الفصل الرابع والثلاثون: إفرحوا معي

الفصل الرابع والثلاثون
إفرحوا معي
15: 1- 32

بعد مقدّمة إخباريّة قصيرة (آ 1-3) يورد ف 15 أولاً مثلين توأمين بُنٍيا حسب النموذج الواحد: خبرَ الراعي الذي أضاع خروفاً (نعجة)، وخبرَ المرأة التي فقدت درهماً (آ 4- 15). وبعد هذا يأتي مثلٌ كبير، مثلُ الإبن الضالّ، وهو يُقسم إلىِ لوحتين تصوّران موقف الأب تجاه الإبن الأصغر (آ 11- 24)، ثم موقفه تجاه الأكبر (آ 25- 32). أمام هذه الصفحة التي سُمّيت قلب الإنجيل، يبدو التفسير على مستويَين: أو إنّه يتوقّف عند الأمثال التي تؤلّف هذا الفصل ومضمونَه في إطار رسالة يسوع، أو عند مُجمَل الفصل والمضمون الذي تعطيه الوحدة الأدبية (في فكر الإنجيلي) للعناصر التي تؤلّفه. سنعود إلى القراءة التفصيليّة فيما بعد؛ أمّا الآن فنقدّم القراءة الإجماليّة مع بعض إشارات عن الأمثال في حدِّ ذاتها.
أ- الأمثال الثلاثة
ا- الخروف الضائع
نحن نقرأ نُسخةً أخرى لهذا المثل في مت 18: 12- 14. البُنية هي هي: بعد سؤال إلى السامعين، يبدأ الحوار فيصوّر موقف الراعي الذي يلاحظ غياب أحد خرافه: يترك الباقين ويذهب في طلب الضالّ. ويُبرز القسم الثاني الفرح الذي يُحسّ به حين يجد الخروف. ويتبع الخبرَ في كلا الحالين تطبيق واضحٌ يتوجّه إلى السامعين: "وهكذا لا يريد أبوكم الذي في السماوات أن يهلك واحد من هؤلاء الصغار" (مت 18: 14). "هكذا يكون الفرح في السماء بخاطىء واحد يتوب أكثرَ من الفرح بتسعة وتسعين من الأبرار لا يحتاجون إلى التوبة" (15: 7).
ولكننا نجد اختلافات بين متّى ولوقا. عند متى، يروي يسوع المثل ويوجّهه إلى التلاميذ. أمّا عند لوقا فالمثل جوابٌ على انتقادات الخصوم المعادية. يعلّم المثل في متّى واجب الرعاية في الجماعة المسيحيّة من أجل "الصغار" الذين "يضلّون". لا بدّ من إعادتهم قبل أن "يهلكوا". أمّا لوقا فيبزر استقبال يسوع للخطأة: إن ارتداد واحد منهم يمنح الله سعادةً لا تضاهيها سعادة.
وإذا قابلنا النصَّين الواحدَ مع الآخر، نرى أنّ الإنجيليَّيْن كيّفا النصّ حسب القرائن التي وردت فيه، والاهتمامات التي تميّز عملهما. إحتفظ متّى بالتعبير الأقدم، وكان لوقا قريباً من المحتوى الأصليّ. وقد نستطيع أن ننطلق من النصَّين فنقدّم بناءً للخبر على الشكل التالي:
إذا كان لرجل مئة خروف وضاع واحد منها، أفَما يترك التسعة والتسعين على الجبال ليطلب الذي ضاع؟ وإن وجده سيكون له فرح أكثر من التسعة والتسعين التي لم تضلّ.
شدّد متّى على سلوك الراعي الذي يذهب في طلب الخروف الذي "ضلّ"، ولكنه لم "يهلك" بعد. فجعل من هذا البحث مثالاً يحتذي به أصحابُ المسؤولية الراعويّة في الكنيسة. وأبرز لوقا فرح الراعي الذي استعاد خرافه فرأى فيه صورة فرح الله حين يرتدّ خاطىءٌ من الخطأة. ويَلفِت النصُّ الأساسي النظرَ إلى ظرفين، يتّخذ فيه خروف واحد من الأهمية في عين الراعي أكثرَ من التسعة والتسعين الآخرين وساعةَ يفقد هذا الخروف، وساعةَ يستعيده.
يمكننا أن نظنّ حسب المنهجيّة الامثالية أن المقارنة التي يشدّد عليها الخبر توافق مفارقة أخرى تتحقّق في رسالة يسوع وتتطلّب تفسيراً. يعبّر المثل عن نفسه بلغة الكمّ والعدد: في بعض الظروف يساوي خروف واحد أكثرَ من تسعة وتسعين. وهذا التقويم العدديّ المرتبط بالصورة قد يوافق في الواقع عدم مساواة على مستوى الكَيف والنوع. فهل نعرف في حياة يسوع العامّة أحوالاً ميّز فيها أشخاصاً على آخرين؟ والجواب يفرض نفسَه: حين كان "صديقَ العشّارين والخطأة" (7: 34؛ مت 11: 19). أدهش يسوع أولئك الذين اعتبروا نفوسهم أبراراً وظنّوا أن رجل الله يحتفظ بنفسه للأتقياء لا للذين يعيشون حياة "سيئة". إذاً يتوافق محتوى الخبر الأمثالي كلَّ التوافق مع الوضع الذي يشير إليه لوقا في 15: 1- 2.
حين قدّم يسوع إلى الذين ينتقدون سلوكه مثالَ الراعي الذي يهتمّ بخروف يتعرّض للخطر، لا بتسعة وتسعين، لا خوف عليها، فهو يريد أن يبرّر سلوكه الخاصّ. ولكنه في الواقع لا يتكلّم عن نفسه من خلال هذا الراعي. فسلوك الراعي صورة عن سلوك الله. فالناس يخصّون الله. والله وحدَه يستطيع أن يقدِّر الخاطىء كإنسان هالك بالنسبة إليه. وبشكل عامّ، إن أمثال يسوع سعَت إلى تصوير سلوك الله، لا بصورة مباشرة إلى تصوير سلوك يسوع. وهكذا تتوافق مع التفسير الصريح للوقا (آ 7) الذي يوافق أيضاً ما يفترضه التطبيق في مت 18: 14.
عابوا يسوعَ على سلوكه، فحدّثهم يسوع عن سلوك الله. إن لهذا الأسلوب مغزاه، وهو يدعونا إلى أن نبحث في المثل لا عن تعليم عامّ ولا زمنيّ عن حبّ الله تجاه الخطأة، بل عن تماثُلٍ ملموس بين عمل يسوع وعمل الله: إن تفضيل يسوع للخطأة لا يُفهم في معناه الحقيقيّ إلاّ إذا رأينا فيه ظهور وتحقيق تدخّل الله من أجل خلاصة. هذا هو مضمون رسالة يسوع الإلهيّة، كما نقرأ في 19: 10: "فإنّ ابن الإنسان جاء ليبحث عن الهالكين ويخلّصهم". ونزيد أنّ الله نفسه يطلب بواسطة يسوع ما هلَك ويخلصه.
2- الدرهم الضائع
لن يوقفنا هذا المثل طويلاً بعد أن قرأنا مثل الخروف الضالّ. فمعناه يوافق معنى المثل الأوِّل. ولكنه يكتفي بأن يزيد صورة واحدة جديدة. والرباط وثيق بين المثلين بحيث تساءلنا لماذا لم يورد متّى مَثَل الدرهم هذا. هل ظنّ أنّ مَثَل المرأة لا يلقي ضوءاً كافياً على مسؤولية الرعاية تجاه "الصغار" في الجماعة المسيحيّة؟ الأمر ممكن.
وهنا أيضاً، إن التطبيق الصريح على الخاطىء الذي يتوب أو يرتدّ، لا يقابل ربما معنى الخبر كلَّ المقابلة عند لوقا. فعلى مستوى رسالة يسوع، ينصبّ اهتمامنا على الأهميّة التي تعلقها المرأة على الدرهم الضائع الذي لا قيمة له موضوعيّة تفوق قيمة الدراهم العشَرة الباقية. إن تصرّف هذه المرأة يوافق تصرّف الله كما يظهر في حياة يسوع العامّة.
3- الإبن الضالّ
سيفسَّر هذا المَثل فيما بعد. وإذا أردنا أن نُبرز بُعدَه، لا بدّ من التشديد على السِمَة الأهمّ والتي تبيّن بالتعارض ما يمثّله ابنٌ في نظر أبيه.
كان لكل من الإبنين فكرة خاطئة عن أبيه. ظنّ الأصغر أوّلاً أن سلوكه لن يسمح لأبيه بعد الآن أن يعتبره ابنه، فأمِلَ بالأحرى أن يكون كأحد أُجَرائه (آ 17، 19). ولكن أباه منعه من أن يتلفّظ بكلمة "أجير" (مستيوس آ 21). هو لا يرى فيه إلاّ إبناً محبوباً، إبناً كان ضالآً فوُجد (آ24).
واعتبر الأكبر نفسه "خادِماً" لدى أبيه: "كم لي من السنين أخدمك" (دولاوو، آ 29). بل، حسبَ نفسه خادماً لم يحصل على حقّه: وظهر الظلم في نظره حين ذبح أبَوه العجل المُسمّن من أجل الأصغر، ساعة لم يحصل هو على جدي يتنعّم به مع أصدقائه (آ 29-30). وتابع كلامه فقابل نفسه بأخيه: هو الأكبر ما فتىء يعمل من أجل مصالح أبيه. أما أخوه الدنيء التافه فبذّر مال أبيه مع الزواني (آ 30). وهكذا بدا له أبوه سيّداً شرّيرا وملاّكاً لا يميّز بين خِدمة تقدَّم له وإساءة تصيب خيراته.
إن جواب الأب هو نداء لتجاوز وُجهة الأجير. وهي تعني أوّلا العلاقة بين الأب والبكر: "كل ما هو لي هو لك " (آ 31). فهو حين اشتغل من أجل أبيه فقد اشتغل من أجل منفعته أيضاً. موقفه ليس موقفَ خادم ينتظر أجرته، بل موقفُ ابن كلُّ شيء يخصّه كما يخصّ أباه. ثم هناك الأصغر الذي يسمّيه الأكبر "ابنك هذا". أجاب الأب: "أخوك هذا". إذا كان ابني مثلَك فهو أيضاً أخوك. ونحن نفهم بسهولة أنّ قبول الأخ كأخ لا ينفصل عن قبول الأب كأب، وهو لا يتوافق مع روح الأجراء.
إنّ الوضع الذي يفترضه هذا الخبر يدلّ على صعوبة أحسّ بها معاصرو يسوع بأن يعتبروا كإخوة أناساً يُلامون على سلوكهم. فهم يرفضون مجالستهم كما يرفضون أن يروا فيهم أبناءً. ما زال الله يحبّهم حبّاً كبيراً. مِثلُ هذه الروح تعبّر عن نفسها أمام تصرّف يسوع تجاه العائشين على هامش المجتمع اليهوديّ الدينيّ. إذن، تبقى خَلفيّةُ هذا المثل هي هي خلفيّةَ المثلين السابقين. والجواب الذي يقدّمه يسوع لمحاوريه يلجأ إلى الوسيلة عينها: عرّفهم من خلال سلوكه إلى سلوك الله تجاه الخطأة. وسيتحدّد في الوقت عينه لومُ يسوع لهم: إذا كان خصومه يستصعبون أن يروا في سلوكه سلوكَ الله، فهذا يعني أن ديانتهم ديانةُ أجَراء تمنعهم أن يتّخذوا، بالنسبة إلى الله، موقفاً بنويّاً، وبالنسبة إلى البشر الذين يحتقرونهم، موقفاً أخوياً. وهكذا نصل هنا إلى جذور الصراع الذي يضع يسوع في وجه نمَط ديانة العبيد، التي تولّدُ عبادةً للشريعة تنسى الإنسان المخلوق على صوَرة الله.
ب- الفصل 15 في وَحْدته
أ- أسئلة تطرح
أوّلاً: لا نشكّ في أنّ ف 15 يشكّل في نظر الإنجيليّ وَحدةً أدبيّة محدَّدة. فهو ببُنيته يتبع رَسْمة المقطوعة 13: 1- 9. فبعد مقدّمة قصيرة (13: 1) يبدأ مثلاًن قصيران بسؤال يُطرح على السامعين، وينتهيان بإعلان نهائيّ (آ 2- 5: إن كنتم لا تتوبوا). ثم يتوسّع يسوع بفكرته في مثل أطول (آ 6- 9: وقاك هذا المثل). هناك فكرة وحيدة في 13: 1- 9 وهي أنّ التوبة والإرتداد أمرٌ مُلحّ: عجّلوا قبل أن يفوت الأوان. والتقاربُ مع ف 15 يدلّ على أننا أمام التعليم عينه. ولكن كيف نحدّد هذا التعليم؟
ثانياً: يتفوّق ف 15 على 13: 1- 9 لأنه يكرّر ردّة تشكّل رباطاً بين الأجزاء المختلفة. ينتهي المثلاًن الأوّلان بنداء: "إفرحوا معني لأني وجدت الخروف الذي أضعته" (آ 6). "إفرحوا معي لأني وجدتُ الدرهم الذي أضعته" (آ 9). ويستعيد جزئيّاً المثلُ الثالث العبارة عينها: "لنأكل ونفرح لأن ابني هذا كان مَيْتاً وعاش وضالاً فوُجد" (آ 24). "كان علينا أن نفرح ونعيّد لأنّ أخاك هذا كان ميْتاً فعاش وضالاً فوُجد" (آ 32). نحن أمام تفجّر الفرح عينه لدى ذلك الذي وجد ما كان ضائعاً. ولكننا نلاحظ أنّ "ضلّ" و"وجد" المستعملَين في معنى خاصّ في المثلين الأوّلين، تحوّلا حين استُعملا في مثل الإبن الضالّ. هذه إشارة إلى أنّ المثل الثالث وُضع بعد المثلين الأوّلين كإكمال نفسّره على ضوء آ 4- 10. وهكذا يرتبط المثل الثالث بالمثلين الأوّلين.
ثالثاً: ولكن هذين المثلين لا ينتهيان بالردّة التي أوردناها. لقد وضع لوقا تطبيقاً ثانوياً فأدخل فكرة التوبة والإرتداد (ميتانويا) التي هي عزيزة على قلبه. وطريقته هذه واضحة جدّاً في آ 7 التي نقابلها مع مت 18: 13: "الحقّ أقول لكم: إنه يُسَرّ به أكثرَ من سروره بالتسعة والتسعين التي لم تضلّ" (لم تهلك). ويحدّد لوقا: "أقول لك: هكذا يكون الفرح في السماء بخاطىء واحد يتوب أكثرَ من الفرح بتسعة وتسعين من الأبرار لا يحتاجون إلى التوبة" (آ 7) وستعيد آ 10 الفكرة عينَها: "إقول لك: هكذا يفرح ملائكة الله بخاطىء واحد يتوب". لا بدّ من القول إنه لا مثلُ الإبن الضالّ ولا مثلُ الخروف الضائع هيّأا هذه الإشارة إلى التوبة. إذن يبدو أنّ لوقا أراد أن يُدخل هذه المتطلَّبة وهو يفكّر بالخطأة منطلِقاً من المثل الثالث. هو لم يتوقّف على وُجهة الأجير في مثل الإبن الضالّ، فرأى في رجوعه إلى البيت الأبويّ مثلاً عن التوبة. فهل نستنتج أنّ لوقا فسّر المثلين الأوّلين على ضوء المثل الثالث، وأنه فهم ف 15 كتعليم عن التوبة الإرتداد؟ إن التقارب مع 5: 27- 32 يدعونا إلى الفطنة. فحدَثُ وليمة لاوي ينتهي بقولٍ تلفّظ به يسوع: "ما جئت لأدعو الأبرار بل الخطأة" (مر 2: 17). ولكنّ لوقا أوضح: "بل الخطأة إلى التوبة" (5: 32) فهل نستطيع أن نستنتج إنطلاقاً من هذا الإيضاح أنّ الحدَث كلَّه مركّزٌ عنده على الميتانويا، على التوبة؟
رابعاً: بدأ لوقا أمثال ف 15 بمقدّمة وضعها بنفسه متذكّراً حدث لاوي. وهكذا كانت لنا هذه الأمثال بمثابة جواب من يسوع على تذمّرات الفريستين والكتبة (آ 1- 2). إذن يجعل لوقا هذه الأمثال في إطار هجوميّ يرتبط بالظرف الذي أوجدها في رسالة يسوع. ولكن يبدو من الصعب أن نتخيّل أنه حين ربطَ هذه الأمثال بماض ولَّى وغاب، فقد عرَضها كقِطَع في مُتْحف لا ترتبط ارتباطاً مباشراً بالوضع الملموس الذي يعرفه قرّاؤه في أواخر القرن الأوّل. ولهذا يُطرح السؤال: كيف يتوجّه هذا الفصل إلى المسيحيّين الذي كتب لهم لوقا؟ يبدو أنّ السؤال يسير في اتّجاهَين مختلفين.
* الإتّجاه الأول: يكتفي الشُرّاح المهتمّون بهذه المسألة أن ينقلوا إلى الكنيسة مسألة يهوديّة تشير إليها المقدّمة: كما أنّ الفريسيّين يقسمون أبناء دينهم إلى فئيتن، الأبرار الذي يمارسون الشريعة، والخطأةِ الذي لا يعملون بها، هكذا يميل المسيحيّون إلى التمييز بين فئتين في الكنيسة: هم لا يقبلون أيَّ خَلْط بين "المسيحيّين الحقيقيّين "، المسيحيّين بكل معنى الكلمة، والذين يعتبرون نفسوهم مسيحيّين دون أن يكونوا كذلك بكلّيتهم. طُرحت المسألة باكراً بالنسبة إلى الوثنيين المرتدّين إلى المسيحيّة، ولا سيما بمناسبة الطعام المُشترك. واللوم الموجَّه إلى يسوع لأنه يأكل مع الخطأة، هو صدى لكلام وجَّهَهُ المسيحيّون المتهوّدون في أورشليم لبطرس لأنه أكل مع وثنيّين مرتدّين في قيصريّه (أع 10: 41؛ 11: 3) وفي أنطاكية (غل 2: 12). إذا كانت الكنيسة قد تجاوزت هذه المسألة يوم كتب لوقا إنجيله، فقد برزت مسائل أخرى: هل نقبل كمسيحيّين بكامل حقوقهم أناساً مرتدّين من ماضٍ مُريب ومشكوك به؟ هل نقبل من جديد في جماعة الإخوة مسيحيّين اقترفوا خطايا فظيعة؟ هل نعتبر مسيحيّين صريحين وإخوةً بكل معنى الكلمة أناساً لا يتوافق سلوكهم مع الإنجيل؟ إن هجوم الأمثال على الفريسيّين انقلب على المسيحيّين المتشدّدين، على هؤلاء الناس الذين لا يفهمون محبةالله للخطأة.
* الاتجاه الثاني: وإذا عُدنا إلى السياق العامّ لمؤلَّف لوقا، نجد اتجّاه فكر آخر. ينطلق لوقا من رواية إجماليّة لتاريخ الخلاص، فيهتمّ بإظهار الهُوّة التي حصلت زمن انتشار التعليم الإنجيليّ: هذا التعليم الذي رفضه معظم اليهود وجد مَن يستقبله عند الوثنيّين. إذن يشدّد على مسؤوليّة اليهود الذين استبعدوا نفوسهم من تدبير الخلاص الذي هيّأهم له العهد القديم. ويكفى أن نذكر إعلان بولس الكبير ليهود رومة، وهو الخاتمة العامّة للمؤلف كلّه (أع 28: 25- 28): "إعلموا إذن أنّ خلاص الله أُرسل إلى الوثنين، وسيستمعون إليه" (آ 28). وهذا ما يلقي الضوء على أُولى كلمات ف 15 في إنجيل لوقا: "إقترب منه كلّ العشّارين والخطأة ليستمعوا إليه" (آ1). إن لوقا يعرف جيّداً أنّ تبشير الوثنيّين لم يبدأ قبل القيامة. ولكن هل نستبعد أنه رأى مقدّمة لهذا التبشير في جماعة العشّارين والخطأة الذين جاؤوا ليسمعوا يسوع؟ وتذمُّرُ الفريستين والكتبة (آ 2) يدلّ على موقف اليهود اللامؤمنين من الرسالة المسيحيّة لدى الوثنيّين (أَ13: 44- 48).
2- مقدّمة ف 15 وخاتمته
نلاحظ علاقة وثيقة تربط بين المقدمة التي جعلها لوقا في بداية الفصل والحدَث الذي يختتمه، وهكذا نكتشف الفكرة التي توجّه المجموعة.
إنّ التعليق في المقدّمة يشير إلى معطَيَين.
أولاً: يحدّثنا عن العشّارين والخطأة الذين جاؤوا ليسمعوا يسوع (آ1).
ثانياً: يذكر تذمّرات الفريسيّين والكتبة، ويحدّد أنهم لاموا يسوع لأنه يرحّب بالخاطئين ويأكل معهم (آ2). من الواضح أن هذين المعطيَين لا يتمتّعان بالأهميّة عيٍنها: فما يقال عن الخطأة قد كُتب ليفهمنا موقف الفريسيين والكتبة. هم يعبّرون عن عدم رضاهم بالتذمّر: الفعل المستعمل هنا هو المستعمل في حدَث وليمة لاوي (5: 30 وهو يختلف عن مر 2: 16؛ مت 9: 11) وفي خبر زكّا (19: 1). وإذ أراد يسوع أن يردّ على هذه التذمّرات، خاطب الجموع بهذا المثل (آ 3).
لم تجد هذه التذمّرات صدىً في المثلين الأوّلين حيث لا يقول أحد شيئاً عن الراعي الذي يفضّل الخروف الضالّ على التسعة والتسعين الآخرين، ولا عن المرأة التي قلبت بيتها كلّه لتجد درهمها الضائع. ولن نجد أحداً يدعو هذين الشخصين ليكتفيا بما لديهما. ويبدأ التذمّر بصورة مكبَّرة مع الإبن الأكبر في المثل الثالث، بل يصبح "غضباً" ورفضاً للدخول إلى وليمة العرس (آ 28). ويظهر في لوم يتّهم عدالة الأب (آ 29- 30). وهكذا نُحسّ أنّ الإنجيليّ يهييء الطريًق إلى نهاية الفصل بعبارة المقدّمة.
إذن، قد يستطيع جواب الأب إلى بكره أن يقدّم لنا تفسير الفصل كلّه. لن نتوقّف على القسم الأوّل من هَذا الجواب: "أنت معي دائماً أبداً، وكلُّ ما لي هو لك" (آ 31). لا بدّ من إفهام الشابّ أنّ الربّ لم يقترف ظلماً تجاهه. فما يَهُمّ هو موقف الأب تجاه الإبن الذي لا يستحقّ الإهتمام، وهو يقابل موقف يسوع تجاه الخطأة. لقد عرف الكتبة والفريسيّون في لاهوتهم أن التوبة الصادقة والإرتداد الفعليّ (يثمر ثمار التوبة، 3: 8) يُقدّمان للخاطىء غفران ذنوبه. وأجاب البكر الذي أشار إلى "ابنك هذا" (آ 30)، فقال له: "أخوك هذا": "كان علينا أن نفرح ونعيّد لأنّ أخاك هذا كان ميتاً وعاش وضالاً فوجد" (أ 32). هذا أخوك والأمر يتعلّق بك. ولا تُفهَم هذه الخاتمة إلاّ كدعوة إلى البِكر ليشارك في الفرحة التي سبّبتها عودة الذي كان أخاه والذي ظلّ أخاه.
ولكن هذه الخاتمة تشكّل في الوقت عينه إعادة للردّة التي تتكرّر في الفصل كله، فلا تعلن فقط فرح الذي وجدَ ما كان ضائعاَ، بل تدعو الآخرين للمُشاركة في هذا الفرح: "إفرحوا معي لأني وجدت خروفي الضائع، الدرهم الذي أضعته". إذن لسنا فقط أمام تعليم عن فرح الذي استعاد ما أضاعه، بل تجاه نداء مُلِحّ يودّ أن يجتذب إليه سامعين رافضين. لا يريد الفصلِ أن يفسّر فقط أن غير الراضين هم على خطأ، أو أن يقول لنا لماذا لا يرضون. إنه يدلّ على الطريق للعبور من التذمّر إلى الفرح الذي نشارك فيه.
جعل لوقا للفصل مقدّمة تشرح معناه، ولكنه لم يقدّم خاتمة. فالفصل يبقى مفتوحاً على سؤال: هل يقبل البكر بأن يشارك في الأفراح التي نظّمها الأب ليعيّد عودة ابنه الضالّ؟ طُرح هذا السؤال على الكتبة والفريسيّين، وهو ما يزال يُطرَح على قرّاء الإنجيل المسيحيّين.
3- الوضع الكنَسيّ لهذا الفصل
إذا أردنا أن ندرك بدقّة بُعد هذا الكلام، بالنسبة إلى القرّاء الذين كتب إليهم لوقا مؤلَّفه، يجب أن نعِي المسألة الدقيقة التي فكّر بها حين دوّن هذه الصفحة من إنجيله. كانت هناك إمكانيّتان (اتّجاهان) ذكرناهما أعلاه: تحذيرُ بعض المسيحيين من الميل إلى رفض إخوتهم المعتبَرين خطأة، أو رغبةٌ فيٍ التشديد على مسؤوليّة القادَة اليهود الذين رفضوا كنيسة لا تعيش ديانة متشدّدة. مهما يكُنْ من أمر، فإن هذا الفصل يندّد بموقف يميلِ إلى نبذٍ الآخرين وإلى تكوين جماعة مختارة من النخبة، فتصبح مركز تعصّب منغلقةً على ذاتها وغيرَ قادرة على محبّة أناس يُعتبَرون منبوذين.
حين نتذكّر أنّ هذا الميل يعارض كلّياً روح الإنجيل، نفهم أن ف 15 لم يخسر شيئاً من آنيّته. فهو ينزل إلى عمقِ الأمور ويدلّ على أنّ فساد الحِسّ الأخويّ يرتبط بفساد الموقف الديني. إن مثَل الإبن الشاطر يندّد بصورة ملموسة بروح "الأجير"، وهذا ما يفسد معاً علاقاتِنا مع الله ومع الإخوة. ولكن هذا الفصل لا يكتفي بالتنديد بخطورة موقف مُلْتَوٍ. إنه يدلّ على طريق نتجاوز به هذا الموقف، فيدعونا لنشارك الله عواطفَه تجاه البائسين، ولمقاسمته اهتمامَه بالذين يريد أن يستعيدهم ويخلّصهم

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM