الفصل الثالث والأربعون: يوم ابن الإنسان

الفصل الثالث والأربعون
يوم ابن الإنسان
17: 20- 37

تفرّد لوقا فقدّم نصين رؤيويين، قدّم خطبتين اسكاتولوجيتيتن واسعتين حول الأحداث المتعلّقة بنهاية هذا العالم. جاء الأوّل قصيراً وقد استقى مواده من المعين. تركّز على المجيء المقبل لابن الإنسان. أما النص الثاني (21: 5-36) فاستقى الكثير من إنجيل مرقس ورتّب أحداثاً تاريخية معاصرة (دمار أورشليم، اضطهاد التلاميذ) مع النهاية الأخيرة بحصر المعنى. أما الخطبة الاسكاتولوجية التي نتوقّف عندها الان فتتكوّن من حوارين متمايزين وغير متساويين في الطول. عنوان الحوار الأول: يوم ابن الإنسان. أما الحوار الثاني فينتهي مع مثل القاضي الظالم الذي يشكّل له خاتمة.
أ- أمام الملكوت الآتي
نحن هنا في جوّ جلياني (جلا، أي كشف). فهذا الفن الأدبي (الفن الجلياني) عاد إلى أوضاع خطيرة فدفع حركة الرجاء إلى الذروة (رج روم 5: 3- 5). هذا الفن يوافق مناخ المحنة الذي يتحرّك فيه 17: 20- 37: إن مجيء الملكوت هو محنة.
1- متى يأتي الملكوت
سأل الفريسيون يسوع: "متى يأتي الملكوت" (آ 20)؟ أجابهم يسوع: لا نستطيع أن نراقب مجيء ملكوت الله بالعين المجرّدة، بالملاحظة الدقيقة. هذه العبارة النادرة في الكتاب المقدّس تدلّ على استحالة الإحاطة بالحدث لأنه يفلت من قبضة الملاحِظ المدقّق الذي يفاجئه مجيء الملكوت بشكل لا يتوقّعه. في 13: 18- 21 رأينا نمو هذا الملكوت يتمّ بشكل غير منتظر: ذاك كان تعليم مثلَي حبة الخردل والخمير في العجين. أما هنا فمجيئه مدهش. ولكننا نكتشف بوضوح أن العلامة والشاهد، أن الحضور الحيّ للملكوت هو "ابن الإنسان في يومه" (آ 24). مجيئه موضوع رغبة (آ 22)، وهو يضمّ كل شيء (آ 24)، ويرافقه الألم (آ 25). ظهر هذا الملكوت (آ 30)، فكان ظهوره حاسماً (آ 34- 36). لا يبدو هذا الملكوت بشكل "تجمّع" حسب الصورة التي نجدها في مر 13: 27 (يجمع مختاريه) وفي مت 24: 31. ولكنه يجيء فجأة (مثل البرق، آ 24؟ رج مت 24: 27)، فيدرك جميعَ الناس (آ29)، ويدرك كلَّ واحد (آ 34- 36) في قلب حياته اليومية.
إن بداية هذا الحدث (آ 20- 21) هي خاصة بلوقا. طرح الفريسيون سؤالاً حول "وقت" مجيء "ملكوت الله". فأجاب يسوع متحدّثاً عن "مكان". وهذا المكان هو في الواقع حضوره وسط الذين يسألونه. وهو حاضر أيضاً في أعماق كيانهم. وفي قلب حرّيتهم يستطيعون أن يعترفوا به أو يرفضوه.
إن آ 21 تجد ما يقابلها في مت 24: 23 ومر 13: 21، حيث نتكلّم عن الموضع الذي نستطيع أن نحدّد فيه موقع المسيح (كرستوس) (المسيح هو هنا أو هناك). وفي التوسّع الذي يلي (آ 22-37) تحلّ لفظة "ابن الإنسان" (آ 22، 24، 26، 30) محلّ عبارة "ملكوت الله ". وبالتالي يصبح هذا الملكوت شخصاً حياً. إن الملكوت المنتظر يعلن عن ذاته ويقدّم نفسه في نشاط يسوع المسيحاني وفي الوقت عينه يكون حديث عن "اليوم" (في صيغة المفرد، آ 24، 27، 30، 31) وعن "الأيام" (في صيغة الجمع، آ 22 مرتين، 26، 28). أما الخاتمة فتعود تتحدّث عن "مكان" يدل عليه يسوع أنه "جسده" (آ 37: حيث يكون الجسد).
2- كيف ياً تي الملكوت
في آ 22-37، أعاد لوقا صياغة مواد (المعين الذي استعمله أيضاً مت 24) أشارت في البداية إلى عقاب الأمّة اليهودية. هذا ما تدلّ عليه العودة إلى الطوفان (رج تك 7: 6- 23) وإلى خراب سدوم (رج تك 19: 15- 29). وبعد كل حدث، جاءت عبارة واحدة بشكل ردّة تتكرر: فأهلكهم جميعاً (آ 27، 29؛ رج مت 24: 39).
إن بعض الآيات تذكّرنا بعبارات من يسوع في الخطبة حول مجيء ابن الإنسان في مر 13 (آ 19- 23 و14- 16). أما القديس لوقا فوزعّ مواده في خطبتين. ذاك الذي نعالجه الآن سمي "الرؤيا اللوقاوية الصغيرة" (17: 22- 37). ثم نصّ 1 2: 5- 36 الذي سمّي "الرؤيا اللوقاوية الكبيرة" أو "الرؤيا الإزائية". إن الفرق بين الخطبتين يكمن في التمييز الذي يدخله لوقا بين النداء الحالي الذي توجّهه إلى الفرد الأمور الأخيرة، والوجهة الشاملة والكونية التي يتّخذها مجيء الآخرة بالنسبة إلى البشر.
مهما يكن من تاريخ التدوين اللوقاوي، من المهم أن نلاحظ تبدّل الأشخاص الذين يتوجّه إليهم: بعد الفريسيّين في آ 20، سيأتي التلاميذ في آ 22. والجواب القاطع الذي أعطي للأولين عن "ملكوت الله" سيتوضّح في كلمات شخصية ("ابن الإنسان") للذين يهتمون لا بأن "يعرفوا" ما سيكون، بل بأن "يحيوا" هذا الحاضر ويتقبلوه. إذن، حين جعل لوقا آ 20، 21، 22، 37 الواحدة قرب الأخرى، فقد تجنّب أن يخط انتظار الحدث الأخير على مستوى التنظير فيصبح هدفاً في ذاته. جوهر كلامه معارض للجليان. وهذا ما تثبته سائر المقاطع التي يظهر فيها السؤال حول زمن مجيء الملكوت (رج 19: 11؛ 21: 7؛ أع 1: 6): في كل مرّة كان جواب يسوع رفضاً لكل حساب جلياني.
ولعبارة "أيام ابن الإنسان" نكهة توراتية.ْ نقرأ في أش 39: 6: "ستأتي أيام يُحمل فيها إلى بابل". وفي عا 4: 2: "ستأتي أيام يرفعكن العدو" (رج 8: 11؛ 9: 13؛ زك 14: 1؛ إر 7: 32؛ 9: 25؛ 16: 4؛ 19: 6...). ونجد العبارة في أماكن أخرى في الإنجيل الثالث : 5: 35: "ستأتي أيام يرفع فيها العريس؛ 19: 43: "ستأتي أيام يحيط بك العدو" (رج 21: 6؛ 23: 29). تستلهم هذه العبارة "أيام نوح" و"أيام لوط" في آ26 و28. أي حدث تدلّ عليه هذه العبارة؟ يبدو أن آ 22 تتحدّث عن زمن رسالة يسوع على الأرض. كم يودّ المؤمن أن يعود إلى هذا الماضي المثلج الصدر، كم يودّ أن يعيده! ولكن في آ 24، 26، 30، نحن بالأحرى أمام زمن حاسم في المستقبل يصبح مقياس تصرّف البشر، أمام زمن حاضر بمدلوله منذ الآن وإن ظلّ هذا المدلول خفياً حتى الآن.
يبدو أن معنى آ 22- 24 هو كما يلي: سيمرّ التلميذ في أوقات محنة وظلمة تنقصه فيها كل طمأنينة وأمان. فيتمنّى حينئذ تأكيداً بعودة يسوع إلى التاريخ البشري، أو بالتعرّف إلى ابن الإنسان. ولكن عبثاً. فمجيء ابن الإنسان سيكون للجميع حدثاً لا يمكن أن يتجنّبوه كما لا يمكن أن يتوقّعوه. إنه يفرض نفسه كالبرق اللامع في الأفق فيكون فجائياً وواضحاً. ولكن البرق يدلّ أيضاً على ضياء القائم من الموت كما في 24: 4؛ أع 9: 3. وهكذا ننتقل من رؤية إبن الأنسان في المجد، وهذا ذروة تواريخنا، إلى رؤية القائم من الموت، وهذا رجاء التلاميذ.
ومع ذلك، فإن يسوِع يذكر الواقع القاسي الذي يسبق هذا التمجيد. فكما أن اختطافه نحو الآب سيمرّ في أورشليم (رج 9: 22، 44، 51)، كذلك سينكشف حدث مجيئه إنطلاقاً من معنى آلامه وموته: "عليه أولاً أن يتألّم كثيراً وأن يرذله هذا الجيل" (آ 25). فعبارة ابن الإنسان تدلّ هنا وفي الوقت عينه، على الواقع المؤلم وعلى التجليّ في المجد الذي فيه تدان أعمالُ البشر (رج أع 7: 56).
ويعبّر النصّ عن دينونة كل البشر بصور مأخوذة من التوراة والعالم اليهودي: "الطوفان " و"النار" (الدينونة أكيدة وهي تصيب الخطأة). يتدخّل مثل نوح (تك 7: 6- 23) في مت 24: 37- 39 بعد القول حول اليوم والساعة اللذين يجهلهما ابن الإنسان (آ 36). لماذا؟ لكي يبرز جهل البشر لما يتمّ الآن: إن جهلهم يشبه جهل معاصري نوح. أما لوقا فشدّد بالأحرى على الخيار الذي يتّخذه كل إنسان. فالخيار الشخصي وُجد في خبر نوح، نموذج البارّ الذي يصل إلى الخلاص. وزاد على هذا الخيار، مثل لوط (رج تك 19: 15- 29) كما في سي 16: 4-10؛ 2 بط 2: 4- 10: ترك لوط سدوم ليهرب من مجتمع فاسد.
وهكذا يدل نوح ولوط على منظار من الرجاء مفتوح أمام التلاميذ. فعليهم في قلب المحن أن يسلّموا نفوسهم إلى ابن الإنسان بدلاً من أن يستندوا إلى الأمور الأرضية: مثل الأكل والشرب والزواج والشراء والبيع والزراعة والبناء.
3- الحدث الحاسم
في هذا الوقت (آ 31- 32) أدخل لوقا مقطعاً نجده بأشكال أخرى في مر 13: 14-16؛ مت 24: 17- 18. يتحدّث هذان الإنجيليان عن الهرب من أورشليم بعد أن نجّستها "رجاسة الخراب" وحاصرها العدوّ. أما في لوقا، فنحن أمام الحدث الحاسم الذي يجعل بلا فائدة كل محاولة للإتكال على ما تربطنا به الحياة على الأرض. يجب أن نواجه هذا "اليوم الذي فيه يظهر ابن الإنسان". وهكذا نكتشف معنى التاريخ الذي عشناه والذي لا نستطيع أن نعيده إلى الوراء. "تذكّروا (إحفظوا في ذاكرتكم) امرأة لوط" (رج تك 19: 26: إلتفتت إلى الوراء فصارت عمود ملح). هذا ما تقوله آ 32 فتلقي الضوء على آ 22- 23: لا عودة إلى الوراء، لا مهرب ممكناً.
لم يعد هناك من شكّ بعد آ 31- 36: هذا المجيء الفجائي يفرض النص القرار والإلتزام (ماذا نعمل؟). إنه الكلمة الأخيرة (هذا هو معنى "اسكاتولوجيا" الأصلي) على حياة كل إنسان. إنه الواقع الأخير الذي نحدّد موقعنا تجاهه. في هذا المنظار أقحم لوقا هنا قول يسوع الذي ورد في 9: 24 (رج مر 8: 35؛ مت 16: 25) خلال تعليم أعطي للتلاميذ حول شروط "اتباع يسوع ": "من أراد أن يخلّص نفسه يهلكها. وأما من أهلك نفسه من أجلي فإنه يخلّصها". إن الشكل الحاضر لهذا القول يقترب أكثر من مت 10: 39 الذي هو جزء من "خطبة الإرسال ". غير أن لوقا ترك التعارض المتّاوي "وجد/ خسر"، وتحدّث عن "إرادة البقاء، الحفاظ على الحياة" تجاه "الإهلاك" (آ 27، 29: أهلك). نحن نحدّد مسيرة حياتنا في الساعة الأخيرة، بل في الأعمال اليومية.
هذا ما توضحه الآيتان الأخيرتان (آ 34- 35)، مع العلم أن آ36 تكرّر مت 24: 40 كما تورده بعض المخطوطات. فالتوازي مع مت 24: 40- 41 يدلّ على أن هاتين الآيتين ارتبطتا في البداية بالتنبيه حول الطوفان. ويُبرز نصّ لوقا بشكل واضح شموليةَ دينونة كل واحد منا، وهي دينونة لا نتوقّعها: إنها تحطّم كل العلائق الحميمة: بين الزوج وزوجته، بين العامل ورفيقه، في الليل أو في النهار (في تلك الليلة. رج مثل الغني الجاهل الذي تؤخذ منه نفسه "في تلك الليلة"، 12: 20). ففي وسط الأشغال العادية يُدان كل إنسان في ساعته.
ويختتم يسوع خطبته بجواب ملغز يردّ فيه على التلاميذ حول مكان (لا زمان) الدينونة في مجيء ابن الإنسان: "حيث يكون الجسد هناك تجتمع النسور". في مت 24: 28، يتبع هذا القول كلاماً حول وضوح البرق ويبدو موازياً له: إن وجود الجثة يجتذب النسور. إن لفظة "أئيتوس" تدل على "النسر" (رج حز 17: 37؛ رؤ 4: 7؛ 8: 13؛ 12: 14) أو "العقاب" (مت 24: 28؛ لا 11: 13؛ تث 14: 12) الذي يبحث وحده عن الجيفة ويأكلها. قد نكون هنا أمام تذكّر لما في أي 39: 26- 30.
أما عند لوقا، فنقرأ هذا القول (حيث يكون الجسد) في تماسك الخطبة ولا نحاول أن نفهمه عن طريق الإستعارة: كما أن الموت يعمل عمله، هكذا تتمّ الدينونة لا محالة (لا للهرب من هذا ولا من ذاك). إن حدث مجيء ابن الإنسان (على مستوى الزمان والمكان) يتفلّت (لا يقع) من قبضة البشر، أمّا هم فلا يفلتون منه.
إذن، يأتي النداء إلى القرار الشخصي ملحّاً. أدخلْ إلى السفينة (يا نوح)، اتركْ سدوم (يا لوط). فالوضع وصل إلى النهاية: "ستأتي أيّام...) كما في اختطاف العريس (5: 35)، كما في ساعة دمار الهيكل (21: 6) أو حين تدمّر المدينة(23: 29). ومع ذلك، فهذه الدينونة هي دينونة خلاص: نجا نوح من الطوفان، وأفلت لوط من النار والكبريت. لقد اتخذا القرار. هذا ما يحيّرنا. ولهذا أجاب يسوع بمثل ينتهي بدينونة تحمل الخلاص. ولكنه يحتاج إلى الإيمان (18: 8).
ب- قراءة تفصيلية للنصّ
بعد هذه النظرة الإجمالية ومحاولة إكتشاف المعنى الروحي، نعود إلى تفاصيل النصّ، فنفهم آياته آية آية وكلماته كلمة كلمة.
1- الحضور الحالي للملكوت (17: 20- 21)
إن موضوع الحوار في آ 20- 21 هو ملكوت الله، والمحاورون هم الفريسيون. لا يرفض يسوع مبدئياً أن يجيب عن سؤال حول زمن مجيء الملكوت. بل هو ينتقد غياب الإيمان عند محاوريه. فهم لا يرون أن المجيء النهائي والتام للملكوت الذي بدأ ينمو ويمتد في أعمال يسوع وأقواله، لن يحصل فجأة. هم لا يستطيعون أن يفهموا أن آلام ابن الإنسان تسبق هذا المجيء وهكذا يكون وضع التلاميذ (آ 25). ظنوا أن هذا المجيء يتمّ في أورشليم. رفض يسوع كل هذه التنظيرات وأعلن ان الملكوت هو هنا وقد بدأ عمله.
"سأله الفريسيون" (آ 20). إن السؤال حول مجيء الملكوت يطرحه أولئك الذين يؤمنون بالقيامة (أع 23: 6- 8). لا نجد شيئاً في النصّ يدلّ أنهم سألوا ليهزأوا منه أو يُحرجوه.
"متى يأتي ملكوت الله"؟ أي: متى هو مزمع أن يأتي؟ رج 11: 2؛ 22: 18؛ 19: 11. لا يذكر "مجيء" الملكوت في العهد القديم. ومع ذلك رج دا 7: 14، 18 (أعطي سلطاناً ومجداً وملكاً... يأتي قديسو العلي فيأخذون الملك).
"لا يأتي بالمراقبة والترصّد". أي لا نستطيع أن نرى ظواهره بشكل محسوس (بوجه منظور). إستعمل الاسم "باراتاراسيس" فعنى ترقّب النجوم والبحث عن أعراض المرض (في اليونانية القديمة لا يرد في السبعينة كلها بل فقط في ترجمة إكيلا، خر 12: 42). أما الفعل (باراتاراين) فنجده في العهد الجديد 60: 7 (الفريسيون يترقبون)، 14: 1؛ 20: 25؛ أع 9: 24؛ غل 4: 10 (المحافظة على الأعياد). لا يعود النصّ اللوقاوي إلى ممارسة الشريعة (لدى الفريسيين) والمحافظة على الطقوس. بل نفهم اللفظة في المعنى الهلنستي: لاحظ. راقب. لاحظ علامات (آتية من السماء) تنبىء مسبقاً بالأحداث. أو تلميحات جليانية حول الأوقات والفصول (حك 8: 8؛ 1 تس 5: 1؛ رج مر 13: 32؛ مت 24: 36). نحن أمام نوع من توقيت إسكاتولوجي. نتذكّر هنا أن لوقا صوّر يسوع القائم من الموت رافضاً مثل هذه الاهتمامات (أع 1: 7: ما لكم أن تعرفوا الأوقات والأزمنة). وقال أحد الشرّاح: هناك اعتقاد فريسي بترقب المسيح في ليلة الفصح. ولكن الأمر مستبعد.
إن كلام يسوع في هذا الشقّ من الآية يرفض علامات تدلّ على عقلية كتلك التي نجدها في 11: 29 (جيل فاسد)؛ 16: 27. هذا يتضمّن أن سؤالا الفريسيين ينبع من هذه العقلية.
"ولن يقال" (آ ا 2). ها هو هنا أو هناك. تستعمل العبارة نفسها عن المسيح في مر 13: 21 (أغفل لوقا هذا في إيراده الموازي في الخطبة الاسكاتولوجية في ف 21).
هو فيكم. في داخلكم (انتوس). أي إن ملكوت الله في قلوبكم، كقوة باطنية وغير منظورة. هذا المعنى تسنده السبعينية في مز 39: 4؛ 103: 1؛ 109: 22؛ أش 16: 11 (تقابلها السريانية البسيطة). ان هذا المعنى لا يوافق في جواب يسوع إلى الفريسيين. ودافع مارشال قائلاً إن الضمير غير محدّد. ولكن المسألة الحقيقية هي أن لوقا لا يتحدّث عن الملكوت كواقع باطني، كوضع داخلي في الكائن البشري. مثلاً، إن حضور الملكوت لا يساوي عنده مجيء الروح.
هو في وسطكم. أي إن ملكوت الله حاضر عندكم في شخص يسوع، في أعماله وأقواله. يسند هذا المعنى الأدب اليوناني والنسخة السريانية السينائية. ولكن يطرح السؤال: لماذا لم يقل لوقا "إن ماسو" بل قال "أنتوس "؟ رج 2: 46؛ 8: 7؛ 15: 3.
هو في متناولكم، هو لكم. أنتم تستطيعون أن تشاركوا فيه إذا شئتم. تستطيعون أن تختاروه. يسند هذا المعنى البرديات.
2- مجيء ابن الإنسان (17: 22- 37)
تتخذ الخطبة الاسكاتولوجية منحى آخر (آ 22- 37) بعد القول على الملكوت. تبدّل السامعون. إختفى إلفريسيون، وعاد التلاميذ إلى المسرح. وحلّ محل موضوع ملك الله الحالي موضوع مجيء ابن الإنسان (المقبل وغير المنتظر) وفجاءة هذا المجيء الذي يسبق المجيء النهائي لملكوت تحقّق تحققاً كلياً.
أولاً: وقال للتلاميذ (آ 22- 25)
رغب التلاميذ أن يروا الظهور المجيد لابن الإنسان، مع أنهم يعيشون أزمنة صعبة. سيخيب انتظارهم. ولن يروا بذاتهم هذا اليوم، فلا يضلّهم أنبياء مسيحيون كذبة حول المكان والزمان.
"قال لتلاميذه". إستعمل لوقا الفعل مع "بروس" كعادته. "ستأتي أيام". استعمل لوقا هذه العبارة في 5: 35. وسيستعملها في 21: 6 (قال مر 13: 2: لن يبقى حجر على حجر. قال لوقا: ستأتي أيام لا يبقى فيها حجر على حجر). رج 19: 43؛ 23: 29. إن هذه العبارة ترتبط بأقوال نبوية نجدها في السبعينية (عا 4: 2؛ إر 7: 32).
"تشتهون أن تروا". إن كلام يسوع يلمّح بشكل غير مباشر إلى الشق الأول من جوابه إلى الفريسيين في آ 20 د (لا يجيء بوجه منظور). هكذا يدلّ لوقا على رغبة الإنجيلي ومعاصريه برؤية ذلك اليوم (رج رؤ 6: 10: حتّى متى أيها السيد القدوس).
"يوماً واحداً من أيام ابن الإنسان". ننتقل من "أيام" إلى "يوم" ثمّ إلى "الليلة" (آ 43). إن "اليوم" (في صيغة المفرد) يشير إلى ذاك الذي يصوّره أع 1: 11 (أي: مجيء يسوع الثاني وعودته. لا يذكر لوقا لفظة "باروسيا"). وما تعني "أيام ابن الإنسان"؟ فترة من الزمن؟ وماذا يعني "يوم" من أيام؟ قد نكون في مقابلة بين "يوم" ابن الإنسان تجاه "أيام نوح" (آ 26) و"أيام لوط" (آ 28).
وأعطيت شروح أخرى لهذه العبارة الصعبة. الأول: ان لفظة "واحداً" تعني "الأول" كما في السبعينية في تك1: 5؛ عد 1: 1؛ عز 10: 17؛ رج مر 16: 2؛ لو 24: 1؛ أع 20: 7. هذا ما يلقي ضوءاً على يوم الوحي نفسه. الثاني: ان لافظة "ميان" تقابل في الأرامية "لحدا" (لام المفعول+ واحد) وقد تعني: كثيراً، حقاً. نترجم مع تايلور: تشتهون فيها حقاً أن تروا أيام ابن الإنسان... الثالث: يعني الرقم: حتى. ولكن هذا مشكوك فيه. الرابع: هناك الرقم واحد. ولكن ولْي الجملة يعتبر إقتداء ب "أيام المسيح " حسب عبارة رابانية تدلّ على العهد المسيحاني. ولكن ما عمر هذه العبارة لكي ندخل هذا المدلول في "أيام ابن الإنسان" في هذا المقطع اللوقاوي.
من الواضح أن لوقا لا يفكّر بحقبة من الزمن فيها يملك ابن الإنسان، بل هو يشدّد على فجائية هذا "الحدث" الذي يميّز الناس بعضها عن بعض. هنا نتذكّر 9: 51: وإذ كانت أيام إرتفاعه...
"ابن الإنسان" (رج 5: 24). تعود هذه العبارة أيضاً في آ 24، 26، 30. في هذا السياق الحالي، سيكون ظهوره دينونة.
ولكنكم "لا ترون". هذا لا يعني أن التلاميذ لن يعيشوا طويلاً (حتى يروه). أو أن الملكوت لن يأتي بعد. بل إن الملكوت لن يأتي "بشكل منظور". ولهذا لن ترونه. وهكذا يتضمّن تفسير يسوع الأول جواباً سلبياً.
"ويقال لكم" (آ 23). هنا كما في 6: 44 نجد الغائب الجمع. يشير يسوع إلى الضلال الذي قد يقع فيه التلاميذ خلال زمن الكنيسة. نستطيع هنا أن نقابل هذه الأقوال مع ردّة فعل يوسيفوس المؤرخّ حول تنبؤات قيلت في دمار أورشليم.
"لا تذهبوا، لا تركضوا". ما لكم ولهذه الخدعات؟ إن خلاصكم لا يرتبط بهذه التصريحات المثيرة حول مكان الظهور. هناك مخطوطات جرارة وبعض الترجمات السريانية تزيد: فلا تصدقوا (لا تصدقوها). وقرأت البردية 75 والفاتيكاني والترجمة الصعيدية فعلاً واحداً: "لا تسعوا" (وتركت الأول: لا تذهبوا).
"من أفق إلى أفق" أو "من طرف السماء إلى الطرف الآخر". كانوا يعتبرون السماء قبّة تبدأ في مكان وتنتهي في آخر. حرفياً: من تحت السماء إلى تحت السماء. من (منطقة) تحت السماء، إلى (منطقة) تحت السماء. أراد لوقا أن يصوّر سرعة البرق الذي يلمع في مكان فيصل إلى آخر. نلاحط أن مت 24: 27 قال: "ينطلق البرق من المشرق ويشعّ في المغرب". بسّط متّى نصّ المعين الذي احتفظ لوقا بأصالته.
"هكذا يكون ابن الإنسان". هكذا يظهر فجأة. هكذا يكون مجيئه ساطعاً كالبرق.
"في يومه"، هناك من يضع هذه العبارة بين قوسين لأنها غائبة من بردية 75 والفاتيكاني والبازي واللاتينية العتيقة والصعيدية. إلاّ أنها موجودة في السينائي والاسكندراني... يبدو أن إغفالها هو خطأ من النسّاخ الذين انتقلوا من "بو" (نهاية كلمة الإنسان) إلى "تو" (الضمير في يومه).
"أن يعاني الآلام". هذه الكلمة هي صدى لما في 9: 22. إن مفهوم المحنة الذي يسبق ظهور يوم ابن الإنسان، يجد ما يقابله في حياة التلاميذ (أع 14: 22: نمرّ بشدائد كثيرة لندخل ملكوت الله).
"في هذا الجيل". رج 7: 31؛ 9: 41. في 9: 22 أشار قول يسوع إلى الشيوخ وعظماء الكهنة والكتبة. أما هنا فلا يحدّد.
ثانياً: أيام نوح ولوط (آ 26- 30)
يقابل يسوع أيام النهاية بأيام نوح ولوط. فيذكّر التلاميذ أن عليهم أن يتركوا كل تنظير حول المجيء المجيد لابن الإنسان: هذا اليوم سيكون أيضاً يوم الدينونة النهائية.
"في أيام نوح" (رج ا بط 3: 20؛ كان نوح يبني السفينة التي فيها نجا). عُرف نوح لدى يهود فلسطين المعاصرين كمثال البرّ والتقوى: "طوال أيامي مارست الحق" (المغارة الأولى في قمران حول تك 6: 2؛ رج 2 بط 2: 5: نوح المنادي بالبر). لم يعرف معاصرو نوح إستقامته، فكانوا على مثال "هذا الجيل" (آ 25). وصوّرت آ 26 تهاملهم وكسلهم و"رضاهم" عن سلوكهم.
"ظلّ الناس يأكلون ويشربون". هي أعمال عادية، لا صالحة ولا طالحة في ذاتها. ولكنها تذكّر ب "فساد" الأرض في نظر الله كما في تك 6: 11 (رج 2 بط 2: 5)... حتى دخل نوح السفينة. رج تك 7: 7 حسب السبعينية. وجاء الطوفان. رج تك 7: 10، 21. فمات كل ما فيه نسمة حياة.
"أيام لوط" (آ 28). كان لوط إبن هاران، أخي ابراهيم (تك 11: 27). رافق ابراهيم من بلاد الرافدين إلى أرض كنعان. نصبا خيامهما في شكيم ثم قرب بيت إيل قبل أن ينزلا إلى مصر. وبعد أن أقاما بعض الوقت في مصر، عادا إلى بيت إيل. ولكن انفصل لوط عن عمه ابراهيم لأن الأرض ضاقت بهما (تك 13: 6) أو لأن الخلاف دبّ بين رعاتهما (تك 13: 7). فأقام لوط في وادي الأردن (تك 13: 11)، وظلّ ابراهيم في كنعان. غير أن أهل سدوم كانوا "أشراراً خاطئين جداً أمام الرب" (تك 13: 13). فطلب الملاك من لوط أن يترك مدينة سدوم الخاطئة (تك 19: 15) فذهب مع عياله إلى صوعر (تك 19: 23). في الوادي نفسها، نجد خبراً معاصراً ليسوع عن ابراهيم ولوط في نصوص قمران (المغارة الأولى) حول تك 20: 11- 22: 11.
"يأكلون، يشربون..." ستة أفعال تصوّر حياة أهل سدوم اليومية دون الإشارة إلى خطيئتهم المعروفة في العهد القديم. يشدّد النص على تهاملهم وكسلهم. هذه الأفعال تظهر في أمكنة أخرى من الأناجيل فتدلّ على تشتّت الإنسان وضياعه. فالشراء (14: 18، 19) منع المدعوّ من تلبية الدعوة إلى الملكوت. والبناء والأكل والشرب (12: 18- 19) جعلت الغني فقيراً أمام الله رغم كثرة غلاله. والبيع في الهيكل (19: 45) صيّر موضع الصلاة "مغارة لصوص". هنا نتذكّر أيضاً صورة حز16: 46 - 52 عن سدوم (كان أثم سدوم العجرفة والتخمة والرخاء).
"خرج لوط". أو بالأحرى أخرجه الملائكة (تك 19: 16- 17). دفعوه إلى أن يترك سدوم. "النار والكبريت". نجد هنا تلميحاً إلى تك 19: 24؛ رخ ؤ 9: 17- 18؛ 14: 10؛ 19: 25؛ 20: 10؛ 21: 8. إن الزلازل واشتعال البراكين صارت مع الوقت عناصر جليانية ، ووسائل لتدمير الأرض أو الجاحدين والخطأة. رج كما 29: 23؛ أي 18: 15؛ مز 11: 6؛ أش 30: 33؛ حز 38: 22. هناك الترتيب "النار والكبريت" نجده في بردية 75، السينائي، الفاتيكاني. ونجد "الكبريت والنار" في الاسكندراني والبازي بتأثير من تك 19: 24 حسب السبعينية (منطقياً: بالكبريت تشتعل النار).
"كذلك يكون" (آ30). أي بالطريقة عينها. هناك مخطوطات (السينائي، الاسكندراني) تقول: "هذا الأشياء تكون" (أي تحدث في يوم ابن الإنسان). "يظهر". جاء النص المتاوي المقابل لهذه الآية أكثر وضوحاً في الإشارة إلى عودة ابن الإنسان (مت 24: 39: باروسيا). إستعمل لوقا فعل "أبوكالبتاتاي" الذي استعمله بولس في 1 كور 1: 7 ليدلّ على "ظهور" الرب يسوع المسيح. مع أن لوقا تحاشى لفظة "باروسيا"، إلاّ أن فهمه ليوم (أو: أيام) ابن الإنسان يدلّ على فكرة "العودة" (باروسيا) كما يتوسّع فيها سائر كتّاب العهد الجديد.
ثالثا: ماذا نعمل (آ 31- 37)
في آ 31- 35، دلّ يسوع على سلوك المؤمن يوم يظهر ابن الإنسان لكي يمارس الدينونة. هناك وضعان يقدّمان مثلاً أول: من يكون على سطح البيت، يهرب فلا يأخذ معه شيئاً. من يعمل في الحقل يهرب ولا يلتفت إلى الوراء (كما فعلت امرأة لوط، تك 19: 26). ويقدّم وضعان جديدان مثلاً ثانياً حول سلوكنا تجاه مجيء إبن الله الفجائي: إثنان في فراش واحد، امرأتان تطحنان. يأخد الله واحداً فينجو من الدمار والثاني يهلك. نحن لسنا أمام موقف اعتباطي. فتصرّف الله يرتبط بالموقف الذي نقفه من التضحية بالحياة: من طلب أن يخلّص نفسه يهلكها. ومن يهلكها يحفظها. وينتهي كل هذا المقطع (آ 22- 37) بسؤال غامض طرحه التلاميذ (إلى أين يا رب؟) يجيب عليه يسوع بشكل غامض أيضاً. لا علامة تدلّ على مكان ظهور ابن الإنسان، ولا علامة تدلّ على الوقت الذي فيه يظهر. هذا يعني أن يسوع يعرف متى يكشف هذا السرّ. يبقى أن نعرف أن النهاية تأتي فجأة (الآن أو فيما بعد) دون أن تعطي أي إنذار للبشر.
"على السطح"، لا ننسى السطوح القديمة المصنوعة بالتراب والتي نصل إليها من الخارج. على الإنسان أن لا ينزل ويدخل إلى البيت ليأخذ شيئاً يخصّه. أن لا يلتفت إلى الوراء (حك 10: 7). وتعود آ 33 وتقول: تذكّروا امرأة لوط (تك 19: 26).
"من طلب أن يخلّص نفسه" (آ 33، رج 9: 24). يتضمّن القول في هذا السياق الحاجة إلى السهر. في المعين ينبع قول يسوع من الإشارة إلى نوح وعائلته (آ 26- 27). أما الآن فهو يُفهم عن الدينونة المرتبطة بظهور يوم (أيام) ابن الإنسان (آ 30).
"إثنان على فراش واحد". قد يكون الرجل وامرأته. وقد يكون الأخ مع أخيه والأخت مع أختها. المهم أن هناك اثنين يتميزان بوضع واحد. قال مت 24: 40- 41: يكون اثنان في الحقل، وتطحن اثنتان على الرحى. وقد يكون في ذكر "الفراش " إشارة إلى الليل. فالمسيح يعود في ليلة الفصح. ونتذكّر هنا العشر العذارى اللواتي رقدن وهن ينتظرن مجيء العريس.
"تؤخذ واحدة وتترك الأخرى". هل تؤخذ من الخراب، هل تؤخذ إلى الملكوت؟ وهل تترك الثانية للدينونة؟ أو: تؤخذ الواحدة للدينونة وتترك الثانية للخلاص؟ لكن يبدو أن التفسير الأول هو الأفضل على ضوء مثل نوح ولوط: أخذ واحد في السفينة، وأخذ الآخر من المدينة التي ستدمّر قريباً (هذا ما حدث عملياً في دمار أورشليم). أجل، إن دينونة الله تميّز بين الواحد والآخر.
في آ 36 زاد البازي والسريانية العتيقة واللاتينية العتيقة: "يكون اثنان في حقل، فيؤخذ أحدهما (مذكر) ويترك الآخر" (مذكر، ما عدا في مخطوطة واحدة، مؤنث). إنها منقولة عن مت 24: .4. وتهمل هذه الآية: البردية 75، السينائي، الاسكندراني، الفاتيكاني...
قال التلاميذ (آ 37): "إلى أين يا رب"؟ ولكن يسوع طلب منهم أن لا يطرحوا هذا السؤال (آ 23: هو هنا أو هناك). هذا يدل على أنهم لم يفهموا. هذا ما نجده أيضاً في أع 1: 6 (أفي هذا الزمان). لم يفهموا.واكتفى يسوع بأن يقول لهم: "ليست لكم أن تعرفوا"!
"حيث يكون الجسد". استعمل يسوع عبارة مأثورة لكي يردّ على تلاميذه. ستكون هناك علامة تدلّكم. هنا لا نمزج بين ما قاله مت 24: 28 عن الجيفة والعقبان (أفضل من النسور). وما قاله لوقا عن الجسد الذي تجتمع حوله النسور.
ج- تفسير النص
بعد أن أجاب يسوع الفريسيين عن سؤال حول مجيء الملكوت، توجّه بكلامه إلى التلاميذ يعلّمهم عن اليوم الذي فيه يظهر ابن الإنسان.
1- تأليف النصّ
إن يد لوقا هي التي دوّنت آ 22 أ (وقال للتلاميذ). هل باقي الآية هو من قلم لوقا؟ هذا ما يختلف فيه الشرّاح. ومهما يكن من أمر، فلا نجد ما يقابله عند متّى، وهو يورد كلاماً يدخلنا في الموضوع. والعبارة الملغزة "يوماً من أيام ابن الإنسان"، هي عبارة لوقاوية.
إن آ 23- 24، 26- 27، 33، 34- 35، 37 ب تجد ما يوازيها في إنجيل متّى (24: 26- 27، 37- 38؛ 10: 39؛ 24: 40- 41، 28)، وهي تعود إلى المعين. ضمّت في متّى مع مواد أخذت من مرقس لتؤلّف خطبة إسكاتولوجية طويلة. لم يكتف متّى بأن يحطّم وحدة المعين، بل أعاد صياغة بعض الأقوال الفرَدية وذكر "العودة" (أو: المعاد: باروسيا في 24: 27، 37، 39 مجيء ابن الإنسان)، كما فعل في 24: 13= مر 13: 4؛ رج لو 21: 7.
حين استعمل لوقا مواد المعين خلال كلامه عن صعود يسوع إلى أورشليم، استبق (فكرّر) ما سنجده في ف ا2. ليس ما يكفل لنا أن يسوع تلفّظ بهذه الأقوال حول مجيء ابن الإنسان، وهو في طريقه إلى أورشليم. فمع أن السياق الأصلي ليس في أيدينا، فلا يحق لنا أن ننسب جوهر المعين الذي استعمل هنا، إلى لوقا في المرحلة الأولى من التقليد الإنجيلي.
مع أن مانسون أكّد أن آ 25 هي جزء من المعين وتمثل قولاً أصيلاً ليسوع، إلاّ أن عدداً من الشرّاح يرون فيها تدويناً لوقاوياً يتوخّى تفسير آ 23- 24 ويماثل بشكل عام الإنباء بالآلام في 9: 22 مع إشارته إلى آلام ابن الأنسان الذي رذله شعبه.
إن آ 28- 32 خلقت أكبر الصعوبات في هذا المقطع. الأولى: إن آ 28- 29 توازيان آ 26- 27. ولكن بينما تعود آ 26- 27 إلى المعين، فلا شيء يقابل عند متّى آ 28- 29. إذا كانتا في المعين، فلماذا أغفلهما؟ نجد إرتباطاً بين مثل نوح ومثل لوط في حك 10: 4- 8؛ 3 مك 2: 4- 5 (سفر منحول)، وصية نفتالي (وصيات الآباء الإثني عشر) 3: 4- 5؛ 2 بط 2: 5- 7. الثانية: تعتبر آ 31 موازية مع مر 13: 15- 16، وبالتالي تبدو مأخوذة من مرقس (لا نجد ما يوازيها حقاً في لو 21: 20- 24). ولكن الألفاظ مختلفة جداً في هذه الآية اللوقاوية، والتحذير في السياق المرقسي يعود إلى رجاسة الخراب ويتوجّه إلى سكان فلسطين، لا إلى التلاميذ. الثالثة: إن التلميح إلى خبر امرأة نوح في نهاية آ 31 وفي آ 32 يشكّل تضميناً مع آ 28- 29. من هنا نستطيع أن نعتبر آ 28- 32 كوحدة كوّنها لوقا بسبب عبارة "في أيام".
تقابل آ 33 مت 10: 39، وقد تفرّعت من المعين. ضمّت هنا إلى بقية السياق وخرجت من سياق مختلف وأصيل. ثم إنها تكرار لنصّ لو 9: 24 (= مر 8: 35؛ مت 16: 25).
إن آ 34- 35 تبعتا آ26- 27 في المعين. فالنص المتّاوي الموازي هو 24: 40- 41. تحدّثنا عن آ36 في الدراسة التفصيلية. أما آ 37 فهي مركّبة: الشقّ الأول (آ 37 أ) هو نتيجة تدوين لوقاوي. الشق الثاني (آ 37 ج) هو قول مأثور يعود إلى المعين ويجد ما يوازيه في مت 24: 28.
واحتفظ إنجيل توما 61 بصورة آ 34: "قال يسوع: اثنان يستريحان هناك في السرير. واحد يموت، والآخر يحيا" (يبقى على قيد الحياة). قول باهت ويقع في سياق غريب في هذا الإنجيل المنحول. إنه لا يمثل شكلاً أولانياً للقول، بل يحاول أن يفسّر الشكل اللوقاوي للنصّ.
2- الفن الأدبي
إن الوحدة المكوّنة من آ 23- 37 تشكّل مجموعة من الأقوال النبوية (فيها التحذير والتهديد) التي قالها يسوع حوله مجيء يوم (أو: أيام) ابن الإنسان. رأى بولتمان في آ 23- 24 إنباء جليانياً، واختلافة عما قيل في مجيء الملكوت (آ 20- 21). أما آ 26- 35 فهي أقوال تهديد وتحذير لما في المجيء من وجه فجائي يأخذنا على حين غفلة، مع ما يتبع هذا المجيء من قسمة بين البشر.
يبدو أن آ 23- 24 هما إنباء إسكاتولوجي يستعمل اللغة الجليانية (يومض البرق) في إطار التهديد والتحذير. وهذا القول ليس اختلافة قبل لوقاوية للقول السابق عن الملكوت. ووضع هذه الأقوال بعضها بجانب الآخر هو فنّ لوقاوي، غير أن الموضوع يختلف كل الإختلاف. إن الأقوال في هذه الوحدة تختلف من جهة المضمون من خلال ارتباطها بظهور ابن الإنسان. فهذا لا يعني مجيء الملكوت. بالإضافة إلى ذلك، تحاشى لوقا باجتهاد أي ذكر "للمسيح" أو للمجيء (باروسيا)، وهكذا تعارض مع مر 13: 21 ومت 24: 3، 27، 37، 39. فالمشكلة التي تخلقها هذه الوحدة هي: لماذا دوّن لوقا هذا الموضوع في سيرة السفر إلى أورشليم، حين سيعود ويعالجه بشكل أدق 3 في ف 21؟ فكما أن لوقا أدخل رثاء على أورشليم داخل خبر السفر إلى أورشليم (13: 34- 35)، ها هو الآن يدخل تعليماً إسكاتولوجياً. هذا ما يوافق طابع التعليم الذي يُعطى للذين اختيروا ليكونوا شهوداً من الجليل خلال هذا الخبر. فالأقوال حول ظهور ابن الإنسان في هذه الوحدة ترتبط إرتباطاً سطحياً بالوحدة السابقة حول مجيء الملكوت.
لاحظ بولتمان (وكان على حقّ) أن آ 23- 24 تشيران إلى شخص يسوع في نظر الإنجيلي. هذا يعني أن يسوع هو في نظر لوقا ابن الإنسان الذي تحدّث عن ظهور يومه. لا شكّ في أن لوقا لم يخلق هذا القول، ولا شيء يمنعنا مني القول إن يسوع تفوّه به. غير أن هذا يطرح سؤالاً آخر حوله وجود إعتقاد بابن الإنسان الجلياني في العالم اليهودي الفلسطيني المعاصر. ما نعرفه هو أن لوقا فكّر في يسوع كابن إنسان سيكشف عن يومه. وان يكن هناك أي تردّد في هذا الشأن، فلنعد إلى أع 1: 11 ب ج حيث يقال انه سيأتي بالطريقة عينها التي بها ذهب إلى السماء.
وتضمّنت آ 26- 35 أقوال تحذير وتهديد تقابل أيام ابن الإنسان بأيام نوح (آ 26- 27) ولوط (آ 28- 32). فهي لا تنبهنا فقط إلى السهر المطلوب بسبب الحلول المفاجىء لهذه الأيام، بل وأيضاً بسبب المعاملة التي تميّز البشر (آ 31- 35). وفي النهاية، يأتي جواب يسوع في آ 37 ب بشكل قول تلفّظ به يسوع في إطار أصيل آخر. هذا القول كان مثلاً دنيوياً، على ما يبدو، فصار قولاً من أقوال الرب.
3- معنى الآيات
إستفاد يسوع من سؤال الفريسيين (آ20) فعلّم تلاميذه، لا عن مجيء الملكوت وحسب، بل عن ظهور يوم (أيام) ابن الإنسان. ويبرهن تعليمه الإسكاتولوجي أنه تحذير وتنبيه يصحّح كل استنتاج متسرّع حول مجيء يوم (أيام) يسوع. قال لتلاميذه إن ابن الإنسان لن يأتي بالسرعة التي رغبوا بها (آ 22). وعلّمهم الطريقة التي بها يأتي (آ 24) والطريقة التي بها لا يأتي (آ 23). وقال لهم أيضاً أقوالاً حول ما سيحدث أولاً (آ 25)، حول الوضع الذي يكون فيها البشر حين يأتي هو (آ 26- 30)، وحوله الدينونة التي تميّز الناس في "ذلك اليوم " وفي "تلك الليلة" (آ 31-35).
قبل كل شيء، على التلاميذ أن لا يخدعهم أنبياء يدلّون على علامات الأزمنة أو يشيرون إلى زمان ومكان الظهور. فيسوع أوضح أن مجيء ابن الإنسان سيكون فجائياً، سيأتي بلا شك. وهو لا يطلب من البشر أن يترقّبوه. فصورة البرق اللامع لا تعني فقط أن مجيء ذلك اليوم سيكون ساطعاً بل إن فجاءته ستكون مذهلة. إذا كان مجيئه فجائياً واضحاً للجميع، فسيسبقه شيء آخر سيحصل وهو آلام ابن الإنسان ورذله على يد شعبه.
حين قابلت آ 26- 32 مجيء يوم (أيام) ابن الإنسان مع أيام نوح ولوط، فقد نبّهت "هذا الجيل" من اللامبالاة والكسل. فكما دمّر الطوفان كل البشرية (اللامبالية)، ما عدا نوح وعائلته. وكما دمّر النار والكبريت شعب سدوم (الغير المهتم) ما عدا لوط وعائلته، هكذا ستحلّ الدينونة بالبشرية كلّها في يوم ظهور ابن البشر. ففي أيام نوح ولوط، تابع الناس أعمالهم العادية دون أن يفكّروا بشيء. فهذا ما عارض السهر والإنتظار. ولن يعطى لنا وقت لنأخذ شيئاً من متاع الدنيا أو شيئاً تركناه وراءنا. لن يكون لنا أن ننظر وراءنا. من هنا، يجب أن نكون مستعدين.
وتبرز آ 33- 35 الدينونة التي تقسم الناس في مجيء ابن الإنسان، وليس ما يكفل الخلاص (آ 33). فمن حاول أن يخلّص حياته (نفسه) يهلكها. وكل من يخسر حياته يحفظها. لم يفسر هذا القول. ولكنه يصبح واضحاً في سياق آ 27- 29: إن الخلاص من الدمار لن يتمّ فقط بالأكل والشرب والزواج والبيع والشراء والزرع والبناء (7 نشاطات، هي مجمل نشاط البشر. ذكر عشرة نشاطات: 6+ 4، ولكن بعضها تكرّر).
لا يعني تعليمُ يسوع أولئك التلاميذ الذين يظنون أن مصيرهم أفضل من مصير الذين حولهم، بل أولئك الذين فهموا وضعهم الميأوس منه (وسط اللامبالاة العامة والإكتفاء الذاتي) فتساءلوا: ماذا يجب أن نعمل لكي نخلص؟
خاتمة
إن هذا التعليم الإسكاتولوجي المظلم حول يوم ابن الإنسان جعله لوقا هنا لأنه فهم أن ظهور يسوع سوف يتأخّر. جعله جزءاً من حديث يسوع إلى تلاميذه، وهو في طريقه إلى أورشليم، ليفهم التلاميذ الذين يتبعونه في هذه الطريق متطلبّات حياتهم الخاصة (أع 14: 22). وسيُعطى شكل آخر لهذا التعليم في الخطبة الإسكاتولوجية الكبرى (ف 21)، ساعة ينهي يسوع تعليمه حول الهيكل ويتوجّه نحو مصيره

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM