الفصل الثلاثون
قرارات مجمع أورشليم 15: 19- 21، 28- 29
الخوري بولس الفغالي
ما هو الموضوع المطروح هنا؟ اعلن أع 15: 20 أربعة قرارات: الإمتناع عن ذبائح الأصنام النجسة، والزنى، والحيوان المخنوق، والدم. وأوصى الرسل والشيوخ جميع المؤمنين بأن يعملوا بها (16: 4). لماذا اعلنت هذه القرارات، ألِتسهيل العلاقات بين المسيحيين المتهودين والمسيحيين الهلينيين خاصة عندما يجلسون إلى المائدة للطعام؟ يبدو أنه في إطار مجمع أورشليم طُرحت مسألة الوضع القانوني للجماعات الجديدة وقُدّم خياران. الأول: أن ينضم المسيحيون الهلينيون إلى شعب العهد بواسطة الختان. الثاني: يُمنح "خائفي الله" مماثلاً لوضع الغرباء العائشين مع الشعب والذين يتكلم عنهم سفر اللاويين (ف 17-18). لهذا، أعطيت هذه القرارات في خطّ خطبة يعقوب.
1- حسب سفر الأعمال، قرّر يعقوب (اسقف) أورشليم أن لا يكدّس الحواجز أمام الوثنيين الذي يهتدون إلى الله. وفرض عليهم أن يمتنعوا عن نجاسات عبادة الأوثان، عن حياة لا أخلاقية، عن الحيوان المخنوق، عن الدم (15: 19-20). نجد تذكيراً بهذه "القرارت" أو بهذه "الفرائض" في 16: 4 (بأن يعملوا بها) و21: 25 (كأني بيعقوب يُعلم بولس بما حدث من قرارات في مجمع أورشليم). ففي الرسالة الرسمية الموجّهة إلى كنائس سورية وكيليكية، سُميّت هذه التعليمات "ثقلا" بين هذه الأشياء التي تفرض نفسها بالضرورة (15: 28- 29: لا بدّ منه). إذاً، نحن أمام متطلّبات لا يمكن تجنّبها، وهي تفرض نفسها بنفسها. ولكن لماذا؟ هذا هو موضوع كلامنا. نبينّ أولاً أن قرارات مجمع أورشليم طرحت مسألة الوضع القانوني للمسيحيين الهلينيين بالنسبة إلى مسيحيّي شعب اسرائيل الذين اعترفوا بالمسيح قبلهم. ونطالع بصورة خاصة برهنة يعقوب الكتابية (15: 13- 21) لنرى توافقها مع تقديم لوقا لمجمع أورشليم وقراراته.
ما هي الفرائض الواردة في أع 25: 20؟ "نجاسات الأوثان" تمنع المشاركة في اللحوم الذبائحية خلال الولائم العبادية لدى الوثنيين او يمنع شراء اللحوم التي قدّمت للأصنام وبيعت في السوق. الفريضة الثانية: "بورنيا" أو العلاقات اللاأخلاقية. أي الزنى في إطار الزواجات الممنوعة: جماع مع الأقارب، زواج مع اللامؤمنين. الفريضة الثالثة: اللحم (او الحيوان) المخنوق أي الحيوان الذي لم يُذبح بحسب متطلّبات الشريعة (رج تك 9: 4). وأخيراً: الدم الذي لا يحقّ للانسان أن يشربه: سيختلف الترتيب في 15: 29 و21: 25: ذبائح الأصنام، الدم، الحيوان المخنوق، الحياة اللاأخلاقية. حينئذ نجد في الترتيب عينه المحرّمات الواردة في سفر اللاويين. في لا 17: 7- 9: ذبائح الأصنام (التيس بشعره أو الشيطان). في لا 17: 10- 11: الدم. في لا 17: 13-14: اللحم الذي لم يصفَّ دمه. في لا 18: 6: الجماع مع الأقارب. وكما قيل في سفر اللاويين يجب ان يحافظ على هذه المحرمات بنو اسرائيل و"جير" (رج الجار في العربية وفعل جاور) أي الغريبُ الذي يقيم وسط شعب الله. فالقواعد المذكورة أعلاه تساعد على خلق علاقات حسن جوار بحيث تشكّل عقد مشاركة مع هؤلاء المقيمين في أرض اسرائيل.
