الفصل الثالث
بين يوحنا ومرقس تقارب على مستوى البنية والتفاصيل
إن اختلاف يو عن مر أمر معروف جداً: أسلوب خاص، عالم رمزي، إختيار أحداث جهلها مر، إغفال عناصر هامة من التقليد الازائي، خطب وحوارات لم يوردها الإنجيل الثاني. ولكننا نودّ أن نشدّد على التقارب بين مر والإنجيل الرابع. وهكذا نفهم الدور الذي لعبه مر لا في تدوين مت ولو وحسب، بل في تدوين يو أيضاً. كما نكتشف أن إنجيل يوحنا ليس بعيداً كل البعد عن التقليد الإزائي، مع ما فيه من خصائص وابتكار.
1- تقارب على مستوى البنية الإجمالية
إن أسفار يسوع في يو تبدأ كل مرة بحدث يذكر فيه اسم منطقة: عبر الأردن (يو 1: 19- 51؛ 3: 22- 26؛ 10: 40- 42). "في الضفة الأخرى لبحر الجليل" (6: 1- 16). إن الكاتب يستند إلى تبديل المشهد من اليهودية إلى الجليل كما نستشفّه من ملاحظاته حول مشاريع يسوع (يو 1: 43؛ 4: 3، 43، 46- 47، 54؛ 7: 1- 10). تبدو سلطات أورشليم حذرة تجاه يوحنا المعمدان (1: 9؛ 5: 33) ومعادية بشكل سافر للجليل (7: 1 ي) حيث يتهدّده الموت (5: 18؛ 17، 19- 25؛ 8: 37- 40؛ 10: 31- 29؛ 11: 53).
في الجليل تمّت آيتان (8: 1 ي؛ 4: 43 ي) تصلان بالتلاميذ (أو الضابط) إلى الإيمان دون أن يتبعهما جدال سلبي. أما معجزات أورشليم (5: 1 ي؛ 9: 1 ي) أو: قرب أورشليم (11: 1 ي)، فقد كانت مناسبة جدالات حامية وتهديدات. والمعجزتان على شاطئ بحيرة الجليل (أو: بحيرة طبريّة، 6: 1 ي) قد آلت إلى مناقشات حادّة دون تهديد بالموت. فاليهودية، وأورشليم بشكل خاص، هي المكان المعادي للانبياء، هذا مع العلم أن "المعلّم" جاء من الجليل (4: 44).
ونجد عند مر إشارات مشابهة وإن لم تكن ممنهجة كما في يو. فالمنطقة التي في العبر (باران، في اليونانية) تدلّ إما على بحيرة الجليل (3: 8؛ 4: 35؛ 5: 1، 21؛ 6: 45؛ 8: 13) وإما بيريه التي ليست ببعيدة عن أريحا (10: 1). ونجد أيضاً بعض التشابهات عند متى (4: 15، 25؛ 8: 18، 28؛ 14: 22؛ 16: 5؛ 19: 21). أما عند لو فلا نجد لفظة "باران" إلا مرة واحدة، بمناسبة الحديث عن عبور البحيرة.
إن التعارض بين الجليل الموافق واليهودية المعادية يُبرز بنية مر إبرازاً جزئياً: جاء يسوع من الجليل (1: 9). وهناك بدأ يكرز ويجمع تلاميذه (1: 14، 16، 28، 29؛ 3: 7). هناك أنبأ بآلامه وقيامته (9: 30). وهناك سيظهر بعد قيامته (14: 28؛ 16: 7). والعمل الرسولي سينطلق من الجليل ليصل إلى الوثنيين (7: 24- 27). ولكننا نجد رغم ذلك وجهاً سلبياً للجليل: هيرودس الذي يريد أن يتخلّص من يوحنا المعمدان (6: 17- 29).
أما أورشليم فهي المدينة التي يصعد إليها يسوع ليموت (15: 32- 33؛ 15: 33 ي) بعد دخول إحتفالي قصير إليها (11: 1 ي). ولكن قبل ذلك، كانت قد تنظّمت في أورشليم المقاومة ضدّ تعليم يسوع: نزل الكتبة من المدينة المقدسة وأعلنوا أن يسوع يمتلكه بعل زبول (3: 22). كما جاء من هناك فريسيون وبعض الكتبة فلاموا التلاميذ لأنهم يأكلون ولم يغسلوا أيديهم باعتناء (7: 1 ي). وفي أورشليم حكم عظماء الكهنة والكتبة على يسوع بالموت، وأسلموه إلى الوثنيين (10: 33، رج 11: 18). وكانت نتيجة خطأ أورشليم بفعل رؤسائها، دمارَ المدينة (ف 13).
إن الإطار الجغرافي في مر يشير إلى فكرة لاهوتية: فالخلاص المعدّ لأورشليم قد انتقل إلى الوثنيين الذين لامسهم بلاغ القائم من الموت في الجليل. وهناك وجهة اجتماعية: من هتف له الجميع في الجليل مسيحاً، حكم عليه أصحاب السلطة في أورشليم.
أما لو الذي يهتمّ بمصير أورشليم، فينهي إنجيله بالظهورات في هذه المدينة، ويدلّ بشكل عابر على أن يسوع أشار إليها في الجليل (24: 6). وهكذا ضعف التعارض بين أورشليم والجليل، وإن كان موضوع الصعود إلى أورشليم قد اتخذ في لو اتساعاً كبيراً.
وسار مت على الخطوط الكبرى التي سار عليها مر، غير أنه يشدّد على "جليل الأمم" (4: 15) ويضمّ إليه الدكابوليس (4: 25). ولكنه لا يبرز، شأنه شأن مر، الضغط الذي مارسه فريسيّو أورشليم (مت 15: 1 يشبه مر 7: 1، ولكن لا شيء في مت يقابل مر 3: 22). ثم إن الإنجيل الأول ينظر إلى أورشليم نظرة إيجابية. فهي مدينة الملك العظيم (5: 35). وهكذا لا يكون التعارض واضحاً في مت كما في مر.
ويشُرف على بنية يوحنا الاجمالية نظرة إلى سرّ يسوع. فهو يدلّ في 20: 31 على هدفه: أن يدعو القارئ إلى أن يؤمن "أن يسوع هو المسيح، ابن الله". إن المطلع يشدّد على هذين اللقبين الرئيسيين: في صورة ابن الاب الوحيد (1: 14- 18). في ذكر المسيح (1: 17). ويحاول الكاتب على مدّ الإنجيل أن يبيّن في أي معنى يسوع هو المسيح وابن الله. أولاً، بشكل مبرمج في مشهد نداء التلاميذ الأولين (1: 41- 49). ثم في الحوار مع السامرية والجدالات مع اليهود في ف 4، 5، 7- 9. أخيراً، في الحوار الحاسم في عيد التدشين (10: 22 ي) وفي اعتراف إيمان مرتا (11؛ 27). يعرف القارئ منذ المطلع من هو يسوع. أما الذين يلتقون المعلّم، فيجدون صعوبة في لقبَي المسيح وابن الله.
ونجد عند مرقس الالتباس عينه. هناك السرّ المسيحاني الذي يميّز رسالة يسوع. إن لقب ابن الله يرد في بعض الأوقات الحاسمة: في المعموديّة وفي التجليّ (1: 11؛ 9: 7)، وخصوصاً حين ينشقّ حجاب الهيكل (15: 38- 39). ويجتمع لقبا المسيح وابن الله في سؤال عظيم الكهنة (14: 60). حينئذٍ يجيب يسوع بشكل علني أنهما يعبرّان أفضل تعبير عن هويته. فما استصعب اليهود قبوله، قد وصل إلى القارئ كمفتاح لإنجيل مرقس كله: "بدء إنجيل يسوع المسيح ابن الله" (1: 1). فكما عند يوحنا، يجد القارئ نوره منذ البداية، مع كلمة "بدء" (ارخي). لا نجد في مت ولا في لو اهتماماً واضحاً بهذا الموضوع، باللقبين الرئيسيين (المسيح، ابن الله) اللذين كُشفا في المقدمة وظلاّ خفيين على مدّ الخبر الإنجيلي. حين بدأ الإنجيليان الأول والثالث بخبري الطفولة، ابتعدا عن البنية الاجمالية التي نجدها في مر والتي تنعكس انعكاساً واضحاً في يو.
2- توالي الأحداث
في الدراسات التي تقابل الأناجيل بعضها ببعض، يلعب الترتيب الذي فيه تتوالى الأحداث دوراً كبيراً. حين تحدّث الشرّاح عن ارتباط مت أو لو بالنظر إلى مر (أو: مرجع مرقس)، عادوا إلى هذا الترتيب مفسرّين الاختلافات من وجهة منهجية في مت ولو وباهتمام بادخال مواد خاصة في اللحمة المرقسية.
