الفصل الثالث
الرابطة الكتابية في واقعها وتطلّعاتها
الخوري بولس الفغالي
منسّق إقليم الشرق الأوسط
إذا أردنا أن نتعرّف إلى الرابطة الكتابية، نتوقّف عند وجهات ثلاث. الأولى، نقطة الإنطلاق مع الدستور العقائدي في الوحي الإلهي الذي أقرّه المجمع الفاتيكاني الثاني ونشره سنة 1965. الثانية، مسيرة الرابطة العالمية في مؤتمراتها الأربعة السابقة وتطلعاتها إلى مؤتمر خامس وسادس. الثالثة، مسيرة الرابطة في الشرق الأوسط منذ السبعينات حتّى اليوم والمراحل التي قطعتها.
1- الدستور العقائدي: الوحي الإلهي.
شدّد هذا الدستور على الإصغاء إلى كلمة الله بورع، وعلى إعلانها إعلاناً ثابتاً لكي يسمع العالم كلّه بشرى الخلاص. وبعد أن تحدّث عن الوحي في ذاته، وعن تناقل الوحي بواسطة الرسل وخلفائهم، وعن موضوعي الإلهام والتفسير، وعن العهد القديم والعهد الجديد، أنهى كلامه بفصل هام كان وسيكون شرعة الرابطة الكتابية. عنوانه: "الكتاب المقدّس في حياة الكنيسة".
أبرز أولاً أهمية الكتب المقدّسة في الكنيسة. قال: "إن الكنيسة قد أحاطت دوماً الكتب الإلهية بالإجلال الذي أحاطت به جسد الرب وكلمة الله". ثمّ قال النّص المجمعي: "من الواجب أن يفسح المجال واسعاً للمؤمنين حتّى يصلوا إلى الكتب المقدسة". من هنا كانت الترجمات التي بها تصل الكتب المقدّسة إلى شعب الله فيتغذّى منها.
ويحرّض المجمع على قراءة الكتب المقدّسة فيقول: "إن كل رجال الإكليروس ملتزمون بأن يكبّوا على قراءة الكتب المقدّسة قراءة روحيّة متواترة، وعلى دراستها دراسة عميقة... كما يحرّض جميع المسيحيين أن يدركوا معرفة المسيح السامية بالمواظبة على قراءة الكتب الإلهية، لأن من جهل الكتب المقدسة جهل المسيح".
وعت الكنيسة الواقع الذي يعيشه أبناؤها: الكتب المقدّسة محصورة في فئة من الفئات فلا تصل إلى مجمل شعب الله. وأطلق الكردينال بيا ومن معه المشروع الجديد: استعمال الكتاب المقدّس في العمل الرعائي. وتوضّحت الفكرة شيئاً فشيئاً. من "رسالة بيبلية" تنحصر في أوروبا، إلى "رابطة كاثوليكية للعمل الرعائى البيبلي". حتّى وصلت بنا اليوم إلى "الرابطة الكاثوليكية العالمية" التي تتألّف من تنظيمات كاثوليكية تهتمّ برسالة الكتاب المقدّس. التي تهتمّ بتشجيع ودعم ترجمة الكتاب المقدّس وطبعه ونشره. التي تسعى إلى نشر التّعليم البيبلي وتقديم التفاسير وتسهيل قراءة الكتاب المقدّس لدى الشعب.
2- الرابطة العالمية.
نمت الرابطة نمواً طبيعياً وكبرت كما يكبر كل كائن حيّ منطلقة من الواقع الذي تعيشه. ونحن نلاحظ هذا النّمو من خلال المؤتمرات التي عقدت على مدى خمس وعشرين سنة، أي منذ تأسيسها سنة 1969.
أ- مؤتمر فيينا
انعقد المؤتمر الأول في فيينا سنة 1972. وكان قد سبقه لقاء في رومة حضره ما يقارب الأربعين شخصاً، ناقش نوعية المشاركة مع جمعيّات الكتاب المقدّس. كما سبقه اجتماع بيبلي رعائي (6- 9 تموز 1971) عالج الوضع الحالي للدراسات البيبلية، وضع العمل الرعائي لدى الكاثوليك في مختلف أنحاء العالم، إمكانية تنظيم مراكز وطنية لتشجيع الرسالة البيبلية، المشاركة في العمل مع جمعيات الكتاب المقدّس في العالم.
أما مؤتمر فيينا فضمّ عشرين ممثلاً من مختلف البلدان. وكانت مهمّته وضع النظام الأساسي للرابطة. صار للرابطة رئيس وهيئة تنفيذية، كما تجهّز مخطّط عمل للسنوات الست المقبلة، وتقرّر أن تلتئم الجمعيّة العامة مرة كل ست سنوات.
ب- مؤتمر مالطة
إنعقدت الجمعيّة العامة الثانية في مالطة من 11 إلى 19 نيسان 1978. شارك فيها 76 مندوباً (من 44 بلداً) يمثلون 40 مجلس أساقفة و120 تجمّعاً بيبلياً كاثوليكياً.
إنتهت مرحلة الطفولة، وتوجّهت الرابطة إلى مرحلة النضوج. وتوضّحت هوية الرابطة: "ليس المطلوب أن نفسّر الكتاب المقدّس، بل أن نفسرّ الحياة على ضوء الكتاب المقدّس". "المطلوب هو إدخال الإنجيل. في الحضارة، في حضارات الإنسان". وقد وصف البابا بولس السادس هذه الجهود المشتركة بأنها "شهادة حيّة أمام العالم على أن الكتب المقدّسة هي ينبوع مشترك لإيماننا المسيحي".
وتميّزت مرحلة ما بعد مالطة: باحتفالات ليتورجية ترتكز على كلمة الله وتساعد على إعلان البشارة إعلاناً حقيقياً. بتثقيف الكهنة والخدّام العلمانيين ليكونوا منشّطين لمجموعات الصلاة والتعليم البيبلي والعمل الرعائي. بالحوار مع سائر الديانات. بالإلتزام بالعدالة وبحقوق الإنسان. باستخدام وسائل الإعلام من أجل إيصال كلمة الله إلى شعب الله.
ج- مؤتمر بنغالور
إلتأمت الجمعية العامة الثالثة في بنغالور (من أعمال الهند) من 12 إلى 24 آب سنة 1984. ضمّت 37 عضوا كاملاً (يمثلون اللجان الأسقفية) و25 عضواً مشاركاً (يمثلون المعاهد أو مراكز العمل البيبلي) جاؤوا من قارات العالم الخمس.
كان عنوان المؤتمر: "شعب الله النبوي". وشعاره: "يا ليت أمّة الرب أنبياء".
ونستمع إلى صوت البابا يوحنا بولس الثاني في افتتاح هذا المؤتمر: "تلتزم الرابطة بمساعدة الكاثوليك في العالم على التقرّب من كلمة الله بحيث تنعش حياتهم اليومية. فكل نشاط في الكنيسة وكل شهادة تنبع من كلمة حيّة تُقرأ وتُفسّر داخل جماعة الإيمان بقيادة الروح القدس عبر تعليم الكنيسة. هذا يعني أن مجهود الأعضاء يلتقي وعمل سائر المجموعات وخاصة اللجان الأسقفية. ومهمّة شعب الله النبوية تمارس كخدمة حقيقيّة للكلمة. فالمؤمن مدعو لكي يخدم وحي الله، لا ليستعمل الكلمة من أجل آرائه الخاصة، مهما كانت تلك الآراء سامية".
وكانت حلقات عمل: موقع العلمانيين في الدور النبوي الذي تضطلع به الكنيسة. الكتاب المقدّس والشباب. اكتشاف حضور الله في عالم اليوم. دور الكتاب المقدّس من أجل خلق مجتمع جديد. علاقة الكتاب المقدّس بالحركة المسكونية.
د- مؤتمر بوغوتا
إنعقدت الجمعية العمومية الرابعة في بوغوتا (كولومبيا) من 27 حزيران إلى 6 تموز 1990، حول موضوع: "الكتاب المقدّس والتبشير الجديد". وأخذ الشعار من سفر الرؤيا: "ها أنا أجعل كلّ شيء جديداً". حضر هذا المؤتمر 140 مشتركاً جاؤوا من سبعين دولة فمثّلوا القارات الخمس.
هنا نورد بعض ما جاء في تقرير الأمين العام. هدف الرابطة هو: جعل كلمة الله بمتناول الجميع. وهذا لا يعني فقط ترجمة الكتب المقدّسة ونشرها، بل دراسة الكتب المقدّسة وتفسيرها، وتوجيه مسؤولية راعوية تتجذّر في الكتب المقدّسة.
قراءة الكتاب المقدّس هي عمل شعب الله كلّه. والقراءة المثمرة هي نتيجة تفاعل. يستطيع كلّ واحد أن يقتني كتاباً مقدّساً خاصاً به. من هنا ضرورة المعرفة والتثقيف وإلا وقعنا في الأصولية. والقراءة البيبلية تتمّ في إطارنا الحياتي، لأن كلمة الله تتأصّل في مختلف الحضارات لكي تحوّلها فتتجسّد في عالمنا وفي تاريخنا. هذا هو العمل الراعوي البيبلي.
هـ- نحو مؤتمر هونغ كونغ
سيعقد مؤتمر هونغ كونغ على حدود الصين من 2 إلى 12 تموز1996. موضوعه: "كلمة الله ينبوع حياة". وشعاره: "الكلمة صار بشراً... لتكون لهم الحياة وتكون وافرة". في اجتماع نامي، قرب رومة، اجتمعت اللجنة التحضيرية فانطلقت من مؤتمر بوغوتا وما فيه من تشديد على التبشير الجديد. ثمّ درست الوضع الجديد وأهمية كلمة الله كجواب على تساؤلات العالم، وذلك قبل سنة من انضمام هونغ كونغ إلى الصين. وطرحت بعض الأسئلة: ماذا يعني ملء الحياة في المحيط الذي تعيش فيه؟ كيف يغني التقليد البيبلي مفهوم ملء الحياة هذا؟ هل كانت كلمة الله ينبوع حياة لك ولجماعتك؟ هل عرفت خبرة شبيهة بخبرة تلميذي عماوس (لو24: 13- 35) فاستنارت حياتك بكلمة الله؟
3- مسيرة الرابطة في الشرق الأوسط
أولّ من تعرّف إلى الرابطة الكتابية العالمية في الشرق الأوسط كان الأنبا انطونيوس نجيب مطران الأقباط الكاثوليك في المنيا (مصر) السامي الإحترام. حضر الجمعية الثالثة العامة في بنغالور سنة 1984. وما عتّم أن أرسل دعوة إلى العاملين في حقل الكتاب المقدّس فاجتمعوا في مؤتمر أول ومؤتمر ثان في لارنكا من أعمال قبرص، ثمّ سلّم المشعل لأسباب صحيّة، إلى الخوري بولس الفغالي، المنسّق الحالي.
أ- المؤتمرات
عقد إقليم الشرق الأوسط ثلاثة مؤتمرات كتابية. كان المؤتمر الأول مناسبة تعارف بين العاملين في حقل الكتاب المقدّس. انعقد سنة 1985 فأطلق التنسيق على مستوى العمل الكتابي. وانعقد المؤتمر الكتابي الثاني سنة 1988 حول موضوع: القراءة المسيحية للعهد القديم. وقد نشرت أعماله سنة 1991.
إنعقد المؤتمر الكتابي الثالث في سيدة البير- جل الديب- لبنان، من 31 كانون الثاني إلى 6 شباط سنة 1993 وساندته على المستوى المادي منظمة الشبيبة النمساوية الكاثوليكية. كان موضوعه: الأناجيل الإزائية، متّى ومرقس ولوقا. وشعاره: "كان قلبنا يضطرم وهو يفسّر لنا الكتب". نشرت أعماله في السنة عينها، وهو كتاب يدرّس اليوم في معاهد اللاهوت. أما المؤتمر الرابع الذي نعيشه اليوم فقد تقرّر موضوعه خلال المؤتمر الكتابي الثالث: أعمال الرسل عنصرة كل العصور. ونحن نتطلّع منذ الآن إلى مؤتمر خامس وسادس نلتقي فيهما جميعاً لدرس كلام الله والإستماع إليه والتأمّل فيه.
ب- الإتصالات
بدأ المطران نجيب بالإتصال بواسطة الرسائل. وفي سنة 1987 قام برفقة الأمين العام، الأب لودجر فلدكمبر، بزيارة إلى مناطق الشرق العربي، فاتصل بالسلطات الدّينية والمراكز اللاهوتية، وكانت نتيجة هذه الزيارة انضمام سورية إلى الرابطة كعضو كامل، وانضمام عضوين مشاركين في الأراضي المقدّسة.
وتابع الأب فغالي في الخط ذاته، فالتقى جميع البطاركة الكاثوليك في المعادي سنة 1992، كما زار مصر مراراً والسودان (وإن تكن مرتبطة رسمياً بافريقيا) والأراضي المقدّسة وسورية، وهو ينتظر مناسبة ليزور العراق، إلا أنه كانت له مناسبات عديدة للقاء البطريرك بيداويد. وفي السنة الفائتة خصوصا، زار برفقة الأب فلدكمبر المراكز البيبلية في الأراضي المقدّسة، فنتج عن ذلك انضمام الآباء الدومينيكان والآباء الفرنسيسكان إلى الرابطة الكتابية العالمية. هذا عدا عن اجتماعات بين منشطي كل بلد.
ج- على مستوى الكتابة
منذ سنة 1991، ظهرت النشرة البيبلية في بضع ورقات. وها هي تتابع ظهورها ونرجو أن تصبح فصليّة فتصدر ثلاث مرّات في السنة. هي تقدّم صورة عن نشاط الرابطة في الشرق العربي. وإن نقصت أخبارها، فلأن، العاملين في الكتاب المقدّس لا يوصلونها إلينا. وسوف نحاوله فيما بعد بأن نقدّم بعض الأساليب لعرض الطرق الكفيلة بإيصال كلمة الله إلى المؤمنين. وكما سبق وقدّمنا في كراس سنة 1993 طريقة عملية للصلاة، كذلك نقدّم في كراس سنة 1995 طريقة ثانية للصلاة برفقة الكتاب المقدّس. وقد جعلنا أيضاً في نهاية "يسوع المسيح وابن الله مع القدّيس مرقس" ملحقاً حول الصلاة الربّية، أي الصلاة برفقة الرب يسوع.
ونجد أيضاً في هذه النشرة لائحة بالمقالات البيبلية والكتب التفسيرية وغيرها. إن كانت ناقصة، فلأننا نجهل ما يصدر هنا أو هناك. يا ليتنا في مركز الرابطة نستطيع أن نستلم المجلاّت الدّينية التي تصدر في العالم العربي.
وعلى مستوى الكتابة، هناك السلسلات التي تصدرها الرابطة الكتابية في العالم العربي. أولاً: دراسات بيبلية. هي في كتابها السابع، وستنشر هذه السنة أقله ثلاثة كتب هي تفسير مرقس (الجزء الأول)، تفسير لوقا (الجزء الثاني)، أعمال هذا المؤتمر. ثانياً: القراءة الربّية: هي في كتابها الرابع، وترجو أن تتابع العمل مع أسفار العهد القديم. وتشارك الرابطة منشورات الرسل في تفسير رسائل القدّيس بولس. صدر 1 كور، 2 كور، ونحن ننتظر بين يوم وآخر صدور غلاطية. ولا ننس المجموعة الكتابية التي تصدرها المكتبة البولسية، والدراسات في الكتاب المقدّس التي تصدر عن دار المشرق. وانطلقت منذ فترة قصيرة سلسلة "بيبليات" عن المركز البيبلي الرعائي في جبيل. كما لا ننس جريدة بيبليا التي هي اليوم في سنتها الخامسة وفي عددها الثلاثين، ومجلة حياتنا الليتورجية التي تقدّم شروحاً راعوية للنصوص الكتابية التي تقرأ في الليتورجيا.
هذه هي الرابطة الكتابية في جذورها المرتبطة بالمجمع الفاتيكاني الثاني ودستور الوحي الإلهي. في انطلاقتها العالمية وتوسّعها في القارات الخمس وتحديد تطلعاتها من جمعية عامة إلى جمعية عامة. وفي انطلاقتها العربية والشرق أوسطية مع المستقبل الذي ينفتح أمامها. هي ليست فقط عمل بعض الإداريين الذين يرتبون الأمور. وليست فقط عمل بعض الإختصاصيين الذين يدرّسون الكتاب المقدّس. إنها عمل كل من يهتم بإيصال كلام الله على الصعد التعليمية والراعوية والتربوية. إنها عمل شعب الله كلّه. كلمة الله هي ينبوع حياة كما سنقول في هونغ كونغ، فمتى تكون حقاً هذا الينبوع لكل واحد منا، لجماعاتنا المحلّية، وللكنيسة الجامعة.