لكن لا بدّ من أن نعرف كيف كان العالم اليهودي في القرن الأولى المسيحي يفهم هذه المحرّمات. مع أن الوثائق تنقصنا، إلاّ أننا نمتلك ثلاث معطيات.
المعطية الأولى: نلاحظ أن لفظة "جير" ترجمت في اليونانية إلى "بروساليتوس" أي الذي جاء حديثاً إلى البلاد (رج لا 17: 8 حسب السبعينية). وعند فيلون الاسكندراني دلّت اللفظة على الوثني المرتدّ والذي صار بالختان يهودياً بكل معنى الكلمة. أما في السبعينية، فهذه الصفة الدينية (مرتد مختون) لم تظهر بوضوح. ولقد تجنب فلافيوس يوسيفوس الكلمة المكتسبة. واحتفظ ترجوم نيوفيتي (في البنتاتوكس) بالمعنى الأصلي للكلمة فدلّ "جير" على الغريب المندمج (لا 17-18). وبعد ذلك، ماثلت اليهودية بين "جير" والمرتدّ المختون. نجد أن الأمر لم يكن كذلك قبل دمار الهيكل. فالإهتمام بالغريب الذي لا يعبد الأوثان ظلّ كبيراً. وحين كان اليهود يحترسون من الأمم (الوثنية)، كان الفكر الشمولي يدخل إلى المجامع في القرن الأول المسيحي: الله لا يجابي الأشخاص (لا يفضّل شخصاً على شخص) بمن فيهم الغرباء. هذا ما نجده في القديميات البيبلية لفيلون المزعوم. وفي اش 56: 1- 9 و57: 19 كما يقرأ في أيام السبت.
المعطية الثانية: إذا كانت اليهودية الفلسطينية (في القرن الأول المسيحي) وبالأحرى يهودية الشتات لا تطرح بالعبارات نفسها وضع الغريب المقيم، الوضع المتعلق بخائفي الله (المتّقون الذين يظلّون دون ختان، وبهذا يختلفون عن المرتدّين)، فهذا ما زال يطرح مسألة مماثلة. فهؤلاء الناس يُعتبرون يهوداً لانهم تخلّوا عن عبادة الأصنام واعتادوا على ارتياد المجامع. أما في نظر اليهودي، فلا يشكّل هؤلاء المتقون مجموعة محدّدة، بل أفراداً يجب حثّهم على الإرتداد ارتداداً كامل، وبالتالي على قبول الختان.
المعطية الثالثة: هل وجب على هؤلاء المتعاطفين أن يتبعوا قواعد محددة؟ نعم في النقاط التالية: يقبلون التوحيد والقواعد الأخلاقية التي تعني كل انسان في العالم. وبعد دمار الهيكل، برزت سلسلة من سبع محرمات نُسبت إلى نوح وفُرضت على الجميع: التجديف، عبادة الأوثان، الزنى مع الأهل، القتل، أكل حيوان حي. ونجد أيضاً في كتب الترجوم لائحة دينية عن عبادة الأصنام وعن كشف عورة الأقارب (أو الجماع مع الأهل)، وعن سفك الدم. نلاحظ في كل هذه الحالات تشديداً على الطابع الأخلاقي لفرائض سفر اللاويين الطقسية. مثل هذه الظاهرة في العالم اليهودي تذكرنا بإتجاه مماثل يعبر عنه النصّ الغربي في أع 15: 20، 29. يتحدث عن الإمتناع عن نجاسات عبادة الأوثان، عن الحياة اللاأخلاقية (بالمعنى العام للكلمة)، عن الدم (أي عن القتل). و"لا تصنع للآخرين ما لا تريد ان يصنع لك". يستعيد هذا العنصر الأخير القاعدة الذهبية (وإن بصفة سلبية) المتعلقة بالغرباء المندمجين التي نقرأها في لا 19: 34: تعاملون الغريب المقيم عندكم كالصريح كواحد منكم. تحبه كنفسك.
2- وإذا أردنا أن نفهم السبب الذي لأجله وُضعت هذه القرارات "الطقسية"، نطرح السؤال المعروف: هل تمسّ هذه الممارسة مشكلة المائدة (أي جلوس اليهود والوثنيين إلى مائدة واحدة) دون تفرقة دينيّة بطريقة مباشرة؟ هل تحاول أن تنظّم علاقات المشاركة في المائدة بين المسيحيين الهلينين والمسيحيين المتهودين؟ هناك شرّاح عديدون يؤكدون ذلك، لاسيّما وأن ما ذُكر في هذه القرارات يشير إلى لحوم الأوثان والحيوان المخنوق والدم. ولكن هذه الفرضية تلقى اعتراضات خطيرة. فإن وظيفة هذه المحرّمات لا تسهّل في إطار يهودي علاقات المائدة التي ما زال اليهود والوثنييون (مع المتقين لله) يدافعون عنها. ثم يتحدّث النصّ عن فساد الاخلاق لا عن منع الخنزير وسائر الأطعمة النجسة (كما في الشريعة). فالامتناع عن الخنزير يميّز اليهودي في نظر الوثنيين في القرن الأول المسيحي، وهو من هذا القبيل على مستوى ممارسة الختان وحفظ السبت. إذاً، إن اختيار هذه المحرّمات الأربع يتطلّب تفسيراً يتجاوز مشكلة المشاركة في المائدة دون أن يلغيها نهائياً، لأن المائدة هي من الأمكنة المميّزة التي فيها تتعرف جماعة إلى نفسها في وحدتها وحدودها. وها نحن نقدم في خطّ المحرّمات المتعلقة بالغرباء المندمجين (رج لا 17- 18) الإفتراض التالي: لا تتوخّى المحرّمات الأربع المذكورة أعلاه ان تحدد وضع المسيحيين الهلينيين بالنسبة إلى اليهود الذين آمنوا بالمسيح. ان احترام هذه القواعد هو تصرف اجتماعي محدد في ممارسة تساعد على تمييز مجموعة خاصة والتعرف إليها.
وإذا أردنا أن ندرك الوضع إدراكاً دقيقاً نقدّم ملاحظتين. الأولى: كانت مسألة الإعتراف القانوني جوهرية في العالم الهلنستي لتستطيع مجموعة من المجموعات أن يكون لها وجود في نظر السلطة فلا تلاحقها الشرطة. كانت السلطة تهتمّ بحقّ التجمّعات وتحدّد لها قواعد تسير عليها. من هذا القبيل لعبت الشريعة دوراً كبيراً، فاعطت الجماعات اليهودية المشتتة الإعتراف الشرعي (اعترفت بها السلطة). الملاحظة الثانية وهي الأهم. قبل مجمع أورشليم الذي تحدّد موقعه خلال السنة السبتية 48-49، نحن في وقت لم يعترف فيه المجتمع بعد بالجماعات المسيحية، رغم نموّها في وسط المتقين (لله) الذين يدورون في فلك المجامع (التي كان يرتادها المسيحيون). بل نحن في وقت لم تع "الكنيسة" بعد أنها تشكّل مجموعة مستقلة وشعباً جديداً. وإذا تتبعنا الكرونولوجيا الأدبية لرسائل بولس، نستطيع القول إن وعي الكنيسة بأنها تؤلّف كياناً مميزاً عن غيره من الكيانات، لم يفرض نفسه حقاً إلاّ بين السنة 51 (1 تس) وسنة 54 (1 كور، غل) وفي الكنائس البوليسية بادىء ذي بدء. قد نضل حين نقرأ ما كتبه لوقا عن العنصرة. ولكن هذا النصّ يقدّم لاهوت الكنيسة خلال السنوات 80- 90 وقد جعله الكاتب في بداية التاريخ الكنسي كخطّ اول يُحتذى به. فقبل هذا الوقت، ظلّت الجماعات المسيحية (التي لم تكن كلها بولسيّة) منقسمة حول مسألة الوجود الكنسي ولاسيّما حول الوضع الذي يُمنح للوثنين. هناك ثلاث امكانيات:
الإمكانية الأولى: ظل الختان، وهو طقس الدخول في شعب العهد، دائماً ضرورياً لكي يستطيع الغرباء المعترفون بالمسيح أن ينتموا إلى شعب الله (15: 1: "لا حظّ لكم إلا إذا اختتنتم"؛ 15: 5: "يجب أن يختتن الوثنيون ويعملوا بشريعة موسى"). عليهم أن يصيروا "مرتدّين مختونين" حسب ممارسة الكتبة الفريسيين في ذلك الوقت. لن نقلّل من قيمة هذا الخيار، لأن المسيحيين المتهودين الذي يعلنونه ظلّوا على مستوى تعلق ضيّق وموسوس بالشريعة.