والمقابلة، وإن بنسبة محدّدة، بين مر ويو، تدلّ على توالي أحداث تتتابع بشكل مماثل. هناك ذكر لتسعة أحداث: عمل المعمدان وشهادته (1: 4- 8؛ يو 1: 19- 36). الذهاب إلى الجليل (1: 14- 15؛ يو 4: 3). تكثير الأرغفة (6: 24- 44؛ يو 6: 1- 13). السير على المياه (6: 45- 52؛ يو 6: 16- 21). اعتراف بطرس (8: 29؛ يو 6: 68- 69). الذهاب إلى أورشليم (9: 38- 31؛ 10: 1، 32، 46؛ يو 7: 10- 14). العشاء الأخير والانباءات بنكران بطرس (14: 17- 26؛ يو 13: 1- 17، 26). القبض على يسوع (14: 43- 52؛ يو 18: 1- 11). الآلام والقيامة (14: 53- 16: 8؛ يو 18: 12- 20- 29). وزادوا أيضاً الدخول إلى أورشليم والمسيح بالطيب في بيت عنيا مع ترتيب معاكس كان سببه يوحنا (مر 11: 1- 10؛ 14: 3- 9؛ يو 12: 12- 15؛ 12: 1- 8). ويمكننا أن نذكر تطهير الهيكل الذي يجعله يوحنا في بداية إنجيله (2: 14- 16) ومرقس في النهاية (11: 15- 17).
نحن هنا أمام تقليد شفهي أو خطيّ إستقى منه الإثنان. وسنقدّم تعداداً كبر من المقاطع بين يو ومر مع مقابلة مع مت ولو.
يوحنا مرقس
شهادة المعمدان المعمدان ويسوع (1: 2- 11؛ رج
(1: 19- 34) مت 3: 1- 17؛ لو 3: 1- 22).
التلاميذ الأولون نداء الصيادين الأربعة (1: 16- 20؟
(1: 35- 51). رج مت 4: 18- 22؛ لو 5: 1- 3، 10- 11).
قال المعمدان: يسوع هو العريس قال يسوع: يسوع هو العريس (2: 18- 22!
(3: 22- 30). رج مت 9: 14- 17؛ لو 5: 33- 39).
شفاء المقعد في أورشليم شفاء المقعد في كفرناحوم (2: 1- 12؛ رج
(5: 1- 47). مت 9: 1- 8؛ لو 5: 17- 26).
يسوع يطعم خمسة آلاف يسوع يطعم خمسة آلاف (6: 30- 44؛ رج
(6: 1- 15). مت 14: 13- 21؛ لو 9: 10- 17) ويطعم أيضاً أربعة آلاف (8: 1- 10؛ رج مت 15: 32- 39).
يسوع يمشي على المياه يسوع يمشي على المياه (6: 45- 54؛
(6: 16- 24). رج مت 14: 22- 33).
الشعب يطلب آية الفريسيون يطلبون آية (8: 11- 13؛
(6: 25- 34). رج مت 12: 38- 39؛ 16: 1- 4؛
لو 11: 16- 30؛ 12: 54- 56).
أي خبز؟ خبز الفريسيين وخميرهم (8: 14- 21؛
(6: 35- 39). رخ مت 16: 5- 12؛ لو 12: 1).
إعتراف بطرس إعتراف بطرس (8: 27- 30؛
(6: 60- 69). رج مت 16: 12- 20؛ لو 9: 18- 21).
خيانة يهوذا المقبلة الانباء الأول بالآلام والقيامة المقبلة (8: 31- 33؛
(6: 70- 71). رج مت 16: 21- 23؛ لو 9: 22).
جال يسوع في الجليل وعمل إجتاز يسوع الجليل في خفية
في الحفية (7: 1- 10). (9: 35).
الطين ولعاب يسوع على عيني لعاب يسوع على عيني الأعمى
الأعمى (9: 6). (8: 23؛ رخ 7: 33).
يسوع هو الراعي الصالح الذي الراعي (يسوع) سوف يُضرب (14: 27؛
يبذل حياًته (10: 11- 18). رج مت 26: 31).
تتشتت الخراف (10: 12؛ تتشتّت الخراف (14: 27؛
رج 16: 32). رج مت 26: 31).
المسح بالطيب في بيت عنيا المسح بالطيب في بيت عنيا
(12: 1- 11). (14: 3- 9؛ رج مت 26: 6- 13؛
وفي نصّ مختلف لو 7: 36- 38).
الدخول الظافر إلى أورشليم الدخول الظافر إلى أورشليم (11: 1- 11؛
(12: 12- 19). رج مت 21: 1- 11؛ لو 19: 28- 40).
يسوع وقلقه واضطرابه صلاة يسرع في جتسيماني (14: 32- 42؛
(12: 27). رج مت 26: 36- 46؛ لو 22: 40- 46).
العشاء الأخير العشاء الفصحي الأخير (14: 17- 25؛
(12: 1 ي). رج مت 26: 20- 29؛ لو 22: 14- 20).
إعلان الخيانة إعلان الخيانة (14: 17- 21؛
(13: 21- 30). رج مت 26: 20- 25؛ لو 22: 21- 23).
سلطان هذا العالم، قوموا إقترب ذاك الذي يسلمني. قوموا
(14: 30- 31). (14: 42؛ رج مت 26: 46).
إعلان نكران بطرس إعلان نكران بطرس (14: 26- 31؛
(13: 36- 38) رج مت 26: 29؛ لو 22: 33- 34).
يسوع هو الكرمة الحقيقية درب من عصير الكرمة (14: 25؛
(15: 1- 17). رج مت 26: 29؛ لو 22: 18).
البستان الذي في عبر قدرون جبل الزيتون، جتسيماني (14: 26- 25؛
(18: 1). رج مت 26: 30، 36؛ لو 22: 39).
القبض على يسوع القبض على يسوع (14: 43- 50؛
(18: 1- 12). رج مت 26: 47- 56؛ لو 22: 47- 53).
في قصر عظيم الكهنة (حنان) في قصر عظيم الكهنة (قيافا)
(18: 13- 14، 19- 24). (14: 53- 56؛ رج مت 26: 57- 68؛
لو 22: 54- 55، 63- 71).
إنكارات بطرس الثلاثة إنكارات بطرس الثلاثة (14: 66- 72)؛
(18: 15- 18، 25- 27). رج مت 26: 69- 57؛ لو 22: 56- 62).
يسوع أمام بيلاطس يسوع أمام بيلاطس (15: 1- 20)؛
(18: 28- 19: 16). رج مت 27: 11- 31)؛
لو 23: 1- 5؛ 13- 25).
إطلاق برأبا إطلاق برأبا (15: 6- 11، 15)؛
(18: 39- 40). رج مت 27: 15- 18؛ 20- 21، 26؛
لو 23: 18- 19).
ألبس الملك ثوب الارجوان وكلل بالشوك ألبس الملك ثوب الارجوان وكلّّل بالشوك
(19: 1- 5). (15: 16- 20 رج مت 27: 27- 31؛
في معنى مختلف أمام هيرودس لو 23: 11).
اصلبه! اصلبه (15: 13؛ رج مت 17: 22- 23؛
(19: 6؛ رج 19: 15). لو 23: 21- 23).
صمت يسوع صمت يسوع (15: 4- 5؛ رج مت 27: 12- 14؛ (19: 9). في معنى مختلف أمام هيرودس، لو 23: 9).
إلى الجلجلة إلى الجلجلة (15: 22؛ رج مت 27: 33؛
(19: 17). وفي معنى مختلف، لو 23: 33).
صلب يسوع بين شخصين آخرين صلب يسوع بين مجرمين، واحد عن يمينه
(19: 18). والآخر عن شماله (15: 25- 27؛
رج مت 27: 35، 38؛ لو 23: 33).
الكتابة "يسوع الناصري، ملك اليهود" الكتابة "ملك اليهودي (15: 26؛
(19: 19- 22). رج مت 27: 35؛ لو 23: 38).
إقتسام الثياب والرداء إقتسام الثياب (15: 14؛
(19: 23- 24). رج مت 27: 35؛ لو 23: 24).
حضور النسوة النسوة اللواتي تبعن يسوع
(19: 25). 15: 40- 41؛ رج مت 27: 55- 56؛
لو 23: 55- 56).
الاسفنجة المغموسة بالخلّ الاسفنجة المملوءة خلاً (15: 26؛
(19: 29- 30). رج مت 27: 48؛ رج أيضاً مر 15: 23؛
مت 27: 34).
يوسف الرامي ونيقوديمس يوسف الرامي (15: 42- 46؛
(19: 38- 42). رج مت 27: 57- 60؛ لو 23: 55- 53).
رأت مريم المجدلية أن الحجر انتزع رأت النسوة أن الحجر انتزع
(20: 1). (16: 1- 4؛ رج مت 28: 1- 3؛
لو 23: 1- 2).
أعلمت مريم المجدلية بطرس والتلميذ الآخر أعلمت النسوة التلاميذ وبطرس (16: 7؛
(20: 2). رج مت 28: 7: التلاميذ؛
لو 23: 9: الأحد عشر؛ 24: 12: بطرس).
رأت مريم المجدلية ملاكين يكلّماها رأت النسوة ملاكاً (أو: ملاكين) يكلّمهن
(20: 11- 12). (16: 5- 7؛ رج مت 28: 2- 7؛
لو 24: 4- 7).
الظهور على شاطئ بحيرة طبريّة. ظهور القائم من الموت عل التلاميذ في الجليل
(24: 1 ي). (16: 7؛ رج مت 28: 16- 20).
إن اللوحة التي قدمّناها تدلّ على تلاقي بين توالي الأحداث عند مر ويو، وإن اختلفت بعض التفاصيل، وتحوّل موضع هذا الحدث أو ذاك. وإذا قابلنا النصوص مع مت ولو، نجد أن المتتاليات متشابهة عند مر ويو بشكل واضح. أما الأمور التي فيها يبتعد يو عن مر، فسببها اهتمامات خاصّة لدى الإنجيلي الرابع. مثلاً، جعل دخول يسوع الظافر إلى أورشليم بعد المسح بالطيب في بيت عنيا، لأنه سبق وجعل تطهير الهيكل في بداية إنجيله (2: 13- 22). ثم أدخل في هذا الموضع قيامة لعازر التي كانت السبب في توقيف يسوع (لا طرد الباعة من الهيكل، كما قالت الإزائيون).
واختلف الترتيب بين يو ومر في بعض التفاصيل: تحدّث يوحنا عن يسوع الذي هو الراعي. أما مر فتحدّث عن تشتت الخراف. لقد أدرج يوحنا هنا أقوالاً خاصّة به. وما نلاحظه هو توالي الأحداث في يو 6 وفي الأناجيل الإزائية، وكل هذا دلالة على التقليد الواحد. والتقارب أوضح على مستوى الألفاظ والمفردات.
أما بالنسبة إلى خبر الحاش والآلام، فقد طُرحت فرضيّة جديدة: إن الأناجيل الإزائية الثلاثة أعطت التقليد الإزائي الذي اندمج بدوره مع التقليد الشفهي فأعطى التقليد الأساسي لانجيل يوحنا. ولكن جاء من عارض هذه الفرضيّة، وقال إن يو قد عاد بشكل خاص إلى مر فكان أميناً لنصّه مع إضافات خاصّة حصل عليها من مراجعه.
ونتوقّف أيضاً في يو على اتصالات مع مر وحده: سار يسوع في الجليل وعمل في الخفية (مر 9: 30). شفى الأعمى بلعابه كما في مر 8: 23. وهناك أحداث يتبع فيها يو نصّ مر، فيرافقه مت فقط: السير على المياه، الإشارة إلى الراعي والخراف المشتّتة، الدهن بالطيب في بيت عنيا، المشهد أمام بيلاطس حيث يُلبس يسوع الأرجوان ويكلّل بالشوك، المسيرة إلى الجلجلة، ظهور القائم من الموت في الجليل. ولكن بما أن تصميم متى يبتعد عن تصميم يو، يجب أن نعترف أن مر قدّم تصميماً استفاد منه الإنجيل الرابع لكي يدوّن الأخبار التي احتفظ بها. وما يؤكّد هذا القول هو براهين أخرى على مستوى التفاصيل.
3- التلاقي بين مر ويو على مستوى التفاصيل
حين ندرس التعليمات البيبلية في الأناجيل، هناك تلاقٍ بين يوحنا والإزائيين. سنتوقف أولاً عند الاتصالات بين يو ومر. بين يو من جهة ومت، مر، لو من جهة ثانية، وننهي بتفاصيل مشتركة بين يو ومر.
أ- اتصال بين يو ومر وحدهما
* نقرأ في يو 5: 8 ما قاله يسوع للمخلّع: "إنهض واحمل فراشك وامشِ". نجد الشيء عينه في مر 2: 9 وفي 2: 11. نجد صيغة الأمر في النصوص الثلاثة. ولكنها متضمنة في مر 2: 9 في السؤال. بين يو 5: 8 ومر 2: 9 هناك سبع ألفاظ مشتركة. وبين يو 5: 8 ومر 2: 11، لست ألفاظ. وهي ترد في الترتيب عينه. ما يفصل يو 5: 8 عن مر 2: 9 هو حرف العطف في مر (كاي، انهض وامشِ). وما يفصل يو 5: 8 عن مر 2: 11 هو إدخال "لك أقول" واحلال خمس كلمات في اليونانية محل "امشِ" (باريبتايو): خذ فراشك وامضِ إلى بيتك.
وما نقرأ في يو 5: 9: حمل فراشه ومشى، نجده تقريباً في مر 2: 12: "في الحال، حمل فراشه ومضى". وكلمة+ فراش "كراباتون" ليست "فصيحة". لهذا تهرّب منها مت ولو (كليني). وقدّمت الافتراضات حول امكانية نصّ مكتوب استعمله يو.
* يو 18: 39: "اتريدون أن أطلق لكم ملك اليهود"؟ وفي مر 15: 9 نجد الشيء عينه. إذا وضعنا جانباً بعض المسائل المتعلّقة بالنقد النصوصي، نجد في الآيتين ست ألفاظ ترد في الترتيب عينه. وموضع "تالاتي"، استعمل يو صيغة الأمر لفعل آخر "بولاستي" وزاد أداة محبّبة إليه "أون" (إذن). لا شي يقابل هذا النصّ في لو. ويحتفظ مت بثلاث ألفاظ: "اتريدون أن أطلق لكم"؟ هذا يعني أن يو عاد إلى مر.
* يو 12: 3: "أخذت مريم رطل طيب من خالص الناردين، كثير الثمن". وفي مر 14: 3: "أقبلت امرأة بقارورة طيب من خالص الناردين الكثير الثمن". هناك ثلاث ألفاظ وُضعت في الترتيب نفسه وهي مشتركة بين يو ومر. وهناك لفظة "بستيكاس" لم ترد قبل ذلك في هذا المعنى (الخالص). ثم إن بنية الجملة هنا وهناك هي هي. وهذا ما يدلّ على علاقة وثيقة بين الإنجيلين.
* يو 6: 7: "لا يكفيهم خبز بمئتي دينار". وفي مر 6: 37: "أو نذهب ونبتاع خبزاً بمئتي دينار". نجد ثلاث ألفاظ مشتركة في النصيّن. والسياق هو هو. في يو، نحن أمام جواب لفيلبس على سؤال يسوع. وفي مر، يسأل التلاميذ يسوع الذي يطلب منهم أن يطعموا الجميع. قد نكون هنا. أمام تقليد مشترك من النوع الشفهي، فيدلّ على العلاقة بين النصيّن.
* يو 18: 18: "وكان بطرس يصطلي". رج مر 15: 54. نجد هنا أيضاً ثلاث ألفاظ مشتركة، ثم إن بنية الجملة مشابهة عند يو ومر، وتنفصل عمّا في مت ولو. تفرّد يوحنا ومرقس فتحدّثا عن بطرس الذي يصطلي.
* يو 12: 5: "لِمَ لَمْ يُبع بثلاث مئة دينار"؟ رج مر 14: 5: "كان بالامكان أن يباع بثلاث مئة دينار". لفظتان متشابهتان، وفي ترتيب معاكس. تحدّث يو عن السعر الدقيق. أما مر فزاد "بأكثر" (ابانو). علاقات غير دقيقة بين النصيّن. ولكن يو 12: 5 يشبه مر 14: 5، ويو 11: 7 يشبه مر 14: 6 كما سوف نرى.
* يو 12: 7: "فقال يسوع: دعها". وفي مر 14: 6: "دعوها". جعل مر الكلام في فم بعضهم الذي يتحدّث عن ناردين يتلف. أما في يو، فقد جُعل الكلام في فم يهوذا. لهذا، كانت صيغة المفرد بدل صيغة الجمع في مر.
ب- اتصال بين يو، مر، مت، لو
هناك عدد كبير من الاتصالات. سنختار فقط نعض الأمثلة.
* يو 12: 8: "فالفقراء في كل حين عندكم. وأما أنا فلست في كل حين عندكم". وفي مر 14: 7: " فالفقراء معكم في كل حين، وتقدرون أن تحسنوا إليهم متى شئتم. وأما أنا فلست عندكم كل حين". وفي مت 26: 11: "فالفقراء معكم في كل حين، وأما أنا فلست عندكم كل حين".
إذا جعلنا بعض الملاحظات النصوصية جانباً، نجد أن ألفاظ يو الاثنتي عشرة موجودة في مر ومت في ترتيب شبه مماثل. وألغى مت ويو ذات الألفاظ من مر، وهذا ما يدلّ على اتصال مباشر أو غير مباشر بينهما. ولكن بما أن يو 12: 6 يتبع مر، على ما يبدو، يكون من المعقول أن مت ويو تركا الحاشية المرقسية، أو لم يجداها في المرجع الذي استقيا منه، شأنهما شأن مر.
* يو 13: 21: "الحقّ الحقّ أقول لكم: إن واحداً منكم سيسلمني". رج مر 14: 18؛ مت 26: 21 حيث نجد العبارة ذاتها. هناك اختلافات طفيفة على مستوى النصوص (تلغى لفظة "هوتي"، "أن" في بعض المخطوطات، ويقلب الفاتيكاني "أقول لكم" إلى "لكم أقول" في يو 13: 21). ثم إن يوحنا يكرّر لفظة "أمين" (الحقّ). ولكننا نجد تسع ألفاظ في الترتيب عينه. وحده مر 14: 18 زاد "الآكل معي" (رج مر 1: 10) الذي يستعمله يو 13: 18 (الآكل معي الخبز، قد رفع علي عقبه). وهكذا يكون يو أقرب إلى مر منه إلى مت.
* يو 12: 13؛ مر 11: 9؛ يو 19: 38: "هوشعنا! مبارك الآتي باسم الرب"! ترد هذه الألفاظ السبع في الترتيب عينه في الأناجيل الأربعة. أقحم مت "ابن داود" بعد "هوشعنا". ولو "الملك" بعد "الآتي". أما يو فزاد "ملك اسرائيل" بعد "الرب". وجعل مر جملة كاملة بعد "الرب": "مبارك الملك الآتي، ملك أبينا داود". لا شك بأن العلاقات واضحة بين النصوص الأربعة. وبما أن لو ومر يشيران إلى الملك كما يفعل يو، فهما أقرب إلى يو منه إلى مت.
* يو 6: 20؛ مر 6: 5؛ مت 14: 27: "أنا هو، لا تخافوا"! هناك عملية قلب بسيطة. والسريانية الكيورتونية تلغي من يو 6: 20 "لا تخافوا". ان الكلمات الأربع ترد في الترتيب عينه في مر 6: 5 ومت 14: 27 الغى يو (اغو ايمي) التي وردت عنده مراراً. نحن هنا أيضاً أمام تقليد خطيّ أو شفهيّ.
* يو 6: 69: "أنت هو قدّوس الله". مر 8: 29: "أنت هو المسيح". مت 16: 16: "أنت هو المسيح ابن الله الحيّ". هناك كلمات متشابهة في هذه النصوص الثلاثة التي تتضمن اعترافاً إيمانياً. حولّ كل إنجيلي العبارة التي وصلت إليه بالنظر إلى لاهوته الخاصّ. قد يكون يو عرف هذا الإعلان عبر تقليد خطيّ أو شفهيّ، وقد يكون مرتبطاً مع مر أو مت.
* يو 14: 31؛ مر 14: 42؛ مت 26: 46؛ "قوموا. لنذهب". كلمتان تتتابعان في النصوص الثلاثة، في يو كما في مت ومر. ولكننا لا نستطيع أن نقول بمن يرتبط يو.
ج- تفاصيل أخرى مشتركة بين مر ويو
هناك تفاصيل مشتركة في النصوص التالية: يو 1: 19- 34- مر 1: 7- 10؛ يو 2: 13- 22- مر 11: 15- 19؛ يو 6: 1- 15= مر 6: 31- 44؛ يو 6: 15- 21= مر 6: 45- 52؛ يو 12: 1- 11 = مر 14: 3- 9؛ يو 12: 12- 19= مر 14: 43- 50؛ يو 18: 15- 18، 25، 27= مر 14: 54، 66- 72؛ يو 18: 33= مر 15: 2؛ يو 18: 27= مر 15: 2؛ يو 18: 39- 40= مر 15: 6- 15؛ يو 19: 2- 3= مر 15: 16- 20؛ يو 19: 17- 24= مر 15: 22- 27؛ يو 19: 38- 42= مر 15: 43- 46؛ يو 20: 1- 2= مر 16: 1- 8.
واليك أيضاً بعض التفاصيل اللافتة
* كلمة يسوع في يو 3: 3- 5 عن الولادة من علُ، هي قريبة مما في التقليد الإزائي (مر 10: 15؛ مت 18: 3؛ لو 18: 17).
* أكدّ يسوع لا يو 4: 44 أنه لا يُكرّم نبي في وطنه. فبدا تأكيده تلميحاً إلى التقليد الإزائي (مر 6: 4؛ مت 13: 57؛ لو 4: 24). ويبدو أن يو أقرب إلى مر منه إلى الإزائيين الآخرين.
* في يو 6: 10، قال الإنجيلي إنه كان عشب كثير. وهذا ما يدلّ على اننا قريبون من الفصح (يو 6: 4). وتفرّد مر بين الإزائيين وذكر العشب الأخضر (6: 39).
* في يو 6: 26 استعمل الإنجيلي فعل "شبع" بمناسبة الحديث عن معجزة الخبز، وهذا ما يحيلنا إلى التقليد الإزائي في مر 6: 42؛ مت 14: 10؛ لو 19: 17.
* إن طلب الآيات في يو 6: 30 يشبه ما نجد في مر 8: 11؛ مت 16: 1؛ لو 11: 36. بما أن يو 6 يتبع عادة مر، فقد يكون هنا أيضاً قد تبع مر.
* في يو 6: 42؛ 7: 15، دُهش اليهود لأنهم التقوا يسوع، ابن يوسف، الذي هو "عالم" دون أن يدرس. في مر 6: 2- 3 ومت 13: 54- 56، يتساءل اليهود بشكل مماثل: من أين ليسوع هذه الحكمة، مع أننا نعرف أسرته؟
* اللعاب والطين المذكوران في يو 9: 6 يشبهان طريقة الشفاء التي تفرد مر 7: 33؛ 8: 23 وذكرها. ولا يذكر اللعاب في أي مكان آخر في العهد الجديد.
* إن مضمون قول يسوع في يو 12: 25 يوازي ما في مر 8: 35؛ مت 10: 39؟ 16: 25؛ لو 9: 24- 17: 33. إن التعارض الساميّ بين "أحب" و "ابغض" قد يعود إلى تقليد مستقلّ عن الإزائيين. وقد يكون حاشية يوحناوية. ثم إن يو 12: 26 يشبه مر 8: 34؛ مر 10: 38؛ لو 9: 23. يبدو أن يو 12: 25- 26 يقلب كلمات مر 8: 34- 36.
* إن القول في يو 12: 44- 45 و 13: 20 يشبه ما في مر 9: 27؛ مر 10: 40؛ لو 9: 48. أما نصّ 18: 5 فهو بعيد، لأنه يشمل الشقّ الثاني: "من قبلني، قبلني الذي أرسلني".
وإن القول حول قوة الصلاة في يو 14: 13- 14 و 16: 23، يشبه ما في مر 11: 24 ومت 21: 22. لكنه تحوّل تحولاً كبيراً في المنظار اليوحناوي.
* إن لاهوت يو حول البارقليط (الروح المؤيّد، في 14: 26) يرتبط بالتقليد الإزائي الذي يعكسه مر 13: 11؛ مت 10: 19- 20؛ لو 12: 11- 12؛ 21: 14- 15.
نشير هنا إلى أن الأقوال اليوحناوية التي تشبه التقليد الإزائي، هي قليلة جداً. وهي كلها في مر (ما عدا مت 10: 24 ولو 6: 20) الذي لم يورد، مع ذلك، العدد الكبير من أقوال يسوع.
خاتمة
تأثر كتّاب بالتقارب بين مر ويو. وآخرون بالتباعد. عرف البعض نظرية تدلّ على ارتباط يوحنا بهذا الإنجيل أو ذاك من الأناجيل الإزائية. غير أن الوقائع التي جمعناها تفرض علينا نظرة مرنة. لقد عرف يو مر (أو أقله، مرجعاً قريباً من مر). ولكنه لجأ أيضاً إلى تقاليد خاصّة به، شفهية أو خطيّة. ومعرفته للتقليد المرقسي واضحة جداً في ف 6، 18- 19. هناك تقارب بين يو ومر، والتقليد الشفهيّ لا يكفي ليدلّ على الاتصالات بين نصّ وآخر حتى على مستوى العبارة والألفاظ. وهكذا نستطيع القول باقتراب يوحنا من سائر الأناجيل الإزائية. قد يكون انطلق من رسمة مرقسية ولكنه أعاد كتابة نصّه بطريقة مبتكرة جعلته بعيداً عن الإزائيين الثلاثة، كما بدا لو بعيداً في قسم كبير من إنجيله عن مت ومر