الفصل الثاني والعشرون :العنصرة والروح القدس في أعمال الرسل

الفصل الثاني والعشرون
العنصرة والروح القدس
في أعمال الرسل
الخوري مكرم قزاح

"المسيح قام! حقّاً قام!" هذه الصرخة الليتورجية تختصر بحدّ ذاتها كُنْه المسيحية وجوهرها، إذ إن قيامة المسيح من بين الأموات هي الحدث المحور الذي به ومنه يتفجّر كلُّ جديدٍ خلاصاً وحياة: "هاءنذا أصنع كلَّ شيء جديداً" (رؤيا 21: 5).
"إنها الحدث الدائم، كما تقول الليتورجيا المارونية، ونحن فيه، لا يمرّ مع السنين" (صباح جمعة الحواريين). ومن خلاله لا يزال السيد المسيح حيّاً، دائماً أبداً عن يمين الآب، ليشفعَ لنا (عبر 7: 25).
وما العنصرة إلاّ تجلّي هذا الحدث الدائم في تاريخ البشرية.
"فالمسيح، يقول بولس رسول الأمم، صعد إلى ما فوف السماوات كلِّها ليملاً كلَّ شيء" (أفسس 4: 10)، أي ليملاً كلَّ شيء بحضور المحيي ويجُدّدَّه بروحه الحّي القدوس.
فإذا كانت القيامة هي الحدث، فالعنصرة هي الملء النابع عن هذا الحدث. إنها النتيجة الحتمية لتجسّد كلمة الله الآب: فالكلمة وُلدت في بيت لحم لتُولد الكنيسة، بيت الخبز الجديد، في العليّة (مار إفرام).
ولأن الروح كان حالاً بملئه وبغير حساب (يو 3: 34) على يسوع ابن عذراء الناصرة، صار باستطاعة هذا الروح بالذات، بفضل قيامة الحمل المذبوح، أن يحلّ بملئه وفيض نعمه ومواهبه على الكنيسة، جاعلاً إياها جسد المسيح الفصحي. فنراها تنطلق بدورها بقوة الروح إلى جميع الأمم، مبشرة ومعلمة بكل ما أوصاها به سيّدها، ومتلمذة ومعمدة باسم الثالوث: الآب والابن والروح القدس (متّى 28: 19- 20)، مبدأ وغاية وكمال كل ما كان ويكون في السماء وفي الأرض.
وإذا أردنا أن نفهم حدث العنصرة بكل ما له من أبعاد، علينا أن نعود أولاً إلى ما كان هذا العيد يحمل من معان أيام عاش سيدنا يسوع المسيح على أرضنا، ثم أن نتوقف عند مفهوم "الملء" لدى اليهود كتتميم للكتب والأزمنة، ليصل بنا المطاف إلى جديد العنصرة بحلول الروح القدس على التلاميذ في العليّة. فنستخلص حينئذ بعض العبر في تأوين لا ينتهي، إذ صرنا، منذ العنصرة الأولى، في عنصرة دائمة، لأنه "حيث تكون الكنيسة هناك يكون أيضاً روح الله، وحيث يكون روح الله، هناك تكون الكنيسة وكل نعمة" (القديس ايريناوس)، إلى أن يكتمل الملء "عند المنتهى حين يُسلّم المسيح المُلك إلى الله الآب بعد أن يكون قد أباد كل رئاسة وسلطان وقوة... ليكون الله كل شيء في كل شيء" (1 قور 15: 24 و28).
أ- عيد العنصرة في العهد القديم
إن عيد العنصرة هو عيد البواكير المميّز، في حين أن عيد الفطير عند حلول الفصح ليس إلاّ تحضيراً له: فهذان العيدان يحيطان في الواقع بمرحلة الحصاد. والعلاقة بين الفصح والعنصرة تتوضح في إشتقاق لفظة العنصرة (Pentékosté) التي تعني في الواقع (اليوم) "الخمسين" اعتباراً من يوم الفصح الذي هو اليوم "الأول". وتصّح هذه الملاحظة أيضاً لكلمة (ش ب ع و ت) التي تعني "الاسابيع" أي العيد الذي يحُتفل به بعد مرور سبعة أسابيع على يوم الفصح. والرابط الأساسي بين العيدين يتميَّز بحساب "العُمر". ويُثبت هذه الممارسة ما ورد في سفر الأحبار 23: 15-16: "ومن غد السبت، يوم تجيئون بحزمة من باكورة حصيدكم تقدمة يُحرِّكها الكاهن أمام الربّ، تحسبون لكم سبعة أسابيع كاملة. وفي غد السبت السابع بعد خمسين يوماً تقرِّبون تقدمةً جديدة للرب".
والعلاقة بين هذين العيدين هامّة جداً لأنها تساعدنا على أن نفهم كيف أنهما يخضعان للمنطق اللاهوتي نفسه: وهو الإعتراف بالله على أنه المُحسن إلى الأرض وسيّد التاريخ، بحسب النظرة الرائعة الواردة في تث 26: 1- 11.
وليس لدينا نصوص كثيرة مثل هذا النصّ الذي يعبرّ بعمق وبساطة عن معنى الأعياد الزراعية وإعادة تفسيرها تاريخياً ولاهوتياً من قِبل شعب الكتاب المقدس. ومثل أي عيد للبواكير، تعبرّ العنصرة بحركات حسيّة عن وعي اسرائيل أن ثمار الأرض وغلاّتها عطية من الله: "والآن هاأنذا آتٍ ببواكير ثمر الأرض التي أعطيتني إياها يا ربّ" (الآية 10).
وبوجه خاصّ، بعد تدمير هيكل أورشليم، فقدت العنصرة ذلك الطابع الزراعي، واتخذت أكثر فأكثر طابعاً تاريخياً يشدّد على عيد عطية التوراة (ز م ن م ت ن ت و ر ت ن و) كما تردّد البركة المركزية في الصلاة الخاصّة بالعيد. ولكن مع هذا البعد الجديد، لا ترذل العنصرة عيد البواكير أبداً! بل توضح شرطاً من شروطه الأساسية: وهو المسؤولية التي بها تلتزم إلتزاماً فاعلاً قضية العدالة والتضامن والتي من دونها تتحوّل بركة ثمار الأرض إلى لعنة. وفي تث 26: 1- 11، يترافق عيد البواكير مع إعلان إيماني: "إن أبي كان أرامياً تائهاً... فأساء إلينا المصريون. فصرخنا إلى الربّ.. فأخرجنا الربّ من مصر... وأعطانا هذه الأرض، أرضاً تدرّ لبناً حليباً وعسلاً". والأرض التي "تدرّ لبناً حليباً وعسلاً" ليست أرض كنعان الجغرافية، بل الأرض اللاهوتية حيث يعيش الشعب بحمسب العهد، أي بحسب التوراة. والتوراة، لا خصب الأرض الطبيعي، هي التي "تدرّ لبناً حليباً وعسلاً"، وهي التي بغضّ النظر عن الإستعارة، تثمر ثمراً وافراً ليفرح الجمع، لا ليفرح عدد قليل وحسب كما هي الحال بالنسبة إلى الأرض. وبعد أن كانت العنصرة عيد البوكير، تحوّلت مع الوقت، ومن خلال اندماج وتعمّق طبيعيين، إلى "عيد المّوراة" ولا سيّما في نظر الرابانيين وأولئك الذين يدرسون الكتب المقدسة. لذلك كانت المجامع تُزيَّن بالاخضرار، إمّا للتذكير بالبواكير، وإمّا بوجه خاص للتذكير بوحي سيناء وشجرة الحياة في الجّنة (تك 2: 8) أو في سفر الأمثال (3: 18). وفي البيوت، كان أفراد العائلة يتناولون أطعمة خاصّة، ولاسيّما اللبن الحليب والعسل، ليتذكروا أرض الميعاد التي "تدرّ لبناً حليباً وعسلاً"، أو التوراة التي "هي أشهى من الذهب وأخلص من الإبريز، وأحلٍى من العسل ومن قطر الشّهاد" (مز 19: 11). وكانوا يخصّصون وقتاً كبيراً لقراءة مقاطع معينة من الكتاب المقدس: مثل خر 19 وعدد 28 وتث 14.
