الفصل السابع عشر
مملكة داود ودينونة أورشليم
11: 1- 13: 37
1- موقع هذه المرحلة
أ- عودة إلى المرحلة الرابعة
إن اعتراف بطرس في نواحي قيصرية فيلبّس (8: 27- 30)، وقد حرّكه يسوع، دلّ على منعطف هام في التعليم الذي قدّمه الرب لتلاميذه: "وبدأ يعلّمهم أنه ينبغي لابن البشر أن يتألمّ كثيراً" (8: 31). وحين بلغوا إلى إيمان أعلنوه، تمّ تحوّل في حياتهم.
لم تعد المرحلة الرابعة تتحدّث عن "عدم فهم" لديهم (6: 52، 7: 14؛ 8: 17، 21)، ميّز أولئك "الذين من الخارج" (من خارج الكنيسة) (4: 22). ولا عن "قساوة القلب" (الذي لا يفهم) (6: 52؛ 8: 17) ما زال الفريسيون متأثرين بها (10: 5؛ رج 3: 5).
لا شكّ في أنهم يمتلكون "أفكار الله" (8: 33)، وتنقصهم روح الصلاة (والصوم) (9: 29). وتصّرفهم تجاه بعضهم البعض (9: 34؛ 10: 43- 44) وتجاه الآخرين (9: 38، 10: 13- 14) تنقصه بروح الخدمة وتقبّل الآخرين. لا شكّ في أنهم ما زالوا خائفين (9: 6- 32)، مدهوشين (10: 24، 26، 32)، حائرين (9: 10) أمام إعلانات معلّمهم ومتطلّباته. هم لا يجرأون أن يسألوه حول المدلول العميق لمصيره في الموت والقيامة (9: 32). ومع ذلك ما زالوا يطرحون عليه أسئلة (9: 11، 28؛ 10: 10) ويدلّون على تعلّقهم به بشكل عنيف (9: 38؛ 10: 28، 35).
ومع ذلك فهم "يتبعون" يسوع الذي يدعوهم ليسيروا "وراءه" (8: 33- 34؛ رج 10: 52). هو "يسير أمامهم" (10: 32) في الطريق، وقد تجاوزهم الحادث الذي يجعلهم على حافة اليأس. غير أنهم سعداء لأنهم مدفوعون لأن يتجاوزوا نفوسهم بفضل ثقتهم به وبفضل ثقته بهم.
إن مسيرة جماعة التلاميذ، التي يتوزّعها التعليم المثلّث عن مصير ابن الإنسان، تجري في طريق صاعد إلى أورشليم (10: 32- 33) مع وقفات هنا وهناك. وإذا كانت إعلانات المعلّم حول ظروف الدخول إلى الملكوت قد انطبعت بوضوح في ذاكرة التلاميذ، وإذا كان كل من الإزائيين الثلاثة يحدّد موقعها في أوقات مختلفة من خبره، فهذا يعني أن هذه المسيرة نحو المجهول قد أثّرت فيهم تأثيراً عميقاً. ولا يفسرّ الانتقالَ الأمين لهذه الأقوال إلاّ تكرارٌ متواصل قام به يسوع نفسه، وتذكّر المسيحيين الأوّلين الذين كانوا بعد الفصح يحضون بعضهم بعضاً على الثبات في جهادهم لإتباع المسيح. وهذا الانتقال هو ثمرة يقين لدى الكنيسة الأولى بأن يسوع نفسه أسّسها كجماعة أولئك الذين ما زال يدعوهم ليسيروا وراءه، كجماعة تبقى حلقة الإثني عشر أساسها ونموذجها.
إن التدوين المرقسي للمرحلة التي تجوّلنا فيها، مع استعادة مثلّثة للتعليم حول الآلام والقيامة (التي تنتظر ابن الإنسان)، يدلّ على أن مصير يسوع وحده الذي تشكله الطاعة الحرّة لأبيه، يعطي فكرة عن هذه الكنيسة ويطبعها بديناميّة خاصّة.
ب- المرحلة الخامسة
وتدلّنا المرحلة الخامسة على أن مسيرة يسوع تتمّ في أورشليم. الطريق من أريحا إلى مدينة داود (10: 46- 52) وجبل الزيتون (11: 1). ثم أورشليم والهيكل (11: 11، 15، 27؛ 12: 35؛ 13: 1). ومن جديد جبل الزيتون (13: 3). كل هذا يشكّل إطاراً لهذه المرحلة. هنا نكتشف ثلاث مجموعات أدبيّة كبيرة، وإن لم يكن تلاحمها واضحاً.
* تبدأ المجموعة الأولى مع "الإنباء" الثالث بالآلام، مع الإشارة الأولى إلى أورشليم (10: 32- 34) يتبعها طلب ابني زبدى (10: 35- 45). وتتواصل في شفاء ابن طيما (10: 46- 52)، وتجد ذروتها مع دخول يسوع إلى المدينة المقدّسة (11: 1- 10) والهيكل (11: 15- 18). والدخول إلى الهيكل مع حدث التينة العقيمة (11: 11- 14) هو مناسبة للتعليم عن الصلاة (11: 19- 26): "كل ما تسألونه في الصلاة، آمنوا أنكم قد نلتموه، فيكون لكم".
* وتجري المجموعة الثاني كلها على "مسرح واحد، هو الهيكل: في خمسة جدالات لاهوتية (11: 27- 33؛ 12: 1- 12؛ 12: 13- 17؛ 12: 18- 27؛ 12: 28- 34) واجه يسوع السلطات الرسمية والشيع الدينية في شعبه. وبعد أن أفحمهم كلهم، سأل الشعب عن بنوّة المسيح الداودية (12: 35- 37). ثم حذّر سامعيه من تصّرفات الكتبة (12: 38-40)، وامتدح سخاء أرملة مسكينة "ألقت كل ما كان لها من أجل معيشتها" (12: 41- 44).
* وتُسمّى المجموعة الثالثة "الخطبة الاسكاتولوجيّة". تبدأ بملاحظة من التلاميذ حول أبنية الهيكل (13: 1- 2). أجاب يسوع مطوّلاً (13: 5- 23) على سؤال طرحه عليه التلاميذ الأوّلون، حول مصير هذا الهيكل (13: 3- 4). ثم حدّثهم عن مجيء ابن الإنسان (13: 24-27)، وحضّهم على السهر (13: 28- 37).
