الفصل العاشر
الإنباء الثاني والعظمة الحقيقية
9: 30- 37
تتضمّن هذه المقطوعة الإنجيلية الإنباء الثاني بالآلام وبداية خطبة طويلة (مختلفة المواضيع) تنتهي في 9: 50. إنّ هذا التجميع لأقوال يسوع قد سبق تدوين مرقس لإنجيله. ونحن نجده أيضاً في خطبة الجماعة في مت 18. أما لوقا فوزّع هذه الأقوال على أماكن عديدة. حاول مرقس أن يوحّد هذه الخطبة فأقحم بعض الإشارات الخاصة به. مثلاً، نشاهد طريقة مرقس في آ 30 (السرّ: لم يكن يريد أن يدري به أحد) وآ 31 (التعليم: كان يعلّم التلاميذ) وآ 32 الم يفهم التلاميذ. كانوا خائفين)، آ 33 (معارضة بين البيت والطريق)، آ 34 (الجدال، كانوا يتباحثون).
نبدأ فنشرح مختلف عناصر المقطوعة ثم نحاول أن نفهم معنى مِثل هذا التجميع، كما نفهم لاهوت مرقس الذي يعبّر عنه هذا النصّ.
1- الإنباء الثاني بالآلام
تطرح الإنباءات بالآلام سؤالين هامين: أولاً، صحتهما: هل تلفّظ يسوع حقاً بهذه الكلمات، أم نُسبت إليه فيما بعد؟ ثانياً، المعنى الذي أعطاه يسوع مسبقاً لموته الآتي.
يقع الإنباء الثاني في وضع مميّز تجاه هذين السؤالين. يبدو أنه أقدم الإنباءات وأقصرها وأقلّها تفاصيل. هنا نقابل مر 8: 31؛ 9: 31؛ 10: 32- 34.
8: 31 9: 31 10: 32- 34
وأخذ يعلّمهم كان يعلّم تلاميذه وطفق يقول لهم
انه ينبغي لابن البشر إن ابن البشر يسلّم ابن البشر سيسلّم
أن يتألم كثيراً إلى أيدي الناس
وأن ينتبذه الشيوخ
ورؤساء الكهنة إلى رؤساء الكهنة
والكتبة والكتبة
فيحكمون عليه بالموت
ويدفعونه إلى الأمم
فيهزأون به
ويبصقون عليه
ويجلدونه
وان يقتل فيقتلونه. ومتى قُتل ويقتلونه
ويقوم بعد ثلاثة أيام ينهض بعد ثلاثة أيام ثم ينهض بعد ثلاثة أيام
ونقدّم لا لوحة ثانية الإنباء الثاني حسب ما ورد لدى الإزائيين متى ومرقس ولوقا:
مت 17: 22- 23 مر 9: 31 لو 9: 44
إن ابن البشر إن ابن البشر إن ابن البشر
سوت يسلّم يسلّم سوف يسلّم
إلى أيدي الناس إلى أيدي الناس إلى أيدي الناس
فيقتلونه فيقتلونه ومتى قُتل
وفي اليوم الثالث بعد ثلاثة أيام
يقوم ينهض
نلاحظ أن الإنباء الثاني يتميّز بعبارة "يسلم إلى أيدي الناس". هذه العبارة ترد أيضاً حين يتحدّث يسوع عن خيانة يهوذا: "ويل لذلك الرجل الذي يسلم ابن البشر" (14: 21). وترد أيضاً حين توقيف يسوع: "هوذا ابن البشر يسلم إلى أيدي الخطأة" (14: 41). ألغى لوقا هذه الجملة ونقلها إلى زيارة النسوة إلى القبر (24: 7): "يسلم إلى أيدي الخطأة".
والعبارة التي نجدها هنا (يُسلم) ترد في الحاضر فتدلّ على المستقبل القريب. وهناك تلاعب على الكلمات: ابن البشر والبشر (أو ابن الإنسان والناس). وهناك صيغة المجهول التي تدلّ على عمل الله. كل هذا يدلّ على أصل أرامي لهذه الكلمة القوية والملغزة، كما تلفّظ بها يسوع بطريقته الخاصة.
ولكن حين تلفّظ يسوع بهذه الجملة، أي معنى أعطى لموته؟ قد نجد الجواب في دراسة فعل "أسلم".
نجد هذا الفعل في بعض النصوص البولسية (روم 4: 25: أسلمَ لأجل زلاّتنا؛ 8: 32؛ أف 5: 2)، وهو يجعلنا نفكّر بالعبارة الافخارستية (رج لو 22: 19: جسدي الذي يبذل لأجلكم؛ 1 كور 11: 24). ومع هذا، فالنصّ يعارض مر 9: 31 ويوضح: "لأجلنا". "لأجل خطايانا". وهذا ما يشير إلى أش 53، فيوجّه تفكيرنا إلى الوجهة الذبائحية والفدائية لموت يسوع.
وعبارة "أسلم إلى يد" ليست غريبة عن التوراة. نجدها مثلاً في محاكمة إرميا (إر 26: 24). وإن أفلت النبي من الموت، يبقى أن خبر محاكمته كوّن لحمة الخبر في آلام يسوع، عند مرقس بصورة خاصة. وتظهر هذه العبارة أيضاً في مزامير "البار المتألمّ" الذي يطلب أن ينجو من أيدي الكافرين، من أيدي الخطأة (مز 71: 4؛ 140: 5). ونجدها أخيراً في دا 7: 25 حيث نجد "قدّيسي العلي" "يسلّمون إلى يدي" أنطيوخس ابيفانيوس المضطهد. ولكنهم سيمتلكون الملكوت (7: 22)، ذاك الملكوت الذي يُمنح في 7: 14 إلى شخص سرّي هو ابن البشر (أو: ابن الإنسان).
من هو هذا ابن البشر؟ شخص فرد أم رمز جماعي؟ مهما يكن من أمر، فهو الينبوع المباشر للعبارة الإنجيلية في الإنباء الثاني (مر 9: 31 وز). بيد أنّ يسوع جمع في ذاته المصير الجماعي لقدّيسي العلي. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، أخذ على عاتقه في تسلسل مراحل حياًته، وجهتين كانتا منفصلتين: وجهة الإضطهاد ووجهة الملك. وهكذا يبدو الشهيد الذي تسبق آلامُه مجيء الملكوت.
وهكذا، تكشف لنا عبارة "يسلّم ابن الإنسان إلى أيدي" وجهة ثمينة جداً في آلام يسوع وموته: فهذا الموت يكثّف ويتمّ بشكل كامل ألم الأبرار، واضطهاد الأنبياء، وموت الشهداء. وهذا ما يدلّ عليه الإستعمال المتواتر لفعل "أسلم" في أخبار الآلام. نحن أولاً أمام اللفظة التقنية التي تدلّ على الخيانة: إن يهوذا "أسلم" يسوع إلى عظماء الكهنة (24: 10). وهم بدورهم "أسلموه" إلى بيلاطس (15: 1، 10)، الذي "أسلمه" في النهاية إلى الجنود (15: 15). وهكذا انتقل يسوع على التوالي في يد كلّ القوات الشريرة. إنه حقاً قد "أسلم إلى أيدي". حرفياً: صار لعبة. "صنعوا به كل ما شاؤوا". هذا ما قاله يسوع عن "إيليا- يوحنا المعمدان" فدلّ على أنه السابق. حينئذ يطبّق عليه مرقس لفظة الآلام: "بعد أن أسلم يوحنا" (1: 14).
والإنباء الثالث سيقدّم "خبر الآلام" بالتفصيل: "ابن البشر سيسلم إلى رؤساء الكهنة... وهم بدورهم يسلمونه إلى الوثنيين". هذه الإشارة الأخيرة تشكّل في النهاية سبب الشكّ العظيم: يهودي يسلمه اليهود إلى الأمم. مرسل الله يسلّمه الكهنة إلى الوثنيين. هذا ما يشير إليه سفر الأعمال بالدرجة الأولى. قال بطرس: "صلبتموه وقتلتموه بأيدي الكافرين" (اع 2: 23). وقال أيضاً: "أسلمتموه إلى أعدائه وأنكرتموه أمام بيلاطس". والإنباء الثالث في إنجيل لوقا (18: 33) يتميّز بهذه الإشارة: "إن ابن الإنسان سيسلّم إلى الوثنيين، فيستهزئون به ويشتمونه ويبصقون عليه".