ومن العادات الخاصة بعيد العنصرة ما يُسمّى "تقون ليل شبَوعُت". وتعني "تِقّون": "بنيان، إصلاح، تصحيح، إتقان". وبحسب التقليد، فقد خلق الله العالم ناقصاً ليمنح خلائقه فرصة إكماله وإنجازه "بالتقّون". وحين كان اليهود يدرسون التوراة طول ليلة الشَبوعُت، كانوا يتقنون العالم ويجعلونه أفضل. وكما كانت التوراة الأداة التي خلق بها الله الكون، فإنها كذلك الأداة التي ينجزه بها.
ولذا، كان اليهود يجتمعون ليلة العيد في المجامع أو البيوت ليدرسوا التوراة، المكتوبة أو الشفوية، حتى الفجر. وكان المطلوب أن تُقراً وتُجمع اقوال التوراة المكتوبة (الكتب) والشفوية (التقليد) من أجل إظهار وحدتها وطابعها الإلهي. ويؤلف بالتالي عقد "خرز" (ح ر ز ه) من اللآلىء التي تمثّل كلام التوراة، فيمكن أن يُعاش مجدداً اختبار سيناء في النار والفرح.
وفي تلك المناسبة، كانوا يقرأون أيضاً سفر راعوت. ويبدو أن هناك سببين كانا يدفعانهم إلى القيام بهذا الإختيار: الأول هو أن سفر راعوت يتحدث عن الحصاد والمرسلين. وزيادة على ذلك فان بطلة القصة تتحدّر من الموآبيين، وهم أعداء اسرائيل التقليديون. ويوّد هذا السفر أن يشدّد على شمولية العنصرة اليهودية، كما كان يحلو للتقليد أن يردّد. فان التوراة المعطاة لإسرائيل هي لجميع الناس، ووعودها تعني الوثنيين أيضاً. وكل من يدع الخير يسيرّه على غرار راعوت، يُعتبر من الشعب المختار.
و ذلك، فهناك سبب آخر لإختيار سفر راعوت:"... وهو أن يعلّمنا أن الشريعة لا تُعطى إلاّ من خلال الفقر والعذاب...". لذلك قيل في مطلع سفر راعوت: "كان في أيام حكم القضاة مجاعة في الأرض". فالتوراة هي الجواب الحقيقي عن "المجاعة" والوحيدة القادرة على التغلّب عليها. وفي الواقع، في الأرض التي يعيش أهلها بموجب التوراة، أي بحسب شريعة العهد، يأكل الجميع ويشبعون، مثل راعوت (راجع راعوت 14:2).
إن العنصرة، وهي عيد البواكير والتوراة، تعني أيضاً، كما يشير إسمها "عَصِرت" "الختام أو التتويج والتتميم" بحسب معنى الكلمة العبرية. ولماذا هذه التسمية؟ هناك سببان أيضاً: الأول، على المستوى الزراعي: إن عيد الأسابيع يختم سلسلة تقادم البواكير التي تبدأ مع حصاد الشعير ومع عيد "الماصوت" في الفصح. والثاني، علي المستوى التاريخي خصوصاً: إنه يختم معنى الفصح الذي يبلغ تمامه بعطية التوراة.
وعطية التوراة ليست في الحقيقة مرحلة لاحقة للخروج من مصر، وكأن الله يُخرج اسرائيل "أولاً" ويمنح التوراة "بعد ذلك". أبداً! فهذه العطية هي السبب الحقيقي الذي دفعه إلى الإلتزام: فإن الله يُخرج اسرائيل من مصر ليمنحه عطية التوراة! فليس الخروج من مصر هدفاً في حدّ ذاته: بل هو موجّه بكلّيته نحو سيناء. وهناك يعبر اسرائيل من الخضوع لفرعون إلى الطاعة في حضرة الله، من العيش من أجل الذات، أي العبوديّة، إلى العيش بحسب الله، أي الحريّة. وباختصار من العبوديّة إلى العبادة.
والعنصرة، عيد البواكير والتوراة، تحتفل بالتالي بحدث مزدوج: هو خصب الأرض وخصب طاعة الإنسان. وتحتفل به احتفالها بحدثين لا ينفصلان، بل يرتبطان ارتباطاً وثيقاً ومتبادلاً: فتكون الأرض خصبة شرط أن يعيش الإنسان فيها ويعمل معها بحسب البرّ، أي بحسب العهد. قلب بار وثمر وافر: إنهما قطبان ضروريان لا يمكن الإستغناء عنهما! فباجتماعهما يزهر فرح العيد، وبقرانهما يلد نشيد عدن الجديد.
ب- أهميّة عطيّة التوراة ومكانتها
وما هذه المقدّمة إلاّ للدلالة والتأكيد على أهمية التوراة ومكانتها الفريدة في حياة شعب الله.
والاقتراب من الله القدوس يفترض كمالاً في القداسة، إذ إن الشريعة الإلهية التي سيتسلمّها إسرائيل هي نور لا يرحم، يسبر عمق أعماق القلوب. وفي الوقت نفسه كلام الله هو تجلّ لمحبته الفائقة التي تحثّ اسرائيل على أن يستسلم طوعاً لنداءاته. ففي سيناء وعى اسرائيل أنه "شعب محبوب" كما يقول الترجوم، وأنه مطالب بالتجاوب التام مع نداءات الله الآتي ليخلصه. هذا ما يفترض، على الرغم من كل متطلبات التوراة الصعبة، توبة داخلية جذرية يقطع بها كل علاقة مع حالات الخطيئة السابقة. ولذلك كانت الأيام التي سبقت تجلّي الله على جبل سيناء بالغة الأهمية إذ كانت بمثابة فرصة يهبها الله لشعبه حتى يعود ويتوب إليه.
ويقول تلمود بابل: "إن شهوة اسرائيل انتهت في سيناء". والشهوة هنا لا تعني خطيئة معيّنة، بل هي جوهر الخطيئة، أي أن يشتهي المرء ما هو ضدّ الله. إنها في أصل خطيئة آدم، وقد تطورت وتفاقمت عبر تاريخ البشرية. وإن موت الشهوة في قلب الإنسان يعني أن يعود إلى حالته الفردوسية الأولى قبل سقطته. ولذا فالعهد الذي قُطع في سيناء بين الله وشعبه قد تمَّ بتمام حبّ متبادل وهو عهد زواج يتمّ بين حبيبين.
وهكذا تظهر جماعة الصحراء في التقليد اليهودي على أنها الجماعة المثالية، كما ستظهر لاحقاً في أعماله الرسل الجماعة المسيحية الأولى. ولم يحقّق الشعب دعوته كأمة مقدّسة وشعب مكرّس مثلما حققها آنذاك في بريّة سيناء. فهو جماعة مقدسة، جماعة أخوّة، عاشت حالة آدم الفردوسية قبل سقوطه في الخطيئة. وإذا تصالحت مع الله فليس بفضل استحقاقاتها الشخصية، بل بفضل حب الله المجاني والمميّز لها، واستحقاقات آبائها من ابراهيم واسحق ويعقوب، مما جعلها تنال كل الامتيازات التي أراد الله بنعمته ومحبته أن يمنحها للبشرية في البدء. فصار كل عضو من أعضاء تلك الجماعة يحمل على رأسه التاج الملوكي ويستحق أن يتقدم مباشرة من الله ليخدمه دون اللجوء إلى كهنوت يشفع به وبخطاياه، أي أصبح الشعب بمجمله شعباً ملوكياً وكهنوتياً.
وكانت القداسة التي تميّز بها اسرائيل في سيناء النبع الذي ينهل منه قبوله وإذعانه لكلام الله قبولاً تاماً لا لبس فيه. وكان من الممكن أن تكون هذه القداسة ضمانة الحياة الأبدية التي وعد بها الله الإنسان الأول حين جبله ونفح فيه من روحه، لو بقي الشعب أميناً لعهده، ولو لم يسقط هو أيضاً في خطيئة عبادة العجل المذهّب. وبقدر ما يعظّم التقليد قداسة الشعب في سيناء تظهر فداحة خطيئته هذه. حينها فقد اسرائيل كل امتيازاته التي كانت التيجان ترمز إليها والتي نالها يوم إبرام العهد مع الله. ولكن في الزمن المسيحاني سيستعيد الشعب الاسرائيلي تلك التيجان، أي تاج الملوكية وتاج الكهنوت، مع ما ترمز إليه من امتيازات. وبحسب التقليد الراباني نال آدم أيضاً الصفة الملوكية والكهنوتية ولكنه فقدها بسقطته في الخطيئة.
نلاحظ إذاً أن تجلّيات الله الثلاثة الكبرى في التاريخ، أي في الخلق وعلى جبل سيناء وفي الأزمنة المسيحانية، يقابلها أزمنة تشارك البشرية فيها مشاركة فعلية وفعّالة في الإمتيازات التي أراد الله أن يهبها للإنسان حين خلقه على صورته ومثاله. فبعد أن فقدها آدم فقدها اسرائيل أيضاً بسبب خطيئته، دون أن يفقد صفته المميّزة كشعب مختار انتقاه الله وأصطفاه ليفتتح به ومن خلاله الأزمنة الاسكاتولوجية عند مجيء المسيح المنتظر.
ج- اسرائيل عند منعطف القرن الأول
وهنا يُطرح السؤال: أين كان اسرائيل عند منعطف القرن الأول؟ وما كان واقعه يوم حلّ الروح القدس على التلاميذ في العليّة، في تلك العنصرة الكلية الجدة؟
كان الشعب يعيش آنذاك مرحلة مأسوية، هي من أصعب مراحل تاريخه وأدقّها، لأنها تهدّده في صميم كيانه ووجوده.
ففي ذلك اليوم، كما في كل عنصرة، كان الشعب اليهودي بأجمعه يتوجّه بأنظاره إلى جبل سيناء المقدس حيث أسمعه الله صوته وأملى عليه توراته منذ عدّة قرون.
فكما سبق ورأينا، كانت جماعة الصحراء تمثل بالنسبة إلى الشعب اليهودي ذلك العصر الذهبي الذي فيه تجلّت كلمة الله وأنارت حياة الشعب كشعب مكرّس ومقدّس وأضفت معنى على وجوده فحقق اسرائيل حينها كل متطلبات دعوته، إذ كانت طاعته كاملة، فغمره الله بنعمه وعطاياه.
وهذا الماضي المجيد لم يغب ولم ينطفىء رغم أن "روح النبوءة" كانت قد صمتت في اسرائيل بغياب آخر الانبياء من حجاي وزكريا وملاخي. فكانت عودة هذا الروح منتظرة مع حلول الأزمنة المسيحانية حيث سيتدخل الله مجدداً ويتجلّى بكل جبروته، وبكل ما كان له من قدرة يوم ظهوره في سيناء، ليجدّد العالم ويدمّر الكفّار. فشريعته ما زالت حيّة، وما زال يتوجه بها، لا إلى اسرائيل فقط، بل إلى كل الأمم لتتوب، وما زالت الأمم ترفضها اليوم كما فعلت بالأمس في سيناء، لأن الله، بحسب التقليد، كان تجلّى لها هناك أيضاً. فلا بدّ لله من أن ينتصر. ولكن، في انتظار تحقيق ذلك الإنتصار، كان من واجب الجماعة ان تحمي نفسها، فلا تسمح لعدوى الأجواء المحيطة بها أن تتغلغل إلى داخلها وتتفشى بين أفرادها بتواطئها مع "الخطأة"، لأن دينونة الله ستكون بلا رحمة وها هي قد أصبحت على الأبواب.
وسط هذه الاجواء من الاحتفال "بعطية الشريعة" ومن الإنتظار الاسكاتولوجي، نستطيع أن نفهم رواية لوقا لحدث العنصرة كحلول للروح الذي وعد به الله في الأزمنة المسيحانية. فنحن هنا في ملء الأزمنة وتمامها، وهي وليدة الحدث الفصحي، كما سنرى، حدث موت السيد المسيح وقيامته بالمجد من بين الأموات: إنه وقت اكتمال الأزمنة وتمام الشريعة وملء الروح الذي يغمر بحلوله المكان والأشخاص لانطلاقة جديدة في خدمة خلق جديد.
د- تتميم الشريعة وإكتمال الأزمنة
ولكن ماذا كان اليهود يفهمون بتتميم الشريعة والكتب وباكتمال الأزمنة؟
هذا يعني في الأساس ثلاثة أمور متكاملة يجب وعيها لنفهم بالعمق ما حصل يوم العنصرة:
1- إعادة فتح التوراة على النبوءة.
2- نتيجتها (هـ ل ك ة) جديدة، أي طريقة عيش أو ممارسة جديدة.
3- تكون بمثابة إفتتاح للازمنة الاسكاتولوجية وتحقيق لها.

1- إعادة فتح التوراة على النبوءة
إنه إعادة فتح النبوءة، أي أن تنفتح السماء ثانية فتهبّ روح النبوءة مجدداً، لأن الله قادر دائماً أبداً أن يخلق في قلب الحاضر جديداً يفوق بكثير ما كان قد حققه في ماضي شعبه والبشرية بكلمته وبروحه.
فلنستعد مثلاً عودة الشعب من سبي بابل كما يرويها أشعيا الثاني. فهو يُظهرها ويبرزها كخروج آخر جديد حيث يجدّد الربّ آياته ومعجزاته الخلاصية حين يعيد. مرة أخرى خلق شعبه الجريح الشريد:
"لا تتذكروا الأوائل ولا تتأملوا القدائم. هاأنذا آتي بالجديد ولقد نبت الآن، أفلا تعرفونه؟ (هذه هي إعادة فتح النبوءة لأجل خلق جديد). أجعل في البرية طريقاً وفي القفر أنهاراً... والشعب الذي جبلتُه لي هو يحدِّث بحمدي" (أش 43: 19- 21).
إن أعاجيب الماضي، من عبور البحر وتدمير جيوش الفرعون، ستفوقها العظائم التي سيجريها الله عند الخروج الجديد من بابل.
والنبي حزقيال يقدّم لنا الجديد على أنه نبوءة موجهّة إلى الروح على العظام الرميمة، وهي رمز لرجاء بيت اسرائيل المحطَّم في منفاه، بهدف إعادة ترميمه كشعب الله وبعثه مجدداً:
"فقال لي الربّ: تنبأ للروح، تنبأ يا ابن الإنسان وقل للروح: هكذا قال السيد الربّ: هلمّ أيها الروح من الرياح الأربع، وهُبَّ في هؤلاء المقتولين فيحيوا" (حز 37: 9).
وهذه الرؤيا الرائعة تنتهي بما يلي: "فتعلمون أني أنا الربّ، حين أفتح قبوركم وأصعدكم من قبوركم يا شعبي. واجعل روحي فيكم فتحيون، وأقرّكم في أرضكم، فتعلمون أني أنا الربّ تكلمت وصنعت، يقول الربّ" (حز 37: 13- 14).
نعم، "تكلمت" بكلمتي، "وصنعتُ" بروحي.