فلنتذكر الأسباب التي أبرزت مطالبتهم. أولاً: بدون الاختتان لا ينتمي الوثنييون المعترفون بيسوع إلى أي شعب. يكونون بلا شعب، يُقتلعون من محيطهم الأصلي ولا يُزرعون في مكان آخر. وهذا يعني أنهم لا شرعيون. ثانياً: حينئذ تصبح الطريق المسيحية خياراً دينياً من النمط الفردي، دون أن يكون له أي بعد اجتماعي. ثالثاً: أين وحدة شعب الله وأين تواصل شعب الوعد، وأين أمانة الله وآنيّة تعليمه؟ كل هذا يدلّ على أننا نتنكّر للكتب المقدّسة. رابعاً: هناك خطر على الرسالة المسيحية إذا لم يكن الرسول مع اليهود كاليهود ليربح اليهود (1 كور 9: 20). خامساً: هناك خطر الوصول إلى فقدان الشريعة: يصيرون "بلا شريعة" (2: 23؛ روم 2: 12) كالوثنيين. سادساً: في إطار فلسطين السياسي العائش غلياناً وطنياً، لم يكن من الموافق أن يتهرّب المسيحي "من صليب المسيح" (غل 6: 12)، أن يتهلين (أي أن يترك تراثه ويتعلق بقيم العالم الهليني). هذه الإعتراضات التي اصطدم بها بولس دوماً تحمل أهمية خاصة. ولكن خصوم بولس الذين كانوا يهوّدون (يفرضون القيم اليهودية) المسيحيين الهلينيين، لم يكونوا اناساً محدودين ينقصهم الحسّ الرعائي والرسولي. ولكن بولس رفض أن تُسلب حرية المسيحيين مهما كان الثمن.
الإمكانية الثانية: وبقي حلّ ثان للجماعة: أن تعطي الوثنيين المرتدين وضعاً مشابهاً للغريب المندمج (كما في سفر اللاويين). وهكذا يعيش يهود اعترفوا بيسوع وظلّوا متعلقين بشعب الوعد، بجانب وثنيين صاروا مؤمنين واعتبروا غرباء مندمجين. هؤلاء الوثنيون يشاركون في الإيمان عينه دون أن يرتبطوا بالدرجة نفسها بالشعب المسيحاني. إذاً، القرارات الضرورية (لا بدّ منها) التي اتخذت (حسب أع 15) في إطار مجمع أورشليم، ستساعد على التعايش بين الأوساط المسيحية المختلفة دون أن ينقسم شعب الله ودون ان تتأذّى الرسالة. بعد هذا، سيختلف المسيحيون الهلينيون عن المتقين (لله) الذين يرتادون المجامع بطريقة فردية، فيُعتبرون مجموعة خاصة دون أن يُفرض عليهم الختان؛ إن حقليَ النشاط الرسولي ينبعان من هذا الإعتراف: هناك من يتوجّه إلى اليهود، وهناك من يتوجّه إلى الوثنيين (غل 2: 9). في هذا الإطار، ساعدت القرارات الأربعة (جمعها التفسير المسيحي المتهود في قراءته لنصّ لا 17: 18 وفي تقليد المجمع) على تمييز هؤلاء "المتقين" (لله) الذين هم من نوع خاصّ، تمييزاً اجتماعياً. ولكن مع ذلك، لم تتنظّم علاقات المائدة: قبل حدث أنطاكية، ظلّ الناس يتوزعون على المائدة حسب محيطهم الأصلي.
فإن برهنة يعقوب التي نقرأها في أع 15: 13- 20 تتوافق مع هذا الخيار الثاني. فحسب تقديم لوقا للأمور، شدّد تدخّل بطرس (إن بطرس كما يحدّثنا عنه لوقا يأخذ باسلوب بولسي تام) على أن الإيمان ينقي بعد الآن الوثنيين النجسين، وأن النعمة تخلّصهم دون نير الشريعة (15: 7- 11). واستعاد يعقوب عنصراً من هذه الخطبة، وبرّرها منطلقاً من الكتب المقدسة: "إهتمّ الله بأن يتخذ من بين الأمم شعباً لاسمه" (15: 14). لا يسبق كلمة "شعب" أل التعريف كما في 18: 10: "لي شعب كبير في هذه المدينة". إن كلمة "لاوس" تدلّ عادة عند لوقا على شعب اسرائيل ما عدا في هاتين الحالتين: منذ الآن صارت الأمم الوثنية، شعب (الله) دون ان تكون شعب اسرائيل. يبدو مثل هذا التأكيد غريباً وشاذاً. هل هناك شعب آخر غير شعب العهد؟ وكيف نفسّر هذه الوحدة التي ظهرت في إستعمال كلمة لاوس لندلّ على اسرائيل المسيحي والأمم المرتدّة، وهذا التمايز الذي عبّر عنه غياب أل التعريف؟
تتيح لنا برهنة يعقوب أن نقدّم أقله جواباً على قسم من السؤال. تستند البرهنة إلى نصّ عا 9: 11- 12 اليوناني والقريب من السبعينية. فلو عدنا إلى العبرانية لوصلنا إلى نتيجة معاكسة لتلك المعروضة هنا. نقرأ في العبرية: "في ذلك اليوم أقيم مسكن دواد... لكي يرثوا بقيّة آدوم (شعب في شرقي الأردن، في العبرية "أدم") وجميع الأمم الذين دُعي اسمي عليهم". أما صاحب أع فكتب: "بعد هذا سأرجع وأقيم (أبني) خيمة داود المتهدّمة. يسعى سائر البشر (آدم في العبرية، رج آدم الذي يدلّ على البشرية) إلى الربّ وجميع الأمم الذين دُعي اسمي عليهم" (أع 15: 16- 17). إذن، إن القيام المسيحاني لاسرائيل المجدّد، يؤدّي إلى إرتداد الأمم. ففي قطعة من مغارة قمران الرابعة نقرأ تفسيراً مسيحانياً لنصّ عاموس هذا: كما كتب: "أقيم خيمة داود التي سقطت. خيمة داود هذه التي سقطت هي التي ستقوم من أجل خلاص اسرائيل". في أع، تدلّ خيمة داود على الشعب المسيحاني بصورة خاصّة أي اسرائيل الذي صار مؤمناً. ولكن نتيجة هذا القيام أو بالأحرى غايته هي ارتداد الوثنيين: لكي يسعى سائر البشر. فلو انطلقت برهنة يعقوب من نصّ عاموس العبري، لأدّت بنا إلى الضرورة بأن يضمّ شعب اسرائيل الذي يعترف بالمسيح، أن يضمّ في حضنه الوثنيين الذين آمنوا. هذا ما نقرأه في زك 2: 15 القريب من أع 15: 14: "في ذلك اليوم، يتعلّق شعوب عديدون بالرب، يكونون له شعباً". وحدّد الترجوم: "وتُزاد شعوب كثيرون على شعب الرب، ويكونون شعباً أمامي". أما برهنة يعقوب فتحافظ على التمايز بين اسرائيل و"الشعب" الذي خرج من بين الأمم. إن اسرائيل المسيحي هو جزء من الكنيسة، ولم يسمّه لوقا يوماً "اسرائيل الجديد". لا شكّ في أن هناك أولانية لاسرائيل المؤمن. ويبقى الرباط الرسالي هدف قيامته المسيحانية. غير أننا لم نعد على مستوى ما قاله الترجوم (زيادة، دخول شعب آت من الخارج)، بل على مستوى انضمام شعب اسرائيل والشعوب الوثنية إلى الكنيسة التي هي سابقة انطولوجيا (على مستوى الكيان) للشعوب والأمم.
يبدو هذا البرهان المنسوب إلى يعقوب وكأنه برهان المسيحيين الهلينيين الذين من أصل يهودي. ما يؤكد هذا القول هو استعمال نصّ عاموس اليوناني وتماسك الفكرة والأخذ بالقرارات. فهذه القرارات لم تتكلّم عن دمج أو انضمام، بل مشاركة. أجل، لم يعد للمسيحيين المتقين (لله) أن يصيروا من المرتدين أي أن يختتنوا ليصيروا يهوداً قبل أن يصيروا مسيحيين.
الإمكانية الثالثة: عكس الخياران السابقان فكرةَ المسيحيين المتهودين: العبرانييون (تكلّموا الأرامية) من جهة، والهلينيون (تكلموا اليونانية) من جهة ثانية. ولكن برزت اعتراضات خطيرة وإحدى علاماتها ما حدث في أنطاكية (غل 29: 11- 21). ما الذي حدث في انطاكية؟ كان بطرس يأكل مع غير المختونين دون أن يهتمّ بقواعد الطهارة الطقسية. فلما وصل رجال من عند يعقوب، إعتزل مائدة المسيحيين الهلينيين. لا ننسى أن المائدة كانت حينذاك اسمى مكان بالنسبة إلى الجماعة المسيحية في الكلمة والطعام معاً.
إن التعدّي على قواعد الطعام لم يكن غريباً في ذلك الوقت حتى في محيط يهودي (ولا ننسى بطرس في بيت كورنيلويس،: 3). ولكن اعتزال بطرس مائدة المسيحيين الهلينيين (غل 2: 12) دلّ بوضوح على أن المسيحيين الأمميين (أي من أصل وثني) لا ينتمون إلى شعب العهد، بل ليسوا مسيحيّين بشكل كامل (هم أنصاف، مسيحيين). فكأني ببطرس يدفعهم إلى أن يتهوّدوا أي أن يعودوا إلى شرائع العالم اليهودي. فقد قال بولس: "إذا كنت أنت اليهودي تعيش كالوثنيين لا كاليهود، فكيف تُلزم الوثنيين أن يتهوّدوا، أدن يعيشوا كاليهود" (غل 2: 14)؟ فلم يبقَ بعد هذا إلاّ حلّ واحد هو حلّ بولس الذي يقوم جوهرياً بأن يجعل المسيحيين الهلينيين يعون أنهم ينتمون هم أيضاً إلى شعب الوعد: الكنيسة موجودة وهي تتميّز منذ اليوم عن اسرائيل القديم. وهكذا، ما طالب به المسيحيون الهلينيون قد حصلوا عليه وأقرّ به المجمع: "لم تعودوا غرباء أو دخلاء (أو ضيوفا أو مهاجرين أي غرباء دمجوا في الشعب اليهودي) بل أنتم مواطنون مع القديسين ومن أهل البيت" (أف 2: 19). لا شكّ في هذا الخيار مزّق الجماعات المسيحية ووضع أمام الكنيسة مشكلة علاقاتها مع اسرائيل.
3- لا نظن أنّ موقف بولس (وبكلمة "انجيله") فرض نفسه في كل مكان. ففي هذه النقطة كما في نقاط اخرى، تأخّر الفكر البولسي ليدخل (جزئياً) إلى الكنيسة. وإذا بسّطنا بعض الشيء رسمة التاريخ، نستطيع ان نتساءل: أما انتقلت الكنيسة تدريجياً من الخيار الثاني إلى الخيار الثالث (هذا إذا وضعنا جانباً بعض الجماعات المسيحية المتهودة)؟ فنحن نلاحظ أن القرن الثاني ما زال يعمل بقرارات مجمع أورشليم. فأكل الدم ظلّ أمراً مكروهاً وكذلك الحيوان المخنوق. إذن، اتبعت الكنائس مدة طويلة فرائض أورشليم، وإن فسّرتها تفسيراً اخلاقياً ودمجتها في نهج كنسي.
إذا عدنا بعض الشيء إلى الوراء، نلاحظ أن القرارات كانت سارية في زمن لوقا. وإلا كيف نفهم أن يكون صاحب أع قد ذكر في كتاب يسيطر عليه الروح هذه القرارات وأسبقها بالعبارة التالية "الروح القدس ونحن قرّرنا" (15: 28). إن قرارات الروح آنية دائماً. وإن بولس (كما نراه عند لوقا) قد نقل هذه القرارات بأمانة (16: 4). وهذا ما يذكره أع أيضاً في 21: 25: "أما الوثنييون الذين اًمنوا، فكتبنا لهم برأينا". وعلى مستوى الكتاب، يتوجّه هذا التذكير لا إلى بولس، بل إلى قراء أع. أجل. لا يُعلم يعقوب بولس بوجود رسالة المجمع (15: 23- 29)، بل هو يُعلم المؤمنين العائشين حوالي سنة 85.
هل نستطيع مع ذلك أن نكوّن فكرة عن أحداث سنة 48-49 في أورشليم؟ ولنحدّد السؤال: ما قيمة تقديم لوقا لهذه القرارات في إطار جماعة أورشليم؟ يرى النقّاد إجمالاً بأن لا قيمة تاريخية لها. هنا يجب أن نفصل قرار المجمع المتعلّق بالختان عن الفرائض الأربع التي قد تكون اعلنت بعد حادثة أنطاكية. فحين يورد بولس في غل 2: 1- 10 ما حدث في أورشليم، فهو يعلن بوضوح أنه "لم يُفرض عليه شيء" (غل 2: 6). وهو يدلّ بذلك على الفرائض المذكورة أعلاه. ثم إن حادثة أنطاكية لم تكن لتحصل لو كانت الفرائض الأربع قد أعلنت في أورشليم. هذا رأي من الآراء، ولكن هناك رأياً معاكساً نفضلّه.
سبق وقلنا إن الفرائض المختلف عليها لا تنظّم علاقات المشاركة في المائدة بين المسيحيين المتهودين والمسيحيين الهلينيين، بل بالعكس: فحين. أعطت قرارات أورشليم المسيحيين الهلينين وضعاً قانونياً (إنهم مشاركون لهم)، أسندت موقفَ "قسمة الموائد"، كما انقسم المؤمنون إلى موائد منفصلة بعد الصعوبات بين العبرانيين والهلينين بالنسبة إلى الخدمة (6: 1-7). وقد ذكر بولس انفصال الموائد وتجاوزه الموقف على يد بطرس خلال حادثة انطاكية وحالا بعد وفاق أورشليم (غل 2: 2). ونقول أيضاً: أوجز بولس نفسه النتائج الرسالية لوفاق أورشليم بهذه الكلمات: "رأوا ان الله عهد إليّ في تبشير غير المختونين (أي غير اليهود) كما عهد إلى بطرس في تبشير المختونين" (أي اليهود) (غل 2: 7). فكيف استطاعت الجماعة المسيحية التي تحفظ حسّ الوحدة بيد ممدودة للوفاق (غل 2: 9)، كيف استطاعت أن تميّز حقلين رساليين (وبالتالي أن تفصل الجماعة المسيحية إلى مائدتين) دون اكليزيولوجيا (نظرة كنسيّة) قريبة من تلك التي عبرّ عنها يعقوب في أع 15: 13- 21؟ إن "شعب" المسيحيين المتّقين ظلّ متحداً بالشعب المسيحاني بعقد مشاركة يدلّ على اولوية اسرائيل المسيحي وتبعية الأمم (الوثنية) المؤمنة، ولكنه ظلّ أيضاً منفصلاً عنه: وهذا ما تشهد عليه الكلمة من أجل فقراء أورشليم التي يتكلم عنها بولس في غل 2: 10 (نتذكّر الفقراء). ولكن يعترض معترض: إن بولس يعلن أنه لم يُفرض عليه شيء في أورشليم إلاّ هذه الكلمة. وفي الواقع لم يكن للمسيحيين الهلينيين أن يتحمّلوا كما في الماضي نير الشريعة. ولكن هذا لم يمنع بولس من أن يكتب: "ليس الختان شيئاّ، ليست الغرلة (عدم الختان) شيئاً، بل الخير كل الخير في العمل بوصايا الله" (1 كور 7: 19). فعلى كل واحد أن يبقى في وضعه الأصلي (إن كان يهودياً يبفى يهودياً، وإن كان وثنياً لا يأخذ بعوائد اليهود) دون آن ينسى القواعد الأساسية التي تطبّق أيضاً على المتقين لله. والضرورات (لا بدّ) التي يتكلم عنها الكتاب (أع 15: 20، 28-29) ليست وصايا بالمعنى الحرفي للكلمة: إنها تحدّد وضعاً قانونياً يفتح للمسيحيين الهلينيين امكانية وجود اجتماعي (هم يؤلفون جماعة وليسوا افرداً متفرقين). إنها تفتح طريق الحرية دون أن وضع المؤمن لنير جديد. ثم لا ننسى أن غل دوّنت يوم كان بولس يصارع من اجل الخيار الثالث: إن المسيحيين الهلينيين هم ايضاً شعب الموعد ووارثو ابراهيم. وفي إطار هذا الحلّ الجذري، لا يتردّد بولس في ان "يقفز" فوق الفرضية التقليديّة التي تتعلّق باللحوم المقدّمة للأصنام (1 كور 8- 10). لن يكون هذا الأمر سهلاً في ما يخصّ الأخلاق (1 كور 5: 1- 2، 9- 10؛ 6: 9؛ 7: 2). إن مثل هذه العلاقة بين لحوم الاوثان والقضايا الاخلاقية يذكرنا بنصّ أع 15: 20، 25 ورؤ 2: 14، 20. ولكن بولس، في غضبه، لم يذكر هذه القرارات التي يحملها اناس يُعتبرون من كبار المؤمنين (غل 2: 6) والتي تعارض انجيله... إن قبلَ بهذه القرارات، عارض جوهر ما أعلنه للغلاطيين: أنتم حقاً كنيسة المسيح وشعب الوعد. غير أن الكنائس قبلت بهذه القرارات وإن عملت على تفسيرها. وجماعات لوقا لم تتبع مباشرة منطق بولس الجذري. ففي انطاكية نفسها تردد برنابا في اتباع بولس.
وختاماً نقول إن القرارات الأربعة اتُخذت في إطار مجمع أورشليم، وهذا ما تفترضه شهادة بولس. وإن ما يقوله لوقا مهمّ بقدر ما انه لم يكن يعرف البعد الحقيقي للقرارات المذكورة. فضمَّ البرهنة اليهودية المسيحية (يعقوب) إلى قرارات تحدد الوضع الإجتماعي للمسيحيين المتقين (لله). وهذا الجمع بين امرين لم يأتِ صدفة، بل يدلّ على معرفة بتقاليد الكنيسة الأولى.