يلفت نظرنا في هذا القسم أهميّة الهيكل الذي هو قلب المدينة المسيحانيّة: نحس أن رباطاً سرّياً يربطه بالمسيح الذاهب إلى الموت. على ماذا يدلّ هذا الهيكل؟ ما هو بُعد تعليم يسوع في هذا الموضع وفي هذه الساعة الحاسمة؟ لماذا يتحدّث المعلّم عن دماره ساعة يذهب هو إلى الموت؟ إن القراءة المتواصلة للنصّ سوف تساعدنا على اكتشاف العناصر التي تحدّد وحدة هذه المرحلة وتقدّم لنا المفتاح للدخول فيها وفهمها. وهكذا نستطيع أن نكتشف التعليم الذي يقدّمه لنا مرقس في خبره.
2- تقديم النصّ
أ- نظرة عامة
إن المجموعات الأدبية الثلاث التي عدّدنا مضمونها بإيجاز، تتوسّع كلها في تعليم يسوع حول موت ابن الإنسان وقيامته، بطرق مختلفة.
* تلجأ الأولى إلى سيناريو دخول قائد منتصر، وتتويج ملك. وتجد ذروتها، عن طريق المفارقة، في مشهد الباعة المطرودين من الهيكل. هذا الحدث الذي شهده التلاميذ وحدهم، يحيط به لعن التينة ونتيجة هذا اللعن. يبدو يسوع في هذه المجموعة وهو يلعب دور ملك، ثم دور عظيم كهنة يدافع عن مسكن الله.
* وتمثّل المجموعة الثانية يسوع وكأنه كاتب، معلّم في الشريعة. أدخل محاوريه في جدالات حادّة وصلت بهم في النهاية إلى السؤال حول بنوّة يسوع الداودية: ما هو نوع السلطة الملكية التي يمارسها هذا المعلّم بأجوبة تفرض نفسها بهذه القوّة؟
* وتتخذ المجموعة الثالثة وجهاً نبوياً واضحاً، فتعلن نهاية زمن ومجيء ابن الإنسان. وكان سامعو هذه الخطبة التلاميذ الأربعة الذين كانوا أوّل المدعوّين للسير معه.
عبر هذه الفنون الأدبية المختلفة، من فعلات وجدالات وخطب، قدّم يسوع نفسه بطرق مختلفة. فأوجز جوهر الوحي عن شخصه من أجل أهل أورشليم، وقد توخّى من ذلك أن يعلّم تلاميذه.
ب- جولة في النصوص
* الصعود إلى أورشليم. لن نتوقّف عند هذه المتتالية التي تشكّل عنصر انتقال بين المرحلة الرابعة والمرحلة الخامسة. نجد فيها ملخصاً عن مصير ابن الإنسان (10: 32- 34)، درساً في الخدمة لا بحثاً عن المقام الأول (10: 35- 45)، كلاماً يدعونا لإتباع يسوع مع ابن طيما الذي أبصر بعينيه وقلبه فسار وراء يسوع في الطريق (10: 46- 52).
* دخول يسوع إلى أورشليم والهيكل. تتضمّن هذه المتتالية عدداً من أعمال يسوع تشبه شفاء ابن طيما، وتحمل تعليماً نبوياً. إنها تذكّرنا بأفعال رمزية قام بها الأنبياء في العهد القديم (أش 20: 2- 5؛ إر 13: 1- 7؛ حز 4: 1- 4؛ 5: 1- 4). وهكذا ينكشف شيئاً فشيئاً واقع يسوع المسيحاني، كما يتضح قرار خصومه بأن يرسلوه إلى الموت. ويبدو الإنشداد الدراماتيكي في الخبر قوياً جداً: مقاومة بعد هذه الجدالات تنتهي بالقطيعة.
* الجدالات اللاهوتية في أورشليم. لقد واجه يسوع في هيكل أورشليم الرؤساء وأصحاب الرأي في الشعب. ويتخذ الخبر شكل محاكمة يفرض فيها على المعلّم بأن يؤدّي حساباً عن أعماله. اجتمع أعضاء المجلس الأعلى كلهم، من عظماء كهنة وكتبة وشيوخ (11: 27؛ رج 8: 31). فأجابهم يسوع بسؤاله، أسرع "قضاته" فتهرّبوا منه. وتابع يسوع كلامه موجّهاً إليهم مثل الكرّامين القتلة (12: 1- 12). بعد هذا كانت ثلاثة جدالات حول الجزية الواجبة لقيصر، قيامة الموتى، أعظم الوصايا في الشريعة. وأنهى يسوع هذه الجدالات بسؤال طرحه حول هوية ابن داود الحقيقية.
* خطبة حول نهاية الأزمنة. يبدو الهيكل في خلفيّة (13: 1، 32) المجموعة الثالثة في هذه المرحلة. أما الموضوع "فالخطبة الاسكاتولوجية" التي تفوّه بها يسوع على جبل الزيتون، وبعد أن ترك المدينة المقدّسة مع تلاميذه. هذه الخطبة التي هي أطول ما في مر من كلام، ترتبط بسائر الإنجيل بمقدّمة تتحدّث عن الهيكل (13: 1- 5)، وبتحريض أخير يعلن الآلام مسبقاً (13: 35- 37).
3- من النصّ إلى يسوع
أ- المدخل
إن القراءة السريعة لأحداث أورشليم التي جمُعت في هذه المرحلة، جعلتنا نكتشف ما قدّمه لنا مرقس. فالتذكّرات التوراتية تبرز أيضاً البعد الرمزي للوقائع. لهذا يبدو من الضروري أن نتساءل حول مسيرة التقليد الذي يبدو مر شاهداً له، وحول التجذّر التاريخي للأحداث التي يوردها.
هناك عدد من الشّراح يعلّقون أهمية كبرى على دخول يسوع المسيحاني إلى أورشليم، وعلى طرد الباعة من الهيكل: يرون في كل من هذين المشهدين تدخلاً ذا طابع سياسي. فهل هذا ما يقوله الإنجيل، وهل هو أمين للتاريخ؟ ثم، أي مدلول تحمله إلينا "الخطبة الاسكاتولوجية" المليئة بالتلميحات الملغزة إلى الكتاب المقدّس وإلى تمثلاًت لم يعد عصرنا يعرفها؟ بعد دراسة تكوين النصّ، نعود إلى بنيته، لنصل في النهاية إلى التعليم الذي يقدّمه لنا.
ب- تكوين النصّ
أولاً: الوحدة الأدبية الأولى (10: 46- 11: 26)
تضمّ الوحدة الأدبية الأولى جميع الأحداث التي تحيط بصعود يسوع إلى أورشليم ودخوله الاحتفالي إلى المدينة والهيكل.
* خبر شفاء ابن طيما. صار هذا الخبر عند مر تعليماً للتلاميذ: فالأعمى الذي شُفي أضحى نموذج المؤمن الذي يتخلىّ عن ماضيه ويسير في خطى يسوع الذي رأى فيه المسيح، ابن داود. وكانت أخبار مثل شفاء الأصم الأبكم في الدكابوليس (المدن العشر) (7: 31- 37) أو نجاة الابن المصروع (9: 14- 29، داء الصرع)، قد عبّرت عن مسيرة الإيمان تعبيراً رمزياً. هذا لا يعني أن الكاتب لم يكن أميناً لمراجعه ولا لخبر يسوع. لقد انطلق من واقع حياة يسوع وأعطاه معناً روحياً.
* الدخول إلى أورشليم. يبدو الدخول إلى أورشليم مليئاً بالإشارات اللاهوتية والليتورجية: مبادرة يسوع (11: 2- 3). التهيئة (11: 1- 7). مقابلة مع الاحتفال بعيد المظال (11: 8- 10). وهناك توازٍ بين الإعداد لدخول يسوع إلى أورشليم والإعداد للفصح (14: 12- 16). لهذا نتساءل عن النواة التاريخية في هذا الحدث.
هل كان هناك عدد كبير من الناس أم مجموعة التلاميذ وحدهم؟ هل كان ذلك في عيد الفصح أو عيد المظال أو عيد تدشين الهيكل حيث يطوف الحجّاج وهم يحملون السعف وينشدون "هلل"؟ هل استفاد يسوع من الظرف ليتحدّث عن بنوّة يسوع الداودية، أم هل رأى الناس في ذلك تظاهرة سياسية؟ أسئلة تبقى بدون جواب، بقدر ما يهتمّ الفضول عندنا بالأحداث المتفرّقة (كما في الصحافة)!
لا يبدو أن الطواف اتخذ طابعاً سياسياً فأحدث البلبلة في المدينة. لو كان كذلك، لكانت تدخّلت رومة. ولكان النصّ الإنجيلي في محاكمة يسوع أشار إلى ذلك. بل حين نقرأ نصّ مر نحسّ أننا أمام ليتورجيا مسيحية تحتفل بتتويج المسيح المتألم والمجيد وديّان الكون. أما هذا ما يحدث عندنا في عيد الشعانين؟
* التينة العقيمة واليابسة. نقرأ هذا الخبر في ارتباطه الحميم مع حدث طرد الباعة من الهيكل (11: 15- 18). اعتبر بعض الشّراح أن الحدث فعلة سياسية عجّلت في اتهام يسوع أمام السلطات الرومانية بسبب الضجة التي حدثت في أروقة الهيكل. أو كان عملية عسكرية مهيبة تصرّف فيها يسوع كرئيس عصابة، شأنه شأن جماعة الغيّورين. إذا أردنا أن نجد أساساً لهذين التفسيرين، يجب أن نضخّم الخبر الذي يورده الإنجيل في اتجاه يختلف عمّا هو الآن.
مقابل هذا، جعل شّراح آخرون هذا الخبر، شأنه شأن خبر التينة، في خانة الخدعة الأدبية أو التعليم الإرشادي. يعني بصريح العبارة أن الحدث لم يقع، ولكن الكنيسة استنبطته فدوّنه الإنجيلي! كلا. فنحن أمام واقع محدّد. وإلاّ كيف استطاعت الجماعة الأولى أن تتخيّله؟ ما يسمّى تطهير الهيكل هو فعلة نبوية لفتت الانتباه، فيها تدخّل يسوع مع التجّار فندّد بنشاطهم تنديداً وصل صداه إلى المسؤولين عن الهيكل. وجاء التلميح إلى كلام إرميا عن الهيكل (7: 10؛ رج مر 11: 17 ب)، تفسيراً لاحقاً للحدث الذي خلف ليسوع أعداء سوف يعملون على قتله.
هذا على مستوى يسوع. وهناك تأمّل الكنيسة على ضوء الفصح والقيام، ومستوى التأليف الإنجيلي. فقد فهمت الكنيسة باكراً أن الهيكل الحقيقي وموضع الصلاة لجميع الأمم، هو جسد مخلّصها القائم من بين الأموات، الذي جعل حضوره في الكون واقعاً بواسطة روحه. هذا لا يعني أنها استنتجت أنه يجب إلغاء مواضع العبادة وشعائر العبادة. إن الهيكل هو علامة حضور الله وسط شعبه، وهو يدلّ مسبقاً على الجماعة الاسكاتولوجية حيث يجتمع كل البشر في صلاة إلى الآب السماوي. وبما أن الهيكل هو علامة حضور الشعب لدى إلهه، فالله يطلب عبادة منقّاة من الكذب وحب الربح، عبادة تحلّ المحبةَ الأخوية محلّ الأنانية وحبّ الذات.
واستعادت الجماعة المسيحية أيضاً مثلاً حول تينة عقيمة اهتمّ بها البستاني اهتماماً خاصاً (رج لو 13: 6- 9). ودلّ مرقس في هذا الإطار على قوّة الصلاة التي لا تقاوم وعلى مسؤولية الالتزام الملموس في الواقع اليومي.
ثانياً: الوحدة الأدبية الثانية (11: 27- 12: 34)
تتضمّن الوحدة الأدبية الثانية سلسلة الجدالات اللاهوتية في الهيكل. بعد ذلك، يرد تعليم يسوع عن ابن داود، عن الكتبة، وأخيراً حدث فلس الأرملة.
كيف يبدو الجدال؟ سؤال من الخصوم. سؤال معاكس من الرابي. جواب الخصوم بما فيه من ضعف. جواب الرابي الواضح. نحن هنا أمام صدى لجدالات تمّت في أيام مرقس، فقدّمت مواجهات بين اليهود والمسيحيين لا سيما حول دور يوحنا المعمدان.
نجدها الجدالات الثلاثة (ضريبة قيصر، حقيقة القيامة، الوصية العظمى) مسائل عرفتها الكنيسة الأولى التي أعادت قراءة تعليم يسوع على ضوء الواقع الذي تعيشه: كيف نخضع للدولة الرومانية (رج روم 13: 1- 7)، وكيف نفهم الواجب الوطني تجاه الحكّام بما فيهم من نقص (تي 3: 1- 2؛ 1 بط 2: 13- 17)؟ كيف نتحدّث عن قيامة الموتى أمام أناس لا يؤمنون بها، أو أمام اليونانيين الذين يتحدّثون فقط عن خلود النفس؟ ما هي الطريقة لدعوة اليهود الصادقين، لدعوة الكتبة لفهم يسوع كذاك الذي جاء يتمّ الشريعة؟
وجدت هذه الأسئلة جواباً في تعليم يسوع التاريخي. لا في تطبيق حرفي، بل كمبدأ تمييز يعتبر هذا الكلام تعليماً حياً لا حرفاً ميتاً. في هذا المعنى جاء إعلان يسوع حول ابن داود وربّه يختتم الجدالات. ليس يسوع فقط معلّماً عظيماً يتواصل تعليمه عبر التقليد. إنه الرب القائم من الموت. إنه الإله المنتصر على الموت، الحاضر في كل واحد منا، والذي يديننا على سلوكنا لا على علمنا. وهذه الوجهة من تمييز أعمال البشر، تظهر بوضوح في المشهد الذي فيه يمتدح يسوع سخاء الأرملة. إن مجيء يسوع إلى القلوب يدخل المسيحيين في طريق الحقيقة حيث يقيّم المؤمن خطواته على ضوء خيار حاسم اتخذه في حياته.
ثالثاً: الوحدة الأدبية الثالثة (13: 1- 37)
تقدّم هذه الوحدة في الخطبة الاسكاتولوجية الواقع الأخير للمجتمع الفلسطيني في ذلك الوقت، الواقع الأخير للتاريخ البشري والكون، الواقع الأخير لحياة كل واحد منا.
وتُطرح أسئلة. هل ألّف مرقس نفسه هذا النصّ أم زاده على مؤلَّفه؟ هل كتبه قبل سقوط أورشليم (70 ب. م.) أم بعده؟ هل نحن أمام نبوءة، رؤيا، هجوم، دفاع؟ هنا تتوزّع الآراء. يعتبر معظم الشّراح أن الإنجيلي دوّن هذه الخطبة انطلاقاً من عناصر حملها إليه التقليد. وقد نكون أمام خطبتين. واحدة عن أورشليم، وثانية عن مجيء ابن الإنسان. وظنّ آخرون أننا أمام تجميع لأقوال حقيقية ترجع إلى يسوع: حول الاضطهاد (13: 9- 10)، مثلاً التينة والبوّاب (13: 28 ب- 34). واعتبرت فئة ثالثة أن مرقس استعمل في تدوينه "مقالاً جليانياً" من أصل يهودي يعود إلى دانيال. أو مقالاً مسيحياً متهوّداً يرتبط بالرسالتين إلى تسالونيكي.
كل هذه الفرضيات لا تقنع أحدا. ومع ذلك نفهم أن يكون مرقس ضمّ في هذا المكان من الإنجيل بعض تعاليم المعلّم حول الأحداث المؤلمة في هذا العالم، حول نهاية الأزمنة، حول موت الإنسان. وتوجّه مرقس إلى جماعة تنتظر نهاية قريبة للعالم بعد أن جاء المسيح. لم يكن هدفه أن يكشف (بشكل جلياني) ما سيحدث، بل أن يحضّ المسيحيين أن يعيشوا واقع حياتهم على ضوء هدف محدّد هو موت يسوع وقيامته. في هذا المعنى نسمّي هذا المقطع "خطبة اسكاتولوجية"، كلاماً عن الآخرة، تحريضاً يدعونا لنحيا الحياة الحاضرة في التزام متواضع وواثق، في سهر متنبّه، في رجاء يعطينا إياه حضور يسوع الذي لا يمكنه أن يتركنا.
هل دوّنت هذه الخطبة قبل سقوط أورشليم أم بعده؟ هناك من يقول "قبل" لأن صورة سقوط أورشليم لا توافق الأحداث الحقيقية (يتحدّث النصّ عن الشتاء، بينما سقطت أورشليم في الصيف). وهناك رأي معاكس يعتبر أن ما قاله مرقس لا يفهم إلا بعد الحدث الذي رأى فيه المعاصرون دينونة الله. فبدل الخوف من الأنبياء الكذبة، نكتشف عبر التقلّبات الكونية أو التاريخية (الآلام، الإضطهادات) علامة سابقة لولادة الملكوت مع حضور القائم من الموت في كنيسته.
ج- بنية النصّ
كيف نظّم مرقس خبره؟ إن قراءة أولى للنصّ تجعلنا ندرك أن الهيكل يشرف على ف 11- 12: إلى هنا يصل الموكب المسيحاني. وفي هذا الموضع تجري الجدالات التي تجعل يسوع يواجه رؤساء الشعب. أما الخطبة الاسكاتولوجية (ف 13) فقد تلفّظ بها المعلّم تجاه الهيكل. وها نحن نحاول أن نكتشف نظرة مرقس في تدوينه هذا.
أولاً: من الوجهة الأدبية
نكتشف أولاً كيف يتجاوب ف 11 و12 حول الهيكل كرمز إلى حضور الله في قلب الواقع البشري. ثم نرى أن ف 13 الذي يتحدّث عن الواقع الأخير يندمج في هذه المجموعة.
يبدأ دخول يسوع إلى أورشليم (11: 1) بثلاثة أحداث تتواصل على مستوى الجغرافيا وعلى مستوى المضمون. سبق يسوع تلاميذه على طريق أورشليم التي أعلنت هنا للمرة الأولى (10: 32- 33)، وحين أسرّ إليهم عن مصيره (10: 32- 34)، طرح سرّه عليهم سؤالاً يتجاوب مع رغباتهم ويحملها إلى البعيد: سمع ما يطلبه ابنا زبدى ورفاقهما العشرة، ودعاهم كلهم للخدمة معه (10: 35- 45). واستجاب صلاة ابن طيما الذي تبعه (10: 46-52).
ما هي هذه الطريق؟ إلى أين تقود؟ هي طريق ابن داود. وهى تقود إلى الهيكل الذي بناه سليمان بن داود. من نسله سيولد مسيح أنبأ به زك 9: 9. وبعد أن هيّا يسوع كل شيء، جاء راكباً على جحش. بدأ دخوله في جبل الزيتون (11: 1) وتوزع على خمس محطات.
أ- 11: 8- 10: إعلان "المملكة الآتية، مملكة داود أبينا" (مز 118: 26). هذا المديح يرتبط بالأعالي (زك 14: 9).
ب- 11: 11- 14: عودة إلى بيت عنيا واكتشاف التينة العقيمة (لا ثمر فيها). وجّه يسوع إليها كلاماً قاسياً: لا يأكل أحد ثمرة.
ج- 11: 15- 18: دخول جديد إلى أورشليم وإلى الهيكل. واقع: طرد الباعة (زك 14: 21). تعليم: بيت صلاة لجميع الأمم (أش 56: 7).
ب ب- 11: 19- 22: خروج من المدينة ووجود التينة اليابسة (إر 8: 13). وجّه يسوع كلامه إلى تلاميذه: ليكن لكم إيمان.
أ أ- 11: 23- 25: إعلان حول الإيمان الذي ينقل الجبل (زك 14: 4- 5). صلاة ومغفرة على مثال الآب الذي في السماوات.
خمس محطات تدلّ على تتمة الكتب وتعبّر عن رجاء الشعب (أ) الذي هو أقوى من تصلّبه (ب). وفي الوقت عينه تفجّر هذا الرجاء (ب ب) في صلاة شاملة تنبثق من عمق إيمان بنويّ (أ أ) بنعمة ذاك الذي يطهّر الهيكل (ج).
حين جعل يسوع الناس يتبعونه (التلاميذ، الأعمى، الجمع)، قدّم نفسه كذلك الذي يحقق رغبتهم العميقة. أعلن في قلب المدينة المقدّسة أنه يتمّ كلمةَ الله في الكتب المقدّسة. من أين يأتيه سلطانه الذي لا يبدو واضحاً؟ منذ بداية حياًته العلنيّة طرح سؤالاً على الناس (1: 27؛ 3: 23؛ 4: 41) ولم يفرض نفسه بوضوح مرة واحدة: فبطرس نفسه لم يفهمه (8: 33؛ 9: 6). والتلاميذ ظلّوا متحيّرين، خائفين (9: 32؛ 10: 32). في أورشليم، في الهيكل، سأله أعضاء السنهدرين بشكل رسمي: خمس مرات أرادوا أن "يحاكموه"، وخمس مرات لم يصلوا إلى نتيجة. وفي النهاية، لاقى الموافقة. في الواقع، هو الذي "يحاكم" (يدين) البشر، فيعيد كل واحد إلى وجدانه، ويدعوه إلى طريق الحق والرحمة كما ترسمها كلمته.
أ- 11: 27- 33: سؤال عظماء الكهنة والكتبة والشيوخ: بأي سلطة تفعل هذا؟ ردّة فعل يسوع: وأنا أسألكم عن معمودية يوحنا. جواب الخصوم: لا نعلم. إعلان يسوع: وأنا أيضاً لا أقول لكم بأي سلطان.
ب- 12: 1- 12: تحدّث يسوع بالأمثال: الكرم الذي أجّر... أرسل عبداً أول وآخر... وفي النهاية ابنه الوحيد فقتل. الخاتمة: سيأتي ربّ الكرم. أما قرأتم هذه الكتابة: حجر الزاوية (أو: حجر الغلقة). ردّة الفعل: أرادوا أن يوقفوه، لأنه قال هذا المثل عنهم.
ج- 12: 13- 17: سؤال الفريسيين والهيرودسيين. يعلّم طريق الله... الجزية لقيصر. ردّة فعل يسوع: لماذا تجرّبوني؟ لمن الصورة؟ الجواب: لقيصر. الخاتمة: ما لقيصر لقيصر، وما لله لله.
ب ب- 12: 18- 27: حادث ضمير طرحه الصادوقيون: إمرأة تزوّجت سبعة إخوة... الأول، الثاني... وفي الأخير ماتت المرأة. النتيجة: أنتم تضلّون. أنتم لا تعرفون الكتب أما قرأتم في كتاب موسى... أنت تضلون. الله هو إله الأحياء.
أ أ- 12: 28- 34: سؤال من أحد الكتبة: الوصية الأولى؟ جواب يسوع: الأولى (تث 6: 4- 5). الثانية (لا 19: 18). لا وصية غيرهما. ردّة فعل الكاتب: أحسنت. المحبة خير من الذبائح. إعلان يسوع: لست بعيداً عن ملكوت الله. ولم يجسر أحد بعد ذلك أن يسأله.
هذه الجدالات الخمسة تبرز كيف يتمّ يسوع الكتب لأنه يجمع في شخصه محبّة الله ومحبّة القريب (أ أ). وهكذا يدل على سلطانه المسيحاني الذي أعلنه السابق وتسلّمه يسوع من السماء (أ). هو ابن الآب الوحيد الذي قبل بأن يُرذل ويموت ليكون حجر الزاوية (ب) وقدرة قيامة للذين يموتون (ب ب)، وهكذا ينير الحياة الحاضرة التي تعبّر عن انشداد بين الالتزامات الزمنية وواجباتنا تجاه الله (ج).
وتهيّأ الخروج من الهيكل (13: 1) هو أيضاً بثلاثة أحداث قدّم فيها يسوع تعليمه النهائي. بما أنه يعطي حياته فدية عن آخرين، يستطيع أن يقيّم عطية الأرملة (12: 41- 44). بما أنه جاء ليخدم فهو يشرب الكأس ويعتمد المعمودية. بما أنه لا "يوزّع" المقاعد الأولى، فهو يدين الذين يحتلّونها ويدعوهم إلى التوبة (12: 38- 40). إنه يستطيع أن يعلّم بسلطان لأنه ابن داود وربه. وهكذا يستطيع أن يتوجّه إلى كل إنسان كما فعل مع ابن طيما في عماه (12: 35- 37).
وهكذا نصل إلى الخطبة الاسكاتولوجية، فنقدّم بنيتها:
(1) مقدمة (13: 1- 5 أ): سؤال حول الهيكل. حوار يسوع مع أحد تلاميذه: بناء ودمار. سؤال أربعة من تلاميذه: متى يتمّ هذا؟ ما هي علامته؟ حينئذ بدأ يسوع يقول لهم.
(2) الخطبة (13: 5 ب- 34).
أ- 13: 5 ب- 23: علامات "تلك الأيام" (معلومة وتنبيه).
* الكاذبون. كثيرون يأتون باسمي ويقولون: أنا هو. احذروا. لا تضلّوا.
** الحروب والكوارث. حين تسلمون. هذا ما يجب أن يحصل. بداية الأوجاع.
*** الإضطهادات. احذروا. يسلّمونكم من أجلي. يعلن الإنجيل. الروح القدس فيكم. يسلم الأخ أخاه من أجل اسمي. اثبتوا.
** الحرب والضيق. حين ترون... حيث لا يجب أن تكون... في تلك الأيام... منذ البدء.
* الكاذبون. المسيح هنا... هناك... يضلّ المختارين. احذروا. أنبأتكم.
ب- 13: 24- 27: مجيء ابن الإنسان (إعلان). في تلك الأيام. علامات كونيّة في السماء. حينئذ ترون ابن الإنسان آتياً... وحينئذ يجمع من الأرض إلى السماء.
أ أ- 13: 28- 34: زمن المجيء (معلومة وتنبيه).
* مثل التينة المفرخة: الصيف قريب. حين ترون، اعرفوا أنه قريب، على الأبواب.
** يقين بأن هذا قريب.
*** تأكيد. السماء والأرض تزولان وكلامي لا يزول.
** جهل اليوم والساعة.
* مثَل الرجل المسافر: احذروا. انتبهوا. مثل رجل: وأمر البوّاب بأن يكون ساهراً.
(3) الخاتمة (13: 35- 37): مجيء الرب. اسهروا إذن: رب البيت يأتي. قد يأتي فيجدكم نياماً. ما أقوله لكم، أقوله للجميع: اسهروا.
ثانياً: من الوجهة البنيويّة
نتوقف هنا عند الإشارات الزمانيّة، والمكانيّة، وعند الأشخاص مع الألقاب المعطاة ليسوع.
* الإشارات الزمانيّة
تبدو الإشارات الزمنيّة مهمّة في هذه المرحلة الخامسة. فالإنباء الثالث بالآلام بعبارة مرقسية وجدناه في الإنباءين الأول (8: 31) والثاني (9: 31): "وبعد ثلاثة أيام يقوم" (10: 34). وفي الواقع، بُنيت المتتالية الأولى (10: 32- 11: 25) على رسمة في ثلاثة أيام يدلّ عليها ذكر المساء والغد (11: 11- 12) أو الصباح (11: 19- 20): ثلاث مرات صعد يسوع إلى أورشليم والهيكل، وتميّزت زياراته بهتاف الناس، ونظرته التي جالت في كل شيء (11: 9- 11)، وطرد الباعة، وردة فعل الرؤساء والشعب (11: 15- 18)، والجدال حول سلطته مع أعضاء المجلس (11: 27- 33).
وما ينير هذه الرسمة هو مثل الكرّامين حيث الحديث عن "أوان" (كايروس، 12: 2) الغلّة، مع أنه لم يكن "الأوان" بالنسبة إلى التينة (11: 13): إن الحجر الذي مجّد بعد أن ذُلَّ يدكّ على القيامة. وبعد تذكير سريع عن القيامة (حين يقوم من بين الأموات، 12: 25؛ رج 12: 23) طُرح سؤال حول "الأوان" الحاسم (تلك الأيام، 13: 17- 19، 20 مرتين، 24) الذي نجهل وقته بالضبط (13: 33)، في الخطبة الاسكاتولوجية (13: 4، 7، 11، 14، 15، 21، 26، 28، 29، 32، 35). وفي النهاية، قدّمت ساعات الآلام (14: 17، 30، 72؛ 15: 1) والقيامة (16: 2، 9) كجواب (13: 35)، وكأن زمن النهاية، زمن مجيء ابن الإنسان في المجد (13: 26؛ رج 14: 62)، الذي دلّت عليه القيامة (8: 38- 9: 1) يحدّد منذ الآن زمنَ التاريخ والعالم.
* الإشارات المكانية
تبدو الإشارات المكانية محدّدة: الطريق (10: 32، 46، 52؛ 11: 8) إلى أورشليم (5 1: 32- 33؛ 11: 1)، المارة في أريحا (10: 46 مرتين) تصل إلى المدينة والهيكل (11: 11، 15، 27، يُجمع الإسمان)، وذلك بعد وقفة في بيت فاجي وبيت عنيا وجبل الزيتون (11: 10). وستكون بيت عنيا (11: 11- 12) أيضاً المكان الذي يختلي فيه "خارج المدينة" (11: 19؛ رج 12: 8: خارج الكرم). الهيكل (11: 15- 16) يسمّى بيت الله وبيت الصلاة لجميع الأمم (11: 17). يسوع يعلّم فيه (12: 35). يجلس فيه تجاه الخزانة (12: 41، 43)، قبل أن ينبئ بخرابه (13: 2) على جبل الزيتون (13: 3) رغم عظمة بنائه (13: 1).
بعد هذا، لن يُذكر الهيكل إلا بشكل خفيّ وعبر التلميح إلى "رجاسة الخراب" التي تقام حيث لا ينبغي أن تكون (13: 14). نحسّ أن مسكن الله هذا قد تفجّر واتّسع: صرنا في اليهودية، في الجبال والريف (13: 14- 16). ثم ينفتح الإطار على أبعاد الكون (13: 24-27)، لينحصر في بيت يترك لخدّام ذهب سيّدهم في سفر (13: 34- 35). ويذكر الباب (11: 4؛ 13: 29) والبوّاب (13: 34). وهذا ما يشير إلى بيت سمعان حيث التأم الجمع في بداية الرسالة في الجليل (1: 33؛ 2: 1- 2).
وهنا أيضاً ترتسم حركة: إن هدف سفر يسوع هو الهيكل. ولكن يسوع يذهب إليه ليوسّع حدوده، بعد أن طال مجدُه أممَ الكون: لما تستطع أورشليم أن تسجنه. فابن الإنسان قتل خارج المدينة، ولكنه يقوم ويعود إلى بيته الذي يستقبله. فهو في بيته حيث يكون.
* الأشخاص
- مجموعة التلاميذ
تتسلّم مجموعة التلاميذ تعليماً خاصاً: حول مصير يسوع واتحادها بآلامه (10: 32-45)، حول التينة العقيمة واليابسة (11: 11- 14، 19- 25)، حول التقادم في الهيكل (12: 41- 44)، حول دمار الهيكل ونهاية الأزمنة (13: 1- 37).
- الجمع
يمتزج الجمع مع التلاميذ في حدث الأعمى، في دخول يسوع إلى أورشليم (10: 46- 11: 10) بعد الجدالات الكبرى في الهيكل، يسمع الجمع بارتياح تعليم المعلّم (10: 35- 40).
- رؤساء الشعب
ونجد رؤساء الشعب الذين يواجههم يسوع على مستوى شعائر العبادة بمناسبة طرد الباعة من الهيكل (11: 15- 18)، ويبرّر عمله أمام أعضاء المجلس (11: 27- 12: 12) قبل أن يلتقي الفئات اليهودية على مستوى النقاش اللاهوتي (12: 13- 34).
* الألقاب المعطاة ليسوع
- ابن الإنسان. نجد هذا اللقب في البداية وفي النهاية، وفي التعليم للتلاميذ (10: 33- 45؛ 13: 26).
- ابن داود. نجد لقب "ابن داود" في اتصالات يسوع بالجمع (10: 47- 48؛ 11: 10؛ 12: 35). ويغيب من باقي الإنجيل.
- المعلّم. إن سلطة يسوع كمعلّم ونبيّ تبدو بشكل خاص حين يواجه الرؤساء والكتبة في مجال التفسير الكتابي.
- "الابن الحبيب"، أو "الابن". من سمّى نفسه "الابن" يتلاشى أمام الآب (13: 32) الذي هو أيضاً أبو جماعة التلاميذ (11: 25).
* رسمة كرستولوجية
وها نحن نقدّم رسمة تدلّ على العناصر الكرستولوجية في النصّ.
أ- مصير ابن الإنسان وموضوع الخدمة (10: 32- 45).
- التلاميذ الخائفون، ابن الإنسان يسلم إلى الأمم (32- 34).
- مشاركة التلاميذ في المجد: الكأس، العماد (35- 40).
- وضع الخادم على مثال ابن الإنسان (41- 45).
ب- ابن داود والهيكل (10: 46- 11: 14).
- إعلان الأعمى: ابن داود (10: 46- 52).
- الجموع تهتف لمملكة ابينا داود (11: 1- 10).
- نظرة يسوع إلى الهيكل واختلاء في بيت عنيا (آ 11).
- التينة العقيمة (12- 14).
ج- يستند المعلّم إلى الكتب تجاه خصومه (11: 15- 18).
- طرد الباعة من الهيكل. كُتب: بيتي بيت صلاة للأمم (15- 17).
- ردّة فعل الرؤساء: أن يهلكوه. ولكن الخوف من الشعب.
د- فقاهة للتلاميذ حول الإيمان والصلاة (11: 19- 25).
- التينة اليابسة: آمنوا بالله (19- 22).
- الإيمان، الصلاة، المغفرة مثل الآب السماوي (23- 25).
ج ج- المعلّم يفسرّ الكتب تجاه خصومه (11: 27- 12: 34).
- سؤال حول السلطة. الكتاب: حجر الزاوية (11: 27- 12- 11).
- ردّة فعل الرؤساء. أرادوا أن يمسكوه. ولكنهم خافوا الشعب (12: 12).
- جدال مثلّث - الله وقيصر (13: 17).
- إله الأموات والأحياء (18- 27).
- الله والقريب (28- 34).
ب ب- ابن الله والهيكل (12: 35- 13: 5).
- تعليم يسوع: ابن داود وربّه (35- 37).
- موقف الكتبة (38- 40).
- نظرة يسوع تجاه الخزانة (41- 44).
- نظرة يسوع إلى الهيكل. إعلان دماره (13: 1- 5).
أ أ- مجيء ابن الإنسان وسهر الجميع (13: 5- 37).
- يسلم التلاميذ إلى المجامع، ويعلن الإنجيل في الأمم (5- 23).
- ابن الإنسان يأتي بالقوة والمجد (24- 27).
- قرب المجيء يدعو الخدم إلى السهر (28: 37).
ثالثاً: خلاصة
تتوخّى هذه البنية أن تكشف الترتيب الديناميكي والداخلي لمجمل النصّ. فمصير يسوع المسلَّم إلى الشعب والأمم يدلّ على مصير تلاميذه (أ) الذين يتعرّفون في ساعة الضيق التي فيها يسلمون إلى الموت، إلى الحضور الخلاصي لابن الإنسان الآتي في مجده (أ أ). قبلَ يسوع إكرام الجمع يهتف لمملكة المسيح الداودية. ولكنه كشف أمام تلاميذه عقم عبادة خارجية (ب). لهذا دعا الجمع ليكتشف أن ابن داود هو ربّ داود، الذي يدين المتكبرّين ويهدّد الهيكل بالدمار (ب ب). تجاه السلطة الرسمية المعروفة بنوايا القتل والمدفوعة بالخوف، فتح يسوع أمام الجميع أبواب الصلاة (ج)، وأعاد خصومه إلى ما تقوله الكتب فتحكم عليهم (ج ج).
إذن، إن شكّلت البداية والنهاية (أ- أ أ) وحياً نبوياً عن مصير ابن الإنسان وتلاميذه، فالمجموعة التالية (ب ج- ب ب- ج ج) تقلب النظرة وتدلى على المصير المأساوي الذي سيعرفه رؤساء الشعب الذين يسلمون إلى دينونة ربّ الكرم.
والمقطع المركزي (د) هو درس فقاهة يتوجّه إلى التلاميذ انطلاقا من التينة التي يبست: يسوع هو بيت الصلاة المفتوح للأمم. والإيمان يجذّر كلى إنسان في يسوع، ويتيح له أن يقرأ في تاريخ العالم، علامات يعطيها عن مجيئه. والإيمان بيسوع يجعل الصلاة واثقة وفاعلة، لأنها تجد فيه الخلاص النهائي الذي يناله من الآب ويشرك فيه اخوته.
4- التعليم الذي نجده في النصّ
ونحاول أن نكتشف في هذه المرحلة ما يقوله لنا مر عن شخص يسوع، الذاهب إلى لقاء الموت. يتبعه تلاميذه الخائفون الذين يقاسمهم ما يحسّ به في داخله، ويعلمهم أنه أسلم أمره إلى الآب. هذا الإنشداد قد تعرّفنا إليه منذ بداية الإنجيل.
منذ البداية "إزدجر" الروح النجس (1: 25) فدلّ على تعارض تام معه. ونجد عنده هذا الاندفاع (1: 38)، هذه الشفقة (1: 41)، هذا الحزن أمام قساوة القلوب (2: 8، 17؛ 3: 5)، وإدراكاً للحرب التي يقوم بها ضدّ قوى الشّر (3: 12، 23؛ 4: 39؛ 5: 8).
وفي الوقت عينه نجد الدهشة أمام تظاهرات ليست في محلّها (5: 39)، أمام عدم الإيمان (6: 6). ونحسّ بشفقته على هذه الجموع المتروكة (6: 34؛ 8: 2). جُرح قلبه بسبب مكر خصومه (7: 6؛ 8: 12)، وتألّم من عدم الفهم عند تلاميذه (6: 52؛ 7: 18؛ 8: 17، 18، 21). مع الإنباء الأول بالآلام والقيامة بدأ يسرّ مخاوفه لتلاميذه. فأحسّ برفضهم للألم. هذا هو الوضع الذي نجده في هذه المرحلة الخامسة.
والهيكل الذي أعاد بناءه هيرودس فصار فخر أورشليم: سيدمّر فلا يبقى فيه حجر على حجر. غير أن بيت الله لا يزول. فهو مفتوح لجميع الأمم، وسيزوره "ربّ البيت" (13: 35). هذا الهيكل الذي هو لليهود علامة حضور الله في شعبه، وشهادة عن وحدة هذا الشعب واستمرارية صلاته، قد صار منذ اليوم رمز يسوع المائت والقائم من الموت.
الهيكل هو مسكن الله الذي شاء أن يقيم فيه "مجده" أو "اسمه". في أروقته يدفع المال، ويهيّأ الحمام للذبائح. هذا هو المعنى المادي. ولكن كما أن يسوع يسلم إلى الأمم (10: 33) على يد عظماء الكهنة والكتبة، فقد جعل الهيكل واسعاً في شخصه بفضل إعلان الإنجيل (13: 10) وشهادة الشهداء (13: 9).
كل صلاة لا تمرّ به تدلّ على أن الهيكل صار مغارة لصوص (11: 17)، صار تينة عقيمة ويابسة، وفيه اتخذت الذبيحة بُعدها الحقيقي بعد أن صارت فدية عن الكثيرين (10: 45).
وهكذا حين صار يسوع المائت والقائم هيكلاً للأمم، ومعيداً لتكوين الخليقة (13: 24- 27)، أدرك لقاءُ الله بالإنسان ذروته. وحين كشف يسوع عن مصيره أمام تلاميذه، ألقى الضوء على مصيرهم وقال كلمته في معنى الوجود البشري.
خاتمة
إن "تاريخ" كل إنسان يتحدّد على ضوء نهاية يسوع. لقد عاش التخليّ في موتنا البشري وملئه اللاهوتي، فكان وحده قديراً بان يكشف لنا مصير الإنسان ومصالحة الكون مع الله. و"نهاية العالم" تتحقّق حين يجد كل إنسان نفسه موضوعاً في حضرة الله بواسطة يسوع. وتكون النهاية حين يُسلم جميعُ البشر إلى دينونة الله ورحمته. والمجيء (باروسيا) يدلّ على الحضور الذي ينادي كل واحد منا عند ساعة الموت، عندما تبدأ "أبديتنا". ولكن منذ الآن، وفي الواقع اليومي الوضيع، قد وصل إلى الإنسان هذا النداء. إنه منذ الآن يعيش في هذا الحضور.
هذا هو رجاؤنا. إنه يُولد من واقع التجدد. بما أن ابن الله المتجسّد قد اختبر إلى الأعماق شقاءنا البشري، فهو يستطيع حقاً أن يكون مخلّصنا. هذا هو التعليم الذي أعطاه يسوع قبل موته، وطلب من كل واحد منا أن يعيشه عبر موته. وهكذا يحمل يسوع في خطه، ومع التلاميذ الأولين، كل إنسان يلتقي به على طرق الحياة. إنه يدعو الجميع إلى ذات المسيرة التجرّدية في الصلاة والإيمان والغفران. هكذا يستطيعون جميعاً أن يدركوا نداء المصلوب في حياتهم ويتسلّموا منه مسؤولياتهم الأخيرة.
هذا هو تعليم مر على عتبة آلام ابن الإنسان كمقدّمة إلى مجيئه في المجد