فالشعب اليهودي كان قد عاش الخروج على أنه الحدث الكبير الجديد أبداً الذي تمَّ من خلاله تكوينه كشعب اختاره الله واصطفاه لعبادته وخدمته. فالله حرَّره من كل أنواع العبودية، وارتبط به بعهد مقدس، ليجعل منه شاهداً لقدرته الخلاصية في وجه كل الأمم، عهد يحتفل به الشعب كل سنة، يوم عيد العنصرة، بارتباط وثيق بحدث الفصح التحريري:
"أنتم شهودي، يقول الرب، وعبدي الذي اخترته لكي تعلموا وتؤمنوا بي وتفهموا أني أنا هو، لم يُكوَّن إله قبلي ولا يكون بعدي. أنا أنا الربّ، ولا مخلّص غيري... وأنتم شهودي، يقول الربّ، وأنا الله" (أش 43: 10- 12).
نعم، إنَّ كل هذا هو من صنع كلمة الله وروحه، هذا الروح الذي كان يرفرف منذ البدء على المياه ليُخرج من الـ "توهوبوهو" الأولى خلقاً يتلألاً نوراً وبهاءً، عهد به الربّ إلى الإنسان الذي نفح فيه من روحه ليصيرّه على صورته ومثاله.
ففي البدء خلق الله كل شيء بكلمته وبنسمة من روحه القدوس. وبالكلمة نفسها وبالروح نفسه ما زال يجدد وجه الأرض (مز 104: 30)، ولاسيّما قلب شعبه: "هاأنذا أصنع كل شيء جديداً" (رؤ 21: 5).

2- نتيجتها هـ ل ك ة جديدة، أي ممارسة جديدة
نعم، إن الله ما زال يجدد بروحه قلب شعبه، حتى يأتي بهم إلى ممارسة (هلكة) دائمة التجدد لمتطلبات شريعته في حياتهم اليومية، وفي كل مرحلة من مراحل تاريخهم، كما فعل في الماضي بواسطة موسى في سيناء، ومن ثمّ من خلال أنبيائه، ومن بعدهم مع حكماء إسرائيل.
وما هذا العيش الجديد الناتج عن جدّة الله، في آخر المطاف، إلا عمل الروح القدس، القادر وحده أن يجعل شريعة الله تتأصل في أعماق القلوب لترجمتها إلى طريق حياة للشعب كله، ولكلّ مؤمن بمفرده.
فالتوارة هي أبعد من أن تكون مجموعة وصايا. إنها في الواقع والأساس توجُّه كياني صوب الله. ولفظة هـ ل ك ة تعبرّ عنها أصدق تعبير كطريق حياة. إنها هبة الله الفضلى والمثلى: "بشريعتك أنعم عليَّ" (مز 119: 29). "شريعة الربّ كاملة تنعش النفس" (مز 19: 8). بل هي حياة (حز 33: 15)، وحق (مز 119: 142)، ومصباح للخطى ونور للسبيل (مز 119: 105)، ونعيم لكل من يتأملها ويعمل بها (مز 119: 77)، وفيها "سلام وافر لمحبيها ولمن يتأملها النهار كله" (مز 119: 97، 165).
فلذا كان همّ الربّ الأوحد في مرافقته لبني اسرائيل، طيلة مسيرتهم عبر التاريخ، أن يجبل نفوسهم من الداخل وأن يجدّد قلوبهم فيستجيبون إستجابة الابناء لمتطلبات شريعته: "يا بُنيّ، أعطني قلبك ولْتَطِب عيناك بطرقي ولْتَرْعَ عيناك طرقي" (مثل 23: 26). فلا يعود بعدئذ "شعباً ذا قلب عاص متمرّد" (إر 5: 23)، ذا "قلب غير مختون" (أح 26: 21) وذا "قلب منقسم ومنزلق" (هو 10: 2)، لأن الربّ إلههم مزمع أن يقطع عهداً جديداً معهم: "ها إنها تأتي أيام... أجعل شريعتي في ضمائرهم وأكتب على قلوبهم، وأكون لهم إلهاً وهم يكونون لي شعباً" (إر 31: 31-33). بل أكثر من ذلك، سيعطيهم الله قلباً آخر موحداً (إر 32: 39)، أيّ قلباً ليعرفوه (إر 24: 7).
وبعد أن يوصيهم الله قائلاً: "إصنعوا لكم قلباً جديداً وروحاً جديداً" (حز 18: 31)، يعدهم بأن يحقق هو نفسه ما يطلبه منهم: "وأرش عليكم ماء طاهراً، فتطهرون من كل نجاستكم، وأطهّركم من جميع قذارتكم، وأعطيكم قلباً جديداً وأجعل في أحشائكم روحاً جديداً، وأنزع من لحمكم قلب الحجر، وأعطيكم قلباً من لحم، وأجعل روحي في أحشائكم وأجعلكم تسيرون على فرائضي وتحفظون أحكامي وتعملون بها. وتسكنون في الأرض التي أعطيتها لآبائكم، وتكونون لي شعباً وأكون لكم إلهاً" (حز 36: 25-28).
فبعد أن يكون اسرائيل قد تجدّد بالروح، سيعترف بإلهه وسيلتقي الله مجدداً شعبه: "ولا أحجب وجهي عنهم بعد اليوم، لأني كون قد أفضت روحي على بيت اسرائيل، يقول السيد الربّ" (حز 39: 29). وبذلك تكون قد تحققت بين الله وشعبه وحدة نهائية وأبدية هي دلالة على حلول الأزمنة المسيحانية الموعود بها.

3- إفتتاح الأزمنة الاسكاتولوجية وتحقيقها
كان العهد القديم ينظر إلى نهاية الأزمنة نظرة شاملة: أي إن تدبير الله سيصل إلى غايته باجرائه الدينونة والخلاص في وقت واحد على هذه الأرض: الدينونة للخطأة والأمم، والخلاص للأبرار وشعب الله.
غير أن الانبياء كانوا يربطون حلول الروح بمجيء عهد جديد، كما رأينا في حز 39: 29 وأش 44: 3 و59: 21. وكان يوئيل أكثر الانبياء وضوحاً في هذا المجال، ممّا جعل القديس بطرس يستشهد به يوم العنصرة بالذات. فعلى مثال أشعيا وحزقيال، ينسب يوئيل إلى حلول الروح القدس تجدّد شعب الله المستقبلي والاسكاتولوجي، حيث سيكون امتلاك الروح العلامة المميزة التي تشمل جميع أبناء الله بحسب رغبة موسى التي عبرَّ عنها في عد 11: 29، رداً على اعتراض يشوع بن نون، بأن يكون جميع شعب الله مؤلفاً من أنبياء: "ليت كلَّ شعب الربّ أنبياء باحلال الربّ روحه عليهم". وسيكون هذا الروح في آن واحد روح النبوءة المتجلّي هنا بالأحلام والرؤى: "إن يكن فيكم نبي فبالرؤيا أتعرّف إليه، أنا الربّ، وفي حلم أخاطبه" (عد 12: 6؛ راجع أيضاً يوء3: 1)، والدافع إلى تجدّد داخلي كما جاء في حز 11 :19-20 و26:36-27.
ومن الملاحظ، أن روح الله الذي يخلق الكائنات ويحييها (تك 1: 2 و2: 7 و6: 17) كان يحلّ، في العهد القديم، على بعض الرجال ليمنحهم قوة فائقة الطبيعة (تك 41: 38 وخر 31: 3 و1 صم 16: 13) ولاسيّما الانبياء منهم (قض 3: 10)، بينما ستمتاز الأزمنة المسيحانية بفيض غير مألوف للروح سيطال جميع البشر (يوء 3: 1، زك 4: 6 و6: 8) ليمنحهم مواهب خاصة (عد 11: 29 ورسل 2: 16- 21)، ويكون لكل واحد، على وجه خفي، مبدأ تجدّد داخلي وباطني يمكّنه من المحافظة بأمانة على الشريعة الإلهية (حز 11: 9 و36: 26-27 و37: 14 ومز 51: 12 ي وأش 32: 15-19 وزك 12: 10)، كما سيكون أيضاً مبدأ العهد الجديد (إر 31: 31؛ راجع 2 قور 3: 6)، الذي يُنبت، كالمياه الفياضة المخصبة، ثمار برّ وقداسة: "فإني أفيض المياه على العطشان والسيول على اليبس. أفيض روحي على ذريتك وبركتي على سلالتك فينبتون كما بين العشب، كالصفصاف على مجاري المياه" (أش 44: 3- 4؛ راجع أيضاً حز 47: 12 ويو 4: 14) ممّا يضمن للبشر حظوة الله وحمايته (حز 39: 24 و 42: 1 و61: 1؛ راجع متّى 3: 16 ولوقا 4: 18).
