الفصل الأول
أعمال الرسل عنصرة جديدة
المطران يوسف بشاره
رئيس أساقفة انطلياس
مقدمة
طلَب إليَّ حضرة الصديق الخوري بولس الفغالي أن ألقي كلمة الإفتتاح في هذا المؤتمر الكتابي الرابع الذي يحمل عنواناً رئيسياً: أعمال الرسل عنصرة جديدة، وعنواناً ثانياً: ستكونون لي شهوداً إلى أقاصي الأرض.
وتساءلت ما عساي أن أقول لمؤتمرين في الكتاب المقدس لهم فيه خبرة طويلة تعليماً وتأليفاً وتوجيهاً.
بدايةً أرحِّب بكم، سيّما وأن المؤتمر ينعقد في الأبرشية. ولكن بعيداً من كل مجاملة، أعرب لكم، باسم الكنيسة، عن شكري وتقديري وتشجيعي لهذا المؤتمر- وللعمل الكتابي الذي تقومون به- لما ينطوي عليه من أبعاد ومعانٍ ولما له من انعكاسات إيجابية على صعيد الإيمان وعلى الصعيد الكنسي ومن أصداء في واقع حياتنا اليوم.
1- على صعيد الإيمان
نختبر جميعنا أن جهل الكتاب المقدس متفشٍّ في كل الأوساط. وهذا الجهل له انعكاساته السلبية على صعيد الإيمان. فمن جهة يقود إلى التمسّك بالخرافات وشكليات العبادة، ويفسح في المجال لانتشار البدع، ومن جهة ثانية يفرغ الإيمان من مضمونه الصحيح ومن علاقته بالمسيح ويقود إلى عبادات باطلةٍ إن لم يؤدِّ إلى اللامبالاة. ولذا قال القدّيس ايرونيموس: "مَن يجهل الكتاب يجهل المسيح"، وأعلنت السلطة الكنسية في المجمع الفاتيكاني الثاني في الدستور العقائدي في الوحي الإلهي:
"إحترمت الكنيسة دوماً الكتب الإلهية كما احترمت جسد الربّ نفسه، وانها لا تنثني تأخذ خبز الحياة، سواء عن مائدة كلمة الله أو عن مائدة جسد المسيح لتقدّمه للمؤمنين. ولقد اعتبرت الكنيسة دائماً ولا تزال تعتبر هذه الكتب مع التقليد المقدّس قاعدة مطلقة لإيمانها... والكنيسة تجد (في كلام الله) دعامة وقوّة، وأبناؤها يجدون فيه لإيمانهم عضداً ولنفسهم قوتاً، ولحياتهم الروحية ينبوعاً صافياً وخالداً (عدد 21).
ولذلك حثّت الكنيسة المسيحيين على أن يعودوا بتواتر إلى قراءة الكتب المقدّسة وإلى تأمّلها حتى ينشأ الحوار بين الله والإنسان (عدد 25)، مشيرة إلى مختلف الوسائل الملائمة لبلوغ هذا الهدف. كما طلبت إلى الأساقفة أن يُعنوا بتدريب المؤمنين التدريب الملائم على استعمال هذه الكتب استعمالاً صحيحاً، خاصة العهد الجديد ولا سيّما الأناجيل.
2- على الصعيد الكنسي
إن عنوان مؤتمركم يشير بوضوح إلى أبعاده الكنسيّة. فإذا كان سفر أعمال الرسل يذكّرنا بانطلاقة الكنيسة في العنصرة وتكوين الجماعات المسيحية الأولى وطريقة عيشها ويروي لنا كيف انتشر الإيمان المسيحي بين اليهود والوثنيين، وإذا كان يشكّل ذاكرة الكنيسة، فإنه في الوقت عينه مرآة لها، تنظر فيه ليعكس لها وجهها الصحيح. ولا عجب في ذلك، فالكنيسة، لا سيّما المارونية، في احتفالات الدورة الطقسية الهامة، تحافظ على قراءة من أعمال الرسل وكأني بها تعيش اليوم أحداث الأمس البعيد، أو بالأحرى ترى في أحداث اليوم تجسيداً واستمرارية للحدث الخلاصي الواحد الذي تحاول أن تحيا أبعاده بأمانة على مرّ العصور وتعاقب الأزمان، لأن المسيح هو هو أمس واليوم وإلى الأبد.
إن مختلف المؤتمرات الكتابية التي عقدتم وتعقدون تندرج في تثبيت العلاقة التي تربط الكتاب بالكنيسة وتقليدها المقدّس، والتي برزت بوضوح في المجمع الفاتيكاني الثاني.
فالتقليد المقدّس والكتاب المقدّس "تجلّهما الكنيسة بعاطفة واحدة من الحبّ والإحترام" ويشكّلان الينبوع الذي تنهل منه الحقيقة واليقين، ويكوّنان وديعة واحدة مقدّسة لكلام الله اؤتمنت عليها الكنيسة.
وإذا كانت السلطة الكنسيّة التي تعمل باسم يسوع الرأس هي التي تفسرّ كلام الله التفسير الصحيح، فإنها تدرك بأنها ليست فوق كلام الله إنما في خدمته، وبمعونة الروح "تصغي إليه بتقوى وتحفظه بقداسة وتعرضه بأمانة"، لتتكون بين الأساقفة والمؤمنين وحدة فريدة في الرأي (عدد 9).
إنّكم كمؤتمرين، بمختلف مواقعكم والتزاماتكم، تعكسون اهتماماً كنسياً يريد أن يخرج كلام الله من إطار ضيّق حُصر فيه، لتفتحوا كنوزه أمام كل أبناء الكنيسة، ليكون مصباحاً لخطاهم ونوراً لسبيلهم.
وبعملكم هذا تتجاوبون مع دعوة الكنيسة التي تعيش زمن عنصرة جديدة من خلال الجمعية الخاصة بسينودس الأساقفة من أجل لبنان.
ولقد أشارت وثيقة الخطوط العريضة إلى اعتماد كلام الله في الكتاب المقدّس مرجعاً أولياً لكل تجديد ولكل مجالات التجديد. وفي هذا المعنى تقول الوثيقة: "إن تجدّد الكنيسة لا يتمّ إذن إلا بالإستماع المتجدّد لكلام الله الذي يشهد له الكتاب المقدّس شهادة مميّزة ووفيّة وصادقة، بشرط أن نتلقّاه ضمن إيمان الكنيسة" (عدد 22).
وتوضح الوثيقة جوانب كلام الله المتنوعة:
- إنه كلام تعلنه الكنيسة، خاصة في ليتورجية الكلمة، لأن "في الليتورجية يصير الكلام حضوراً راهناً" ويتحقّق تاريخ الخلاص عبر أعراض الكلام البشري ترافقه قوّة الواقع الخلاصي تحت أعراض الخبز والخمر، أي تحت أعراض "العمل الأسراري" (عدد 24).
- إنه كلام نسمعه في الكنيسة، لأن الكنيسة تجتمع بقوة هذا الكلام لا بقوّة كلام البشر. إنها تتلقّاه بورع وتستمع إليه في الإيمان، وتستنير بأنوار الروح القدس لتفهم هذا الكلام الذي يوجهه الله إليها ليكشف لها سّر تدبيره الخلاصي ويقيمها في شركة عميقة مع الثالوث ومع الناس (عدد 25).
- إنه كلام مسكوب في صلاة الكنيسة ويغذي صلاتها فتتأمّله على "مثال مريم التي كانت تحفظ جميع هذه الأمور وتتأمّلها في قلبها" (عدد 27).
الأمانة لكلام الله عنصر جوهري من عناصر التجدّد، تقول الوثيقة. وهذا الكلام الذي نقله الرسل أولاً واستمرّ من بعد في تسلسل حتى انتهى إلينا. "هذا التقليد الآتي من الرسل ينمو ويتطوّر في الكنيسة بمعاضدة الروح القدس وهو الإستماع المتواصل إلى الكلمة وفهم المؤمنين لها" (عدد 28).
3- المؤتمر وواقع حياتنا
إذا صحّ عنوان مؤتمركم، أعمال الرسل عنصرة كل العصور، فلا بدّ من قراءة الواقع على ضوء سفر الأعمال. وهذا ما تدعونا إليه وثيقة الخطوط العريضة عندما تتحدّث عن ربط كلام الله بناموس التجسّد.
وفي هذا المجال سأكتفي بالإشارة إلى بعض القضايا التي طرحها سفر الأعمال ولا تزال تنعكس في واقعنا الكنسي، محلّياً وعالميّاً.
القضية الأولى: البشارة. لقد أدرك الرسل ومعاونوهم أنهم مؤتمنون على كلمة الله، على البشارة. وعليهم نشرها رغم كل المضايقات أمانة منهم لوصية الرب بأن يتلمذوا الأمم ويكونوا له شهوداً إلى أقاصي الأرض. ولم يكن لهم خيار آخر سوى متابعة البشرى لأن طاعة الله أحقّ من طاعة الناس.
والكنيسة اليوم، بتوجيه من قداسة البابا، تحشد طاقاتها في سبيل البشارة الجديدة، أمانة منها لدعوة الربّ. فأمام التيارات التي تساوي بين الأديان أو تستبعد الله من الحياة أو تنكر وجوده، تريد الكنيسة أن تذكّر الإنسان بأن لا خلاص له إلاّ بالله الذي هو أساس حياته ومرجعه الأخير.
وهذه البشارة الجديدة تتناول بصورة خاصة مجتمعات كان لها طابع مسيحي في الأمس وفقدته اليوم بسبب الجهل والعلمنة والاعراض عن الإيمان وقطع كل علاقة بالله.
وتتخّذ هذه البشارة، في المجتمعات المخضرمة، طابع الشهادة يلتزم بها المؤمنون، أفراداً وجماعات، معلنين عملياً أن ما نادى به المسيح يمكن أن يكون قاعدة لسلوكهم، وينبوع فرح وسعادة في حياتهم.
القضية الثانية: الجماعة المسيحية. إن نتيجة البشارة كانت تكوين جماعة مسيحية منظّمة لها مميزاتها، الروحية والإجتماعية.
إن طابع الحياة العصرية وما تؤدّي إليه من انكماش وحفاظ على الروح الفردية، كما أن إفرازات الحرب وانعكاساتها على الصعيد الإجتماعي وعلى الصعيد الرعوي، يقودنا إلى التساؤل: أليس من الضرورة بمكان، أن ينير سلوك الجماعات المسيحية الأولى بنية جماعاتنا المسيحية اليوم وتكوينها وعلاقاتها، سواء كان على الصعيد الرعوي أم على الصعيد الإجتماعي والإقتصادي والوطني؟
إن الجماعة المسيحية هي في تأسيس دائم خاصة في مجتمع كمجتمعنا، زعزعته الحرب، أو في مجتمعات يسودها التخلّف ويقصيها عن بلوغ المستوى الإنساني، أو في مجتمعات متقدّمة يسيّرها الترف ويفقدها نعمة الاخاء والتضامن.
القضية الثالثة: العلاقات بين أعضاء الكنيسة، لا سيما المسؤولين فيها، خاصة ونحن في أسبوع نصلّي فيه لأجل وحدة المسيحيين.
يكشف لنا سفر الأعمال أن التباين بين الرسل ومعاونيهم لم يُحل دون تلاقيهم والتشاور فيما بينهم بشأن القضايا التي كانت مثار جدل، لا سيّما تلك التي تتعلّق بحياة الكنيسة ومصيرها. وهذا ما برز في مجمع أورشليم أو في لقاءات بولس وبطرس وسائر الاخوة.
وحتى عندما كانت الأمور تتعلّق بالامزجة والطبائع وطرق الرسالة والتبشير، فلم ينعكس التباين على حياة الكنيسة ولم يهدّد وحدتها، بل أدّى إلى الإنصراف إلى حقول العمل الواسعة مع الحفاظ على وحدة الإيمان والمحبة.
القضية الرابعة: العلاقة باليهودية. وهي من أخطر القضايا التي طُرحت على الكنيسة الأولى، ولا تزال تُطرح اليوم بشكل حادّ، لا سيّما في بعض الأوساط التي تعمل بوعي أو بدون وعي على تهويد المسيحية.
لقد كان على الكنيسة الأولى أن تنفتح على جدة المسيحية دون أن تتنكر لتراث العهد القديم الذي هيّأ العهد الجديد ومجيء المسيح. ولذلك كان التمييز في التبشير بين مجتمع يهودي له جذوره وتقاليده ومجتمع وثني لا يمتّ بأيّة صلة إلى اليهودية.
وكان على المسيحية أن تخرج من عقال اليهودية تدريجياً، لتتحرّر منها تماماً. وهذا ما عمل له بطرس وخاصة بولس الرسول.
وهذا الموضوع يُطرح اليوم سواء على صعيد الكنيسة الجامعة أم على صعيد كنائسنا المحلّية في الشرق.
على صعيد الكنيسة الجامعة تُطرح العلاقة باليهودية وبسائر الأديان من زاويتين مختلفتين.
فالعلاقة باليهودية متميّزة نظراً إلى ما للعهد الجديد من جذور وتمهيد في العهد القديم. ومن هذا المنظار أحافظ عليه وأحترمه إنما أتخطّاه، ولا يمكنني أن أقبل به وكأن المسيح لم يأتِ بعد، أو كأن اليهودية هي المعبر المحتوم إلى المسيحية. أليس هذا ما يلمح إليه إن لم يكن يُعبرّ عنه ما جاء في تعليم الكنيسة الكاثوليكية في العدد 528 حول المجوس:
إنّ مجيء المجوس إلى أورشليم "ليؤدّوا السجود لملك اليهود" (متى2/ 2) يبيّن أنهم يبحثون في إسرائيل، على نور نجم داود المسيحاني، عمّن سيكون ملك الأمم. إن مجيئهم يعني أن الوثنيين لا يستطيعون إكتشاف يسوع والسجود له كابن الله ومخلص للعالم إلاّ إذا تطلّعوا إلى اليهود وتقبّلوا منهم الوعد المسيحاني كما يحتويه العهد القديم. الظهور يبرز أن "الوثنيين بأكملهم يدخلون في عائلة الآباء ويحصلون على الكرامة الإسرائيلية".
إن العلاقة باليهودية على الصعيد الديني يجب أن تخضع لتفسير العهد الجديد ولتقليد الكنيسة الحي، لا لتفسيرات أو مواقف إجتماعية سياسية تمليها أوضاع وظروف تاريخية كانت لها انعكاسات سلبية على العلاقات المسيحية اليهودية.
إن خطر التهويد يجتاح بعض الأوساط والتيارات الفكرية المسيحية لأسباب ليست كلها دينية بحتة.
بالمقابل هناك علاقة بالأديان تنبع من حرص الكنيسة على الإنفتاح على الآخرين واكتشاف كل ما لديهم من قيم زرعها الروح، والتعاون في سبيل إرساء قواعد أخلاقية سليمة لمجتمع يسوده السلام وتنتشر فيه العدالة.
أما على صعيد كنائسنا المحلّية فالعلاقة باليهودية والإسلام مطروحة بشكل حادّ وعنيف. ويجب أن تكون هناك مقاييس واضحة تحدّد هذه العلاقة منعاً لكل التباس أو مسايرة، وتحاشياً للمزج بين السياسيّ والدينيّ، وان الرسائل التي يصدرها مجلس البطاركة الشرقيين الكاثوليك هي خير دليل في هذا المجال.
أحببت أن أشير إلى بعض القضايا الراهنة في هذه الإفتتاحية المحدودة. وبإمكانكم أن تتطرّقوا إلى الكثير منها خلال هذا الأسبوع.
4- تمنّيات
أيها المؤتمرون الأحبّاء،
إنكم ستعالجون مواضيع متنوعة لها طابعها العلمي، إنما لها انعكاسات ونتائج رعائية وستترك أثراً كبيراً في قلوبكم وحياتكم. إنكم تعيشون في جوّ عنصرة تتقبّلون فيه فيض الروح بقوّة، فهنيئاً لكم ما تجنون من ثمار.
إنما من موقعي كأسقف، أعرب عن بعض التمنيات:
1- إن ما تجنون من ثمار ليست لكم وحدكم وان ما حصّلتم وتحصّلون من ثقافة بيبلية لا بدّ لكم من توظيفه، على غرار الرسل، في تثقيف الشعب المسيحي، وفي نشر نهضة بيبلية مبرمجة، تحارب الجهل وتغذّي الإيمان.
ولذلك أقترح أن تكون المؤتمرات البيبلية على نوعين: منها ما يختصّ بالمثقفين، ومنها ما يتعلق بإعداد مدرّبين علمانيين من العاملين في أوساط الشبيبة، خاصة في الحركات الرسولية.
2- وإذا اقتنعنا بفائدة تعميم الثقافة البيبلية، لا بدّ من وضع برنامج لعدّة سنوات، تتقاسمون فيه الأدوار، وتتوزّعون على بعض مراكز رعوية، لإعداد المنشطين المعاونين لكم وللكهنة، على غرار ما فعل بولس ومعاونوه.
3- إن ما نصبو إليه هو أن نكون جميعنا شهوداً للمسيح. وهذا يقتضي تغذية حسّ انتمائنا إلى الكنيسة لأن شهادة اليوم، كما شهادة الأمس، هي شهادة جماعة، هي شهادة كنيسة. في الكنيسة، معاً، نصغي إلى ما يقوله الروح لنعمل في سبيل بنيان الجسد الواحد، على تنوّع الأعضاء وتعدّد المواهب.
خاتمة
هناك محاولات مشكورة لنشر الكتاب المقدّس وشرحه ودرسه. إنما لا نزال نفتقر إلى خطّة لتعميمه وإعادة الإعتبار إليه والإقتناع بأنه مائدة خلاصية كمائدة جسد الربّ. فيه لا يزال الربّ يُظهر لنا سرّ تدبيره ويكلّمنا كأبناء ويدعونا إلى الغرف من فيض محبّته.
أرجو أن تكون هذه المؤتمرات المعمّمة منطلقاً لاكتشاف صورتنا الحقيقية التي لا تبرز، كما هي، إلاّ في مرآة الكتاب المقدّس.
ولتكن العذراء مريم مثالاً لنا في حفظ كلام الله والتأمّل فيه والعمل بموجبه، لنستحق طوبى المسيح.
شكراً لكم وأهلاً بكم وكل النجاح لمؤتمركم.