الفصل الخامس عشر: يسوع أمام موته

الفصل الخامس عشر
يسوع أمام موته
10: 35- 45
ينتمي حدث ابني زبدى في إنجيل مرقس إلى وحدة أدبية، تنطلق من الإنباء الثالث بمصير الإنسان (10: 32- 34) إلى شفاء ابن طيما عند الخروج من أريحا (10: 46- 52). فالإنجيلي أَتبع كل تعليم يسوع عن آلامه وموته (8: 31؛ 9: 31؛ 10: 32- 34) بحوار بين المعلّم وتلاميذه على الطريقة التي بها يعني مصيرُه الخاص حياتهم (8: 34- 9: 1؛ 9: 33- 50؛ 10: 35- 45). حينئذ يتتابع تكوينهم بخبرات ملموسة، بلقاءات يُدعون إلى الإستفادة منها (9: 2- 29؛ 10: 1- 31؛ 10: 46- 52). وتكرار هذه الرسمة ثلاث مرّات يدلي على أن "الكتاب الارشادي" في إنجيل مرقس يتركّز على تمرّس التلميذ على الحياة الجماعية والكنسيّة بواسطة ضوء يصلها من السر الفصحي.
تشكّل المقطوعة التي ندرس في زمن الإنجيل وبُعده التاريخي، محطّة على الطريق الصاعد إلى أورشليم (10: 32- 33). وهي تتضمّن قسمين: طلب يعقوب ويوحنا بأن يقاسما المعلّم مجده، وجواب الجماعة (10: 41- 45). وفي كل تدخّل ليسوع نجد تلميحاً إلى موته بشكل صورة: الكأس والعماد اللذان نشارك فيهما (آ 38- 39). الحياة المعطاة كفدية (آ 45).
1- الكأس والمعمودية (آ 35- 40)
إن التعبير عن الإنباء الثالث بالآلام يأتي أوضح ممّا في الإنباءين السابقين. فهو يوضّح المسيرة الدقيقة كما سيصوّرها مرقس فيما بعد (خبر الآلام): إن ابن الإنسان سيسلم إلى عظماء الكهنة والكتبة (14: 43- 52). يحُكم عليه بالموت (14: 53- 64). يسلّم إلى الأمم (15: 1- 25). يهُزأ به (15: 10- 20)، يُغطى بالبصاق (14: 65)، يجُلد (15: 15) يموت (15: 20- 37) ويقوم بعد ثلاثة أيام (16: 1- 8). بعد هذه التفاصيل، نفهم بصعوبة طلب ابني زبدى. ما يطالبان به يدهش. بل يحرّك التذمّر والغضب عند العشرة الآخرين. ونعجب من عدم فهمهما لأنهما يعلمان إلى ماذا سوف يصلان. نجد هنا موضوعاً يرد مراراً عند مرقس، وهو التوتّر الذي يأتي به يسوع إلى قلب تلاميذه، بل إلى قلب كل إنسان في عمق حياًته الحميمة: تعلّق غير مشروط بشخصه، وخوف أمام الطريق الذي يدلّ عليه. هذا ما يوضحه جواب يسوع (آ 38- 39).
أ- ابنا زبدى
كانا من الرفاق الأربعة الأولين الذين دعاهم يسوع في الجليل (1: 19- 20). حرّكهم إلى الإيمان كلامُ معلّمهم، فبدأوا حالاً يعاونونه في عمله الخيرّ، فيدعونه مثلاً إلى المرضى (1: 29- 36). واتخذت هذه الخلية المسيحية الأولى مكانة هامة في إنجيلى مرقس: فهو وحده يسمّي هؤلاء التلاميذ الأربعة بأسمائهم في مقدمة الخطبة الاسكاتولوجية (13: 3). وثلاثة منهم، هم بطرس ويعقوب ويوحنا سيكونون شهوداً مميّزين لإقامة ابنة يائيرس (5: 37) لحدث التجليّ (9: 2)، لنزاع يسوع في بستان الزيتون (14: 33). ويتفرّد مرقس بالقول إن يسوع أعطى لقباً لابن زبدى: ابنا الرعد (بوانرجس) (3: 17). وفي هذا تلميح إلى طبعهما الناري، إلى زخمهما النبوي أو اندفاعهما الطبيعي (رج لو 9: 54: أتريد أن نأمر النار فتنزل).
حاول بعض الشرّاح أن يفسرّ هذه الإشارات الخاصة إلى ابني زبدى كعلامة عن حماس بعض الجماعات المسيحية الأولى تجاه هؤلاء المؤسّسين للكنيسة دون أن يعترض على أهميتهما. من الصعب علينا أن نكوّن فكرة دقيقة عن المسيحية الفتية. ولهذا فمخيلتنا تعرف خطر تضخيم الأمور وصراعات النفوذ التي وُجدت في الكنيسة الأولى كما أشار إليها بولس وسفر الأعمال.
ومن جهة أخرى، شكّك شّراح كثيرون بتاريخية هذا الحدث. رأوا فيه فقط "نبوءة كتبت بعد الوقت" عن استشهاد يعقوب ويوحنا.
وهناك تقليد قديم يجعل من يعقوب ويوحنا ابني خالة المسيح (رج يو 19: 25 حيث صالومة أم يعقوب ويوحنا هي أخت أم يسوع. نقرأ في هذا النصّ اسم أربع نساء: أمه. اخت أمه. مريم زوجة كلاوبا. مريم المجدلية. وهنا نفهم أن يوحنا أخذ مريم العذراء إلى بيت أختها، لا إلى بيت غريب). وهكذا نستطيع أن نفهم طلبهما (أو. طلب أمهما، مت 20: 20- 21): هما من الأقارب، إذا لهما حقّ الشفعة والوساطة في المراكز الأولى. كل هذا يجعلنا ندرك التجذّر التاريخي لهذ المقطوعة التي ندرس. كما يجعلنا نتعلّم أن القرابة الحقيقية مع يسوع لا تظهر فقط برباطات الدم. فهناك وحدة ينسجها العمل بإرادة الله (3: 34- 35): "من يعمل بمشيئة الله هو أخي وأختي وأمي".
ب- الكأس والمعمودية (آ 35- 39)
إن طلب ابني زبدى أخذ في البدء شكل مطالبة ملحّة: "نريد أن تصنع لنا كل ما نطلب" (آ 35، كأنهما يفرضان نفسيهما على يسوع باسم القرابة). هذا ما اتفقا عليه بشدة، وهذه المطالب لا تجد موقعها على مستوى الإستحقاق (أو الإنجازات) الشخصي. فالأخوان يطلبان حظوة وكرامة. لهذا بدأ يسوع يتعمّق في طلبهما. منحهما مدى من الحرية ليكتشف استقامة نواياهما. غير أن هذ النوايا ليست بصافية. إنهما يفكّران منذ الآن بمجد معلّمهما الذي يريدان أن يقاسماه إياه، دون أن يعلما أن الذي سيكون عن يمين المسيح ويساره هما لصان صُلبا معه (15: 26). إن طريق المجد يمرّ بالآلام والصليب. ولكنهما تشبّها ببطرس بعد أن اعترف بيسوع انه المسيح (8: 29). فلم يفكّرا بمسيح متألم. لقد تغذى انتظارهما المسيحاني بصور أخرى مثل ملكوت أرضي وسياسي يملك فيه ابن داود (قال مرقس: في مجدك. قال مت 20: 21: في مملكتك).
إن جواب يسوع جعلهما يذهبان عميقاً في سرّ مصيره. فتعلّقهما بشخصه تعلّق صادق، رغم اللهجة المتجاهية في طلبهما. لهذا وجب على يسوع أن يدمّر تصوّراتهما فيجعلهما يحسّان بعمق الموضوع الذي دخل فيه. "أتستطيعان أن تشربا الكأس التي أشربها أنا؟ وأن تعتمدا بالمعمودية التي اعتمد بها أنا" (آ 38)؟
تتحدّث التوراة بشكل عام عن كأس الخمر، فتدلّ عن طريق الاستعارة، على مصير الإنسان. فكأس البركة أو كأس الشكر تدلاّن على حياة من السعادة يمنحها الله (مز 16: 5؛ 116: 13). وهناك كأس الغضب الإلهي التي تصب للخطأة (أش 51: 17، 22؛ زك 12: 2؛ رج إر 25: 15، 27- 31؛ 49: 12؛ مرا 4: 21؛ حز 23: 31- 34.
وصورة العماد (موازية لصورة الكأس) هي خاصة بمرقس (لا يذكرها مت 20: 22). يذهب الفكر هنا بشكل عام إلى تغطيس "إستعاري" في مياه الشّر والغضب الإلهي، الذي تتحدّث عنه التوراة مراراً (مز 18: 17- 18: انتشلني من المياه الغامرة؛ 42: 8: أمواجك وتياراتك عبرت عليّ؛ 69: 3، 15؛ أش 43: 2). أو تغطيس في روح مدمّر يدلّ على عقاب الله (مز 11: 6: يمطر على الأشرار جمراً وكبريتاً، ويجعل ريح السموم تصيبهم، أش 30: 27- 28). غير أن ممارسة العماد المرتبطة بالتطهير الداخلي والإستسلام إلى دينونة الله، قدّمت ليسوع صورة تستطيع أن تدلّ على العلاقة التي يرغب بأن يقيمها بين موته وخطيئة البشر.
حين يسأل يسوع الأخوين هل يستطيعان أن "يشربا الكأس" و"يعتمدا" معه، دعاهما إلى أن يكرّسا حياتهما كلها له. وهكذا هيّأهما لإمكانية الإستشهاد دون أن يعلما. هناك "وحي" يصل إلينا لا نفهمه في الحال، ولكن سنفهمه فيما بعد. هل هناك تنبّؤ باستشهاد يعقوب ويوحنا في فم يسوع؟ طريق التلميذ هي طريق المعلّم، ومصير يسوع هو الموت، فكيف يكون مصير تلاميذه؟! وهكذا تحدثت كنيسة مرقس عن استشهاد يعقوب ويوحنا بلسان يسوع، بعد أن عرفت به. من الواضح أن رسل يسوع بدأوا يتألمون منذ بداية الرسالة من أجل اسم يسوع (رج اع 5: 40- 41؛ 7: 58؛ 12: 2). ونحن نحسن بمناخ من الإضطهاد عبر خطبة يسوع المتّاوية في إرسال التلاميذ (مت 10: 17- 25: يسلمونكم إلى المحاكم، يجلدونكم في المجامع، يسوقونكم إلى الحكام من أجلي، بسببي)، وعبر الخطبة الاسكاتولوجية عند مرقس (13: 9- 13) وعند لوقا (21: 12- 19).
حين دوّن مرقس إنجيله، إرتبطت لفظة "الكأس" ولفظة "العماد" اللتين استعملهما في هذا المقطع، بالحياة الأسرارية في كنيسة عصره، حيث لعب العماد والافخارستيا دوراً رئيسياً. ولكن، هل نستنتج (كما فعل البعض) أن الإنجيلى "خلق" كلمات يسوع انطلاقاً ممّا يحدث في الكنيسة؟ أو أن مرقس كان أمينا للتاريخ فذكر أن ممارسة الكنيسة تنبع من أقوال المسيح وحياًته فتحاول أن تستخلص تضمّناتها العميقة وتستغل تناسقاتها الخاصة؟
ج- ما أعدّه الآب (آ 40)
لا يوافق يسوع على الطلب الدقيق الذي طلبه ابنا زبدى، لأنه رفض أن يأخذ على عاتقه (أن يقبل) تخيّلات "مسيح" يتصّرف حسب مشيئته بسلسلة مرتّبة من مقاعد الشرف. هو لا يوبّخهما على تطلّعهما إلى المجد (ولكن أي مجد؟). بل ينقي هذا التطلع، ويدعوهما إلى تعميق علاقتهما بشخصه. وهو سيؤمِّن لهما هذه العلاقة عبر مشاركتهما الفعلية في سرّ ألمه من أجل خطيئة البشر. فتلك هي مهمته على الأرض كما تسلّمها بكليتها من الآب.
ويزيد يسوع فيعبرّ أيضاً عن هذا الخضوع لإرادة الآب: "الجلوس عن يميني أو عن يساري، ليس لي أن أهبه، إنما هو للذين أعدّ لهم" (آ 40).
فيسوع لا سلطان له على ما أعدّه الآب بحريته، ويمارسه على الأشخاص وعلى الأشياء. فإن كان يشدّد إلى هذا الحدّ على الطابع المتعالي لإرادة الله (كما في 13: 32؛ رج انجيل يوحنا) فليدل على استقلاليته بالنسبة إلى حكم البشر الذي يشوبه الإعتباط دوماً. فالله هو الذي يدبّر أمور الإنسان، لا العكس. بعد هذا يجب على التلميذ أن لا يهتمّ بوضعه الآتي في الآخرة. فهذا الوضع يفلت منه بالضرورة. بل عليه أن يلتزم بجد في حاضر حياًته حيث يهُيّا واقع مستقبله.
والاستسلام إلى تدبير الله الحرّ، ليس استسلاماً لمغامرة لا نعرف كيف تنتهي. بل هو التخليّ عن طمأنيناتنا الخاصّة، ونحن متأكدون أن المصير الذي يعدّه الله لكلّ واحد منا يفوق كل تصوّر. فكما التزم يسوع بحرّية مهمّته المسيحانية مواجهاً الألم والموت، هكذا أعطي للتلميذ أن يدخل في محن العالم الحاضر متجرداً عن نفسه وحاملاً صليبه على خطى معلّمه. وفي النهاية، ما أعدّه الله لنا هو واقع وجودنا كما يهتمّ به معنا.
2- حياًته فدية لكثيرين (آ 41- 45)
إن القسم الثاني من المقطوعة يرينا ردة الفعل لدى الرسل العشرة الباقين. فهم في الواقع يعيشون الآمال الطموحية عينها التي يعيشها ابنا زبدى. هناك عنصر اخباري واحد في هذا المقطع الذي يتألف من أقوال يسوع. هذا الحدث يذكّرنا بمناقشة التلاميذ حول الأولوية كما وردت في مر 9: 34.
أ- سياسة السلطة (آ 42)
من النادر أن يلمّح يسوع بشكل ملموس إلى سياسة زمانه. أما هنا، فهو يكشف التباس الأساليب التي تتصّرف هذه السياسة بموجبها. هو لا يورد وقائع محدّدة، ولكن معاصريه فهموا كلامه: فهم يقاسون بما فيه الكفاية نير رومة، ويعرفون ما يعمله الملوك الخاضعون للامبراطور لكي يحافظوا على مراكزهم. وهناك إشارة خاصة إلى أمراء عائلة هيرودس. يتكلّم يسوع بصورة عامة، فيطبّق معاصروه كلامه على وضعهم ونستطيع نحن أن نطبّقه على كل سياسة تعرف التسلّط والطغيان.
إذن، نرى هنا محاكمة قاسية للعمل السياسي أياً كان، وعلى أي مستوى يمارس: إن يسوع يعارض كل شكل حكم يرتكز على الوجاهات، على الطموحات، على العامل الإقتصادي. ولكن، ماذا يضع مكانه؟
ب- ستراتيجية الخدمة (آ 43- 44)
نحن أمام إنقلاب في القيم نفسه. نستطيع أن نسمّيه "التحوّل الإنجيلي" كما بالنسبة إلى عدم إنحلال الزواج (10: 1- 12)، إلى قبول الأطفال (10: 13- 16)، إلى التخليّ عن الغنى (10: 17- 31). فحضور الله في هذا العالم يحرّك ثورة عميقة في قلب الإنسان. ومجموعة الذين يتبعون يسوع يشكّلون حلقة من الاعتراض تبدأ فتصلح ذاتها من الداخل. "ليس الأمر كذلك فيما بينكم" (آ 43). لا يعبرّ يسوع هنا عن رغبة، أو تمنّ (يا ليت)، ولا يعلن أمراً (يجب). بل هو يقول ما هو في الواقع أو ما يجب أن يكون. نبذ بشدّة النموذج السياسي الذي يقدّمه العظماء، فحدّد الشريعة الأساسية لكل مجتمع مسيحي: "من أراد فيكم أن يصير كبيراً يكون لكم خادماً (دياكونوس). ومن أراد فيكم أن يكون الأول، يكون للجميع عبداً" (دولوس) (آ 43). نحن أمام تنظيم جماعة التلاميذ بالذات: كل واحد يكون في هذه الجماعة خادماً للآخرين.
استعمل مرقس عبارتين في توازن ترادفي. الأولى (استعملها في 9: 35) تتحدّث عن الخادم والشماس. هي تشير إلى الخدمة بشكل عام، وستستعمل في كنيسة أورشليم لتدلّ على الخدمة (دياكونيا) (عمل الشمّاس) الافخارستية التي هي امتداد للعمل الإجتماعي في الكنيسة. هذا العمل قام به أولاً الاثنا عشر (أع 1: 17، 25؛ 4: 34- 37؛ 5: 2). ثم مجموعة السبعة (اع 6: 1- 3، 9- 10). هم شمامسة بالمعنى الأصلي للخدمة (في عشاء المحبّة، في عشاء الافخارستيا، مع توزيع الخبز المادي والخبز الروحي، وتوزيع الكلمة)، لا بالمعنى الذي أخذته هذه اللفظة في التنظيم الكنسي الحالي. وفي النهاية، إهتمت الكنائس المحلية بالخدمة الإجتماعية التي هي عمل من الأعمال في الكنيسة وتقابل موهبة من المواهب. رج 1 تس 5: 12- 13، 17 (ارخبس والخدمة التي يقوم بها).
والعبارة الثانية تعني "العبد" و"الخادم". "إنها تدلّ في إنجيل مرقس على وظيفة من الدرجة الدنيا (12: 2، 4؛ 13: 34؛ 14: 47: خادم رئيس الكهنة). ولفظة "عبد" التي تحمل أيضاً مضموناً دينياً (فل 2: 7- 8) ترتبط ارتباطاً تاماً بالنسبة إلى إنسان تجاه سيده. قد لا يكون السيد شخصاً خاصاً. بل جماعة، أو بالأحرى مجموعة الأشخاص الذين يؤلّفون هذه الجماعة، دون تحديد وتمييز. هكذا نفهم في مقطع مرقس: "خادمكم، خادم لكم. عبد للجميع". إن جماعة المسيح تتميّز بجهوزية غير مشروطة للخدمة.
بمَ تقوم "ستراتجية الخدمة" هذه، فتتعارض تعارضاً جذرياً مع سياسة السلطة والتسلّط؟ هل تعرض تراتبية جديدة مطبوعة بطموح خفيّ سيكون في النهاية أكثر طغياناً من تسلّط العظماء؟ نهتمّ بخدمة الآخرين لنصل في النهاية إلى فرض نفوسنا عليهم. هذا ما يسمّى "إرادة القوة". مثل هذه النظرة التي تعرف التزاحم والمزاحمة على المركز الأول هي غريبة كل الغربة عن الإنجيل. ففي الكنيسة "الخادمة والفقيرة" هناك تنوّع في الخدم، تنوّع في المهام التي تمارس داخل الترتيب الكنسي. هذا ما يتحدّث عنه بولس مراراً (2 كور 12: 28). غير أن هذا الترتيب لا يتعلّق باختيار البشر، بل بترتيب الله الحرّ. فالله هو الربّ الوحيد للجميع. وهو يعطي لكل واحد الروح الواحد حسب مشيئته. ويحرّك استعدادات كل واحد ويلتقي بها (1 كور 2: 4- 11؛ رد روم 12: 3- 8؛ أف 4: 7). فيبقى على كل واحد أن يضع في خدمة الجميع مواهب منحها الله له في سخائه الحرّ (رج 1 بط 4: 10- 11): "ليضع كل واحد في خدمة الآخرين ما ناله من موهبة... إذا تكلّم فليتكلّم كلام الله. وإذا خدم فليخدم بما يهبه الله من قدرة، حتى يتمجّد الله في كل شيء بيسوع المسيح".
إذن، الخدمة التي يتحدّث عنها يسوع هي في جوهرها نعمة، وتدبير النعمة يرفض كل قيمة للشخص ترتكز على الإستحقاق أو المجهود البشري. وهنا أيضاً يوضح بولس الموقف الذي يوحي به المعلّم: "ليكن لكم رأي واحد، ومحبة واحدة، وقلب واحد، وفكر واحد. لا تعملوا شيئاً عن منازعة أو عجب، بل بتواضع إحسبوا الآخرين أفضل منكم" (فل 2: 2- 3). فالمبدأ الثوروي الذي أدخله يسوع على اعتراضه على السلطة الحاكمة، وعلى الطموح السياسي، هو مبدأ اللاعنف الجذري الذي نجعله في خدمة الآخرين. وليس فقط للدفاع عن حقوق الآخرين (بالكلام فقط. غيرنا يدافع. بل نحن نعمل. نخدم). ونطلب السلام والوحدة بين الجميع. مثل هذا المبدأ يجد ينبوعه في عمل حبّ المسيح الذي أسلم نفسه للبشر ليكون موته في "خدمة" خلاصهم. "لتكن فيكم هذه الإستعدادات التي كانت في المسيح يسوع: هو الذي كان في صورة الله... أخلى ذاته وأخذ صورة العبد.. وتواضع طائعاً حتى الموت" (فل 2: 5- 8).
ج- فدية عن كثيرين (آ 45)
والباعث على هذه الخدمة التي نقبلها بإرادة حرّة، والتي عبرّ عنها بولس أفضل تعبير، هذا الباعث قد أعطاه يسوع نفسه: إن اتضاع الله هو مبدأ اعتراض على كل تسلط، كلّ استغلال الإنسان للإنسان. بعد هذا تصبح ستراتجية الخدمة في الجماعة، وفي النهاية في العالم، مشاركة ناشطة في محبّة الله الفاعلة من أجل البشر. "جاء ابن البشر لا ليُخدم، بل ليخدم ويبذل نفسه (حياًته) فداء عن كثيرين" (آ 45).
إن قول (لوغيون) يسوع هذا يلقي الضوء على المقطع الذي ندرس، ويستعيد الألفاظ الرئيسية في نشيد أشعيا الرابع حول عبد الله المتألم: "أعطى حياة... فدية... من أجل كثيرين" أي من أجل البشر كلّهم (حسب المفهوم الساميّ القديم) (أش 53: 10- 13). ترد هذه الآيات حسب النصّ العبري، وهذا يشير إلى قدم النصّ المرقسي أو الذي استقى منه مرقس. ونجد أيضاً في خلفية آ 45 تذكّراً للمزمور 49: 8- 9 حيث يكتشف المرتل عجزه عن تأمين خلاصه الخاص بيده: "الإنسان لا يفتدي نفسه، ولا يكفِّر لله عنها. فدية النفس باهظة، ولا تكون أبداً كافية". ونلاحظ أخيراً رجوعاً إلى نصّ دانيال حيث يأتي ابن الإنسان على سحاب السماء فينال كل كرامة وتتعبّد له إلىلك (دا 7: 13- 14).
وعى بعض الشّراح هذه التقاربات المعروفة في الجماعات المسيحية الأولى، فرفضوا أن يروا في هذه الآية قولاً صريحاً ليسوع. ففكرة موت به يكفّر إنسان عن الجماعة، ليست غريبة عن العهد القديم (أش 53: 10- 12؛ زك 11: 10؛ 2 مك 7: 37- 38) ولا عن العالم اليهودي (4 مك 1: 11؛ 6: 28- 29؛ 17: 20- 22). ولكن هذه الفكرة توسّعت أكثر ما توسّعت عند الإزائيين (مر 14: 24 وز) ورسائل القديس بولس (رج؛ 1 كور 1؛ 30؛ أف 1: 7، 14؛ 4؛ 30؛ كو 1؛ 14) الذي يبدو في موضعين (1 تم 2: 5- 6؛ تي 2: 12- 14) وكأنه يتوسّع في نصّ مر 10: 45. ثم إن طريقة التعبير الساميّة لقول يسوع هذا يدلّ على صحة نسبته إلى المعلّم، وإن لم نستطع أن نبرهن برهاناً يقيناً أن يسوع تماهى مع عبد الله في أشعيا. فالأناجيل تورد على لسان يسوع كلمات قليلة من أش 53 (رج مر 10: 45؛ مت 20: 28. وكلمات الافخارستيا: مت 26: 28؛ مر 14: 24؛ لو 22: 20. وخصوصاً إعلان يسوع في لو 22: 37: أحصي مع الائمة. أش 53: 12). أما موضوع عبد الله المتألم وموضوع البار المضطهد فيطبّقان على المصلوب في الجماعات المسيحية الأولى (أع 3: 13، 26؛ 4: 27، 30؛ 8: 32- 33...).
ولكننا نخون النصّ أن انكرنا وعي يسوع العميق لبُعد موته الذبائحي والتكفيري. فأقوال يسوع وأفعاله في تأسيس الأفخارستيا لا تسمح لنا بأن نشكّ في هذا البُعد. فقد أراد عبر هذه الفعلة الحاسمة أن يجنّد مصيره كله، أي أن "يعطي حياًته". وأراد أيضاً أن يقيم العهد الأبدي بين الله والبشرية، لكي تتحرّر البشرية من الخطيئة وقبضة الموت العمياء، وتعيش حياة جديدة، حياة التلميذ الذي يجد نموذجاً له في وجود يسوع وحياًته. وهكذا تنير الكلمات الافخارستية هذه التعابير الفريدة في الإنجيل. "دمي المهراق من أجل الكثيرين" (مر 14: 24؛ مت 26: 28). "بذل نفسه (حياًته) فداء عن كثيرين" (مر 10: 45؛ مت 20: 8).
ما معنى هذا الفداء أو هذه الفدية؟ نجد الفكرة أو أقلّه اللفظة في أش 53: 10- 12. قرئ هذا النصّ الأخير على ضوء مز 89: 8- 9 الذي يعبرّ عن عجز الإنسان الجذري بأن يقدّم شيئاً ما ليفدي حياًته (رج مر 8: 36- 37: ماذا ينفع "الإنسان... وبماذا يفدي الإنسان).
إن هذه اللفظة (فدية) تجعلنا في إطار ذبائحي: فالعهد القديم يعرف "الذبيحة عن الأثم" و"الذبيحة عن الخطيئة" (لا 4: 1 ي: يعيد العلاقة مع الله بسبب خطيئة لا إرادية أو حالة نجاسة). بهما يقدّم الخاطئ التائب ذبيحة (تحل محلّه) تعبرّ عن حقيقة ارتداده. وتعيدنا أيضاً صورة الفدية إلى نظام "وليّ الدم". إن سقط إنسان في الأسر، إهتم أقرب قريب إليه بافتدائه. وان قُتل، طالب العدالة (أو قام هو بعمل العدالة) بالاقتصاص من المجرم.
كل صورة تبقى ناقصة، وهي لا تعبرّ تعبيراً كاملاً عن الواقع، لاسيّما إذا كان واقعاً دينياً. وهكذا لا نعطِ صورة الفدية معنى "البيع والشراء"، كما لو كان الآب بحاجة إلى ضحية (هي يسوع المسيح) لكي يهدأ غضبُه وانتقامه! أو كما لو كان الله يدفع للشيطان ثمن خلاص الإنسان بموت ابنه. كلا. ففكرة "الفداء" تدلّ بالاحرى على مصالحة الإنسان مع الله. على حبّ الله ورحمته اللامحدودة التي ردمت الهوة التي لا قبل للإنسان بعبورها بقواه الخاصّة.
لقد دفع يسوع الثمن الذي لم يستطع الإنسان أن يدفعه بسبب الهوّة اللامحدودة التي تفصله عن الله. لقد جعل يسوع نفسه مكان الإنسان فصار ضحية مقبولة. لقد مات بسبب عمل حبّه الذي لا يستطيع الإنسان الخاطئ أن يسبر غوره.
حين سلّم يسوع نفسه كلياً للبشرية الخاطئة، حين "بذل حياًته فدية عن الكثيرين"، كما يقول الإنجيل، دفع الثمن. أي دلّ إلى أي حدّ يتجاوز حبّ الله الإنسان، ويغمره بعطاياه، فيخلّصه من الموت الكامل (موت النفس والجسد. الموت الثاني كما يقول سفر الرؤيا) ويغفر له خطاياه. هذا الفداء الذي هو وليد نعمة مجانية، يتجاوز كل الأفكار البشرية حول البيع والشراء. لهذا، فابن الإنسان الذي يعطي حياًته، ليس فقط نموذجاً للتلميذ: إنه يعدّ الحياة المسيحية ويجعلها ممكنة كجديد جذري لانها وحي عن شمولية الغفران الإلهي وسخائه. وفي هذا الواقع تتأسّس بشكل حاسم "الخدمة" المسيحية. إنها مشاركة في فاعلية عمل المسيح الفدائي. إنه يغفر، إنه يحُصي.
خاتمة
هذه المقطوعة هي خبر إستجابة صلاة الكنيسة التي تجسّدت في طلب يعقوب ويوحنا. وهي خبر الثورة التي يسبّبها في العالم اتحادنا الحميم بعمل المسيح الخلاصي الذي حوّل الكون كله.
سأل الأخَوان نعمة. فأجاب يسوع بسؤال يعني ما يلي تقريباً: "أتظنان أنني كل شيء بالنسبة إليكما، بحيث تصبح مقاسمتكما لحياًتي وموتي، مهما كان الثمن، واقعاً يحسدكما عليه العام كله"؟ دلاّ على موافقتهما، دون أن يدركا البعد الحقيقي لطلبهما. قال لهما يسوع: "لا تعرفان ما تطلبان". هنيئاً لهما. فلو عرفا قبل أن يلتزما ما هو بالحقيقة ملكوت الله لوجدا نفسيهما أمام اتجاهين: إما أن هذا الملكوت هو في متناول أيديهما، فلا يتجاوز بالتالي التصّورات المحدودة التي عرفاها. أذن، هو لا يستحقّ كل هذا التعب. وإما بدا هذا الملكوت رفيعاً جداً أو صعباً، فيبتعدان عنه يأساً وقنوطاً. ولهذا، فإن يسوع الأمين على أسلوبه التربوي في تقديم الوحي، جعلهما يفهمان أن في طلبها أكثر بكثير مما أملا. في الإنسان غنى لا يملكه الإنسان. ففي عمق الإنسان هناك حضور الله. وهذا ما يجب على التلميذين أن يكتشفاه.
أما نبدو نحن أيضاً على هذا الشكل؟ فرغبتنا تتجاوز دوماً الهدف الذي وضعناه أمامنا: والرضيع الذي يطلب ثدي أمه، يدلّ بالأحرى على عطش إلى المحبة والحنان لا يعرف أن يعبرّ عنه. والغريب المار على الطريق يستعلم من الناس، يحتاج إلى الحقيقة وإلى بعض الدفء البشري يتجاوز ببُعده معلومة يطلبها.
ولكن إن كانت حاجاتنا البشرية أصعب من أن نشبعها، فالله وحده يستطيع في يسوع المسيح أن يشبع الرغبات التي يثيرها فينا: فهو يعطي الماء الحيّ للسامرية، وخبز السماء للجموع الجائعة، والشفاء للمرضى، والغفران للخطأة، والحياة للموتى. وهو يفعل كل هذا بطريقة لا نتخيّلها. إنه يعطي بسخاء ما بعده سخاء، وينتقل من مستوى مادي إلى مستوى روحي، فيروي كل عطش في الإنسان، عطشه المادي وعطشه الروحي. إن طريقته في الجواب على طلبنا، تخيّب أملنا وفي الوقت نفسه تغمرنا.
نحن نشبه يعقوب ويوحنا، فلا نعرف ما نطلب. ولكن يجب أن نكون سعداء فنستسلم إلى ذلك الذي يعرف إلى أين تقودنا رغبتنا بأن نكون معه. ولا حاجة إلى الغضب مثل العشرة ضد أخوتنا الذين يطلبون أن يكونوا مع يسوع. فهو سيأخذنا جميعاً في مجده عبر حصتنا من الألم والإضطهاد. لا حاجة إلى مقابلة المواهب ومناقشة الأولويات وتقييم الإستحقاقات. فهو يرغب أن يغمرنا كلنا بعطاياه فنذوق منذ الآن فرح اللقاء به

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM