي العبرية هوشيع نا أي: خلّص اذن. تعبرّ هذه اللفظة عن ابتهال ملحّ أو تحلّ محلّ الهتاف الليتورجي. وفي عيد المظال كانت هوشعنا دعاء لطلب المطر. أما في الأدب الإنجيلي فهي هتاف مديح. لقد صارت جزءاً من العبادة المسيحية مثل هللويا ساعة دوّن الإنجيل. ونلاحظ أنه في 2 صم 14: 4؛ 2 مل 6: 26؛ مز 118 (117): 25 تحمل اللفظة العبرية معناها الأصلي: "أغثني". أما السبعينية فترجمت "سوزو" (أي خلّص). أما الأناجيل الأربعة، فاحتفظت بالشكل العبري الذي يدلّ على دعاء ليتورجي.
"تبارك الآتي باسم الرب". يرد اسم الفاعل "الآتي" في استشهاد بيبلي، إلا أنه يتخّذ معنى خاصاً في خبر الدخول إلى أورشليم. فكما في مت 11: 2 ولو 7: 19 (إرسال تلميذي يوحنا إلى يسوع)، هذه الصيغة تعني المسيح بالتأكيد (أأنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟). وهذه الطريقة بتسمية المسيح ذاك "الآتي"، لم تكن دارجة. أما نستطيع أن نرى فيها نظرة مسيحانية خاصة؟ ولما صار الاسم الفاعل هذا لقباً مسيحانياً، ساعد على التقريب بين تك 49: 10- 11 (لا يبتعد الصولجان عن يهوذا... حتى يأتي... يربط بالكرمة جحشه) وزك 9: 9 (ها هوذا ملك يأتيك). وقد يكون لعب دوراً في حركة تفسير تك 49: 10- 11 بواسطة تقليد تثبّت فيما بعد في زك 9: 9.
ونصل إلى أغصان النخل. لا نجدها إلا في خبر يوحنا. حسب لا 23: 40 دخلت أغصان النخل في عيد المظال (رج نح 8: 15). وارتبط النخل بعيد المظال في زينة المجامع اليهودية (جدرانيات أو فسيفساء).
إن الاستعمال الليتورجي للنخيل يعود إلى زمن المكابيين. فالكلمة "بايون" (غصن النخيل، سعف النخل) لا توجد في كل التوراة إلا في 1 مك 13: 51، في خبر دخول سمعان المنتصر إلى أورشليم: "ودخل اليهود (إلى القلعة) في اليوم الثالث والعشرين من الشهر الثاني... بتسابيح الحمد وسعف النخل... احتفاء بتدمير عدوّ لدود". أما كلمة "فوينكس" (النخيل) فتستعمل مراراً في العهد القديم وفي يو 12: 13؛ رؤ 7: 9. يذكر 2 مك هذه اللفظة في طقس عيد التدشين الذي نظّم تذكراً لتطهير الهيكل وتدشينه بعد الانتصار الذي حازه المكابيون (1 مك 4: 54 ي). أما طقس هذا العيد فمثل طقس عيد المظال. "فعيّدوا ثمانية أيام بفرح كما في عيد المظال... حملوا في أيديهم أغصاناً مورقة وسعف نخيل، وسبّحوا الرب الذي يسّر لهم تطهير هيكله" (موضعه القدّس) (2 مك 10: 6- 7).
إذن يبدو أن سعف النخل تدلّ على الانتصار. كانت زينة الملك العائد من الحرب ورمز السلطة. وقد ارتبطت بواسطة "اللولب" مع بعض الاحتفالات الليتورجية.
2- الآتي باسم الرب (11: 1- 10)
بعد هذه المقدّمة العامة، نعود إلى إنجيل مرقس بشكل خاص.
هناك أولاً مقدّمة (آ 1) تحدّد موقع المشهد: قرب أورشليم. يذكر مرقس ثلاثة أمكنة قريبة من المدينة المقدسة: بيت فاجي، بيت عنيا، جبل الزيتون. وجبل الزيتون يذكّرنا برؤية زكريا التي تصوّر مجيء يهوه حين المجابهة الاسكاتولوجية بين أورشليم والأمم (زك 14: 4: تطأ قدماه جبل الزيتون). إنها زيارة الله التي تنتظرها أورشليم. إنه القتال الحاسم في التاريخ. إذن، هو إطار دينونة يعطي لونه لا لحدث الدخول إلى أورشليم فحسب، بل إلى القسم كله.
اتخذ يسوع مبادرة دخوله إلى المدينة المقدّسة، وحدّد كيف يكون هذا الدخول. هيأه بالاهتمام عينه الذي به سيهيئ احتفاله بالفصح (14: 12- 16). هذان المقطعان هما متوزايان، وسوف نركما ذلك في القسم الثالث: إرسال تلميذين مع تعليمات محدّدة. تنفيذ المهمة حسب البرنامج المرسوم. من الواضح أن مرقس شدّد على قرار يسوع أن يرتّب كل شيء. حسب نية محدّدة يفلت بُعدها عن منفّذيها.
ذهب التلميذان من قبل معلّمهما، وهما يحملان أمراً بجلب "جحش مربوط لم يركب عليه أحد بعد" (آ 2). فالحمار هو الحيوان الداجن ورفيق الإنسان في أعماله اليومية. إنه غير الحصان الذي استعمل يا أرض إسرائيل منذ أيام سليمان (1 مل 11: 26- 29؛ 2 أخ 1: 14- 17). هو مطية الحرب والكبرياء (أش 17: 25: 22: 4). عرفنا سابقاً أن داود أرسل بغلته ليركبها سليمان قبل تتويجه ملكاً. وهناك نص زكريا الذي يورده مت 21: 5 حرفيا، فرافق خبره الترجمة اليونانية للقول النبوي.
في هذا الإطار البسيط، اعتبر الناس أن المسيح سيأتي ليدشّن السلام في الكون. وحين تحدّث الإنجيلي عن جحش مربوط، تذكر بركة يعقوب ليهوذا (تك 49: 11: يربط الجحش بالكرمة). وهناك الطابع المكرّس لهذا الجحش الذي لم يركبه أحد.
في توصيات يسوع لتلاميذه، هناك إشارة تلفت انتباهنا لأننا لم نعتد عليها عند مرقس: إن يسوع سمّى نفسه "الرب" (آ 3: الرب محتاج إليه)، وهو لقب لا ينسبه الإنجيلي إلى يسوع إلا بخفر وتحفّظ في سائر إنجيله (7: 28: أجل، يا رب؛ 12: 26- 27: قال الرب لربيّ). لقد أراد بذلك أن يشددّ على وعي يسوع أنه يتم نبوءة زكريا المسيحانية، فيتصّرف باتفاق تام مع إرادة الله السامية. وانضمت إلى مبادرة المعلّم فعلة التلاميذ التي استلهمت طقوس التنصيب الملكي. مثل هذه الفعلة تدلّ على الخضوع، وتدلّ أيضاً على الأمل بأن نقاسم الملك حكمته ومجده.
هذا ما فعله الشعب: فرش الثياب والأغصان على طريق يدوسها ابن داود لكي يدخل إلى مدينته. استلهم هذا الاستقبال الملوكي والمسيحاني إطاراً ليتورجياً تستعمل في عيد المظال. تذكّر الناس مسيرة شعب إسرائيل في البرية وزمن "عرسه" مع الله (لا 23: 42؛ إر 2: 2). فاحتفل بملك يهوه وانشد رجاءه بالملك المسيح. كان زكريا قد أعلن أن ملك الله سيمتدّ إلى جميع الأمم التي تصعد كل سنة إلى أورشليم لتشارك في عيد المظال (زك 14: 16- 19). واتخذ هتاف الشعب رنّة مسيحانية للقاء ذاك الآتي إلى ابنة (مدينة) صهيون.
كل هذه المواضيع التوراتية شاركت في تقديم دخول يسوع إلى أورشليم وكأنه احتفال ليتورجي في تنصيب ابن داود. وإن مرقس قد زاد على آية المزمور حاشية توضح بُعده: "تباركت المملكة الآتية. مملكة أبينا داود" (آ 1). يسوع هو الوارث الحقيقي بوعد وصل إلى داود بفم ناتان (2 صم 7: 12- 16). واستعاده أشعيا (7: 13- 14). إن يسوع يتمّ الآن هذا الوعد فيقيم بشكل نهائي المملكة المنتظرة. ولكنه يقيمها بشكل يختلف عما انتظره الناس: إن المسيح دخل إلى مدينة داود ليموت فيها.
ثم دخل يسوع إلى الهيكل. دخل "وحده". لم يقم بأية معجزة شفاء. لم يقم بأي عمل يدلّ على سلطانه. بل اكتفى بأن ينظر كل شيء في الهيكل. وجاء المساء، فذهب إلى بيت عنيا مع تلاميذه. لا يذكر النصّ أي تدخّل من قبل السلطات، ولا يتحدّث عن "ثورة" في المدينة (رج مت 21: 1- 11؛ لو 19: 39- 40؛ يو 12: 19). لا شك في أن هذه النهاية الفجائية بدت مخيّبة الآمال. كل هذه المظاهرة الشعبية انتهت، ودخل يسوع وحده إلى الهيكل.
إن لنصّ مرقس لوناً مسيحانياً وله أيضاً لون اسكاتولوجي. وهذا ما يميّز الإنجيل الثاني. فالطريقة التي اختارها يسوع لدخوله كانت موافقة لكي يعلن مسيحانيته للذين يستطيعون أن يفهموها ويستعدوا أن يتقبلوها. ويخفيها عن الآخرين.
لقد عاش يسوع وتلاميذه هذا الدخول المسيحاني. وهذا لا يعني أنهم فهموه كما فهمه هو. ولكن يبدو من الصعب أن نعرف فكرة الناس الذين ساروا في هذه المظاهرة: يحدث هنا شيء ما يتجاوب وانتظارهم. لقد اقترب الملكوت. وقد يكون هذا الرجل الراكب على "جحش" علامة عن هذا الملكوت أو السابق الذي يبشّر به. هل كان إيليا (أو يوحنا المعمدان) أو أحد الشخصيات الذين سيأتون حالاً قبل المسيح؟ هل كان هو المسيح نفسه؟
يفهمنا مرقس أن هذه الأسئلة طُرحت، وأن يسوع لم يفعل شيئاً ليردّ عليها. فالجمع رأى بلا شك ما أراد أن يراه. وقد يكون اكتفى في وسط شقائه السياسي أن يتذوّق برهة قصيرة من الحماس الوطني. ولكن هذا الحماس الوطني خبا سريعاً. فيسوع هو وحده مع تلاميذه (آ 11).
لم يخطئ مرقس، شأنه شأن سائر الإنجيليين، حول بُعد استقبال "أورشليم" لملكها. فالشعب لن يجد في يسوع مسيح آماله. وكمالُ الدخول إلى أورشليم سيكون على جبل الجلجلة. ماذا كانت عواطف الشعب آنذاك؟
عند متى كما عند مرقس، سيدلُّ حدث التينة العقيمة على نوعية ديانة هذه المدينة التي هتفت ليسوع، وعلى وجه هيكلها الذي لا يتجاوز "تطهيره" بُعد عمل نبويّ (مت 21: 18- 22؛ مر 11: 12- 14، 25: 25). عند لوقا سيبكي يسوع على المدينة قبل أن يدخل إليها (لو 19: 14- 44). وعند يوحنا سيدل حدث اليونانيين الذي يلي الدخول إلى أورشليم، على حقيقة مجد المسيح (يو 12: 20- 28).
3- مرقس وسائر الإنجيليين
أ- تدوين مرقس
من السهل أن نكتشف في مر 11: 1- 11 ترتيب خبرين اثنين: من جهة، أرسل يسوع تلميذين من تلاميذه ليعدّا المطية (آ 1- 6). ومن جهة ثانية، هتف له الشعب (آ 7- 10). وانتهى كل شيء في أورشليم وفي الهيكل (آ 11). إن مواجهة القسم الأول من هذه المقطوعة (آ 1- 6) مع خبر الاستعدادات للفصح يثبّت هذه القسمة كما يكشف تماسكها في حركة تدوينية أنتجت مجمل متتالية مرقس.
واللوحة التالية تبرز التشابه اللافت بين الخبرين، خبر الدخول إلى أورشليم، خبر الاحتفال بالفصح. وهي تدلّ على الروابط العميقة بين الدخول إلى أورشليم وخبر الآلام الذي يشكل في العشاء السرّي مع استعداداته جزءاً لا يتجزأ.
مر 11: 1- 6 مر 14: 12- 16
ولما وفي اليوم الأول من الفطير...
قربوا من أورشليم أين نمضي فنعدّ...
أرسل اثنين من تلاميذه أرسل اثنين من تلاميذه
وقال لهما وقال لهما؟
إذهبا إلى القرية إذهبا إلى المدينة
التي أمامكما
تجدان يلقاكما رجل
جحشاً مربرطاً... يحمل جرة ماء
فحلاّه وأتيا به فاتبعاه
وان قال لكما أحد... وحيث يدخل!
فقولا: الرب تقولان: المعلم
في حاجة إليه يقول
فانطلقا فانطلق التلميذان
فوجدا جحشاً فوجدا
فقالا لهم
كما قال يسوع كما قال لهما
فحلاّه واعدّا الفصح
في هذين النصّين نرى أن إرادة يسوع واضحة بأن يرتّب كل شيء بحسب قصد خاصّ به وواضح. ومهما يكن من أمر السّر الذي يكتنف مستقبل المسيح المباشر حيث دخل التلميذان، فالأوامر التي أعطيت لهما هي وثيقة ولا التباس فيها.
حين نقابل هذين النصر نجد أن يسوع سمّى نفسه "المعلّم" (ديدسكالوس) في خبر العشاء السرّي، و "كيريوس" (الرب) في خبر الدخول إلى أورشليم. هذا اللقب نجده في هذا الخبر عند متى (21: 3) ولوقا (19: 31) أيضاً. ولكنه يبرز بشكل خاص عند مرقس الذي لا يعطي يسوع اسم "الرب" كما يفعل متى ولوقا.
طلب يسوع "جحشاً مربوطاً لما يركب عليه أحد" فدلّ على ما في زك 9: 9. والإعلان في 11: 7- 10 هو تحقيق القول التوراتي الذي طبّقه يسوع على نفسه في آ 2- 6. وهكذا تتثبت الوحدة بين القسمين اللذين يؤلفان خبر مرقس عن الدخول إلى أورشليم.
"مباركة المملكة الآتية (مملكة) أبينا داود" (11: 10 آ). هذه العبارة في مرقس توازي "ابن داود" في مت 21: 9، "هو الملك" في لو 19: 38، "ملك إسرائيل" في يو 12: 13. هذه التعابير الأربعة زيدت كعنصر مؤوّن للمزمور 118: 25- 26، فدلّت على لاهوت كل إنجيلي: من هذا القبيل، وجّهت بوضوح تفسير الخبر بجمله. يسمّى داود "الأب" عند مرقس. مثل هذه التسمية محفوظة لإبراهيم (رج أع 4: 25). وإن سمي داود الأب، فلأن هذه اللفظة توافق الخط الشعبي للرجاء المسيحاني الذي هو إقامة مملكة داود. وهكذا يرتبط دخول يسوع إلى أورشليم بمنطق الوعد الداودي لإسرائيل. ولكن يجب أن ننتمي إلى "بقيّة" إسرائيل ونقاسمه ايمانه لكي ندرك ما سوف يتمّ "في مدينة الملك العظيم" (مز 48: 3). وهذا ما يميّز النبوءة عن تحقيقها.
الآلام هي هذا الحدث العظيم الذي به رفض يسوع كل تكرار عقيم (ذبائح تتكرّر) فكفل إلى الأبد أمانة الإنسان لكلمة الله في انفصال ضروري يؤمن تواصل المخطّط الإلهي. بعد هذا، يصبح الدور الحقيقي للدخول إلى أورشليم هو وصول المسيح إلى مدينته من أجل الآلام. لهذا ارتبط ف 11 ب ف 14 فدلّ على الهدف التعليمي واللاهوتي في الإنجيل الثاني.
ب- متى، لوقا، يوحنا
- مع متى (21: 1- 11) نحن أمام دخول مسيحاني، دخول واضح ورسمي. فنبوءة زك 9: 9 (سبقتها نبوءة أش 62: 11) ترد بشكل غريب في السبعينية وفي متى، فدخل على المسرح حيوانان (آ 5) لا حيوان واحد، وهذا ما لا يسهل قراءة آ 7. مهما يكن من أمر. مع هذا الإيراد يسوع هو الملك الحقيقي. أمره (آ 2- 3) ينفّذ بدون مناقشة (آ 6- 7) ولا اعتراض. هناك جع غفير يهتف لابن داود. وحين دخل يسوع إلى أورشليم، تحرّكت المدينة كلها وسألت: "من هذا"؟ فأجابت الجموع (الحجّاج): هذا هو النبي يسوع من ناصرة الجليل (آ 10- 11).
ويتابع يسوع مسيرته المظفرّة (هنا يختلف متى عن مرقس)، فيدخل حالاً إلى الهيكل ويطرد الباعة. ويشفي العرج والعميان فيدله على صفته المسيحانية. ولما احتجّ عظماء الكهنة والكتبة أجاب يسوع مورداً مز 8 المعروف ببعده المسيحاني (1 كور 15: 27؛ أف 1: 22؛ عب 3: 5- 8).
في نظر لوقا (19: 28- 39)، هذا الحدث له معنى مسيحاني. فذلك الآتي باسم الرب هو كما عند يوحنا "الملك". وهناك إشارات تبدو تلميحاً إلى تتويج سليمان ملكاً. غير أن هذا الهتاف يبدو حصراً عمل التلاميذ. لا وجود لشعب، بل جماعة التلاميذ هم الذين يستحون ويهلّلون (آ 37). نصّ مهمّ من الوجهة المسيحانية، ولكن أهميته محصورة بالتلاميذ. لسنا هنا كما في متى ومرقس أمام مظاهرة شعبية، بل أمام تطواف خاص كذلك الذي نعرفه في كنائسنا.
عند يوحنا (12: 12- 19) يقيم يسوع منذ زمن بعيد في أورشليم أو في الجوار القريبة، حين يقوم بدخوله إلى أورشليم. إذن، هو لا يدخل الآن للمرة الأولى، بل هو يعود إليها من بيت عنيا. إن دخول يسوع إلى أورشليم في يوحنا هو مقدّمة للآلام من الوجهة الزمنية لا من الوجهة اللاهوتية، لأنه يتسجّل في سياق بدت فيه الآلام حاضرة منذ البداية في اقوال يسوع وفي فعلاته.
لا يصوّر لنا يوحنا يسوع وهو يعطي أوامره للدخول إلى المدينة. بل داخل الحماس الشعبي. جاء حشد كبير إلى العيد، فاستفاد من ظرف من الظروف، ونظّم يسوع هذه المسيرة المظفّرة. في آ 16، لم يفهم التلاميذ في الحال ما يحدث حقاً. ولكنهم سيتذّكرون الحدث بعد تمجيد معقمهم ويدركون علاقته بالنبوءة المسيحانية.
الخاتمة
إلى أين تقود هذه المسيرة المظفَّرة؟ إلى أورشليم والهيكل. فكل مسيرة يسوع وصعوده إلى أورشليم، يجدان هنا تتمّتهما. ففي قلب المعبد وحوله ستجري اللقاءات والجدالات التي يحدثنا عنها مر فيما بعد. جاء يسوع ونظر إلى كل شيء. لاحظ كل شيء. هو ذاك الذي يدلّ بحضوره ونظرته على أنه سيّد المكان.
ولكننا نجد في نظرة يسوع هذه قلقاً كبيراً. لقد انتهى العيد، وبدأت المأساة تتهيّأ وهي ستنفجر قريباً. أجل انتهى العيد ولم يمّتد إلى يوم آخر. هذا ما يدلّ على أن النص الذي درسناه كُتب على ضوء القيامة. وقد استعادته الجماعة الأولى مستعينة بالكتب المقدسة. هذا ما نجد صداه في يو 12: 16: "وما فهم التلاميذ في ذلك الوقت معنى هذا كلّه. ولكنهم تذكّروا، بعدما تمجّد يسوع، أن هذه الآية وردت لتخبر عنه، وأن الجموع عملوا هذا من أجله".
كان ليسوع استقبال شعبي، ولكنه كان استقبالاً فيه الكثير من الالتباس. وهذا ما نجده في ما يلي من الأحداث