الفصل الرابع والعشرون
اعلان الإنجيل والسعي نحو الوحدة
رواية اهتداء قرنيليوس
(10/ 1- 11/ 18)
المطران أنطوان أودو
المقدمة
في أواخر الألف الثاني لتجسد الرب يسوع المسيح واستعداداً لإنطلاقة جديدة في بداية الألف الثالث، تدعونا الكنيسة اليوم إلى إعلان جديد لإنجيل في عالم حقّق انجازات تكنولوجية متطوّرة ولكنه لا زال يبحث عن العدالة والسلام. ودراسة سفر الأعمال تجعلنا أولاً ننظر بثقة إلى هذا المستقبل الآتي، إذ نجد فيه مسيرة الكنيسة التي انطلقت من أورشليم بعد صعود المسيح إلى السماء إلى أن وصلت إلى أقاصي الأرض إلى عاصمة الأمبراطورية الرومانية. فالوحي الكتابي لا يهتم بالنهايات بقدر ما يهتم بالبدايات الجديدة، لأن الروح القدس هو الذي يعمل في قلب الكنيسة والعالم، وهو الذي يقودهما دوماً على طريق السلام والوحدة. ينير سفر الأعمال مسيرتنا في إعلان الإنجيل كما أنه يهتم بتدرّج هذا الإعلان مع كل ما رافقه من صراعات عرقية واجتماعية كانت تحول دون الوحدة.
والدراسة التفسيرية المفصّلة لما سمّيناه "رواية اهتداء قرنيليوس" (10/ 1- 11/ 18) تحملنا على تجديد أساليب قراءتنا لهذا النوع الأدبي "الرواية"، وتمدّنا بجرأة وفطنة حياله مختلف الإنقسامات التي نعيشها في عالمنا. لذلك قسّمنا بحثنا إلى ثلاث مراحل. ففي المرحلة الأولى نتوقف عند البنية الأدبية وكل ما يرتبط بها، أما في الثانية فنتوّسع في دراسة تفسيرية لمختلف الأقسام مشدّدين على فكرة اعلان الإنجيل وتجاوز الصراعات الاجتماعية، وأخيراً ننتهي إلى استنتاجات لاهوتية- راعوية "أم حياتنا اليوم.
1- المرحلة الأولى: القرائن الأدبية
أ- القرائن الأدبية في 10/ 1- 11/ 18
أولاً- رواية قرنيليوس و"أعمال بطرس" (9/ 32- 11/ 18)
ان رواية قرنيليوس التي نحن في صدد دراستها هي جزء من مجموعة روائية أوسع سمّيت بـ "أعمال بطرس" (9/ 32- 11/ 18) لما فيها لبطرس من مكانة متميّزة. وفيها يروي لوقا ذهاب بطرس إلى اللّد ويافا وقيصرية وهي مدن تقع على شاطىء البحر الأبيض المتوسط. أما رواية قرنيليوس فلها مركز الصدارة في "أعمال بطرس" إذ تحتوي على 66 آية من أصل 68 (أعمال بطرس). ففي الآيات الى 12 التي تسبق رواية قرنيليوس يتحدّث لوقا عن شفاء مقعد اللدّ (9: 32-35) وعن قيامة طابيثة في يافا (9/ 36-42). وتتميّز هاتان القطعتان عن رواية قرنيليوس من حيث هما تسردان علينا عجيبتين، ولا نقع فيهما على موضوع خلاص الوثنيين. فالجماعات التي يزورها بطرس والأشخاص الذين ينالون الشفاء هم كلهم يهود متنصرون.
ثانياً- أين تبدأ الرواية في 9/ 43 أم في 10/ 1؟
عندما ينتهي لوقا من رواية قيامة طابيثة (36/9- 42) وقبل أن يبدأ بالحديث عن قرنيليوس (15/ 1-3) يذكر أنّ بطرس مقيم لدى سمعان الدباغ وذلك في 9/ 43. وهذه الآية غير مرتبطة بالآية التي تسبقها في 9/ 42 ذكر أنّ خبر الأعجوبة قد انتشر وأنّ خلقاً كثيراً آمن بالرب، وهذا أيضاً ما نلاحظه في آخر رواية شفاء اللّد (9/ 35). بينما ذِكْرُ بيت سمعان الدباغ الذي يقيم عنده بطرس يَظهر في رواية قرنيليوس في 10/ 6 وفيه تدور بعض أحداث الرواية (10/ 9-23 آ). فهل تبدأ روايتنا في 9/ 43؟
* لدينا حجتان تدعمان هذا الإقتراح:
1- ان الآية 9/ 43 لا صلة لها بما يسبق. فان بطرس لا يمكث في بيت طابيثة التي أقامها ولكن عند رجل غير معروف حتى الآن ولا تربطه به علاقات صداقة.
2- ان العبارة اليونانية التي تبدأ بها الآية 9/ 43 Egeneto de هي ما نجده في بداية مقطع جديد لدى لوقا (4/ 5 و9/ 32 و14/ 1).
* على الرغم من هذه الروابط بين الآية 9/ 43 ورواية قرنيليوس فإن لدينا مؤشرات تشير إلى عدم ربط 9/ 43 مع رواية قرنيليوس، وبالتالي فبداية الرواية هي في 10/ 1 و9/ 43 ليست إلاّ آية انتقالية:
1- ان الفاعل في 9/ 43 مستتر ومن دون الرجوع إلى ما سبق لا نستطيع أن نعرف من هو الشخص المعني. ولذلك من الصعب أن تكون هذه الآية بداية رواية جديدة.
2- لا نجد لـ 9/ 43 ربطاً مع 10/ 1. لو أراد لوقا أن يجعل من 9/ 43 مقدمة لرواية قرنيليوس لكان بدأ كما فعل في 19/ 1 حيث لجأ إلى جملة زمنية رابطاً بين إقامة أبلّس في قورنتس ووصول بولس إلى أفسس.
هذه المؤشرات تجعلنا نقول ان الآية 9/ 43 هي آية انتقالية بين الأعجوبتين التي سبقت ورواية قرنيليوس التي تتبع.
* لدينا أيضاً مؤشرات تجعل من رواية قرنيليوس تبدأ في 10/ 1
1- فالعبارة "رجل اسمه"... تبدأ في أعمال الرسل مقطعاً جديداً كما في 5/ 1 و 8/ 9 (راجع أيضاً 9/ 10 و36 و18/ 24).
2- وفي "أعمال بطرس". تبدأ الروايات مع ذكر اسم المكان الجديد والأشخاص الجدد 9/ 36 يافا وطابيثة. وكذلك في 10/ 1 لدينا قيصرية و قرنيليوس.
ثالثاً- الخاتمة في 11/ 18
لا نقع على صعوبات في تحديد خاتمة رواية قرنيليوس. ففي 11/ 18 يترك بطرس والمختونون ساحة الأحداث ويختفون، وفي 11/ 19 لدينا مشهد جديد لا علاقة له بما سبق، ولكنه يرتبط على الأكثر مع 8/ 4.
ب- بنية النصّ الأدبية
بعد أن حدّدنا القرائن الأدبية لنصّنا، لننتقل الآن إلى طرح السؤال حول بنيته الأدبيه.
أولاً: المؤشرات الأدبية للبنية الأدبية
للنوع الأدبي "الرواية" مؤشرات أدبية خاصة به تجعلنا نكتشف بنيته الأدبية وهذه المؤشرات هي المكان والزمان والأشخاص وعملهم. فأي تغيير في أحد هذه العناصر يشير إلى مقطع جديد في الرواية. لا بد أيضاً من أن نزيد على هذه العناصر الأنواع الأدبية التي يختارها المؤلف كوسيلة للتعبير، في كل مرحلة من مراحل الرواية.
إليك بعض العناصر الأساسية في رواية قرنيليوس
1- البنية الزمانية
(1) 10/ 1- 8 اليوم الأول
(2) 10/ 9-23 آ اليوم الثاني
(3) 10/ 23 ب اليوم الثالث
(4) 10/ 24- 48 اليوم الرابع
(5) 11/1-18 أورشليم
2- البنية المكانية
- حسب المكان بشكل عام
(1) 10/ 1-8 قيصرية
(2) 10/9- 23 يافا
(3) 10/ 24-48 قيصرية
(4) 11/ 1-18 أورشليم
- حسب المكان بشكل خاص
(1) 10/ 1- 8 بيت قرنيليوس
(2) 10/ 9-16 السطح
(3) 10/17-23 آ أمام بيت سمعان الدباغ
(4) 10/ 23 ب- 36 الرحلة وأمام بيت قرنيليوس
(5) 10/ 27- 48 بيت قرنيليوس
(6) 11/ 1-18 في أورشليم
3- الأشخاص
(1) 10/ 1- 8 قرنيليوس
(2) 10/ 9-16 بطرس
(3) 10/ 17-23 آ بطرس ورسل قرنيليوس
(4) 10/ 23 ب-48 بطرس ومرافقوه الى يافا
قرنيليوس وأهل البيت والمدعوون
(5) 11/ 1 الرسل ومسيحيو اليهودية
(6) 11/ 2-18 بطرس ومرافقوه من يافا
لا تساعدنا هذه المؤشرات المختلفة على تقطيع الرواية بطريقة واحدة وهذا مما يجعل الدارسين غير متفقين على تقطيع واحد.
هناك إقتراحات عدّة في التقطيع تتراوح من أربع مشاهد وحتى الثمانية. إننا قد اعتمدنا التقطيع إلى سبعة مقاطع كما يلي، والدراسة التي سوف تتبع هي برهان على صحة مثل هذا الإختيار.
1- 10/ 1- 8: رؤية قرنيليوس
وحدة الأشخاص: (قرنيليوس) وحدة المكان: (قيصرية)
وحدة الزمان: (اليوم الأول). النوع الأدبي: رؤية وتنفيذ الأمر.
2- 10/ 9- 16: رؤية بطرس
وحدة الأشخاص: (بطرس) وحدة المكان: (السطح) النوع الأدبي: رؤية.
3- 10/ 17- 23 آ: اللقاء الأول بين بطرس ورسل قرنيليوس
وحدة الأشخاص: (بطرس ورسل قرنيليوس).
4- 10/ 23 ب- 33: الوصول إلى قيصرية
الذهاب إلى بيت قرنيليوس واللقاء مع المجتمعين.
5- 10/ 34- 43: خطبة بطرس
6- 10/ 44- 48: نزول الروح القدس والمعمودية
7- 11/ 1- 18: وحدة المكان: (أورشليم) وحدة الأشخاص:
بطرس والذين رافقوه ومخاصموه. النوع الأدبي: (اعتراض- جواب- قرار).
يجمع بين هذه المقاطع في رواية قرنيليوس 10/ 1- 11/ 18 موضوع قبول الوثنيين في الكنيسة ففي دراستنا سوف نكتشف عنصرين أساسيين في الرواية: الأول وهو إعلان الإنجيل والثاني وهو موضوع العلاقات الإجتماعية. فموضوع إعلان الإنجيل هو مركزي في 1/ 1- 48 بينما وحدة الرواية بكاملها تقوم على العلاقات الإجتماعية بين اليهود والوثنيين. فإنطلاقاً من هذه النظرة فالمقطع 11/ 1- 18 ليس إعادة لـ 10/ 1- 48 ولكنه يسعى لكي ينشر روح المشاركة كتعبير أعمق للعلاقات الإجتماعية. يطرح موضوع العلاقات الإجتماعية بين اليهود والوثنيين بشكل متدرّج ويقسم الرواية إلى ثلاثة أقسام:
1- 10/ 1- 23 آ
فالقسم الأول يعرض علينا الوثني قرنيليوس واليهودي بطرس وينتهي باستقبال بطرس للبقية الوثنية (10/ 23 آ) وهي العلامة الأولى لانتهاء الانفصال.
2- 10/ 23 ب- 48
أما القسم الثاني فيتوقّف عند اللقاء المباشر بين الطرفين وينتهي بإقامة بطرس عند الوثنيين المهتدين إلى المسيحية (10/ 48 ب).
3- والقسم الثالث 11/ 1- 18
يدافع عن المشاركة مع الوثنيين الذين أصبحوا مسيحيين (11/ 3) وفيه تعبير أقوى عن المشاركة والوحدة مما رأينا في 10/ 1- 48.
هذا التقطيع إلى ثلاثة أقسام إنطلاقاً من موضوع العلاقة بين اليهود والوثنيين يتناسب مع ما قلناه سابقاً في شأن التقطيع إلى سبعة أقسام
1- 3 أقسام 10/ 1- 23 آ
2- 3 أقسام 10/ 23 ب- 48
3- 1 قسم 11/ 1-18
وفي النهاية، نستطيع القول ان باستطاعتنا قراءة رواية قرنيليوس إنطلاقاً من مستويين: فالأقسام السبعة تتجمّع في أقسام ثلاثة. ان مثل هذا التقسيم إستناداً إلى معطيات من مجال المضمون ومعطيات من مجال الشكل يُظهر وحدة هذه الرواية الطويلة وتنوعها. والآن باستطاعتنا أن ننتقل إلى دراستنا التفسيرية لهذه الأقسام التي سوف تقودنا إلى إكتشاف الخطوط اللاهوتية العريضة لهذا النص.
سوف نحاول أن نقراً كل قسم من هذه الأقسام إنطلاقاً من فكرتين أساسيتين، الأولى: إعلان الإنجيل، والثانية: الصراعات الاجتماعية التي يتجاوزها هذا الإعلان في سبيل المصالحة.
2- المرحلة الثانية: الدراسة التفسيرية
القسم الأول: رؤية قرنيليوس 10/ 1- 8
ففي هذا القسم الأول نجمع تحت فكرة إعلان الإنجيل العناصر التي ترتبط باهتداء قرنيليوس إلى المسيحية، وتحت الفكرة الثانية الصراعات الإجتماعية وتجاوزها بإعلان الإنجيل، نتتبّع العناصر الأدبية واللاهوتية التي ترفع الحواجز وتشجّع المواقف الجديدة في الصراعات مع الوثنيين.
1- إعلان الإنجيل
في الآية 4 ب لدينا خبر خفي يحمله الملاك إلى قرنيليوس ليعلمه عن القصد الإلهي بخلاصه. ومع هذا الخبر يبدأ موضوع إعلان الإنجيل في رواية قرنيليوس. أما الأمر الإلهي لإرسال رجال إلى بطرس (10/ 5- 6) وتحقيقه من قبل قرنيليوس (10/ 7- 8) فهي الخطوات الأولى لتحقيق هذا الخبر.
2- الصراعات الإجتماعية: الدفاع عن الوثني
أ- تبدأ رواية قرنيليوس بعرض موسّع لشخصية قرنيليوس وفيه تشديد على حياته الدينية والأخلاقية (10/ 1)
ب- يوحي الله بنفسه مباشرة إلى قرنيليوس بواسطة ملاك. وهكذا لا تبدأ قصة الاهتداء هذه بتدخُل إلهي لدى المبشّر بطرس، ولكن لدى الوثني الذي عليه أن يتقبّل البشارة.
ج- ان خبر الخلاص له صيغة خاصة تُسلّط الأضواء على تقوى قرنيليوس التي يتقبّلها الله.
د- لا يتحدّث هذا القسم عن تقوى قرنيليوس فقط بل يذكر تقرى أشخاص آخرين من الوثنيين: "وكان تقيّاً يخاف الله هو وجميع أهل بيته" (10/ 2)، وبين الجنود جندي تقي (10/ 7) ولا شك أن الجنديين أيضاً هما من الأتقياء (10/ 7).
يشدّد هذا القسم كما قلنا على تقوى قرنيليوس، ويتّضح ذلك من إستعمال المفاهيم اليهودية في التقوى في سبيل إزالة النظرة السلبية التي يلقيها اليهودي على الوثني. فإنطلاقاً من مثل قرنيليوس وأهل بيته، يبرهن لوقا أن ليس كل الوثنيين عبدة أوثان وفاسدين، بل بينهم من يستطيع أن يتقبّل التقوى اليهودية ويعيشها من خلال الصدقة وبالتالي فإن مثل هذا الوثني يجد الرضى لدى إله إسرائيل. لدينا هنا دفاع عن الوثني يهدف إلى أن يظهر المساواة بين المختونين والقلف. يبدأ برهان المساواة إنطلاقاً من اليهودية التي هي قبل المسيحية لكي تلغي النظرة السلبية التي ورثها اليهود المتنصّرون من اليهودية. إن إرسال الملاك مباشرة إلى قرنيليوس يظهر أن الله لا يتصرف كما يتصّرف اليهود، ولكنه يدخل في علاقة مع من يعتبر كافراً وفاسداً. هي مبادرة الله الأولى التي تعطي للرواية إنطلاقتها الأولى.
القسم الثاني: رؤية بطرس 10/ 9- 16
أ- إعلان الإنجيل
لا نجد في هذا القسم 10/ 9- 16 تشديداً على إعلان الإنجيل ولا نشعر بتقدّم بالنسبة إلى ما لمسناه في 10/ 4 ب ولا نجد بطرس يتّخذ مبادرات في إتجاه الوثنيين. ما نجده هو إقتراب البعثة من بطرس في 10/ 9 و 10/ 17 وهي إحتواء لهذا القسم ويشير ذلك كله إلى أن رؤية بطرس لها علاقة بإعلان الإنجيل الذي سوف يتبع في القسم الثالث والرابع.
2- الصراعات الاجتماعية
أ- الغاء شريعة الطعام
يفتح لوقا نقاشاً حول قناعات بطرس واليهود المتنصّرين الموالين للشريعة. نلاحظ هنا تأصّل هذه الرؤية في تقاليد العهد القديم: توصف رؤية الطعام إستناداً إلى صور ولغة مأخوذة من تك 1 وتك 6- 9، ولدينا أيضاً نصوص توازيها في تث 12 وحز 1- 4. فمسألة الطاهر والنجس نجدها كذلك في الشريعة الموسوية (أح 11 وتث 14). ويرتبط هذا الموضوع الرئيسي بشخصية بطرس اليهودي الذي هو مؤتمن على شريعة الطاهر والنجس. ففي هذا الإطار يطلب من بطرس إلغاء شريعة الطعام هذه والتأقلم معها.
ب- وظيفة الرؤية
للتشديد على طهارة الطعام في رواية قرنيليوس وظيفتان:
1- إنه يساهم في حلّ مشكلة المشاركة في الطعام مع الوثنيين (11/ 3).
2- أما الوظيفة الثانية لهذه الرؤية فهي وضع حد لمسألة نجاسة الوثنيين وبالتالي إلغاء هذا المعتقد الذي كان يساهم. في الإنفصال الإجتماعي.
ج- أهمية الوحي
يسلّط لوقا الأضواء على مضمون الوحي الذي يجعل المشهد غنياً جداً: الصلاة، الانجذاب، موقع الحدث في الزمان والمكان، إنفتاح السماء، رؤية الحيوانات، الصوت، وترداد الحوار ثلاث مرات. هذه الرؤية هي أهم من الرؤية السابقة (10/ 3- 6). فإن الصعوبة ليست في إهتداء قرنيليوس بقدر ما هي في إهتداء بطرس.
القسم الثالث: اللقاء الأول بين بطرس ورسل قرنيليوس (10/ 17- 23 آ)
1- إعلان الإنجيل
يساهم هذا القسم في تقدّم إعلان الإنجيل، من حيث إننا نكتشف فيه طلب الله إلى بطرس لكي يستمع إلى وثني (10/ 20 و10/ 22). ويدخل هكذا بطرس في الحركة التي بدأت مع إرسال البعثة (10/ 7- 8) التي وصلت إليه الآن (10/ 17). ويقال له في هذا اللقاء بشكل واضح ان هدف ذهابه إلى قيصرية هو إعلان الإنجيل لقرنيليوس (10/ 22 ب).
2- الصراعات الإجتماعية
يردّد الطلب على بطرس مرتين لكي يقوم ويذهب. فالمرة الأولى هو الروح القدس الذي يطلب منه والثانية هم رجال قرنيليوس. وعلاوة على ذلك فالقارىء يعرف مضمون الطلب من 10/ 5- 6.
يردّد لوقا الفكرة الأولى (إعلان الإنجيل) في سبيل تحضير الطريق للتوسّع في مواضيع تخدمه في طرح الفكرة الثانية ألا وهي "الصراعات الإجتماعية".
أ- عدم معرفة بطرس والمبادرة الإلهية
بصف هذا القسم تدرّج بطرس في فهم المشروع الإلهي، كما انه يصف تدرّجه في الإستعداد لاتباعه. كل شيء ينطلق من مبادرة إلهية، وهذا أسلوب يعرف به القديس لوقا. إن وصول البعثة (10/ 17) وتدخّل الروح القدس (10/ 19- 20)، وكلاهما يحصلان في زمن يتساءل فيه بطرس عن معنى الرؤية، يظهران ان بطرس ينال العون الذي يأتيه من الخارج ليفسّر معنى الرؤية. على الرغم من أن البعثة مع الرسالة كانت قد وصلت الى الباب (10/ 17)، يجعل لوقا الروح القدس يتدخّل (10/ 19- 20). فكل ذلك يساهم في تخفيف مقاومة بطرس في الاقتراب من الوثنيين. وتوّاً بعد ذلك يجعل لوقا بطرس جاهلاً سبب مجيء البعثة (10/ 21) التي تعرض عليه الدافع الإلهي في المجيء لإسماع قرنيليوس كلمة الإنجيل (10/ 22 ب).
ب- نحو الوحدة: إستقبال البعثة
بعد أن طلب مرتين من بطرس الذهاب، لم ينطلق بطرس لساعته إلاّ أنه بطريقة غير متوقّعة يستضيف البعثة الوثنية (10/ 23 آ) وهو تصّرف يشير إلى "إهتدائه" الإجتماعي. نلاحظ أن المؤلف قد اهتم إهتماماً خاصاً بمسألة العلاقات الإجتماعية: ففي بداية القسم يظهر لوقا البعد ما بين بطرس والبعثة (10/ 17)، وبعد ذلك يأمر الروح القدس بطرس بأن "يذهب معهم" (10/ 20). وبعدها يتحقّق الإقتراب من المكان (10/ 21) وفي نهاية القسم لدينا الاستضافة (10/ 23 آ). يظهر لوقا في هذا المكان من الرواية أن بطرس قد اتّخذ موقفاً جديداً من الصراعات مع الوثنيين متحدّيا الرفض التقليدي للعلاقات مع الوثنيين (10/ 28). إن إستقبال البعثة هو صورة مسبّقة عن الوحدة والمشاركة بين اليهود والوثنيين كما سوف يعيشها بطرس فيما بعد (10/ 48 و11/ 3).
ج- صورة الوثني
في هذا القسم أيضاً تشديد على صورة الوثني الإيجابية من حيث إن البعثة تحمل الرسالة إلى بطرس 10/ 22 آ، وهو الموضع الرئيسي في رواية قرنيليوس. لدينا تذكير بأن قرنيليوس هو "رجل صدّيق" وهي عبارة مكثّفة تعبرّ عن التقوى اليهودية، وعلاوة على ذلك فإن "أمة اليهود كلها" تشهد له. وهذه العناصر كلّها تعارض الرأي في أمر الوثنيين وتحضّر الأجواء لخطبة بطرس (10/ 34- 35) التي سوف تجعل من الإنتماء العرقي أمراً ثانوياً.
د- 10/ 23 آ هي خاتمة 10/ 1-23 آ
مع إستضافة الوثنيين (10/ 23 آ) تنتهي المرحلة الأولى المؤلّفة من ثلاثة أقسام. ففيها رأينا تدرّج مسألة العلاقات الإجتماعية بين اليهود والوثنيين في كل قسم من الأقسام الثلاثة: ظهور الملاك لقرنيليوس (10/ 3) مسألة الأطعمة النجسة (19/ 9- 16)، وصول البعثة الوثنية (10/ 17) تدخّل الروح القدس (10/ 20). تنتهي الأقسام الثلاثة بلقاء الطرفين للمرّة الأولى: بطرس اليهودي المتنصّر، والبعثة الوثنية. فالمشهدات المتوازيان اللذان بدأا في مدينتين متباعدتين (قيصرية ويافا) ومع مجموعتين مختلفتين من الأشخاص: بطرس اليهودي وقرنيليوس الوثني، يلتقيان في 10/ 23 آ، أما الرواية فتستمر في إتجاه واحد وتقودنا إلى بيت قرنيليوس (10/ 23 ب- 27). سوف يعلن لوقا في 10/ 28 إنتهاء الإنفصال بين الطرفين، إلاّ أنه منذ الآن مع إستضافة بطرس للبعثة يشير إلى أن بطرس بدأ يطبّق ما سوف يتحقّق.
القسم الرابع: الوصول إلى قيصرية (10/ 23 ب- 33)
1- إعلان الإنجيل
ان الآيات 10/ 23 ب- 33 تتضمّن وصول بطرس إلى قيصرية ولقاءه مع الوثنيين الذين ينتظرون إعلان الإنجيل. فدعوة الأقارب والأصدقاء (10/ 24) تجمع الناس الذين سوف يجدهم بطرس في البيت (10/ 2). إن إنتظار قرنيليوس (15/ 24) له صفة دينية وسجوده (10/ 25) هو علامة إحترام لبطرس حامل الرسالة الإلهية. ينتهي القسم (33/15 ب) بإستعداد الجماعة لسماع الرسالة الإلهية التي على بطرس أن يوصلها إلى من أرسل إليهم.
2- الصراعات الإجتماعية
هذا القسم 23/10 ب- 33 هو من أطول الأقسام في الرواية بسبب وصف دقيق لوصول بطرس ودخوله (15/ 24- 27) وبسبب الحوار الذي يدور بين بطرس وقرنيليوس (10/28- 29 و30- 32). هذه العناصر تشدّد على كون بطرس اليهودي قد تجاوز الإنفصال القائم. بين الطرفين. وفي ذلك إستباق لردّ بطرس على إعتراض مخاصميه في 11/ 3 "لقد دخلت إلى أناس قلف، وأكلت معهم"، ويردّد لوقا مرات ثلاث "دخل" (10/ 24 و25 و27) عندما يتحدّث عن وصول بطرس لدى قرنيليوس.
1- لقاء أراده الله
يشدّد لوقا على أن دخول بطرس لدى الوثنيين هو نتيجة لتدخّل إلهي فيجعل بطرس يؤكّد على أن الله نفسه طلب منه ألاّ يعتبر أحداً نجساً أو دنساً (10/ 28- 29). ويجعل قرنيليوس يسرد رؤيته التي تتحدّث عن رضى الله عنه وإرساله بطرس إلى بيت وثني (10/ 30- 33). ولكي يعطي قوة لهذه الفكرة يتوقّف لوقا عند بطرس الذي لا زال يتساءل عن معنى هذه الدعوة (10/ 29 ب). كما أنه لدينا في هذا القسم مجموعة مرافقي بطرس اليهود المتنصّرون (10/ 23 ب) الذين سوف يكون لهم دور الشهادة على أن الله هو الذي يقود هذه الأحداث (10/ 40 و 11/ 12).
2- إلغاء النجاسة ونهاية الإنفصال
يستعمل لوقا دخول بطرس لدى الوثنيين لكي يحلّ مسألة نجاسة الوثنيين التي كانت تحول دون مشاركة اليهودي لهم. ونلاحظ أن الكلمات الأولى التي يتفوّه بها بطرس في بيت قرنيليوس تلغي فكرة نجاسة الوثنيين وبالتالي نهاية الانفصال (10/ 28).
3- نحو الوحدة
إن إلغاء النجاسة ونهاية الإنفصال هما عنصران لا يساهمان فقط في إعلان الإنجيل، ولكنهما يوجّهان الأنظار نحو الوحدة (10/ 48 و 11/ 3). ان فعل "عاشر" الذي يسبق فعل "دخل" في 10/ 28 يشير إلى فكرة العلاقات الشخصية بين الطرفين. ويحضّر لوقا هذه الوحدة نفسياً مظهراً تدرّج العلاقات الطيبة بين الطرفين.
فبطرس ورفقاؤه يذهبون مع البعثة الوثنية (10/ 23 ب) والدخول على مرحلتين إلى المدينة (10/ 24- 25) وإلى بيت قرنيليوس (10/ 27) يظهر أهمية اللقاء الشخصي. وقرنيليوس هو إنسان طيب بكل معنى الكلمة: هو صديق لكثير من الناس (10/ 24) ويبادر إلى استقبال بطرس ويسجد له (10/ 25). أما بطرس عندما يدخل إلى البيت، فيتحدّث معه بمودّة (10/ 27). يتبع ذلك أن كلاً من الطرفين يقدّم نفسه: بطرس أولاً (10/ 28- 29) وبعده قرنيليوس (10/ 30- 32)، وهذا مما يوضّح سبب اللقاء ويقرّب الطرفين اللذين هما في الأصل أعداء.
القسم الخامس: خطبة بطرس في بيت قرنيليوس 10/ 34- 43
نجد في الخطب الرسولية في أعمال الرسل 2- 13 البنية التي نكتشفها في خطبة بطرس. لقد ميّز ديبليوس أربعة عناصر:
1- الربط مع الحدث
2- الكرازة: موت يسوع وقيامته مع شهادة الرسل
3- البرهان الكتابي
4- الدعوة إلى التوبة
أما فيلكس فقد لاحظ وبحق أن البرهان الكتابي لا يذكر دائماً في المكان نفسه وبالتالي فقد فضّل أن يقطع هذه الخطب إلى ثلاثة أقسام:
1- الربط مع الحدث
2- الكرازة
3- إعلان الخلاص
نجد هذه العناصر الثلاثة أيضاً في خطبة بطرس في قيصرية
1- 10/ 34- 26 الربط مع الحدث
2- 10/ 37- 41 الكرازة
3- 10/ 42- 43 إعلان الخلاص.
فمقارنة خطبة بطرس مع باقي الخطب تساعدنا على أن نستخرج خصائص هذه الخطبة. فما يميّز هذه الخطبة هو كونها موجّهة إلى الوثنيين وفي الوقت نفسه لها طابع يهودي محض. وهذا ما يجعلنا نكتشف أن لوقا كان يهدف إلى أمرين. الأول: كتابة خطبة لإعلان الإنجيل للوثنيين. وثانياً: إقناع اليهود المتنصّرين بشمولية الخلاص الذي يقدّمه لنا يسوع المسيح.
1- إعلان الإنجيل
هي خطبة لإعلان الإنجيل. فبطرس يعلن أن يسوع الذي سمعوا عنه أموراً كثيرة هو الرب وديّان الأحياء والأموات وبواسطته ينال الإنسان غفران الخطايا. فالكرازة هي كمال الشهادة التي يعيشها الرسول (1/ 8).
ومن حيث إن المستمعين هم من الذين يتّقون إله إسرائيل فلا يحتاج بطرس إلى أن يتكلّم عن الله الخالق (راجع 14/ 15- 17 و17/ 22- 31) ولكنه يعرض رسالة يسوع من حيث هي عمل إله إسرائيل إستناداً إلى شهادة الأنبياء وإنطلاقاً من اللغة اليهودية التقليدية.
2- الصراعات الإجتماعية: الخطبة من حيث هي أيضاً موجّهة إلى اليهود المتنصّرين
ان تكييف الخطبة حسب "متّقي الله" سفلت للوقا نقل رسالة إلى اليهود المتنصّرين. يرى بعض الدارسين أن الخطبة ليست بموجّهة للوثنيين ولكن بالدرجة الأولى إلى اليهود المتنصّرين.
* فموضوع شمولية الخلاص في الخطبة يدعم مثل هذا الزعم:
أ- ان عدم تحيّز الله يناقض الإنعزالية اليهودية ويقبل تقوى الوثنيين (10/ 34- 35).
ب- ويظهر عدم تحيّز الله في رسالة يسوع التي تدعو الجميع إلى السلام (10/ 36).
ج- وعلى شعب إسرائيل أن يفهم أن يسوع هو الديان الشامل للأحياء والأموات (10/ 42).
د- وينال غفران الخطايا من يؤمن به (10/ 43)
كلم يشدّد لوقا على أن الشمولية متأصّلة في تاريخ الخلاص الذي حقّقه الله في وسط شعبه:
أ- فالتشديد على عمل الله في رسالة يسوع يظهر الاستمرارية بين الإيمان اليهودي والإيمان المسيحي الجديد. وتعليم الأنبياء يخدم الهدف نفسه (10/ 43).
ب- ان ذكر مجموعة الشهود الذين اختارهم الله (10/ 41- 42) يظهر أن كرازة الإنجيل لجميع الناس هي مشروع يريده الله.
كل هذه العناصر التي تحتوي على اهتمام خاص باليهود المتنصّرين تعطي عمقاً لهذه الخطبة التي يوجّهها بطرس إلى الوثنيين.
القسم السادس: الروح والمعمودية (10/ 44- 48)
إن وصف القسم الأخير من إعلان الإنجيل يبدو وكأنه مرتبط في الوقت نفسه بالرغبة في إظهار أن قبول الوثنيين لإنجيل له القيمة نفسها في قبول اليهود المتنصّرين له.
وللتشديد على قيمة ونوعية الاهتداء، يسلّط لوقا الأضواء على نزول الروح القدس قبل المعمودية، وهو أمر مخالف للأحداث الاعتيادية، فالروح القدس ينزل بعد قبول المعمودية (2/ 38). ونزول الروح قبل المعمودية هو الحالة الوحيدة التي نجدها في كتابات لوقا، وهذا ما يعطى هذا المشهد أهمية كبرى.
1- إعلان الإنجيل
في عملية إعلان الإنجيل، باستطاعتنا أن نميّز مراحل ثلاث:
أ- فإعلان الإنجيل يتمّ بطريقة إعتيادية إلى وقت نزول الروح القدس. تعلن البشارة لقرنيليوس فيتقبّلها بإيمان فتفتح أمامه أبواب التوبة (10/ 43). لا يوقف الروح إعلان الإنجيل ولا يمنع ولادة الإيمان بالمسيح.
ب- ينزل الروح على الوثنيين الذين تطهّروا من الخطيئة ويغني إهتداءهم (توبة- إيمان- مغفرة) بمواهب التكلم باللغات والنبوءة. وعلى الرغم من أن الروح ينزل قبل وليس بعد المعمودية، ويظهر بشكل عنصرة، فهو مرتبط بالمعمودية وهو قسم من مراحل الخلاص.
ج- ان المعمودية بالماء باسم يسوع لها قيمة إندماج الوثنيين الذين اهتدوا في جماعة المخلّصين. ويتم التعبير عن إستقبال الوثنيين على المستوى الإنساني بإقامة بطرش عندهم.
2- الصراعات الاجتماعية
من طريقة عرض لوقا لإعلان الإنجيل، نستنتج على أنه في حالة من الحوار الفكري مع المعارضة اليهودية- المسيحية.
أ- المعارضة
يظهر لوقا أولاً أن رغبة الله في خلاص الوثنيين تلقى المقاومات "منع" (10/ 47) من قبل اليهود المتنصرّين الذين يمثّلهم بطرس والذين رافقوه من يافا. والمقطع الرئيسي من هذا القسم يتوقّف عند إظهار كيف أن مرافقي بطرس (10/ 45- 46) وبطرس نفسه (4710) قد اقتنعوا من إهتداء الوثنيين. فقد أعلن الله بواسطة الروح القدس ما لم يكونوا يستطيعون أن يقبلوه. فقبول معمودية الوثنيين (10/ 48 آ) يعني إنتصار الإرادة الإلهية على مقاومة اليهود المتنصّرين وإهتداءهم.
يبدو من طريقة التأليف، أن لوقا يسعى إلى أن يرسل من خلال إهتداء بطرس ومرافقيه السبعة رسالة إلى كل الكنيسة اليهودية- المسيحية. فسؤال بطرس في (10/ 47) موجّه عبر هذا السؤال لمرافقي المجموعة إلى الكنيسة. والاسم المعطى لمرافقي بطرس "المؤمنون المختونون" (10/ 45) هو إشارة إلى الحلاف في أورشليم الذي سبّبته مجموعة مشابهة: "أخذ المختونون يخاصمونه" (11/ 2- 3). فبطرس ومرافقوه سوف يشهدون أمام المختونين في أورشليم (11/ 12).
ب- الحواجز
فالحواجز التي تخطّتها الكنيسة لا تفسّر إلاّ بتدخّل الروح القدس المباشر. يصف لوقا نزول الروح القدس مباشرة لكي يظهر للحضور نوعية الوثنيين وإستعدادهم للمعمودية. فنزول الروح يؤكّد على أنهم:
1- تابوا عن خطاياهم
2- هم مؤمنون
3- غفرت لهم خطاياهم
وهذا ما يبرهن على طهارتهم الطقسية. وكان لا بدّ من تدخّل إلهي، لأنه كان من الصعب على بطرس والحاضرين أن يقبلوا معموديتهم إستناداً إلى طلبهم فقط.
ج- المساواة
إن حالة الوثنيين المهتدين إلى المسيحية تجعلهم "مساوين" دلالة على هذه المساواة لليهود المتنصّرين "والروح الذي يعطى لهم كما أعطي لنا" (10/ 47). والبرهان على المساواة نجده في العناصر التالية:
1- قبوله الوثنيين الكرازة (إهتداء- إيمان- غفران) وهذا القبول له نفس القيمة التي لليهود المتنصّرين.
2- إنهم يقبلون نفس الهبة التي قبلها اليهود المتنصّرون.
3- وبواسطة المعمودية يدخل الوثنيون في جماعة المخلّصين وفى مساواة معهم. ولم تعد مشكلة عدم الختان تحول دون المساواة.
د- الوحدة
إن إقامة بطرس لدى المعمَّدين الجدد (10/ 48 ب) هو علامة اتحاد بين أعضاء الكنيسة الواحدة ويعبرّ عن إلغاء كل انفصال. فالمساواة أمام الله التي تحقّقت بالمشاركة في الخلاص نفسه تفتح أمام الجميع باب السلام الإجتماعي (10/ 36). وهكذا تتشكّل جماعة شمولية، فيها اليهودي والوثني المتنصّر ولهما الحقوق والواجبات نفسها. وفي كل ذلك يبدو الروح القدس العنصر الأساسي في الوحدة: فبعد أن حمل بطرس على أن يقوم بخطوة نحو التغيير في علاقته بالوثنيين (10/ 19)، فالآن وبعد أن شجّع على المعمودية، فإنه يبقى المبرّر الرئيسي لهذه العلاقة الجديدة. نلاحظ توازياً مع سفر الأعمال الفصل الثاني: فبعد العنصرة والكرازة الأولى، يشكّل هؤلاء الذين قبلوا المعمودية جماعة واحدة (2/ 42- 47).
3- المرحلة الثالثة: إستنتاجات لاهوتية- راعوية
بعد أن قمنا بهذه الدراسة التفسيرية للأقسام الستة لرواية إهتداء قرنيليوس فلنتوقّف الآن عند الاستنتاجات اللاهوتية- الراعوية عامة، أما القسم السابع والأخير فلم نتناولْه بالدراسة التفسيرية لأنه قراءة ثانية لكل الرواية، وفيه أيضاً سوف نكتشف الاستنتاجات التي وصلنا إليها.
الاستنتاج الأول: المبادرة الأولى هي لله
هو الله الذي يتدخّل أولَا، ويخاطب الوثني قرنيليوس. فكما لاحظنا في دراستنا التفسيرية أن القسم الأول من الرواية: رؤية قرنيليوس (10/ 1 - 8) مخصّص لهذا الوثني الغريب عن المختونين الذين أصبحوا من أبناء العهد. باستطاعتنا أن نقراً الكتاب المقدّس كلَّه في ضوء مثل هذه الحقيقة، فالله هو الذي يأخذ المبادرة الأولى "هو الذي أحبنا" (1 يو 4/ 10) وهو الذي لا يتقيّد برؤية بشرية، وبالتالي فالله ليس الإنسان وهو الذي يفاجئنا بمبادرته ومواقفه التي تتجاوزنا.
لله المبادرة الأولى، وهو الذي يعمل في قلب الانسان وفي قلب كل إنسان، لأن الإنسان مخلوق على صورة الله. فقرنيليوس الوثني "كان تقيا يخاف الله... ويواظب على ذكر الله" (10/ 3) هو وجميع أهل بيته. يظن الإنسان المؤمن أن الله له وحده، وينغلق في عقلية تَدينُ كل ما خرج على نظرته للأمور، كما فعل يونان رافضاً أن يحمل كلمة الله إلى أهل نينوى. لكن الله كتب شريعته في قلب كل إنسان، كما رسمها في الطبيعة التي أبد عها (المزمور 18).
إن مثل هذا الاستنتاج الأول الذي نستخرجه من دراستنا لرواية إهتداء قرنيليوس يحملنا على أن نتّخذ مواقف راعوية هامة، وهي إكتشاف عملِ الله الخلاصي في قلب العالم وفي قلب كل إنسان. فالنظرة المتشائمة اليائسة تحمل على الإدانة العشوائية باسم. شريعة متحجّرة، أمّا العودة الى الكتاب المقدّس عامة ودراسة رواية إهتداء قرنيليولس يجعلانا في حالة من ترك المبادرة الأولى لله، فلا نتّخذ مكانه، ولا ننصّب ذواتِنا ديانين على العالم وعلى الناس. فقرنيليوس لم يعد موضوع إدانة بل أصبح بقوة عمل الله علامة الخلاص الذي يريده الله لجميع الناس.
الإستنتاج الثاني: تزامن عمل الروح القدس
لقد بنى لوقا روايته مشدّداً على تزامن عمل الروح القدس في موقعين بعيدين عن بعضهما البعض. فكما لاحظنا في الاستنتاج الأول، يتّخذ الله المبادرة الأولى في قيصرية مرسلاً إليه ملاكاً (10/ 3)، وبعد أن تلقّى قرنيليوس الأمر من الملاك يرسل خدمه إلى يافا (10/ 7). وبينما هم يتقدّمون من قيصرية إلى يافا صعد بطرس إلى السطح (10/ 9). فالظرف "بينما" فيه دلاله قوية على تزامن عمل الروح في موقعين متباعدين. إلاّ أن تدخّل الروح في طرف يقابله تدخل آخر في الطرف المقابل، ولا يتكلّم الروح إلا لكي يحرّك الواحد تجاه الآخر. فبينما أرسل قرنيليوس بعثته إلى بطرس المقيم في يافا، صعد بطرس إلى السطح لكي يتقبّل هو أيضاً رؤية تجعله بالتدرّج يلتقي بالبعثة الآتية إليه. وبينما يدخل بطرس مرافقوه إلى قيصرية يكون في الوقت نفسه قرنيليوس في انتظار لكي يتقبّل منه البشارة (10/ 24).
إن هذا الإستنتاج الثاني يستند إلى الأول ويكمّله من حيث إن مبادرة الله الأولى تجعل الإنسان يخرج من ذاته وينطلق نحو الآخر. فقرنيليوس الوثني وبطرس اليهودي يتحرّكان، قرنيليوس بإرساله البعثة وبطرس بلقائه بهم وذهابه إلى قيصرية. هل باستطاعة مثل هذا الموقف أن يحملنا على طرح السؤال التالي: هل المعاناة التي يعيشها "الوثني" الآخر الذي لا ينتمي إلى ديانتي، تطرح سؤالاً على معاناتي وتجعلهما تلتقيان وتتحاوران بقوة الروح الذي يعمل في قلب واحد؟ نظن أيضاً أن لوقا من خلال هذه الرواية يسلّط الأضواء على حقيقة كتابية عميقة جداً وهي أن الله من خلال هذه المعاناة بما فيها من تقبّل ورفض يقود الإنسان بالنهاية نحو الوحدة والمصالحة والسلام. لقد تحدّث المجمع الفاتيكاني الثاني عن قراءة علامات الأزمنة في قلب عالمنا المعاصر، وهو بذلك يدعو الكنيسة والمؤمنين إلى تمييز عمل الروح القدس في المواقف الإنسانية البعيدة والمتعدّدة، ولا يتحقّق هذا التمييز إن لم ينفتح قلب المؤمن مثل بطرس على مبادرات الروح القدس في حياته (10/ 19).
الاستنتاج الثالث: التدرّج في القبول وفي اللقاء
كثيراً ما استعمل الكتاب المقدّس أسلوب الرواية وفي ذلك تعليم هام بالنسبة لنا. فكما رأينا، في الرواية عامل المكان والزمان والأشخاص والأعمال التي يقومون بها، وهذا يفترض تطوراً في الأحداث يقود إلى حلّ للعقدة المطروحة. فعدا أن الرواية في الكتاب المقدّس تظهر أن الله يوحي بنفسه من خلال أحداث التاريخ ومن خلال حواره مع حرية الإنسان، فهي تشدّد أيضاً على أن هنالك تدرّجاً في اللقاء مع الله وفي اللقاء بين الإنسان وأخيه الإنسان.
وفي هذا المضمار أيضاً، فإن لوقا قد شدّد في روايته على عنصر "التدرّج" في اللقاء. لقد بدأت الرواية في قيصرية فانطلقت البعثة إلى يافا لتلتقي ببطرس. وكان على بطرس أن يفهم بشكل متدرّج ما يريد أن يُخبر به. فالبعثة تقف أمام الباب وتسأل عن بطرس، ويتدخّل الروح لكي يدعو بطرس للقاء بهم، وبعد الاستطلاع يتم إستضافة البعثة. وفي دخول بطرس إلى بيت قرنيليوس لدينا تدرّج في اللقاء، فإنه يصل أولاً إلى قيصرية ومن ثم يدخل إلى بيت قرنيليوس. وبعد أن تمّ اللقاء بين الشخصين الرئيسيين يطرح بطرس السؤال: "فأسألكم ما الذي حملكم على أن تدعوني" (10/ 29)، وفي ذلك أيضاً تبطيء للعمل الروائي وتحضير للقبول النهائي ألا وهو مساواة الوثنيين وبعدها يقتبلون المعمودية باسم يسوع المسيح (10/ 48). وفي القسم السابع والأخير (11/ 1- 18) "يخاصم المختونون بطرس في أورشليم لأنه دخل إلى أناس قلف وكل معهم" (11/ 3)، ويأخذ بطرس يعرض ما حصل له مظهراً إرادة الله في حياته وفي حياة قرنيليوس الوثني المهتدي إلى الإيمان. وفي القسم الأخير هذا، لدينا تدرّج في الرواية من خلال اعتراض المختونين وعرض مفصّل للمشكلة يقوم به بطرس وقرار نهائي بأن "قد أنعم الله إذاً على الوثنيين أيضاً بالتوبة التي تؤدّي إلى الحياة" (11/ 18).
غالباً مما ننغلق في منطق يسعى إلى أن يفرض الأمور والحلول مباشرة، فإننا نريد كل شيء في وقته أو نستسلم لموقف يائس يحملنا على الاعتقاد بأنه لا جدوى في شيء. ان رواية إهتداء قرنيليوس تحتوي على عظة رعائية رائعة ولا سيما في مجال ما نسمّيه بالعلاقات المسكونية بين المسيحيين أو في علاقات الحوار مع الأديان الأخرى. فمفهوم التدرّج هذا الذي اكتشفناه يقودنا إلى الخروج من الثنائية التي ذكرناها، الجمود أو التلاشي، فموقف الحوار، وهو الحلّ المتطلّب والأصعب، يطلب منا أن نعيد الكرّة وأن ندخل في ديناميكية الوحي بالذات التي تعلمنا أن الله هو المحاور الأول وعلينا أن نتتلمذ دائماً له.
وفي نهاية بحثنا هذا، وإنطلاقاً مما قلناه باستطاعتنا أن نطرح سؤالاً من وجهة نظر فلسفية حول جدلية اليهودي/الوثني وترافقها جدلية الخاص/ الشمولي. فالمفهوم اليهودي يعني التمسّك بالخصوصية كما تحدّدها الشريعة، وتفترض هذه الخصوصية إنفصالاً عن العالم الخارجي والتنظيم في عالم له عاداته وتقاليده وبالتالي انتماؤه. أما مفهوم الوثني، ولا نضفي عليه هنا معنى سلبياً، فهو يعني العالم الإنساني بعامة وما فيه من تطلّعات مشتركة نحو العدالة والسلام والوحدة وبالتالي إلى شمولية الحب البشري. فسفر أعمال الرسل ولا سيما رواية إهتداء قرنيليوس تطرح علينا مسألة جدلية اليهودي/ الوثني. فالمسيحي يعيش هذه الجدلية النابعة من صلب إيمانه، وهي هذه الجدلية، أعني العلاقة بين الخصوصية والشمولية التي تعطي حيوية متجدّدة لإعلان الإنجيل. لقد اهتدى قرنيليوس إلى الإيمان المسيحي، ولكن كان أيضاً بالحقيقة على بطرس ومرافقيه وأهل الختان، أن يهتدوا لا إلى الوثنية ولكن أن يموتوا على خصوصيتهم ويكتشفوا عمل الروح القدس في قلب الوثنيين.