ولكن يبدو أن الإنباء الثاني يقدّم وجهة أخرى. إذا عدنا إلى النظرة الأولى، نبقى على مستوى المبادرات والمسؤوليات البشرية. هذا ما تدلّ عليه العبارة التي تعلن خيانة يهوذا (14: 21): "الويل لذلك الإنسان الذي به يسلم ابن الإنسان"! وهذا ما يعبّر عنه يوحنا (19: 11) خلال حديث يسوع مع بيلاطس: "الذي أسلمني إليك خطيئته أعظم". هذا مع العلم أن الشيطان هو الذي يحرّك كل هذه المبادرات في إنجيل يوحنا. ونستطيع أن نلاحظ طريقة يوحنا باستعمال فعل "أسلم" ثماني مرات من أجل يهوذا بين ف 6 وف 18 من إنجيل يوحنا. وبين يو 18: 30- 36 و19: 16 سنجد مزيجاً يدخل فيه اليهود ويسوع ويهوذا وبيلاطس.
نقرأ في مر 9: 31: "يُسلم ابن الإنسان". إن صيغة المجهول في الإنباء الثاني تدلّ على عمل الله. وهكذا يبرز التعارض: ابن الإنسان- الناس. حينئذ نفهم العبارة على الشكل التالي: "الله يسلّم إلى البشر ابن البشر". تأكيد يدهشنا، ولكنه يقلب الأمور رأساً على عقب: لسنا أمام الشّر الذي يعمل عمله وينتصر، بل أمام مخطّط الله الذي يتحقّق في التناقض. لم يؤخذ الله على حين غفلة، ولم يهزَم فيفشل. بعد هذا لا يعود يشكّكنا "ابن الإنسان الذي أسلم". هذا هو سرّ الله نفسه، وهو ينتصر بوسائل مدهشة سامحة بدا وكأن الشّر ينتصر. قال بولس الرسول: "لم يشفق على ابنه الخاص، بل أسلمه عنا جميعاً" (روم 8: 32). وقال يو 3: 16: "ان الله أحبّ العالم حتى إنه بذل ابنه".
قالت أشعيا عن عبد الله المتألم (53: 10): "إن مخطّط الله سينجح بيد العبد الذي أسلم (بواسطة الله) من أجل خطايانا". ولمَ "يسلم إلى أيدي الخطأة"؟ هنا تلتقي النظرتان حول موت يسوع.
في النهاية نستطيع أن نجمل جواباً على السؤالين اللذين طرحناهما في البداية: استطاع يسوع بسهولة أن "ينبئ" بموته قتلاً، وذلك حين رأى تطوّر الأحداث. ولكن ما يهمّنا هو المعنى الذي أعطاه لهذا الموت. كل شيء يدلّنا على أنه قرأه على ضوء الأحداث السابقة في التاريخ المقدّس، فعاشه على أنه الحدث المركزي في مخطّط الخلاص.
2- ما بعد الإنباء الثاني
إن هذا الإنباء بالآلام يتبعه مشهدان يتعارضان ويحصلان في زمنين مختلفين: هناك الواقع نفسه (كانوا يتباحثون)، ثم كلمة يسوع (إن أراد أحد أن يكون الأوّل).
نقرأ أولاً جدال التلاميذ ومباحثتهم عمّن هو الأعظم. بعد هذا، يرد جواب يسوع عن الأوّل والآخر، عن "خادم الكلّ". وفي النهاية، قام يسوع بفعلة رمزية: أخذ طفلاً. ورافقت الفعلة كلمة تفسرّ الفعلة: "من قبل واحداً من هؤلاء الأطفال...". عناصر متنوّعة وقد ينقصها بعض التماسك في تسلسلها: جدال، كلمة يسوع، فعلة يسوع ثم كلمته عن قبول الطفل وارتباط هذا القبول بالله.
في آ 33، يسوع هو في البيت مع تلاميذه. في آ 35، جلس ودعا الإثني عشر وسلّم إليهم كلمته. نحن هنا وكأننا أمام مقدّمتين لكلمة يسوع: نداء الذين هم هنا (من زمان بعيد). معهم بدأ الحوار من قبل. وتمييز بين التلاميذ والإثني عشر.
موضوع الجدال بين التلاميذ هو حول "الأعظم"! ولكن يسوع لا يستعيد هذه اللفظة، بل يتحدّث عن الأول والآخر. ومثَل الطفل يجب أن يكون بشكل طبيعي مثلاً عن التعليم الذي أعطي في الحال. غير أن الكلمة التي تلي لم تلمّح إلى موضوع الأعظم، ولا إلى موضوع الأول والآخر (أو العبد، الخادم).، بل إلى القبول والإستقبال. ثم إن الكلمة عن استقبال الأطفال (في صيغة الجمع) تفترض مجموعة، وتتوافق بشكل أفضل مع الحدث المرويّ في 10: 13- 16 (جاء إليه بعض الناس بأطفال)، أما هذا النص فيقول ان يسوع أخذ طفلاً واحداً. وجده هنا في البيت. وجده صدفة واتفاقاً.
وهنا عبارتان. الأولى: "باسمي". الثانية: "واحد من هؤلاء الأطفال". فالكلمة حول القبول ترتبط ارتباطاً بما يلي (آ 38- 39: باسمى. آ 42: واحد من هؤلاء الأطفال). نلاحظ أن اللفظة المستعملة في آ 37 هي "بايديون" (ولد صغير، طفل). وفي آ 24: "ميكروس" (يدلّ على كل صغير، ولا يدلّ بشكل خاصّ على الأطفال). نحسّ في هذا المقطع المرقسي أن حدث الطفل هو بداية سلسلة لا خاتمة مناقشة. والترتيب الذي أخذ به متى أو لوقا يبدو أكثر منطقياً. (1) مناقشة (لوقا) أو سؤال (متى). (2) الطفل. (3) كلمة يسوع التي تردّ على المسألة بشكل مباشر. غير أن هذين الإنجيليين نفسيهما (متى، لوقا) حدّدا موقع كلمة القبول بشكل آخر: لوقا، قبل الجواب حول الأعظم. متى، بعد الجواب. إن هذه الاختلافات تلفت انتباهنا إلى الصعوبة في تفسير مشهد الطفل الذي يبدو وكأن التقليد أعاد كتابته مراراً.
لهذا أعاد الاب بوامار تكوين النصّ الأوّلاني على هذا الشكل: "جاؤوا إلى كفرناحوم. واقترب التلاميذ من يسوع قائلين: من هو الأعظم؟ فأخذ طفلاً، وأقامه في وسطهم وقال: الأصغر هو الأكبر". ولكننا نستطيع أن نرى الأمور بشكل مختلف، فنعتبر نصّ مرقس مجموعة أوّلانية (ضمّت وحداتها في طريقة مصطنعة). وقد عمل لوقا (أو متى) جهده من أجل توحيد عناصرها. إذن، يبدو من الأفضل أن نتوقّف عند عناصر مرقس، فنقرأها كوحدات صغيرة مستقلّة، ونحن عارفون أنها نتيجة تطوّر متشعّب.
أ- المناقشة بين التلاميذ وجواب يسوع
قدّم مرقس بشكل مبتكر المناقشة حول من هو الأعظم. هذا لا يعني أنه اخترع الواقع، بل هو قدّمه بشكل أدبي. لا شك في أن متى (18: 1- 5) ألغى المناقشة، أو بالأحرى حوّلها إلى سؤال عام حول "الأعظم في الملكوت" (مت 18: 1). وهكذا لم يتعرّض للتلاميذ. غير أنه احتاج إلى هذا السؤال في ف 18 ليثير الموضوع الذي يطرقه، ونحن نتخيّله بسهولة يلغي هذا المشهد الملموس (المناقشة). أما لوقا (9: 46- 47) فبدا في النص الموازي وكأنه يخفّف من أهمية الحدث، فيشير إلى "تساؤل داخلي" (جالت فكرة في عقولهم، أفضل من "وقعَ جدال". وترجمة صحيحة أيضاً: داخلتهم هذه الفكرة) عرفه يسوع في داخله. في الواقع، إن الموازاة الحقيقية هي في مكان آخر: هي في إطار العشاء الأخير، واللفظة المستعملة (فريدة في العهد الجديد) هي "نزاع" (لو 22: 24)، وهي تتخذ بعداً جديداً.
قد تكون المناقشة حول الأعظم صدى لمشاكل عرفتها الجماعة الأولى حول كرامة كل من الرسل. إن سفر الأعمال يبيّن لنا بطرس ويوحنا في مركز مرموق داخل الجماعة الأولى في أورشليم. أما يو 21 فيقابل بين مصير الرسولين، فيدلّ على اهتمام بكرامة كل منهما. وان 1 كور 1- 4 تفترض أن المسألة طُرحت أيضاً: من هو أعظم؟ بولس، بطرس، أبلوس. وسيأتي جواب بولس قريباً مما في الأناجيل الإزائية: بولس وأبلوس هما خادمان (1 كور 3: 5).
وقد تكون المناقشة أيضاً صدى لاتجاهات لدى بعض المسؤولين إلى البحث عن الكرامات والوجاهات. أو صدى لمجادلات وتجاوزات تحصل خلال الاحتفال الليتورجي: هذا ما قد يشير إليه لوقا حين يحدّد في قلب العشاء السرّي موقع الجدال بين التلاميذ. ورسالة القديسة يعقوب (2: 1- 4) هي شاهد رافض لتصّرف يدخل في الجماعات الليتورجية أولويات تستند إلى اعتبارات بشرية.
كان المجتمع القديم عامة، والمجتمع اليهودي خاصة يهتمّ اهتماماً دقيقاً بالتراتبية. ونحن لن نندهش إذا كانت الكنيسة الأولى قد اصطدمت بصعوبات أثارتها نظرة إلى الأشياء وإلى العادات يهاجمها الإنجيل وجهاً لوجه. هنا نتذكّر كلام يسوع القاسي ضدّ الكتبة والفريسيين. أورده متى لأنه رآى أنه لم يختفِ من كنيسة المسيح. "يحبّون مقاعد الشرف في الولائم، ومكان الصدارة في المجامع، والتحياًت في الأسواق، وأن يدعوهم الناس: يامعلّم" (مت 23: 6- 7).
ولكن يبدو من المعقولة أيضاً أن المسألة طُرحت (بشكل مختلف) في جماعة التلاميذ قبل الفصح. وهذا ما يؤكّده حدث (قريب من هذا الحدث) طلب ابنَيْ زبدي الذي لم يخترعه التقليد، كما يذكره عدد من أقوال يسوع المختلفة حول ضرورة التواضع والخدمة (رج لو 9: 48 ب: الأصغر فيكم أعظمكم؛ مر 10: 43- 44؛ مت 20: 26- 27؛ لو 22: 26).
واللوغيون (القول) الذي يقدّمه لنا مرقس في 9: 35 يتميّز كل التميّز عن غيره. فهو لا يجيب على السؤال. فهو لا يتضمن التعارض "كبير/ صغير" الذي نجده في لو 9: 48 ومت 18: 4. أما سائر الكلمات فتلعب على تعارض أقلّ دقة "عظيم/ خادم" (مت 20: 26؛ 23: 11؛ مر 10: 43) أو "الأول/ عبد" (مت 20: 27؛ مر 10: 44) أو "أعظم/ أصغر" (لو 22: 26). أما مرقس (9: 35) فقدّم وحده النقيضة الجذرية "أول/ آخر" التي تعبّر أفضل تعبير عن انقلاب في القيم يحدثه يسوع، وعن تبدّل في التصّرف يفرضه. نحن هنا في الحقيقية أمام قول حقيقي من أقوال يسوع أدخل هنا وزيدت عليه القاطعة "خادم الكل"، ليقطع الطريق بشكل نهائي على كل رغبة بالمقام الأول. فالعظمة الحقيقية تقوم بأن يكون الإنسان خادماً. وإذا أراد أن يكون خادماً عليه أن يكون الأخير.
نستطيع أن نقرّب هذا القول من قول آخر يرد في صيغة الجمع، ويعبّر هذه المرة عن واقع لا عن نصيحة. ونحن نجده في شكلين مقلوبَين. الأول (مر 10: 21؛ مت 19: 30: بع كل ما تملكه ووزّع ثمنه على الفقراء) يدلّ على الإنقلاب في الأوضاع يسبّبه حكم للأغنياء والفقراء. والثاني (لو 13: 30؛ مت 20: 16: الآخرون أولون) ينطبق على مسألة حلول الوثنيين محلّ اليهود في الملكوت. وهناك بعض الكتّاب يظنون أن مرقس ألّف 9: 35 إنطلاقاً من هذه النصوص الموازية التي ذكرناها.
ب- فعلة يسوع وتفسيرها
في تقديم مرقس الحالي، لا يبدو حدث الطفل الذي وُضع في وسط التلاميذ، مثلاً عن الحوار السابق. فالقولان اللذان يفسرّانه بشكل غير متوقّع، يدلاّن على أن لا رباط بين هذا الحدث وسياقه. كانت فعلة يسوع موضوع تفاسير عديدة. ونحن نتساءل: أي معنى لها في ذاتها، وبمعزل عن المناقشة التي سبقتها والتفسير الذي تلاها؟
من الطبيعي أن نقرّب بين هذا الحدث القصير والمشهد الموسّع (10: 13- 16) الذي يرينا التلاميذ يزجرون الأطفال أو الذين قدّموهم إلى يسوع. نلاحظ أن جواب يسوع في هذا الحدث الثاني يتبعه قول على القبول (من لا يقبل ملكوت الله مثل طفل) اختلف موضوعه ولكن بدا مزاداً. ويلاحظ مرقس في الحدثين أن يسوع "احتضن" الأطفال (غمرهم بيده وقبّلهم).
من الواضح أن اهتمام يسوع بالأطفال هو ميزة من تصرفه أدهشت التلاميذ وربّما شكّكت معاصريه. فالولد لم يكن له مكان في مجتمع عصره. هو لا يمثّل بشكل من الأشكال مثال البراءة والبساطة. بل هو نموذج ما لا أهمية له، ما لا يحُسب له حساب، ما هو حقير جداً بحيث نستطيع أن نهمله. إن اهتمام يسوع بالأطفال قريب من تصّرفه تجاه العشّارين والزناة: إنه يكشف شيئاً من قلب الله. فالبشرى تقوم في أن الملكوت يُعطى مجّاناً لمن يهمله الناس ويحتقرونه. يعطى فلا يحسب حساب لكمال الشخص أو استحقاقاته. إن الدعوة إلى الوليمة تتوجّه إلى الجدع والعرج والعميان (لو 14: 13- 14، 21)، إلى أولئك الذين لا يستطيعون أن يردوا لنا الدعوة إلى الوليمة. هذا ما تعني فعلة يسوع على مستوى أول وبمعزل من أي تفسير (رج مر 10: 14).
ولكن ينتج من هنا تعليم يشير إليه القول الأول على القبول (آ 37 أ: من قبل واحداً). فهذا القول يتضمّن في الوقت عينه دعوة لتقبّل الطفل، وتأكيداً على التماهي بين الطفل الذي نقبله ويسوع. يجب أن نفهم عبارة "قبل واحداً من هؤلاء الأطفال" (على ما يبدو)، لا كموقف سيكولوجي صرف، كموقف داخلي. بل نفهمها بشكل ملموس جداً (رج فعل داخستاي الذي يرد مراراً في العهد الجديد ويعني: أضاف): تقبّله، إستقبله، إلتقطه (من الشارع). حينئذ نكون أمام أطفال فقراء، يتامى أو متروكين (ربّما). حين نأخذ "إلى بيتنا" (على عاتقنا) هؤلاء الأطفال، نعمل عمل محبة تنصح به الشريعة ويمارسه العالم اليهودي. استعاد يسوع فكرة هذا العمل وزاد عنصراً جديداً هاماً: "يقبلني أنا". وهكذا يرتسم في 9: 37 أ تعليم سيُعطى في مشهد الدينونة الأخيرة (مت 25: 31 ي): يتماهى يسوع مع الصغير، مع الفقير، لأنّ تصّرفه تجاههم يتمّ حقاً وحي الله المدافع عن الفقراء و"أب اليتامى" (مز 68: 6). إن إقحام هذا القول في هذا الموضع، يشكّل إذن تفسيراً جديداً لفعلة يسوع.
وبعد هذا، جاء تفسير ثالث فوق التفسيرين الأولين. إن آ 37 ب تتكلّم أيضاً عن القبول، ولكننا أمام موضوع يختلف كل الإختلاف. إن عبارة "من قبلني قبل الذي أرسلني" توجّه أنظارنا بلا شكّ إلى سياق خطبة الرسالة (مت 10: 40) حيث تسبقها الجملة المكمِّلة "من يقبلكم يقبلني". أو كما في لو 10: 16: "من سمع منكم سمع مني، ومن نبذكم نبذني". وخصوصاً كما في يو 13: 20: "من يقبل الذي أرسله أنا يقبلني. ومن يقبلني يقبل الذي أرسلني". كل هذه النصائح الرسولية تتوجّه إلى التلاميذ. إذن، ما هو موقع هذه الجملة في "حدث الأطفال"؟
إذا عزلنا آ 37 ب، فهي لا تعود تدلّ على الأطفال. هل نحن أمام أطفال لا يجب أن نشكّكهم (آ 42)، أي أمام مؤمنين ضعيفين في الإيمان وسريعي العطب؟ يجب أن نحميهم بشكل خاصّ، ولهذا نسمّيهم "أطفالاً" (رج مت 18: 6 ي). بيد أننا نستطيع أن ننسى العبارة الرسالية: هم مرسلون نسمّيهم صغاراً أو بالأحرى أطفالاً (وهذا لعمري أمر غريب). إذن، نحن أمام استقبال المرسل (تشهد النصوص البولسية لاستعمال فعل داخستاي، رج 2 كور 7: 10: كيف قبلتموه؛ غل 4: 14: قبلتموني كملاك الله؛ كو 4: 10: إذا قدم مرقس فاقبلوه).
ننتقل من معنى إلى معنى، وهذا الإنتقال واضح هنا: ففي وقت محدّد لم يعد هناك من تطبيق مباشر لحدث الطفل. وفي الوقت عينه وجدت الكنيسة نفسها أمام وضع مقلق بالنسبة إلى المرسل، فبرز من هذا التقارب تعليم جديد. فالطفل صار رمزاً ودلّ في الواقع على حاملي الإنجيلى الوضعاء، أولئك الذين يوصي بهم المخلّص ويسلّمهم إلى محبّة مضيفيهم. أولئك الذين يرفعهم فيعلن كرامتهم وحقهم بأن نسمع لهم كأنبياء الخلاص المسيحاني. بما أنهم فقراء، فقد نحتقرهم. لهذا ذكرتنا بهم كرازة الجماعة.
3- طريق ابن الإنسان طريق التلميذ
أ- عناصر مجمّعة
إن التجميع الذي درسنا عناصره قد بدا لنا مصطنعاً: أمور غير عادية من الوجهة الأدبية، غياب كل رباط من الوجهة التاريخية. هذه المقطوعة التي تربط الوقائع والأقوال بالإنباء بالآلام، هي سابقة للقدّيس مرقس. ونحن نجدها في الأناجيل الإزائية الثلاثة. ثم إن المقطوعة الواحدة تتبع كلاً من إنباءات يسوع بآلامه. (1) إنباء بالآلام. (2) مشهد عدم فهم من قبل التلاميذ (رفض بطرس لآلام المسيح، مناقشة حول الأولوية، طلب يعقوب ويوحنا). (3) تعليم يسوع حول الشروط ليكون الإنسان تلميذاً (يتحد بالآلام بشكل أو بآخر).
إن هذا النمط من التجميع الذي يتكرّر ثلاث مرات، ليس وليد الصدف: فالهدف الذي أشرف على هذا التقارب ينكشف بسهولة: حين تنكشف مفارقة الصليب، فالإنسان الغريب عن مخطّط الله يأخذ الطريق المعاكس للوهلة الأولى. ولكن يُعرض عليه أن يدخل في عالم جديد يتضمّن تصّرفاً مختلفاً كل الإختلاف. ولكن آلام المسيح هي التي تفرض مثل هذا التصرف الجديد، وهي التي تجعله ممكناً.
ب- هدف الإنجيل وهذه العناصر
حين أدخل مرقس في إنجيله هذا التجميع المنظّم، أخضعه لعمل مبتكر ليخضعه لهدف يلاحقه في إنجيله.
هناك أولاً مناخ ثقيل للإنباء بالآلام خلقته عدة إشارات: إرادة يسوع بأن يبقى مجهولاً. السير. عدم الفهم عند التلاميذ والخوف من طرح السؤال على يسوع. وهذا المناخ عينه يحيط بمناقشة التلاميذ: إن سؤال يسوع الذي يعود بهم إلى الوراء، رابطاً الإنباء بالمناقشة، يدخل وجهة المفاجأة. هذه الوجهة تزداد بسبب صمت التلاميذ. كما أن المعلومة التي يعطيها الإنجيلي في صيغة غير مباشرة (يعطيها للقارئ على انفراد) لا يلغي المفاجأة. وأخيراً، إن التعارض بين الطريق والبيت اللذين يوافقان نشاطين مختلفين، وتعليمين مختلفين (هناك يسوع، يمشي ويتكلّم عن نفسه. وهنا يجلس يسوع ويكوّن تلاميذه)، يؤمّن مدى يجعل التهدئة ممكنة.
وهكذا يشكّل الإنباء الثاني بالآلام وما يتبعه في مرقس، مرحلة في مسيرة جغرافية وروحية. فموضوع الطريق يظهر في 8: 22 خلال اعتراف قيصرية فيلبّس والإنباء الأول بالآلام. ويتكرّر أيضاً في الإنباءين الآخرين بالآلام (9: 30- 34؛ 10: 32). وينتهي مع شفاء أعمى أريحا (آ 46، 52). في البداية، ابن طيما هو جالس على جانب الطريق. وفي النهاية، هو "يتبع يسوع في الطريق" الذي يقود إلى أورشليم. وتفرّد مرقس فحدّد موقع الإنباءات الثلاثة "على الطريق" في إطار سفر قاد يسوع مع تلاميذه من قيصرية فيلبّس (في الشمال)، عبر الجليل، إلى أورشليم عبر أريحا. فبدا واضحاً أنه يريد أن يعلّمنا أنه بعد اعتراف بطرس الذي هو خاتمة القسم الأول من الإنجيل الذي هو وحي غير كامل وملتبس، دشّن يسوع التحقيق الكامل لمخطّط الله، والوحي الحاسم لشخصه وعمله، فالتزم بطريق جديد يقوده إلى الموت. وطريق ابن الإنسان هذا، طريق الآلام، يبقى مفارقة خفية لا نكتشفها إلا في السرّ. سيبقى غير مفهوم ويثير الحيرة. في القسم الثاني من الإنجيل، ينقل مرقس على شخص يسوع والإنباء بالآلام موضوع السرّ الذي تطبّق على المعجزات في الجزء الأول. ونقول الشيء عينه عن الحيرة والخوف اللذين سيرافقان الإنباءات بالآلام (في القسم الثاني) كما رافقا المعجزات (في القسم الأول).
على هذا الطريق يريد يسوع أن يجتذب رفاقه. ففي الإنباء الثالث نراه يسير في المقدمة، وحده، والتلاميذ يتبعونه خائفين. فهو الذي يبادر ويطرح السؤال (وهذا هو الوضع عند مرقس في أكثر المرات). ولكنهم سيسكتون. من الواضح أنهم تعبوا من اللحاق به في هذا الطريق. وليس من قبيل الصدف أن تكون المناقشة قد جرت في الطريق: فالطريق تكوّن "مسرح" مسيرة يسوع نحو مصيره، والمسافة التي تقوم بينه وبين أخصائه. إذن، على رفاق يسوع أن يمرّوا في تنشئة صعبة ليصيروا تلاميذ حقيقيين.
وموضوع البيت الخاص بمرقس، يرتبط هو أيضاً بهذه الصور. ففي أغلب الأوقات لا يوجد البيت في أي مكان. ولكنه يقوم بوظيفة محدّدة: إليه يعيد يسوع جماعة التلاميذ الذين دعاهم فيما مضى وفرزهم ليجعل منهم عائلته الجديدة (3: 20، 31- 35). البيت هو موضع الحوارات الحميمة والشروح المحفوظة للتلاميذ (7: 17؛ 9: 28؛ 10: 10، رج 4: 10، 34)، بعيداً عن الشعب وعن الخصوم. ولكنه في هذه المرة محدد الموقع: هو بيت كفرناحوم. أما يفكّر مرقس ببيت سمعان بطرس (1: 21- 29؛ 2: 1)؟
حينئذ تصبح كل هذه الخطبة التي حرّكها تلاميذ يسوع بنظرتهم البشرية، والتي تبدأ بقول حول "الأول والآخر" وتنتهي بعبارة سرّية: "ليكن فيكم ملح. وليسالم بعضكم بعضاً" (9: 50). كل هذه الخطبة تصبح مناسبة لتفهمنا أن التلميذ قد تدرّج في طريق (سلوك) الخادم في الجماعة وبالجماعة: هناك يتعلّم أن يحلّ محلّ الاهتمام بالمكان الأول الذي يخلق التفرقة والتعارض، البحث عن المقام الأخير الذي هو السبيل الوحيد لإقامة السلام. وهكذا يصبح التلميذ قادراً حقاً على إتباع يسوع على طريق أورشليم