وبالفعل، نلاحظ في مطلع العصر المسيحي، أن الاسكاتولوجيا اليهودية كانت تولي إهتماماً متزايداً لانتظار المسيح: الملك الذي ينتظره الجميع، والمسيح الكاهن في رأي بعض الاوساط، كما في قمران مثلاً: بيد أن مواعيد الكتب المقدسة لا تنحصر في هذه المسيحانية بمعناها الضيّق، والتي غالباً ما ترتبط بأحلام سياسية، بل تعلن أيضاً تأسيس ملكوت الله وتحقيقه، كما أنها تقدّم حامل هذا الخلاص المنتظر وصانعه بملامح ابن الإنسان الآتي على السحب كما جاء في نبوءة دانيال 7: 13- 14، أو عبد يهوه الذي يحلّ عليه الروح كما في أشعيا 61: 1-2. ولكن التناسق يين كل هذه المعطيات الكتابية وانتظار المسيح (أو المسحاء) لن يتحقق بصورة واضحة وجلّية إلا مع مجيء يسوع المسيح الذي سيحلّ عليه ملء الروح والذي سيُبدّد بموته وقيامته كل الالتباسات الواردة في النبوءات حول هذه المسألة.
كما أن الأزمنة الاسكاتولوجية التي يفتتحها المسيح المنتظر بمجيئه ستكون زمن الأمم، طبقاً لانتظار اسرائيل ووعود الانبياء، فيكون اهتداء الوثنيين علامة حلول هذه الأزمنة الاسكاتولوجية المنتظرة، كما ورد في زك 14: 16: ففي الأزمنة الاسكاتولوجية سيملك يهوه على جميع الأرض وستأتي جميع الشعوب إلى أورشليم لتحتفل بعيد المظال. أما وعدَ الله ابراهيم منذ اللحظة الأولى بأن جميع عشائر الأرض ستتبارك به (تك 3:12) وبأنه سيجعل عهده معه، فيصير أباً لعدد كبير من الأمم (تك 17: 4)؟ كما أن أشعيا يصوّر لنا الأمم آتية إلى أورشليم لتتعلم شريعة الربّ، كدلالة على عودة السلام الشامل الذي ستتميّز به الأزمنة الاسكاتولوجية (أش 2: 2- 5)، حتى إنها ستشارك في عبادة الله الحقّ، ومنها أيضاً سيتّخذ الربّ كهنة ولاويين لخدمته (أش 66: 21 و60: 1-16 و25: 6 وزك 14: 16)، وسيقوم عبد يهوه تجاههم، كما تجاه اسرائيل، بدور الوسيط: "هوذا عبدي الذي أعضده، مختاري الذي رضيت عنه نفسي. قد جعلت روحي عليه، فهو يُبدي الحقّ للامم... أنا الربّ دعوتك في البرّ وأخذت بيدك وجبلتك وجعلتك عهداً للشعوب ونوراً للأمم" (اش 42: 1- 6؛ راجع متّى 18:12-21).
وهكذا يتكوّن في الازمنة الأخيرة شعب الله الواحد والموحَّد الذي سيستعيد الشمولية الأولى ويبنيها مجدداً. وإذا كانت الشريعة تُظهر اسرائيل بمظهر المتعنت، وهذا ما سيُبطله العهد الجديد، فإننا نلاحظ كم أن النبوءة تقترب من وجهة نظر سّر الوجود الأصلي الواسعة والشاملة والنابعة من قلب الله.
هـ- حدث العنصرة
وها نحن أمام حدث العنصرة كما يرويه لوقا في اعمال الرسل 2.
ولسنا فقط أمام الخمسين الذي بلغ تمامه، بل نحن أمام حلول شامل للروح الذي طالما انتظره الناس والذي يشهد على اكتمال الأزمنة المسيحانية وحلولها. فكان لا بدّ لعظة العنصرة من أن توضح مدلول هذا الحدث الممّيز وتفسرّ أبعاد حلول الروح الذي يشهد الحاضرون تأثيره على تلاميذ يسوع المجتمعين في العليّة.
والنصّ المفتاح مستوحى دون شكّ من سفر يوئيل النبي 3: 1- 5 الذي يستشهد به بطرس. حرفياً في مطلع عظته: إن حلول الروح يتمّم ما ذكره يوئيل عن الأزمنة الأخيرة. فقد أتى وقت تحقيق المواعيد، أو بالأحرى، وعد الروح الذي ستأتي على ذكره بقيّة العظة (2: 33 و39) مستشهدة بالنبوءة نفسها.
غير أن معنى الحدث ليس اسكاتولوجياً وحسب، بل هو كريستولوجي في الأساس. وهذا ما يميّزه. فالحاضرون شهدوا لحدث حلولا الروح القدس الموعود به (2: 17). وهذ الفيض الذي تمَّ لمصلحة تلاميذ يسوع، لا يمكن أن يُنسب إلاّ إلى يسوع. ولكن حين يمنح يسوع الروح، كان لا بدّ من أن يناله من الآب. وفي منطق بطرس، كان ذلك يفترض أن يسوع صعد إلى السماء حيث "جعله الله رباً ومسيحاً" (2: 36)، متمماً بذلك ما ورد في المزمور 118: 16: "يمين الربّ رفعتني"، وما تنبأ به المزمور 110: 1: "قال الربّ لسيدي: إجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطناً لقدميك" (رسل 2: 34- 35).
فالتفسير الراباني للمزمور 68: 19 يتيح لنا أن نقيم مقارنة بين صعود موسى وصعود يسوع إلى السماء، بين عطية الشريعة وعطية الروح. وليست المسألة منهجية لاهوتية ترتبط بالوقت الذي نال فيه يسوع الروح له وللآخرين. فالتفكير يتجه نحو مجال كثر واقعية، إذ نحن أمام أحداث لا بدّ من استخلاص معانيها العميقة: إنها في أصل المسيحية وأصالتها التي تبرز في المفارقة التي نقارن بها بين عطية الشريعة وعطية الروح، بين الدور الذي قام به موسى والدور المنسوب إلى المسيح الذي صعد إلى السماء وجلس عن يمين الله: "فلما رفعه الله بيمينه، نال الربّ من الآب الروح القدس الموعود به فأفاضه، وهذا ما ترون وتسمعون" (2: 33).
نحن إذا أمام إعادة فتح التوراة على النبوءة، وإكتمال الوحي في يسوع المسيح الذي يطالب أتباعه بنوعية جديدة في الإيمان تختلف عن نوعية إيمان الدين اليهودي التقليدي. فالدين اليهودي عرف الإيمان والروح القدس وأعمال البرّ. غير أن الإيمان عنده كان ميّالاً إلى الإستقرار والإكتفاء الذاتي، بل إلى التجمّد في توراة مكتملة وثابتة تتحقق في تتميم أعمال برّ خاصة بها، يُقرّها حكماء اسرائيل الذين يعتبرون أنفسهم أبناء الانبياء والسلطة الوحيدة ذات الكفاءة في هذا المضمار. والتوراة، كما تُعاش حالياً في الدين اليهودي منذ مجمع يمنية، لم تعد بحاجة إلى أن تنفتح مجدداً على أي وحي إلهي، بل أغلقت على نفسها واكتفت بنفسها، فحكمت بذلك على نفسها بالجمود.
ولمّا أعاد المسيح يسوع فتح التوراة على النبوءة، ظهر بمظهر النبي العظيم المنتظر (تث 18: 18). فالتوراة لم تُعطَ بكليتها في سيناء، وليست أزليّة بالتالي، كما يعتقد اليهود. أما الذي أعاد فتحها، أي يسوع المسيح، فهو الأزلي الأبدي. وبصفته مسيح الأزمنة الاسكاتولوجية، صار أيضاً موضوع وحي نهائي ومكمِّل لما سبق، كما جاء في متّى 5: 17: "ما جئت لأبطل، بل لأكمّل". إنه النبي العظيم الذي يعيد فتح التوراة ويكمِّلها بطريقة نهائية، مطالباً بنوعية جديدة في الإيمان وداعياً إلى أعمال برّ جديدة، أي إلى "هـ ل ك ة" جديدة، تعبرّ عنها عظة الجبل خير تعبير (متّى 5- 7)، وأساسها تلك النوعية الجديدة في الإيمان التي هي العبادة الواجب تأديتها لله الآب بالروح والحقّ.
أضف إلى ذلك أن المسيح، بموته وقيامته، أبرم بدمه العهد الجديد من أجل الكثيرين، وبه تنتقل البركة من اسرائيل إلى الشعوب كافة. ووفقاً لتوقعات اسرائيل، صارت الأزمنة الاسكاتولوجية التي يفتتحها السيد المسيح "زمن الشعوب" المميّز. وصار اهتداء الوثنيين، بالنسبة إلى اسرائيل، كما رأينا، علامة مجيء الأزمنة الاسكاتولوجية كما جاء في زك 14. وبيعة الشعوب، كما يحلو لتقليدنا السرياني أن يدعوها، المنبثقة من الوثنية، تؤكد أن يسوع هو المسيح الاسكاتولوجي الذي طالما انتظره اسرائيل وتشهد على تحقيق الوعد لابراهيم فيه. إن يسوع هو المسيح المتظر الذي أعاد فتح النبوءة في اسرائيل وذلك ببعدها الشمولي. إلاّ أن اسرائيل لم يؤمن، بل ظلَّ في "هلكة" هـ الخاصة التي يحدّدها البشر، ورفض الفتح النبويّ للتوراة الذي أتى به يسوع الذي يتمّ فيه، وفيه وحده، الإكتمال النبوي النهائي والاسكاتولوجي الذي سبق وأعلن عنه الأنبياء.
إن يسوع هو إذا مقرّ الروح الوحيد وموطنه الذي منه يفيض في القلوب وعلى كل بشر. هو التوراة، الكلمة الكائن من البدء والذي ينير الشعوب بنور عيد المظال النهائي (زك 14) ومنارة صليبه الفصحي.
إنه الكفّارة بدمه الذي يحلّ نهائياً محلّ الذبائح في الهيكل. إنه الكاهن وخادم الهيكل النهائي الأبدي الذي يلغي ممارسات التوراة الموسوية البالية. إنه وحده حقيقة التوراة الذي يُثبِّت العهدين بإفاضته روحه على كل بشر من أعلى صليب مجده.

1- البُعد الاسكاتولوجي والديناميكي للعنصرة
نحن إذاً أمام رواية للعنصرة في سفر الأعمال، لها معنى كريستولوجي ومسيحاني في وقت واحد، أو بمعنى آخر، لها بعد اسكاتولوجي مرتبط بالبعد الكريستولوجي.
إن الروح القدس هو عطية الموعد، العطية الاسكاتولولجية المثلى والممّيزة. وهذا هو المعنى الذي نجده في نبوءة يوئيل التي تستشهد بها رواية العنصرة. وإفاضة الروح هي علامة مجيء الأزمنة الأخيرة. غير أن هذه الأزمنة الأخيرة تنقسم إلى مرحلتين:
مرحلة أرضية هي حياة يسوع وزمن الكنيسة؛
ومرحلة سماوية دشّنها السيد المسيح عند ارتفاعه إلى السماء من حيث يفيض روحه على كل بشر، وهي في حالة تأجيل بالنسبة إلى الكنيسة حتى المجيء الثاني. وما الأزمنة الأخيرة، إذاً، في مرحلتها الأرضية، إلاّ زمن الكنيسة الذي افتُتح يوم العنصرة والذي يؤلف مرحلة الخلاص بدخول الوثنيين إلى شعب الله الجديد الذي يجمعه المسيح قبل حلول يوم الربّ العظيم، في الآخرة.
ولعطية الروح أيضاً بُعد ديناميكي وزمني، على عكس نظرة العهد القديم حيث كان من المنتظر والمفترض أن يصعد الوثنيون أنفسهم إلى أورشليم ليلتحقوا بالشعب اليهودي. ففي الوضع التاريخي الذي تدشّنه العنصرة، يدفع الروح الكنيسة إلى الشهادة وإلى تبشير جميع الشعوب بالإنجيل، إنطلاقاً من أورشليم وحتى أقاصي الأرض (1: 8). فنحن أمام ممارسة جديدة بدافع من الروح. وتتجلّى قوة الروح بوجه أساسي في إيمان وحكمة وجرأة غير إعتيادية تبلغ حدّ الشهادة أمام المحاكم والسلطات الأرضية.
وهكذا يتجلّى المظهر الاسكاتولوجي في ارتفاع يسوع المسيح إلى السماء. أما في ما يختصّ بجميع المؤمنين فإنه يتجلّى في عطية الروح الشاملة المرتبطة بارتفاع المسيح وتمجيده وفي العماد بالروح القدس الذي هو استباق لاكتمال الخلاص. أما المظهر الديناميكي للعنصرة فيتجلّى في إنتشار الإنجيل انتشاراً واسعاً يشهد على القوة الديناميكيّة للروح الذي وعد به يسوع والذي يقود شعب الله الجديد في مسيرته عبر التاريخ والذي يستمر بطريقهّ رسمية بلا انقطاع منذ عهد الرسل في أورشليم حتى أيامنا هذه وإلى منتهى الدهر من خلال المرسلين إلى الجماعات الوثنية، أي "إلى أقاصي الأرض، وإلى منتهى الدهر".
ومع ذلك، لا بدّ من الإشارة إلى أن مظهر الروح كمبدأ قداسة، وهو مظهر ورد ذكره في العهد القديم وتعمّقت به جماعة قمران، وميّز كتابات بولس ويوحنا، غائب تقريباً في سفر الأعمال. لا لأن لوقا يجهل ذلك أو يتناساه، بل لأنه يريد، على ما يبدو، أن يبرز دور يسوع الذي يحقّق الخلاص الممنوح باسمه ودور الروح القدس الذي يتمّم تدبير الله الخلاصي في مختلف مراحله التاريخية. وهكذا يقوم الروح، في مظهره الديناميكي التاريخي، بإعداد وتسيير وقيادة التدبير الخلاصي الذي يحققه يسوع والذي نقبله بالإيمان به وبالدعاء باسمه وبالعماد: "توبوا، وليعتمد كل منكم باسم يسوع المسيح، لغفران خطاياكم، فتنالوا عطية الروح القدس" (2: 38). وهذا ما يتيح للوقا أن يميّز تمييزاً أفضل بين عمل الروح وعمل المسيح القائم من الموت، تمييزه للنتيجة عن السبب.
فالأهمية التي يوليها لوقا للروح القدس كمبدأ متميّز في ذاته تجعلنا نشعر بأننا أمام ثلاثة مبادىء تشترك في تحقيق الخلاص:
- الله الآب يمنح الخلاص بإرساله ابنه يسوع إلى العالم وبإطلاقه الدعوة إلى الإيمان.
- يسوع يمنح هذا الخلاص بقوة اسمه ولاسيّما في العماد.
- والروح يجعل هذا التدبير الخلاصي حاضراً وفاعلاً لجميع البشر، عبر التاريخ، متمماً إيّاه في ملئه الاسكاتولوجي.

2- العنصرات الثلاث
في الواقع، إذا أخذنا في الإعتبار الأهمية التي يوليها لوقا لمختلف الأحداث التي يرويها في الإنجيل وأعمال الرسل، علينا أن نمحور مفهوم الروح اللوقاوي حول ثلاثة أحداث تبني مؤلَّفه: عنصرة يسوع في الأردن، عنصرة الكنيسة في أورشليم، وعنصرة الوثنيين الممثلين بقرنيليوس.
وهذه الأحداث الثلاثة الكبرى في مؤلف لوقا تروي ثلاث مراحل مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بانتشار الإنجيل حتى وصوله إلى الوثنيين. وهي تشير ضمناً إلى تدخل الروح الذي يكسر فتور همّة شعب الله وجموده في العهد القديم ليفتتح مراحل جديدة وحاسمة في تاريخ الخلاص. فتكريس يسوع النبوي في الأردن يُبرز موسى الجديد الذي سيعيد تنظيم شعب الله. وعنصرة أورشليم تميّز ولادة الكنيسة، شعب الله الجديد ووارث الموعد. وعنصرة قرنيليوس- وهي ذات أهمية خاصة في نظر لوقا المسيحي من أصل وثني- تميّز حركة الكنيسة التي تتجه نحو الوثنيين بعد اعتراف الكنيسة الأولى في مجمع أورشليم بأن الشريعة لم تعد ضرورية للخلاص، بل أُبطلت بموت المسيح وقيامته.
ففي الحقيقة، يولي لوقا أهمية كبرى لعنصرة قرنيليوس في تدبير مؤلَّفه، لا من حيث توسعه في سرد الحدث وحسب، بل من حيث موقعه في مؤلَّفه. فمن ناحية امتداد الرواية، تتجاوز حادثة قرنيليوس من حيث الأمية جميع الأحداث الأخرىِ المذكورة في سفر الأعمال (الفصل 10: 48 آية، الفصل 11: 18 آية، تذكير بالحادثة في 15: 7-9 و14 مع استشهادا.ت كتابية في 15: 15-18)، فيجعل لوقا من قرنيليوس الوثني الأول الذي يُقبل في الجماعة المسيحية. وكما أن وصول بولس إلى رومة وتبشيره الوثنيين في مدينة الأمبراطور يولّفان ذروة عمله الرسولي، كذلك يمكننا القول، من وجهة نظر لوقا، إن اعتماد قرنيليوس يؤلف، هو أيضاً، ذروة عمل بطرس الرسولي، إلى جانب تدخّله الحاسم في عظته يوم العنصرة، التي لن يبقى له بعدها إلاّ أن يحتجب ويترك الساحة لبولس. فهل تُؤمِّن حادثة قرنيليوس وحدة سفر الأعمال فتربط بين القسم الأول من الكتاب، حيث يقوم بطرس بالدور الأول، والقسم الثاني منه، حيث لا يدور الحديث إلاً عن بولس في توجّهه إلى الوثنيين؟
وبتلك العنصرات الثلاث ينسب لوقا إلى الروح القدس تدخلات الله الخارقة في أوقات حاسمة من تاريخ شعبه، في سبيل تحقيق تدبيره الخلاصي.

3- الروح في أحداث التدبير الخلاصي
كلما تعمّقنا في تفكير لوقا، لاحظنا أنه يبني لاهوته على التطور التاريخي لتدبير الله الخلاصي، إذ إن مقولات لوقا هي تاريخية وديناميكيّة. فهو ينظر إلى المشاركة في الخلاص على أنها إنضمام إلى شعب الخلاص. ويُبرز لوقا التواصل الموجود في العمل الخلاصي فينسب إلى الروح، كما رأينا، تطوّره عبر مختلف مراحله التاريخية، وبعض التجلّيات الحسّية التي تضمن أصالته.
فالروح القدس كان قد ألهم الانبياء في العهد القديم، كما ألهم أولئك الذين تذكرهم رواية طفولة يسوع (لو 1- 2)، ويوحنا المعمدان، لكي يعلنوا المسيح وتحقيق المواعيد.
في الأردن، حلَّ الروح على يسوع من أجل رسالته النبوية، وعند إرتفاعه إلى السماء ناله كعطية الموعد الاسكاتولوجية.
والروح نفسه أفاضه يسوع على الجماعة التي جمعها في أورشليم. فعطية الروح الاسكاتولوجية تطال جميع المؤمنين، في حين أن العطية الديناميكيّة تعني أولاً الرسل المكلّفين بالشهادة والتبشير بالإنجيل.
ولما اختبر الرسل نقص عددهم أمام تطور الجماعات السريع اختاروا لهم سبعة مندوبين "ممتلئين من الروح والحكمة" (6: 3)، تشتّتوا بسبب الاضطهاد في السامرة وفينيقية وقبرص وانطاكية. وتوطّدت الوحدة بين هذه الجماعات الجديدة والجماعة الأولى أورشليم بفضل إرسال بطرس ويوحنا إلى السامرة وتجلّي الروح عند وضع الأيدي (8: 14- 17). وكان لإرسال برنابا إلى انطاكية، وهو رجل "ممتلىء من الروح القدس" (11: 24) وتدخل حننيا عند اعتماد بولس (9: 10-19) الهدف نفسه.
وقد تلقت مرحلة تبشير الوطنيين وقبولهم كما هم، دون المرور بالختان، دفعاً قوياً وتثبيتاً مبيناً من الروح القدس، وهي مرحلة في غاية الأهمية ينسبها لوقا إلى بطرس الذي نال، بعد جدال، تأبيد جماعة أورشليم (11: 1-18)، ولاحقاً تثبيت مجمع أورشليم حيث اتخذ القرار بقبولهم باسم الروح القدس والكنيسة (15).
ولكن من خلال تاريخ الخلاص هذا، تعمّق لوقا بوجه خاصّ في ثلاثة اختبارات، كما لاحظنا، هي نوعاً ما أعمدة أساسية في بناء مؤلَّفه اللاهوتي: اختبار الاردن يوم عماد يسوع، اختبار العنصرة كنتيجة حتمية لفصح المسيح، واختبار قرنيلويس. فعطيّة الروح القدس للوثنيين، المساوية لعطية العنصرة، هي الحجّة الاكيدة والدامغة التي تبرهن أن الوثنيين انضموا هم أيضاً إلى شعب الخلاص المسيحاني الموعود في الأزمنة الاسكاتولوجية، وأن هذا الإنضمام تضمنه شهادة الروح القدس نفسه بحلوله على الوثنيين كما على الرسل. وهذا الإنضمام الذي يريده الله يحقق النبوءات التي تعلن أن المسيح المنتظر سيحمل الخلاص للامم الوثنية. فهو إذاً جزء لا يتجزأ من البرنامج الذي أوكلته الكتب المقدسة إلى المسيح، ومن دونه لا يمكن أن يكتمل العمل الخلاصي الذي تحدثت عنه النبوءات المسيحانية. وبالكلمات التي يتوجه بها بولس إلى الشعب اليهودي ينهي لوقا سفر أعمال الرسل بما يشبه خاتمة للسفر كله: "فاعلموا إذاً أن خلاص الله هذا أُرسل إلى الوثنيين وهم سيستمعون إليه" (28: 28).

و- خاتمة
نستطيع أن نوجز دراستنا مشدّدين على نقطتين أساسيتين:
1- حلّ الروح القدس على التلاميذ في العيد الذي كان اليهود يحتفلون فيه بذكرى إعلان الشريعة وإبرام العهد، في برية سيناء، بين الله وشعبه الملتئم في "جماعة" (إكلاسيا راجع 7: 38). فالعنصرة المسيحية تظهر إذاً على أنها عيد العهد الجديد في المسيح يسوع الذي يجعل من شعب الله الجديد جماعة الأزمنة الاسكاتولوجية. وإن هذا العهد الجديد لم يعد قائماً على مقتضيات شريعة (هـ ل ك ة) مفروضة على البشر من الخارج، بل على الروح الذي يحوّل القلوب ويوحي إليها بموقف بنوي حيال الله. هذا هو البُعد الاسكاتولوجي للعنصرة.
2- لم يكن على يسوع المسيح، موعود الانبياء، أن يتحمّل الآلام والموت ويقوم فحسب، بل أن يُعمل باسمه وبواسطة سّره الفصحي، وبقوة الروح القدس، على إعلان بشارة الخلاص الجديدة إلى "كل أمهْ تحت السماء" (2: 5). وهذا هو البعد الديناميكي والتاريخي للعنصرة. لقد سبق لبعض التقاليد اليهودية، كما رأينا، أن أضفت على أحداث سيناء بُعداً شمولياً. فالله أساساً توجّه بشريعته إلى الشعوب كافة، غير أن اسرائيل وحده هو الذي قبلها. فكان على كل من يريد الإنخراط في شعب الله أن ينضمّ إلى اسرائيل. أما تدبير الروح، في العهد الجديد، فهو في الحقيقة والواقع تدبير شمولية يمتد "إلى أقاصي الأرض". فعلى هذا الوجه الشمولي الخاص بكنيسة القائم من الموت المولودة من الروح، تنطبق دعوة الكنيسة إلى الرسالة ومنه تتبع إلزاميتها. إن سفر أعمال الرسل لا يفهمنا فقط أن الكتب قد تمّت، بل أنها تبرهن على صحة الرسالة المسيحيّة لدى الوثنيين بوصفها امتدادا ضرورياً لعمل المسيح الخلاصي. وهي بذلك تضع الكنيسة في حالة ارسال دائم حتى انتهاء الأزمنة، علماً أن ألسنة الشعوب وثقافاتها هي هبة من الروح إلى الرسل منذ فجر العنصرة، ومنهم إلى الكنيسة جمعاء، بما في ذلك كنيسة لبنان، على أمل أن تعود كنيسة لبنان، من خلال عنصرة دائمة إلى أصالتها الروحيّة والرسولية، أيّ إلى روحانية العليّة الرسولية، كمكان لعيش ملء الحدث الفصحي والإحتفال به، وكمكان للإنطلاقة الرسولية، فتنطلق هي أيضاً، بقوة الروح ذاته، لتشهد لهذا الملء بيسوع المسيح، حتى أقاصي الأرض، "فيكون أن كل من يدعو باسم الرب يسوع يخلص" (2: 21).
نستخلص إذاً أن المسيح والروح القدس هما معاً وبتناغم تام، أساس كل حياة بنويّة وكل انطلاقة رسولية نحو العالم لمجد الله الآب. وما هذا السّر الكبير، الذي يشترك فيه كل معمَّد، سوى عمل الخلاص الذي أراده الآب بمحبته للبشر، والذي يتحققٍ في الكنيسة بواسطة الابن، بالروح القدس، والذي يجعل الكنيسة زرعاً من الملكوت في قلب العالم.
أولا: العليّة، أم جميع الكنائس
ولذا، من المستحسن في غوصنا في الينابيع أن نعود دوماً إلى العليّة، "الكنيسة الأولى وأم جميع الكنائس"، كما يحلو لليتورجياتنا السريانية أن تُنشد، لاكتشاف من جديد هذا النفس الأول وهذه العلاقة العميقة والحيويّة بين الحدث الفصحي والعنصرة، ولنسأل ما هي السُبُل، اليوم، للعيش مجدداً سّر الكنيسة هذا كعليّة، وقد توزّعت "عليّات" في العالم منذ العنصرة الأولى، لنقول من جديد ونعيش من جديد الحدث الفصحي، الذي يبقى هو الأساس، من حيث هو شراكة في سرّ المسيح المنتصر على الموت وإنطلاقة رسولية، من حيث هو عبادة وخدمة، وذلك بانتظار العشاء الأخير الذي سيحتفل به القائم من الموت، بقوة الروح، مع تلاميذه في ملكوت الآب.
إن هذا الحدث الفصحي، الذي جرى مرّةً في الزمن، لن يصير حدثنا وحدث خلاص للعالم إلاّ بقوة الروح القدس الذي أفاضه القائم من بين الاموات. وهذا هو معنى العنصرة، كما تجلّى لنا.
ثانياً: الرسالة كاستدعاء للروح
فالكنيسة، في استدعائها للروح القدس على الأسرار المقدسة، كما في كل رتبة من رتبها، تستدعيه على واقع الحياة البشرية كله، المدعو لأن يتحوّل بالروح وفيه:
1- تستدعيه أولاً على المؤمنين أنفسهم، الذين ينبغي لها أن تلدهم في الألم، حتى يتصوّر فيهم المسيح، على حدّ قول بولس الرسول: "يا بَنيَّ، أنتم الذين أتمخّض. بهم مرّة أخرى حتى يتصور فيهم المسيح" (غلا 4: 19)، لأن الروح وحده قادر على أن يلد المسيح فينا، كما كان بالنسبة إلى عذراء الناصرة.
2- بالنسبة إلى "الوثنيين ": ألا يعتبر القديم بولس رسالته لديهم كاستدعاء كبير للروح القدس، لا يهدأ ما لم يصبح الوثنيون مقدَّسين بالروح، فيتحوّلون إلى قربان مقبول عند الله؟ "غير أني كتبت إليكم، في بعض ما كتبت، بشيء من الجرأة لأُنبّه ذكرياتكم، بحكم النعمة التي وهبها الله لي، فأقوم بخدمة المسيح يسوع لدى الوثنيين وأخدم بشارة الله خدمة كهنوتية، فيصير الوثنيون قرباناً مقبولاً عند الله قدَّسه الروح القدس" (رو 15: 15-16).
3- بالنسبة إلى الخليقة كلها وبُنية هذا العالمي. أجل إن صورة هذا العالم تعبر (1 قور 7: 1 3). لكن أوَ ليست مدعوّة إلى العبور بالمعنى اللاهوتي العميق والدقيق؟ أي من هذا العالم العابر والزائل إلى التجلّي في خلق جديد- غير أننا ننتظر، كما وعد الله، يقول بطرس هامة الرسل، سموات جديدة وأرضاً جديدة يقيم فيها البرّ (2 بط 3: 13)- بحيث تصبح بُنية التاريخ ذاتها فصحية فتتقدّس كل الأمور الزمنية من عائلية واجتماعية واقتصادية وسياسية:
"إننا نعلم، يقول بولس الرسول، أن الخليقة جمعاء تئنُّ إلى اليوم من آلام المخاض، وليست وحدها، بل نحن الذي لنا باكورة الروح نئنُّ في الباطن منتظرين التبنّي، أي افتداء أجسادنا، لأننا في الرجاء نلنا الخلاص" (رو 8: 22-24).
فالكنيسة أصبحت، منذ العنصرة الأولى، في حال من الاستدعاء الدائم للروح القدس على مؤمنيها، والوثنيين والخليقة جمعاء، لأنها أصبحت، بفضل سيّدها وربهّا المنتصر على الموت، موطن الروح بالذات.
نعم، يا رب، أرسل روحك فيتجدد وجه الأرض.
"المجد للآب الذي اختار الرسل لوحيده
والسجود للابن الذي علّمهم بشارة الحياة
والشكر للروح الذي حلَّ عليهم وقوّاهم
ثالوث مجيد قدوس، له الحمد والتسبيح إلى الأبد".
(مساء أحد العنصرة بحسب الطقس الماروني).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM