الفصل السادس والأربعون: يسوع والأطفال

الفصل السادس والأربعون
يسوع والأطفال
18: 15- 17

علّمنا مثل الفريسي والعشّار أن نتقبّل الخلاص في مجانية تامة. فصلاتنا ومواجهتها مع أعمالنا تحكم علينا أمام ملكوت الله الحاضر في وسطنا. وهذا الحكم الذي هو في الوقت عينه نداء لكي نواصل الطريق، نكتشفه لا في مثل من الأمثال، بل في حدث الأطفال الذين قدّموهم إلى يسوع، وفي طلب الوجيه الغني (18: 18 ي).
في مشهد زيارة الأطفال ليسوع (آ 15- 17)، تبع لوقا عن قرب مر 10: 13- 16 (ق مت 19: 13- 15). غير أنه تحدّث عن أطفال تحملهم أمهاتهم، وألغى الإشارة إلى القبلة وإلى البركة. أما تدخّل يسوع فيعني أمرين: يستطيع الأطفال أن يأتوا بحرية إلى يسوع. ثم إن موقفهم المتقبّل يدلّ على الطريقة التي بها نقبل الملكوت كما ظهر عملياً بحضور يسوع. إن هذا القول يسند في السياق اللوقاوي الدرس الذي تعلّمناه من المثل الذي سبق (18: 9- 14: الفريسي والعشّار): يجب أن نتقبل كل شيء في تواضع ومجانية جذرية.
1- نظرة إجمالية
حين ألف لوقا خبر الصعود إلى أورشليم، إستقى حتى الآن من المعين وأغناه أغناء كبيراً بتقاليده الخاصة. أما الآن فهو يستعيد مسيرة خبر مرقس الذي تركه في 9: 49- 50 (يوازي مر 9: 38- 40).
ما زال يسوع يبيّن لنا أنه قريب من الفقراء، من الخطأة، من العشّارين (المثل السابق). فهل ندهش إن وجدنا خبراً يتركّز على الأطفال ويُبرز كلمة من كلمات المعلّم حول الأولاد الصغار: "دعوا الأطفال يأتون إليّ، ولا تمنعوهم، فلأمثالهم ملكوت الله".
فالطفل (والولد) في أيام يسوع وفي نظر معاصريه ليس ذاك الذي نعرفه اليوم في بيوتنا (هو مدلل، يطلب ما يريد فيُعطى). إنه يعيش على هامش المجتمع، إنه محتقر. ولا قيمة له (إذا كان ذكراً) إلا في المستقبل الذي يعد به. في مثل الأولاد الذين يلعبون في الساحة العامة (7: 31- 32)، يرى فيهم يسوع مثل الطيش والخفة: "زمّرنا لكم فلي ترقصوا، ونحنا فلم تبكوا". إن الولد يبقى قاصراً، ولن يصبح ناضجاً على المستوى الديني إلا في عامه الثالث عشر: حينئذ يستطيع أن يمارس الشريعة.
لهذا السبب، إعتبر التلاميذ أن يسوع يضيع وقته مع الأطفال. فما الفائدة من لمسه لهم؟ لو استفاد من هذه القوة ليلمس المرضى ويغدق عليهم إحساناته. أرادوا أن يعلّموا المعلّم، ونسوا أنهم تلاميذ.
وردّ عليهم يسوع رداً أول في آ 16: "دعوا الأطفال يأتون إليّ". هو لم يعتبر أن الطفل شخص مثالي نتعلّم منه البراءة والبساطة. ولكنه وبّخ التلاميذ لأنهم نسوا أن الشريعة الأولى في الملكوت هي انقلاب في القيم: كل شيء هو عطية مجانية من قبل الله فالملكوت مفتوح أمام الأطفال لأن لا حقّ لهم يظهروه لكي يشاركوا في الملكوت: فالدخول إلى الحياة لا يرتبط بممارسة من الممارسات يقوم بها البشر. ليست قيمة الإنسان بما ينتج، بل لأنه على صورة الله ومحبوب من الله. ومن مثل الطفل والخاطىء والعشّار يحنو عليهم الله وهم لا يحملون إلا ضعفهم وخطيئتهم ووضعهم الإجتماعي المذلّ؟
وجاءت آ 17 من خطّ آخر. نحن كما في الاطار الذي يحيط بالمثل السابق (آ 9، 14 ت). ما تبرزه هذه الآية ليس عطاء الله المجاني، بل الموقف الذي يجب أن يقفه الإنسان ليتقّبل كلمة الملكوت: نقبل ملكوت الله قبول طفل له. إن الطفل هو رمز الإنسان الذي ترتبط حياته ارتباطاً كليّاً بالآخرين، الذي لا يسيّر نفسه، بل يسلّم ذاته إلى آخر. هكذا نكون نحن أيضاً تجاه ملكوت الله. فمن أراد الدخول إلى الملكوت، وجب عليه أن يقتدي بتصرّف الطفل، أن ينتظر كل شيء بتواضع من الله: من ارتفع اتضع، ومن اتضع ارتفع. ذاك كان موقف العشّار الذي عاد إلى بيته مبرّراً.
2- نظرة تفصيلية
"وجيء إليه بالأطفال" (آ 15). إعتاد الناس أن يأتوا بأطفالهم إلى يسوع. إستعمل لوقا لفظة "برافوس" مراراً عديدة (1: 41، 44، 2: 12، 16؛ أع 7: 19)، ولم يستعملها انجيلي آخر. غير أننا نجدها مرتين في العهد الجديد. الأولى في 2 تم 3: 15: "أنت تعرف الكتب المقدسة منذ كنت طفلاً". الثانية في 1 بط 2: 2: "توقوا كأطفال ولدوا حديثاً إلى اللبن الروحي". واحتفظ لوقا بلفظة اخرى تدلّ على الطفل "بايديون" (في المفرد في آ 17، وفي الجمع آ 16). هذا يعني أن لوقا قام بعمل تدويني. إن المخطوط البازي استعمل دوماً "بايديون" فجعل نصّ لوقا يتوافق مع مر 15: 13. غير أن ادخال "برافوس" يخلق مشكلة صغيرة. إن إمكانية الوعي تبدو ضرورية عند الأولاد فيتّضح القول المتعلّق بملكوت الله نقبله كالطفل.
"ليلمسهم" أو "ليحملهم بين يديه". إذا كان المعنى الأول هو المفضّل، فهذا ما يجعلنا أمام بركة (أو لعنة) تنتقل إلى الولد. هذا ما يدلّ عليه 6: 19 (يطلبون أن يلمسوه، لأن قوة كانت تنبعث منه) رج 5: 13 (مدّ يسوع يده ولمسه). نقرأ في مت 19: 13 أن يسوع وضع يديه على الأطفال وصلّى.
حاول التلاميذ أن يزجروا أولئك الذي جاؤوا بهم. لم يفهم التلاميذ موقف يسوع. ظنوا أن هؤلاء الأطفال يضيعون وقت المعلم أو يستغلّون حنانه وعطفه (وهم لا يستحقون!).
في آ 16 نقرأ: ولكن يسوع دعاهم قائلاً. قال متّى: "ولكن يسوع قال". أما مر 10: 14 فتوسع: "ورأى يسوع ذلك فاغتاظ وقال لهم". من دعا (أو: نادى) يسوع! أمهات الأطفال، ومن خلالهم التلاميذ. بمعنى: "أتركوا الأطفال يأتون إليّ" (كما في آ 15 أ). كانت ردّة الفعل عنده سريعة تجاه لا فهم التلاميذ لموقفه.
"لا تمنعوهم، لا تقفوا في وجههم. إستعمل لوقا مراراً فعل "كولياين". في 6: 29 (لا تمنعه من ثوبك)؛ 9: 49، 50 (منعناه من طرد الشياطين باسمك. لا تمنعوه)؟ 11: 52 (والداخلون منعتموهم)؛ رج 23: 2؛ أع 8: 36؛ 10: 47؛ 17:11؛ 16: 6؛ 23:24؛ 27: 43. في أكثر الجمل، يحمل الفعل المعنى العام (منع، وقف). أما في أع 8: 36 (ما يمنع من أن اعتمد؟) و 10: 47 (هل يستطيع أحد أن يمنع ماء المعمودية؟) فنجده في سؤال حول منع شخص من قبول سر العماد.
قال مت 19: 14: "دعوا الأطفال، لا تمنعوهم أن يأتوا إليّ". وقال مر 10: 14: "دعوا الأطفال يأتون إليّ، لا تمنعوهم". فتبعه لوقا. وهنا نقابل هذا النص مع أع 8: 36 و10: 47 حيث يرد بعد فعل "منع" مصدر فعل اعتمد: لا تمنعوا عنهم العماد.. أما في لو 18: 16 فلا نجد هذا المصدر!.
"لمثل هؤلاء ملكوت الله". لم يقل يسوع إن ملكوت الله يخصّ "هؤلاء" الصغار الذين يحملهم بين يديه. بل "مثل هؤلاء". سواء كانوا أطفالاً أو كباراً. المهم الإنفتاح بتواضع على عطاء الله المجاني. قال يسوع في 6: 20 ب: "طوبى لكم أيها المساكين، فإن لكم ملكوت الله". وقال هنا: "لمثل هؤلاء ملكوت الله.
"ملكوت الله". هي عبارة استعملها يسوع في لوقا ومرقس، قال متى: ملكوت السماوات. فاليهود لا يجسرون أن يتلفظوا باسم الله. عبارة بيبلية ويهودية تدلّ على ملك الله المستمرّ علىالعالم (مز9-1: 3) الرب ملك لبس الجاه، ثبّت الكون في مكانه، عرشك ثابت منذ البدء؟ 95: 3؛ 99: 1- 4) وتنبىء بظهوره وانتصاره في زمن الخلاص (أش 52: 7: الحاملين بشارة الخير والخلاص، القائلين "الحق (آمين) أقول لكم" (آ 17). هي طريقة احتفالية يشدّد فيها يسوع تشديداً خاصاً على ما يقول. "من لا يقبل الملكوت". هذه طريقة نادرة في الكلام عن الملكوت. ولكنها في خطّ الدعوة المستعملة في 17: 21 (ملكوت هو في وسطكم. هل تقبلونه). تقبلونه كما لو كنتم اطفالاً، اولاداً صغاراً. سبق للوقا واستعمل هذا التشبيه في تعليم يسوع. في 7: 32: يشبه هذا الجيل اولاداً في الساحة... في 9: 47- 48: أخذ يسوع طفلاً وجعله بقربه وقال لهم: من يقبل هذا الطفل باسمي يقبلني... صفات الطفل هنا هي الإنفتاح، التواضع في المجتمع. هو "مقصّر" ولا قوة له. لا يعتبر أنه صار كاملا. وهو يحتاج إلى اهتمام دائم من والديه. نلاحظ أن ما يقابل هذه الآية نجده في سياق مختلف في مت 18: 3 ب الذي يدلّ على القبول بهذه الكلمات: ترجعون فتصيرون كالأطفال.
"لن يدخله". الملكوت هو "مكان" (روحي ولا شكّ) ندخله. قال يسوع بعد حواره مع الوجيه الغني: "ما أعسر على ذوي الأموال أن يدخلوا ملكوت الله" (18: 24). وقال بولس: "بمضايق كثيرة ينبغي لنا أن ندخل ملكوت الله" (أع 14: 22؛ رج لو 13: 23 والباب الضيق؛ 18: 25). ونجد فكرة الدخول مع نيقوديمس في يو 3: 5: "من لم يولد من الماء والروح، لا يقدر أن يدخل ملكوت الله"
3- تفسير النصّ
وبعد أن استعمل لوقا المعين وغيره من المراجع الخاصة به، عاد إلى مرقس. وهذا الحدث الذي يجعل يسوع يلمس الأطفال، يدعوهم إليه، ليس الحدث الوحيد في الخبر المرقسي حول انطلاق يسوع إلى أورشليم. لقد بدأ هذا الإنطلاق في مر 10: 1- 12 وروى جدال يسوع مع الفريسيين حول الطلاق. ألغى لوقا هذه المقطوعة لأنه سبق له وذكر كلام المعين عن منع الطلاق في 16: 18 (من طلّق امرأته وتزوج أخرى). بدل هذا، إنتقل لوقا مباشرة إليه الحدث الثاني في خبر الإنطلاق كما في مرقس (10: 13- 16) الذي يشكّل أفضل ولي للقول الأخير في آ 14 ب (من اتضع ارتفع) الذي ينهي المثل السابق، مثل الفريسي العشّار. هكذا صيغت الضرورة إلى التواضع في الحياة المسيحية، بطريقة أخرى: على الإنسان أن يقبل الملكوت كطفل ليستطيع الدخول إليه، شأنه شأن العشّار الذي اعترف بخطاياه متواضعاً أمام الله فكان في طريق الحقّ.
تبع لوقا خبر مرقس حول مباركة يسوع للأطفال بشكل دقيق (رج مت 19: 13- 15). إلا أنه ألغى تفاصيل حول غضب يسوع (رأى ذلك فاغتاظ) واحتضانه للأولاد ومباركتهم. غير أنه جدّد على مستوى الأسلوب والكلمات. يقول مرقس: رأى يسوع ذلك. أما لوقا فقالا: رآهم التلاميذ (نقل اسم الفاعل من المفرد إلى الجمع). وفي النهاية ألغى ما نقرأه في مر 10: 16 (إحتضنهم، وباركهم واضعاً يديه عليهم) الذي تحوّل في مت 19: 15 (وبعد أن وضع يديه عليهم مضى من هناك) واحتفظ لوقا (آ 17) من مرقس (10: 15): "الحق أقول لكم".
واحتفظ إنجيل توما رقم 22 بشكل آخر للخبر: "رأى يسوع الأطفال يُرضعون. قال لتلاميذه: هؤلاء الأطفال الذين يُرضعون هم مثل الذين يدخلون الملكوت. قالوا له: إن صرنا اطفالاً هل ندخل الملكوت؟ فقال لهم يسوع: حين تجعلون من الاثنين واحداً وحين تجعلون الباطن كالخارج والخارج الباطن، ويصبح ما هو فوق على مثال ما هو تحت، وحين تجعلون الذكر والانثى واحداً بحيث لا يعود الذكر ذكراً والانثى انثى. وحين تجعلون العيون مكان عين، واليد مكان يد، والرجل مكان رجل، والصورة مكان صورة، حينئذ تدخلون الملكوت". يبدو أن هذا الشكل استلهم الأناجيل الأزائية في قول يسوع حول الأطفال والملكوت، ولكن أعيدت صياغته ليؤكّد التعليم الغنوصي حول الوحدة الأولانية.
ونصل إلى الوجهة النقدية والفن الأدبي. جعل بولتمان هذا الحدث بين الأخبار التي ترافق قولاً إلهياً، من الخط السيروي. ولكنه تردّد في تفسير "أمثالهم" في آ 16 بواسطة القول اللاحق في آ 17. فإن هذه الآية تمثّل في نظره قولاً ربياً ومستقلاً وأصيلاً جاء من إطار مختلف في رسالة يسوع وأقحم في هذا الأطار الحالي. رأي لا بأس به، ولكن الحدث كله نما انطلاقاً من قول آ 16 اقتداء بخبر اليشاع في 2 مل 4: 27. مات ابن الشونمية، فاقتربت من رجل الله وارتمت على قدميه. فتقدّم جيحزي. فقال له رجل الله: "دعها لأن نفسها حزينة". وهناك مقابلة بين هذا الحدث وأخبار رابانية، ومنها خبر قيل في رابي عقيبة حسب التلمود البابلي. حين زاد لوقا القول النبوي وما فيه من تهديد وتحذير، فقد تبع مرقس. وطبّق على الكبار ما قالته المواد السابقة عن الصغار.
يبقى معنى الخبر. إن الحدث يصوّر يسوع مهتماً بالأطفال الذين قدّموا إليه، وبردّة الفعل لدى التلاميذ. لا يقال لنا لماذا زجر التلاميذ الوالدين الذين جاؤوا بأطفالهم، ولكن هذا يظهر من لا فهم التلاميذ ليسوع ولعلاقته بهؤلاء الأولاد الصغار. بدأ يسوع (كما في لوقا) فدعا الأولاد إليم مكرّراً أقوال مرقس: "دعوا الأطفال يأتون إليّ، فلأمثال هؤلاء ملكوت الله ". لم يسمح للتلاميذ بأن يبعدوهم، لأن المشاركة في ملكوت الله هي معدّة "للصغار" في المجتمع البشري.
ويحمل القول في آ 17 درساً آخر ينبع من حضور الأطفال: لا يعترف بهم فقط أنهم أعضاء في الملكوت، بل أنهم مثالا للكبار في قبول الملكوت. لم يوضحِ يسوع فكرته. ولكننا نستطيع أن نتحدّث عن انفتاح الأطفال وتقبّلهم للآخرين. براءتهم وبعدهم عن اتهام الآخرين، حرارة حبّهم وعدم الإعتداد بأنفسهم أنهم بلغوا الكمال. وهكذا صار الطفل رمزاً ومثالاً للذي يدخل ملكوت الله

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM