الفصل التاسع والثلاثون: مثل الغنيّ ولعازر

الفصل التاسع والثلاثون
مثل الغنيّ ولعازر
لو 16: 19- 31

هذا المثل خاصّ بلوقا، وهو يعود إلى تقليد قديم. فإذا أردنا أن نعطيه كامل معناه، نتفحّص الأخبار القديمة التي تشبهه. ثمّ نبحث عن معناه في إنجيل لوقا. وفي النهاية نحاول العودة إلى أصول التقليد الإنجيليّ.
أ- أخبار قديمة
هناك نصوص من مصر وفلسطين تشبه مثل الغني ولعازر. وها نحن نقدّم خبراً مصرياً ومثلاً تناقله الرابّانيّون.
1- خبر ستمي خاموئيس وابنه سانوسيريس
دُوِّن هذا الخبر على برديّة تعود إلى سنة 332 ق. م.، وقد يكون دوِّن في القرن السادس ق. م. وها نحن نقدّم الجزء الذي يهمّنا.
في يوم من الأيّام، رأى ستمي رجلاً غنياً يحملونه ليُدفَن في جبل. وكانوا يكرّمونه جداً وينوحون عليه. ونظر أمامه مرّةً ثانية فوجد رجلاً فقيراً يؤخَذ خارج ممفيس. لفّوه في حصيرة وأخذوه وحده دون أن يسير أحد وراءه. فقال ستمي: "بحياة أوزيريس، ربّ أمانتيت، يا ليت لي في أمانتيت ما كان لهذا الغنيّ الذي يبكون عليه بكَاءً مراً، لا ما كان لهذا الفقير الذي يأخذونه الى الجبل دون إكرام ولا عظمة". فقال له ابنه الصغير سانوسيريس: "ليكن لك في أمانتيت ما كان لهذا الرجل الفقير، ولا يكن لك ما كان لهذا الغني".
(وأنزل سانوسيريس أباه في أمانتيت).
أبصر ستمي شخصاً مميَّزاً يرتدي لباساً من الكتّان الناعم، ويقف بالقرب من أوزيريس في مقام رفيع... وقالت له سانوسيريس: "يا أبي ستمي. هل ترى هذا الشخص الرفيع الذي يرتدي لباساً من الكتّان الناعم، ويقف حيث يقف أوزيريس؟ إنه الرجل الفقير الذي رأيته يؤخذ من ممفيس، وكان قد لُفّ بحصيرة ولم يكن أحد يرافقه. أخذوه إلى مقرّ الموتى ووزنوا أعماله السيّئة مع استحقاقاته، فرجحت استحقاقاته على أعماله السيّئة... واقتادوا ذاك الغني إلى مقرّ الموتى ووزنوا أعماله السيّئة مع استحاقاته فرجحت أعماله السيّئة... فالذي يعمل الخير على الأرض ينال الخير في أمانتيت، والذي يصنع الشر يناله الشرّ".
إذا عدنا إلى التمثُّلات المصريّة عن الحياة الأخرى، نجد في هذا الخبر درسَين أساسيَّين. الأوّل: تعارض بين وضع البشر على الأرض ووضعهم في الآخرة. الثاني: التأكيد على المُجازاة بعد الموت.
2- خبر الرابانيّين عن الورع وابن العشّار معيان
يقدّم لنا التقليد اليهودي أشكالاً عديدة؟ أمّا أقدَمُ نسخةٍ فنقرأها في التلمود الفلسطينيّ، وهذا نصّها:
كان في أشْقَلون رجلان ورعان. كانا يأكلان معاً ويشربان معاً ويتفرّغان للتوراة معاً. مات أحدُهما ولم يحظَ بأيّ إكرام (ما سار أحدٌ في جَنازته). ومات ابن العشّار معيان. فعطّلت كل المدينة أشغالها وسارت وراء نعشه لتكرمه. حينئذ أخذ الورعُ الآخر الذي بقي على قيد الحياة ينتحب. قال: "الويل لنا. لا يحصل شرّ لأبناء إسرائيل الأشرار (أو أعداء إسرائيل)". وجاء حُلم قيل له فيه: لا تحتقر أبناء ربّك (أي بني إسرائيل). فالأوّل (أي الورع) اقترف خطيئة، ولكنه نجا (من الهلاك) (كفّر عن خطيئته بدفنة لم يكن فيها أحد). والثاني عمل عملاً صالحاً فنجا (أي نال جزاءه في دفنة عظيمة). ما هي الخطيئة التي اقترفها ذاك الورع؟ لم تكن خطيئته كبيرة، ولكنه وضع التفليم (أدوات مقدّسة) على رأسه قبل أن يضعها على يديه. وأيّ عمل صالح صنعه ابن العشار معيان؟ لم يكن ما صنعه عملاً صالحاً حقيقيًّا. ولكنه أعدَّ يومأ مأدبة لمستشاري (المدينة) فلم يأتوا. حينئذ قال: "يستطيع الفقراء أن يأكلوه، وهكذا لن يذهب ضياعاً". وبعد بضعة أيّام رأى الورع (الذي بقي حيًّا) في الحلم رفيقه الورع في حديقة. كان جالساً في الظلّ قرب عين ماء. ورأى أيضاً ابن العشّار معيان يمدّ لسانه على ضِفّة ساقية: يحاول أن يصل إلى الماء ولكن عبثاً.
يختلف هذا الخبر عن الخبر المصري فيما يخص التمثّلات المصريّة عن الآخرة. ثم هو لا يعارض بين غنيّ وفقير، بل بين عشّار وورع. أراد أن يبيّن عدالة الله بتدقيق وصل به إلى التشديد على الخلاف بين الدَفنتين. ولكن الخبَرين يقدّمان الرسمة الأساسيّة عينَها: معارضة بين دفنة الشخصَين. تبدّل في وضعهما من الأرض إلى الآخرة بواسطة الدينونة الإلهيّة على استحقاقاتهما في هذه الحياة. وهناك صورة الماء التي أعطيِت للورع ورُفضت للعشّار في خبر الرابانيّين. أما في الخبر المصريّ فيُوضع "صاحبُ الاستحاقات " قرب أوسيزيريس ينبوعِ الانتعاش والبرودة.
لا شكّ في أن الرابانيّين كيّفوٍا خبراً أخذوه من مصر فدخل في تعليمهم. وسيأخذه يسوع ويعطيه معنًى جديداً.
ب- معنى المثل لدى لوقا
إشارات عديدة تتيح لنا اكتشاف معنى المثل لدى لوقا: قرائن النصّ، تدوين النصّ، المواضيع المألوفة في فكر الإنجيليّ.
1- القرائن
يورد لوقا مثل لعازر والغنيّ في الشقّ الثاني من صعود يسوع إلى أورشليم (13: 22-17: 10) على أثر تعليم للتلاميذ عن المال (16: 1-13)، في مجموعة أقوال توجّهت إلى الفريسيّين (16: 14- 31) كتلك التي نقرأها في 13: 31- 14: 24 و15: 1- 32.
هذا التوجه هو مهمّ، لأن لوقا يهتمّ اهتماماً خاصًّا بالفريسيّين. يبدون متعاطفين مع يسوع في نظر لوقا الذي يعتبرهم الممثّلين الحقيقيّين للفكر اليهوديّ (أع 5: 34- 39؛ 26: 5؛ رج 3: 5). إنهم يؤمنون بالقيامة وهذا ما يجعلهم يعارضون الصادوقيّين (أع 23: 6- 9) ويقتربون من المسيحيّين (أع 26: 5- 8). وفي الإنجيل، يوجّه يسوع أكثر نداءاته إلى إسرائيل عبر الفريسيّين (13: 34- 35؛ 14: 16- 24)، ويدعوهم إلى تجاوز نظرة اليهود الضيّقة لفهم الشريعة فهماً مسيحيًّا (11: 39- 44؛ 1:14- 14؛ 15: 1ي).
تلك تبدو بصورة خاصّة وُجهةُ المقطع 16: 14- 31. يرى فيه الشُرّاح تجمّعاً من الآيات لا رابط بينها، كما يرون في آ 16- 18 معترضة تقطع تواصل النصّ. ولكن المقطع متماسك جدًّا على مستوى لوقا: فبعد آ 14- 15 حيث يكشف يسوع عن ثقة الفريسيّين بنفسهم، وهم ممثّلوا إسرائيل (ق 14: 11 و18: 14)، تبدو آ 16- 18 المقطع الوحيد الذي فيه يقول يسوع بوضوح فكرته حول دوام الشريعة وهدفها (يذكر يسوع الشريعة في 10: 26 ليدلّ على قاعدة حياة وفي 24: 24 كنبوءة عن سرّ يسوع. وهناك ذكر لموسى في 20: 37؛ 24: 27). ثم إن آ 16- 17 تعلنان نهاية المثل التالي وتشدّدان على قيمة الشريعة التي يجب الاستماع لها (رج آ 29، 31). والعبارة اليهوديّة "الشريعة والأنبياء" في آ 16 توافق موافقة واضحة عبارة لوقا "موسى والأنبياء" التي نجدها في آ 29 و31 (نجد توافقاً آخر بين 14: 13 و14: 21).
إن هذه القرائن تقدّم لنا إذن معطية مهمّة عن المدلول الذي يربطه لوقا بهذا المثل: إنه يوجّهه إلى ممثّلي الفكر اليهوديّ. إنه يريد أن يتكلَّم عن الشريعة.
2- تفسير النصّ
يضع المثل أمام عيوننا شخصين نموذجيّين يبدوان صورة حيّة عن دينونة الله للبشر. هذا ما نجده أيضاً في 10: 29- 37؛ 12: 16- 21؛ 9:18- 14. بُنيَ المثل في قسمين (آ 19- 26 و27- 31)، فجاء شبيهاً بفرح الاب الذي استعاد ابنه (15: 11- 24 و15: 25-32). كل قسم له موضوع وخاتمة، له فكرته الأساسيّة يعبّر عنها الشخص الرئيسيّ، كما في 15: 24 (لأن ابني هذا كان ميتاً فعاش وكان ضالاً فوجد. فأخذوا يفرحون) و15: 32 (ولكن كان علينا أن نفرح ونتنعّم، لأن أخاك هذا كان ميتاً فعاش، وكان ضالاً فوُجد). الفكرة الثانية هي الأهمّ وهي تُعطي الدرس الأساسيّ.
أوّلاً: تبدُل الحالات في الموت (آ 19- 26)
يبدأ المشهد الأوّل فيقدّم لنا شخصين في وضعهما على الأرض: الغني يعيش عيداً متواصلاً، يعيش في الرفاهيّة (إن بردية 75 وغيرها سمته "نافاس" الذي يعني "الشخص" في القبطية القديمة؛ لم يكن الاسم في النص الأصليّ، ولكن ناسخاً مصريًّا مسيحيًّا عرف خبر ستمي فوضع الإسم هنا). ولعازر المسكين يتألّم وحدَه في شقائه وفقره المُدقع (آ 20- 21). أعطى يسوع الفقيرَ اسماً، وهذه حالة فريدة في أمثال يسوع. وهذا ما قاد عدداً من الشُرّاح إلى القول باتصال بين هذا الخبر وقيامة لعازر في يو 11، ولا سيما مع آ 27- 31. ولكن لوقا الذي يستعمل في 10: 38 - 42 تقليداً عن شقيقتَي لعازر، لا يورد اسم لعازر. إذن، هو لا يقول شيئاً عن قيامته، ولا يمكن أن يتمثّله فقيراً. وهكذا يبدو من الواضح آن المثل الذي ندرس لا يشير في الأصل إلى شقيق مرتا ومريم. وإن أعطى المثلُ إسماً للمسكين، فلأنّ الخبر يفرض ذلك (آ 24، 25، 27). ظنّ بعض الآباء أن المثل هو خبر واقعيّ وأنّ لعازر شخص حيّ (ترتليانس، أمبروسيوس، كيرلس الإسكندراني). وإن اسم لعازر (الله يعين) يوافق موافقة خاصّة هذا الخبر.
حين يقدّم المثل الشخصين، فهو لا يقول شيئاً عن استحقاقات المسكين ولا عن خطايا الغنيّ (اعتاد الناس ان يتكلّموا عن "الغنيّ الشرير"، ولكن هذا القول لا يجد أيّ سند في نص المثل). لا شكّ في أن الغنيّ لا يعمل شيئاً من أجل الفقير، ولكن حُكم إبراهيم لا يوبّخة على ذلك (آ 25: "نصيبك من الخيرات في حياتك"). إن عدم الاهتمام بالمُجازاة والأجر حتى في خاتمة المثل، هي ميزة مهمّة بين خبر لوقا والنصوص المصريّة واليهوديّة. وهذا ما سنعود إليه حين نفسّر مُجْمَل المثل.
ويحوّل الموتُ فجأة وضع الغنيّ ووضع الفقير (آ 22- 23، رج 12: 20). وُجدَا معاً في موطن الأموات في زمن يعتبره لوقا سابقاً للدينونة الأخيرة (آ 27- 31). الآن يتألّم الغنيّ في العذابات، ويُكرَّم الفقير في وليمة بجانب إبراهيم (في حضن إبراهيم، كالإبن في حضن والديه، رج يو 13: 23). ونجد رسْمة سريعة عن العالم الأخير. أمّا التمييز بين الأبرار والأشرار، فنجد ما يقابله في نصوص يهوديّة سابقة ليسوع مثل سفر أخنوخ. غير أنّ النصوص اليهوديّة لا تسمّي أبداً "حضن إبراهيم" موطنَ الأبرار. قد تكون هذه الصورة مَزجت تمثّلات الخبر المصريّ الذي ذكرنا بصورة الوليمة المسيحانيّة (أش 25: 6) التي استعملها يسوع مراراً (كما 8: 11 ولو 13: 28- 29؛ مت 22: 1- 10 ولو 14: 16- 24؛ مت 26: 29 ومر 14: 25، مت 22: 11- 13 ولو 22: 30).
لا يتوقّف المثل عند تصوير الآخرة. هو لا يريد إلاّ أن يبيّن التبدّل في وضع هذين الشخصين. إحترق الغنيّ باللهيب، فتوسّل إلى إبراهيم ليُرسل إليه بواسطة لعازر قليلاً من الماء يُبرِّد به عطشه. فالمياه التي يشتهيها هي تلك التي تجعلها النصوص المصريّة دوماً قرب أوزيريس، فانتقلت إلى نصوص الرابانيّين.
واستخرج إبراهيم العبرة من وضع كلّ منهما. من جهة، بيَّن أن الحياة في الآخرة هي عكس الأوضاع الأرضيّة. السعداء في هذه الحياة الحاضرة يكونون أشقياء في الدهر الآتي. وأشقياء هذا العالم سيُميَّزون في العالم المقبل. إنّ هذا التأكيد لا يطرح مسألة المجازاة، بل يكتفي بإعلان امتياز الفقراء. هذا ما نجده في نشيد التعظيم المريميّ (1: 52-53: أنزلَ الأعزّاء عن الكراسي ورفع المتواضعين)، وفي التطويبات (6: 20- 21: طوبى لكم أيها المساكين)، وفي المتعسات (6: 24- 25: ما أتعَسكم، الويلُ لكم، أيها الأغنياء). ومن جهة أخرى، يزيد إبراهيم عبرة أخرى: إن الموت يحدّد مصير كل إنسان إلى الأبد (آ 26). لا يستطيع لعازر أن يجيء إلى الغني، ولا يقدر الغنيّ أن ينضمّ إلى لعازر. لقد تحدَّد مصيرُهما تحديداً لا رجوع عنه. هذا هو معنى صورة "الهوّة العظيمة" أو العميقة التي تفصل بينهما.
ثانياً: صلاة الغني من أجل ارتداد إخوته (آ 27- 31)
وسكت البائس المعذَّب. عليه أن يتقبّل وضعه. ولكنه يفكّر بالذين يمكنهم أن يقاسموه حالته، يفكّر بإخوته الذين يحيَون الآن حياة البذخ التي كان يعيشها هو (آ 27- 28). قدَّم اقتراحاً: لو ذهب إليهم لعازر في ظهور كذلك الذي ترويه التوراة (1 صم 28: 12- 19؛ 2 مك 15: 11- 16) أو نصوص الرابانيّين، ونبّههم إلى عاقبة عملهم. لو كان هدف المثل أن يعلّمنا عن الحياة في الآخرة، لدهشنا من هذه العاطفة الطيّبة عند هذا "الهالك" (هناك من يستنتج أن هذا العقاب ليس نهائيًّا، لأنّ إبراهيم يسمّي لعازر "يا ابني" في آ 25). ولكن هدف سؤال الغنيّ هو فتح الطريق لجواب إبراهيم الذي يشكل عِبرةَ الخبر.
أجاب إبراهيم: عندهم موسى والأنبياء (آ 29)، أي عندهم الكتب المقدّسة التي يسمّيها اليهود الشريعة والأنبياء (لو 24: 27، 44؛ أع 26: 22؛ 28: 23). ظنّ بعضُ الشُرّاح أن إبراهيم يحيلنا هنا إلى التعاليم البيبليّة عن الفقر وعن الغنى. ولكن العبارة تدلّ بالأحرى على كلّ التعليم الموحى به، وهذا التعليم هو طريق الحياة (10: 25- 28؛ 18: 18- 0 2؛ أع 7: 38).
وألحّ "الهالك": أكّد أن مجيء مائت يكفي لينال ارتداد إخوته، ليجنّبهم المصير الذي يقاسيه هو الآن. نحن هنا كما أمام اليهود الذين طلبوا آية مدهشة من يسوع (11: 16، 29).
واستخرج إبراهيم النتيجة (آ 31)، فجاء كلامه الذي شكّل الهدف الثاني للمثل. جاء يقدّم لنا الدرس الرئيسيّ: هناك علامات عديدة قُدّمت لإسرائيل لكي يتوب. ولكن التعليم الموحى به في الكتب المقدّسة هو أكثر إقناعاً من قيامة ميت (لم نعد فقط أمام ظهور بسيط كما في آ 27 وآ 29). هذه هي فكرة يسوع حين كان يرفض أن يعطيهم الآيات التي يطلبون (مر 8: 11- 12 وز)، حين كان متحفّظاً ومتواضعاً في معجزاته. أشار لوقا هنا إلى قيامة لعازر، بل أشار إلى قيامة يسوع التي كان لها مفعول ضئيل لدى إسرائيل.
3- مواضيع مألوفة لدى لوقا
إذا بحثنا عن فكر لوقا في هذا المثل، نلاحظ أنه يتضمّن مواضيع عزيزة على قلبه: الارتداد والتوبة، إمتياز الفقراء، مصير الإنسان بين الموت والدينونة.
أوّلاً: الارتداد والتوبة
يهتمّ لوقا اهتماماً خاصّاً بالارتداد والتوبة. ففي سفر الأعمال يرد فعل تاب (ميتانواين، غيّر فكره، بدّل موقفه، ابيستريفاين، عاد، رجع، التفت) 16 مرّة واسم "توبة" (ميت انويا) 6 مرات. ويستعمل لوقا المفردات الخاصة بالتوبة في إنجيله (9 مرات فعل ميتانواين، 3 مرات ابيستريفاين، 5 مرات ميتانويا). ولا ننسى أيضاً المشاهد التي تتحدّث عن التوبة دون أن تذكر مفرداتها (7: 36- 50؛ 19: 1- 10؛ 23: 40- 42). شدّد لوقا على الوُجهة الفرديّة والأخلاقية واليوميّة في التوبة (3: 8، 10، 14؛ 5: 32؛ 15: 7؛ 10: 17: 3- 4). ولكنه احتفظ مراراً في النداء إلى التوبة بوجهة الإعلان الإسكاتولوجيّ الموجَّه إلى الشعب أمام الدينونة الآتية، فلم يتميّز عن متّى ومرقس والكرازة الرسوليّة (3: 3؛ 10: 13، 11: 32؛ 13: 3، 5؛ 24: 47؛ أع2: 38؛ 3: 19؛ 5: 31؛ 11: 18؛ 14: 15؛ 17: 30؛ 26: 18). وهذا هو وضع 16: 30 حيث تدلّ القرائن أننا أمام ارتداد شعب إسرائيل وتوبته.
ثانياً: امتياز الفقراء
ليست سعادة الفقراء وتعاسة الأغنياء تعليماً خاصَّا بلوقا. فالإزائيّون الثلاثة (متى، مرقس، لوقا) يتّفقون على إيراد الكلمة القاسية التي تفوَّه بها يسوع عن صعوبة دخول الملكوت بالنسبة إلى الأغنياء (18: 25: "مرور الجمل في ثقب الإبرة أسهل من دخول الغني ملكوتَ الله"، مت 19: 24؛ مر 10: 25). ثم إن متى ولوقا يجعلان تطويبة الفقراء في رأس سائر التطويبات 61: 20؛ مت 5: 3)، كما يعتبران إعلانَ البشارة إلى المساكين العلامةَ المميّزة لحياة يسوع العلنيّة (7: 22؛ مت 11: 5= أش 61: 1). وكلاهما يندّدان بالمال الذي هو إله كاذبٌ نستطيع أن نعبده كما نعبد الإله الواحد (16: 13؛ مت 6: 24).
ولكن يبقى أن لوقا يشدّد بصورة خاصّة على امتياز الفقراء: هذا ما أعلنه لوقا في نشيد التعظيم (1: 52-53). ولقد جعل حياة يسوع تبدأ بإعلان البشارة للمساكين (إن 4: 8 يسبّق على الإستشهاد في أش 61: 1 الذي سيعود في 7: 22). ويتفرّد لوقا بإعلان تعاسة الأغنياء تجاه التطويبة الأولى (6: 24). ويشدّد لوقا على الطابع العابر للغنى الذي يخيّب الآمال (12: 15- 21؛ 16: 9- 11). ويعود مراراً إلى ضرورة التجرّد من المال (5: 11، 28؛ 14: 33؛ 28: 22)، إلى واجب الصدقة (11: 41؛ 12: 32؛ 19: 8؛ رج6: 30؛ 14: 12-14). ولهذا قال الأب دوبون البنديكتاني: عدم التوافق بين الغنى والدخول إلى الملكوت، هو تعليم عزيز على قلب لوقا.
ثالثاً: مصير الإنسان بين الموت والدينونة
إن التمثّلات عن مصير الإنسان بعد الموت هي عديدة جداً في العالم اليهوديّ المعاصر ليسوع. فالكشف عن القيامة لم يتمَ منذ زمن بعيد، ولهذا لم يقبله الجميع. ولم تتوحّد الأفكار عن الآخرة. لقد ظلّت النظرة القديمة عن الشيول (موطن الأموات) حاضرة في النصوص البيبليّة. فرؤساء الكهنة الصادوقيّون لا يقولون بالقيامة (20: 27؛ أع 23: 7- 8). واليهود العائشون في إطار هلنستي تأثّروا بالفكرة اليونانيّة عن الخلود (أثاناسيا، عدم الموت). وجاءت بعض النصوص اليهودية في ذلك الزمان، فتحدّثت عن فرز أوّل للموتى في حالة سابقة للقيامة العامّة (خصوصاً في أخنوخ).
وما نلاحظ هو أن لوقا تفرّد بين الإنجيليّين فجاء كلامه صدى لهذه النظرة الأخيرة: في المثل الذي ندرس حيث تدل آ 27- 31 على أنّ الدينونة الأخيرة لم تتمّ بعد، وفي الكلمة التي بها وعد يسوع اللّص بأنه سيكون معه "في الفردوس" في يوم موته عينه (23: 43: اليوم تكون معي في الفرودس). لا شك في أن هذا النصّ الأخير صعب، وقد فهمه عدد من الشراح عن الخلاص اْلنهائيّ الذي تدشّنه قيامة يسوع (إن مفردة "معي" تنزع الطابع الميتولوجيّ الذي كان لمفردة "الفردوس" في العالم اليهوديّ). ولكن الفردوس (أو جنّة عدن اليهوديّة) هو في عدد من النصوص، المكانُ الذي فيه ينتظر الأبرارُ القيامة. عاش لوقا جوّ العالم الهليني فتأثّر بالقديس بولس (2 كور 5: 6- 8؛ فل 1: 23). وبما أنه يهتمّ بالوجهة الفرديّة للخلاص، نستطيع القول إنه شدّد على مصير الإنسان بين الموت والدينونة، وأبرز أقوال يسوع في هذا المجال.
4- معنى المثل في نظر لوقا
حين نجمعُ المعطَيات التي اكتشفناها، نستطيع أن نحدّد المعنى الذي أراده لوقا من هذا المثل.
وجَّهه إلى الفريسيّين (آ 14)، فدلّ أننا أمام تعليم يخصّ إسرائيل. والهدف الثاني من المثل يدلّ على أن الموضوع هو نداء توبة يتوجّه الى هذا الشعب: له في الشريعة والأنبياء كلُّ النور الضروريّ ليجد طريق الخلاص. أمّا المعجزات فهي علامات ثانويّة، وهي لا تفيد الذين يرفضون تعليم الكتب المقدسة.
يدلّ القسم الأوّل من المثل على أنّ هذه التوبة أمر ملحّ لكل واحد منّا: يأتي الموت فيحدّد فجأة مصير الإنسان الذي لن يعود يقدر أن يبدّل مصيره. يهتمّ لوقا بامتياز الفقراء وبأخطار الغنى (رج 16: 1- 31)، ولهذا يشدّد في القسم الأوّل على مصير الغني والفقير. ولكن، إذ فسّر الخبرُ المصريّ (الذي كيّفه الرابانيّون) هذا المصيرَ عائداَ إلى استحقاقات أرضيّة، لم يجعل لوقا سعادة الفقير وتعاسة الغنيّ في الآخرة وكأنهما نتيجة حياتهما على هذه الأرض (آ 25). هذا لا يَعني أنه يجهل أن دينونة الله تتأسّس على أعمال البشر (رج 3: 9؛ 12: 35-48؛ 13: 1- 5، 23- 27؛ 14: 14؛ 16: 10- 12؛ 19: 12- 26؛ 21: 34- 36). ولكنه أراد أن يشدّد قبل كل شيء على نعمة الخلاص وامتياز الفقراء، وبطريقة جانبيّة على أخطار الغنى.
ج- بين لوقا ويسوع
لا نجد مثل الغني ولعازر إلاّ عند لوقا الذي طبعه بأسلوبه ومواضيعه المفضّلة. عاد يسوع إلى التقليد اليهوديّ فصوّر لنا في القسم الأوّل من الخبر مصير الأغنياء والفقراء كما فعل في التطويبات والمتعسات. أمّا القسم الثاني، فلا يجد سنداً له في التقليد اليهوديّ القديم، وهو يعالج مواضيعَ جدّ مختلفة: التوبة والارتداد، الآيات التي تقود إلى التوبة، عدم جدوى القيامة للحصول على التوبة والارتداد. نُحسّ هنا أننا أمام الكنيسة (أو لوقا) التي تتأمل في رفض شعب إسرائيل أن يؤمن بقيامة المسيح. هذا يعني أن الكنيسة (وبالتالي لوقا) أعادت قراءة مَثل يسوع على ضوء حياتها الحاضرة.
إن المثل واحد وهو يُنسَب إلى يسوع، والقسمان اللّذان يتوزّعانه يتكاملان ويستندان إلى تعليم يسوع. فالقسم الأوّل يختلف اختلافاً عميقاً عن الخبر المصريّ واقتباساته لدى الرابانيّين: إنه يرفض أن يطرح مسألة المجازاة، وهذا يتوافق وإعلان كرازة الخلاص للفقراء، ويميّز تعليم يسوع. والقسم الثاني يدلّ على الاهتمام بارتداد إسرائيل (رج مر 1: 15 وز؛ 6: 12 وز؛ مت 11: 21- 24 وز؛ 23: 37 وز؛ لو 13: 1- 5)، وعلى رفض الآيات الخارقة التي يطلبها اليهود (مت 12: 38؛ 16: 1، مر 8: 11- 12)، وعلى إبراز قيمة الأسفار المقدّسة. وفي النهاية، يكمّل القسم الأوّل القسم الثاني حين يقول: إذا كان الغنيّ قد هلك، فهذا يعود لا لأنه غنيّ، بل لأنه لم يرتدّ حسب ما يطلبه التعليم التقليديّ الوارد في الكتاب المقدّس (مت 11: 21- 24 وز؛ لو 13: 1- 5).
ولكن يبقى فرق بين فكر يسوع وعرض هذا الفكر في صوره الإسكاتولوجيّة بيد لوقا. كان يونانيًّا، وكان يهتمّ بمصير الإنسان الفرديّ، يهتمّ بوضع الإنسان بين الموت والدينونة. أما يسوع فعاش في التقليد الكتابي، واهتمّ قبل كل شيء بخلاص شعبه، فصوّر هذا الخلاص بصور ترتبط بالجماعة: الملكوت، الأرض، الوليمة، الأعراس. إتّخذ يسوع خبر الغنيّ والفقير في الآخرة فدلّ على دينونة الله. وسيأتي التمييز فيما بعد بين دينونة خاصّة تصيب الفرد بعد موته، ودينونة عامّة تتمّ في نهاية التاريخ. ونقول الشيء عينه عن كلمة يسوع للّص. كانت في نظره إعلانَ خلاص لا يميّز مراحلَ الخلاص بعضَها عن بعض. ثم فسَّر لوقا هذه النصوص في منظار اسكاتولوجيا فرديّة متطلّعاً إلى "حالة متوسّطة" للإنسان بين الموت والدينونة الأخيرة.
هذا الاختلاف بين لوقا ويسوع هو اختلاف ثانويّ ويدخل في إطار التفسير التقليديّ. ولكن جوهر المثل في نظر لوقا ويسوع هو أن الارتداد أمر ملحّ، وإليه يُدعى إسرائيل. إن شعب الله يجد في تقليده كلّ ما هو ضروريّ للتعرّف إلى طريق الخلاص: هو لا يحتاج أن يطلب آيات خارقة، لأن أعظم الآيات التي منحها الله لأخصّائه هي عطيّة كلمته

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM