الفصل الحادي والثلاثون: أقوال حول المائدة

الفصل الحادي والثلاثون
أقوال حول المائدة
لو 14: 7- 14

1- نَدْوة لوقاويّة
إنّ المقطوعة التي ندرس هي جزء من وحدة أدبيّة (14: 1- 25) سُمّيت "أقوال حول المائدة" أو "نَدوة" واجتماع.
هناك كلمة "طعام" وما يرافقها: أكل خبزاً= أخذ وَجبة طعام: 14: 1، 15. "غداء" و"عشاء" (14: 12). وليمة كبيرة، مأدُبة (14: 16). وكلمة "دعا". هناك المدعوّون وهناك من يدعو. إن كلمتَيْ طعام ودعا تجعلان أربع مقطوعات في مجموعة تأليفيّة واحدة: خبر شفاء مريض خلال وَجْبة طعام تؤخذ يوم السبت (اَ 1- 6). قَولان مأثوران عن الطعام (آ 7- 11، 12- 14)، مَثل الوليمة (آ 15- 24).
إن خبر غداء السبت (نقرأ في مقدّمته: "ليأكل خبزاً") ومثلَ الوليمة (نجد في مقدّمته أيضاً: ليأكل خبزاً) يحيطان بالقولين المأثورين بشكل تضمين واحتواء. ونحن نلاحظ في هذين المقطعين بُنية متشابهة من وجهة الأسلوب: مقدّمة، تعبيراً بشكل سلبيّ ثم بشكل إيجابيّ (تَوازناً متعارضاً)، نظرةً إسكاتولوجيّة. وهكذا يرتبط المقطع بالآخر. ويرتبط مثلُ الوليمة أيضاً بالقول الثاني (اَ 12 ي) لأن لائحة المدعوّين الفقراء هي هي (آ 13 وآ 21) مع إختلاف في الترتيب فقط: المشوَّهون، العُرج، العميان.
وتأليف المقطع يجعلنا نشعر وكأننا أمام حوارٍ يعُجّ بالحياة. لا شك في أنّ يسوع وحدَه يتكلّم، هذا إذا جعلنا جانباً أحد المدعوّين الذي قال: "هنيئاً لمن يجلس، إلى المائدة في ملكوت الله" (آ 15). ولكن هذا المونولوج يبدو بشكل خُطبة مباشرة في القول الأوّل (آ 7 ي) وفي مثل الوليمة، بحيث إن عدداً من الناس اهتمّ بهذه الأقوال: رب البيت، الضيوف، المدعوّون، الخَدَم. النداء يوجَّه إلى كل الذين يشاركون في الطعام: الذي يدعو، المدعوّون، أحد المدعوّين سؤالاً الى يسوع.. إذن كنا على حقّ حين سمّينا هذه المقطوعات: أقوال حول المائدة أو نَدوة واجتماع.
لقد نظّم لوقا نفسُه تأليف النصّ إنطلاقاً من الموادّ التي قدّمها إليه التقليد. فخبر شفاء الرجل المريض بداء الاستسقاء يومَ السبت نصٌّ خاصّ بلوقا (لا نجد ما يوازيه عند متّى ومرقس). حصل الإنجيليّ على هذا الخبر من التقليد فاستهلَّه بمقدّمة تدلّ على السمات الخاصّة بالأسلوب اللوقاويّ، واستعمل مشهد الغداء ليؤلّف الخطَبة والمثل الذي يتبعها. يتأصّل القولان حول الطعام في وسط يهوديّ، ولكنهما لا يرتبطان بخبر الشفاء السابق، لأن لا علاقةَ لهم بذُروة الخبر: "أَيحِلّ الشفاء في السبت أم لا"؟ ومثل الوليمة جزء من التقليد الخاصّ بلوقا، وهو لا يرتبط بنصّ مت 22: 1- 10 رغم التشابه بين المثلين. في كل هذه المقطوعات، وبالأخصّ في مقدّمتهما، نجد خصائص أسلوب لوقا ولغته، وهذا ما يدلّ على أن الإنجيليّ دوّن من جديد موادَّ استعملها. كما أنّه جمع في تدوينه مقاطع مختلفة حول فكرة الطعام والمائدة.

2- دُعي إلى طعام يوم السبت (14: 1)
إن آ 1 تشكل الإطار فتشير إلى موقع الخبر، غير أنّها تبقى غامضة. يسوع حلّ ضيفاً على فرّيسيّ. وموضوعُ يسوع الضيف خاصّ بلوقا. ونجد مراراً مشاهد طعام ترتبط بأقوال حول المائدة: 7: 36 ي (الخاطئة في بيت سمعان الفريسيّ)، 10: 38 ي (يسوع عند مرتا ومريم)؛ 11: 37 ي (في بيت أحد الفريسيّين؛ الويل لكم)؛ 14: 1 ي؛ 19: 1 ي (يسوع وزكا)؛ 22: 7- 38 (العشاء الأخير). أجل إن موضوع الوليمة هو شكل من الأشكال الأدبيّة التي عرفها العالم اليونانيّ (الوليمة عند أفلاطون مثلاً).
دخل يسوع بيت أحد كبار (أعيان) الفريسيّين. هذا يعني أنه دُعي إلى الطعام، وان لم يشر لوقا الى الدعوة. سُمّي الفرّيسي من الكبار أو الأعيان لأنه يلعب دور القيادة في حزب الفريسيّين. فقد كان لجماعة الفريسيّين رؤساؤها. يَروي لوقا مراراً أن يسوع دُعي إلى بيت الفريسيّين (7: 36؛ 11: 37؛ 14: 1). ويورد أيضاً أن الفريسيّين حذّروا يسوع من فخاخ هيرودس (13: 31- 33). إذن، هناك إشارات تدلّ على أن موقف يسوع تجاه الفريسيّين لم يكن سلبيًّا مَحضاً. إن يسوع مستعدّ لأن يحمل إليهم أيضاً الخلاص.
وكان السبت يومَ دخلَ يسوع ليشارك في الطعام. إعتاد اليهود أن يقيموا وليمة فخمة يوم السبت. "الله أعطى نسل يعقوب علامةً بموجبها يحتفلون معه بالسبت، فيأكلون ويشربون ويباركون العليّ". "إن من واجب الإنسان في يوم العيد أن يكتفي بأن يأكل ويشرب ويبقى جالساً ويدرس". كانوا يأكلون في الأيّام العادية مرّتين: غداءً بسيطاً في ساعات الصباح، وعشاءً في ما بعدَ الظهر (14: 12). ولكنّهم كانوا يأكلون ثلاثَ مرّات يوم السبت. وكانت الوجبة الرئيسيّة تلي الصلاة في المجمع. لم تكن راحة السبت تَحول دون ذلك، لأنّ الطعام يُهَيَّا منذ الجمعة (يوم التهيئة، رج مر 15: 42). وكانوا يَدْعون طوعاً في يوم السبت أشخاصاً يكرمونهم إكراماً خاصاً.
دعا مقدِّم الطعام يسوع مع أشخاص آخرين من معلّمي الشريعة والفزيسيّين (14: 3). دعا أناساً يميلون ميولَه. يسمّيهم يوحنا "نوميكوي" (نوموس. الناموس في العربية) فيدلّ على أنّ ما يميّزهم هو اختصاصهم بالشريعة (7: 30؛ 10: 25؛ 11: 47، 52؛ مت 12: 28). وكانت تهمّهم قضيّةٌ تتعلّق بالناموس هي شفاء يوم السبت. ولهذا ناقشوها خلال وجبة الطعام هذه. ففي مسائل راحة السبت والعُشور وفرائضِ الطهارة بحسب الشريعة، برزت المعارضة بين يسوع والفريسيّين الذين حاولوا أن يمثّلوا بممارستهم للشريعة المقدّسة والنقيّة، جماعةَ إسرائيل الحقيقيّ. ويستبق الإنجيليّ الخبرَ حين يكتب أن علماء الناموس والفريسيّين كانوا يراقبونه ويترصّدونه بمكر "ليرَوا هل يشفي في السبت" (6: 7). لم يكن المريض بالاستسقاء قد جاء بعد، ولكنه ظهر فجأة (14: 2). وكان يسوع ضيفَ الشرف الذي تتوجّه إليه كلّ الأنظار، كان في تلك الحفلة، يومَ السبت. هذه هي العناصر التي تحدّد موضوع الحوار.

3- مثَلٌ من أجل المدعوّين (14: 7- 11)
وجاءت خُطبةٌ عن الحكمة تتبّل هذه الوليمة. وجَّه يسوع إلِى المدعوّين "مثلاً" هو نتيجة الخِبرة والحياة. المثلُ هو تعليمٌ غيرُ مباشر بشكل تشبيه. إن يسوع يتكلّم هنا مثل معلَم من معلمي الحكمة.
وصل المدعوّون وجلسوا إلى المائدة، بل تمدّدوا على وسادة. لاحظ يسوع الواصلين: إنهم يحاولون أن يحتلّوا الأماكن الأولى، الأماكن الأقرب إلى رب البيت. تنتظم الوِساداتُ ثلاثاً ثلاثاً، ومكانُ الشرف يكون في الرأس أو وسطَ الوسادة المركزيّة. صيغة الفعل اليونانيّ هنا تدلّ على محاولة، وتعبّر عن رغبة حامية وطَموحةٍ للتسابُق من أجل المكان الأوّل. في زمن المسيح تحدَّد الرتبةُ على المائدة بصِيت المدعوّين، والصيتُ يرتبط بالعلم أو بالثروة.
كان الفريسيّون يبحثون عن مقاعد الشرف، عن الأماكن الأولى في المجامع (11: 43؛ 20: 46؛ مت 23: 6؛ مر 12: 38) وفي الولائم (20: 46؛ مت 23: 6؛ مر 12: 38) والتحياتِ في الساحات العامّة (12: 46 وز). كانوا مقتنعين بأنّ مثل هذا الإكرام حقٌ من حقوقهم، لأن الإكرام الذي يطالبون به يعود بالخير على الشريعة التي يمثّلونها.
ووجّه يسوع كلمته إلى المدعوّين: هي لا تهاجم هجوماً؟ شخصيّاً، ولا تجرح أحداً، ولا تسيء إلى أحد. عبَّر عنها يسوع بشكل تعليم وفتوى على طريقة الآداب الحِكميّة: "إن دعاك أحدٌ إلى وليمة" ("عرس" أو "وليمة عرس". رج أس 9: 22؛ لو 12: 36). إن دعاك أحد (أو دُعيت). يقدّم تعليمُ يسوع قاعدة من قواعد الفطنة. ليس من الفطنة بشيء أن نحتلّ الأماكن الأولى حين نصل إلى الحفلة. قد يأتي شخص يَنْعَم باحترامٍ أكثر منك. والرجال الأكثر إحتراماً يجيئون في الدقيقة الأخيرة. فالذي يدعو ويحدّد المقامات يخصّص لهذا الشخص المقعد الأوّل؟ فمن يحتلَّ هذا المقعد فعليه أن يذهب إلى الأخير، لأنّ سائر المقاعد مأخوذة. فبعد بدايةٍ طَموحة، ها هو يُحسّ بالذلّ أمام الجميع. لهذا، كن فطناً واتّخذ المكان الأخير. حينئذ تُكرَّم أمام الجميع إن منحك ربُّ البيت مقعداً أرفع.
ما قاله يسوع هو قاعدة بسيطة وقولٌ حِكميٌّ له تاريخه الطويل في الشعب. فنحن نقرأ في سفر الأمثال: "لا تفتخر أمام المَلك ولا تجلس في مكان العظماء. فإنّه خير أن يقال لك: ارتفع إلى هنا، من أن تُحَطّ أمام الأمير" (أم 25: 6- 7؛ رج سي 7: 4؛ 13: 9- 10). ويوافق علماءُ الناموس على هذه القاعدة فيقولون: تنازلْ درجَتين أو ثلاثاً حين تتّخذ لك مقعداً: خير أن يقال لك "اصعد" من أن يقال لك "انزِل".
يفسَّر المثل عن اختيار المقاعد بقول مأثور يضعهُ الإنجيليّون تارةً هنا وطوراً هناك. هذا ما يسمَّى: "قول تائه" (مت 23: 12؛ لو 18، 14) وقد يكون موضعه الأؤلانيّ هنا. إنه قول فى شِقَّين يدلّ على أصِله اليهِوديّ: يُوضع الفعل في صيغة المجهول لئلأ يُذكر اسم الله (يُوضع، يُرفع). فأصل هذا القول يرجع إلى خبرة عمل الله التاريخيّ تجاه شعبه: "أعلِي ما هو في أسفل، وأُسفِل ما هو عالٍ" (حز 21: 31؛ رج مز 147: 6؛ لو 1: 52). إن هذا القول يعِدُ بتبديل يالحالات وبتقييم الأمور بغير منطق البشر. ونجده، كما عند الإزائيّين، في الجدالات مع الفريسيّين كتهديدٍ لهم.
في هذا الحوار حول المائدة، يرفع هذا القول قاعدةَ الفطنة العالميّة والتي تميّز الحكمة البشريّة، على مستوى الكرازة بملكوت الله بفم يسوع، ويدخلنا إلى هذا الملكوت. فالوعد النبويّ بالاتّضاع والارتفاع يتمّ مع مجيء ملكوت الله. كما أنّ القول الثانى حول الطعام (آ 12- 14) ينتهي بوعد إسكاتولوجيّ، كذلك يوجِّه القولُ الأوّل أنظارنا إلى عمل الله في نهاية العالم. إن انتظار الملكوت الآتي يُشرف على النَدوة اللوقاويّة حول المائدة.
إن قاعدة الجلوس إلى المائدة تطرَحُ الشرط الذي بموجبه نُقبَل في ملكوت الله. لقد أكّد يسوع الضرورة عينَها بأن نصير صغاراً حين طلب من الذي يريد أن يدخل إلى ملكوت الله أن يرتدّ ويصير مثل الأطفال (مت 18: 4). فالارتداد الحقيقيّ، ذلك الذي يفتح ملكوت الله، غيرُ ممكن إن لم يُحسَّ الإنسان أنه ضعيف وصغير أمام الله (17: 10؛ 18: 10- 14). فالموقف الذي يعارض أكثرَ ما يعارض الارتداد، هو عاطفة نعتبر فيها نفوسَنا أبراراً وفوق سائر الناس. عاد يسوع إلى قول تقليديّ عرفه معاصروه فأدخله في كرازته حول ملكوت الله. إنه هو نفسَه "الكاتبُ الذي صار تلميذ ملكوت السماوات الذي يشبه ربّ بيت يخرج من كنزه أشياءَ جديدةً وأشياء قديمة" (مت 13: 52).

4- تنبيه إلى صاحب الدعوة (14: 12- 14)
ويتوجّه يسوع أيضاً إلى صاحب الدعوة، إلى الذي يدعو. لا يقدّم يسوع مثلاً بل حقيقةً ما زالت تحتفظ بقيمتها، وتنبيهاً يقع في حالة ملموسة. والإشارة المُعطاة إلى المضيف لها طابعُ الإلزام، وإن عبّر عنها يسو بلطف ودقة. يتكلّم يسوع بصورة عامّة، لا عن هذه الوليمة التي دُعي إليها، بل عن غداء أو عشاء. لم يَدعُ ربّ البيت فقط الأصدقاءَ والأقارب والأغنياء، بل دعا يسوعَ أيضاً وربما تلاميذَه. ويتكلّم يسوع مرّةً أخرى مثل معلّمٍ من معلّمي الحكمة.
تُعتبرُ الوليمة تعبيراً عن حبّ سخيّ. فالضيف لا يدعو فقط الذين تجمعهم به رباطاتٌ بشريّة كالصداقة والقرابة والعهد أو الأوضاع المشابهة. فهؤَلاء يستطيعون أن يعاملوه بالمثل ويدعوه. يجب أَلاّ تقابلَ إطلاقاً الدعوةُ دعوةً والعطيّةُ عطيّهً. أعطوا ولا تنتظروا في المقابل شيئاً (6: 35). الوليمة تعني محبّة لا تطلب المنفعة، تعني حبًّا لا ينتظر مقابِلاً.
وبعد الشِقّ السلبيّ في الموازاة (لا تدعُ)، هناك الشِقُّ الإيجابيّ: يجب أن تدعو من لا تنتظر أن يبادلك الدعوة. ومن تدعو إذن؟ "المساكين، المشوّهين، العرج، العميان". وقد يكون المشوّهون والعرج والعميان صفةً للفقراء: فمجموعات الفقراء المذكورة هنا كانت محتَقَرةً ومرذولة من قِبَل أنقياء إسرائيل. كان هؤلاء يُحرَمون من المشاركة في الحفلات الدَينيّة في الهيكل (2 صم 5: 8 حسب السبعينية، رج لا 21: 18). وهذا الحُرم العِباديّ القديم لم يزَلْ معمولاً به في جماعة قُمران. ونحن نقرأ في ملحق "القاعدة": "لا يدخل في جماعة الله أيُّ شخص أصيب بإحدى النجاسات البشريّة. وكل شخص أصيب بهذه النجاسات لم يعُد يقدر أن يقوم بوظيفة وسط الجماعة؛ وكلُّ شخص أصيب في لَحمه (= البرص) أو تربّطت رجلاه أو يداه، كلُّ أعرجَ أو أعمى أو أصمَّ أو مضروبٍ في لحمه بعاهات منظورة... كلُّ هؤلاء الأشخاص لا يدخلون فيأخذون مكانهم وسْطَ جماعة الناس المشهورين".
فإلى هؤلاء الفقراء بين الفقراء وجَّه يسوع انتباهه وحبّه. وحسب مثَل الوليمة، إنهم هم المدعوّون (14: 21). الذين يعتبرون نفوسهم غيرَ جديرين، الذين يُدفعون إلى الخارج يُقبلون في ملكوت الله، هم لا الفريسيّون المتكبّرون والواثقون بنفوسهم (14: 15). ومن أجل هؤلاء المساكين صنع يسوع سلسلة من المعجزات، وهكذا صار ملكوت الله منظوراً. والمعجزات التي تمّت لأجلهم ميّزت شخصيّة يسوع فسُمّيت أعماله الخاصّة. فأفقر الفقراء لا يستطيعون أن يرُدّوا الخير الذي مُنح لهم. يتدخّل الله نفسه من أجلهم، حين يبدأ نظام الأشياء الجديد. هنا تحُلّ صيغةُ المجهول (تكافأ) محلَّ اسم الله. فالذي يُحسن إلى هؤلاء الفقراء يُعَدّ سيّداً لأنه سيجد مكافأته في الله نفسِه.
وينتهي التنبيه بتصوّرٍ لأحداث نهاية العالم. ففي مثَل المدعوّين يتلقى الأبرار وعداً بأنهم يُرفعون. وهنا يوعَدون بالقيامة. في المرّة الأولى مرت الطريقُ عَبْرَ الاتّضاع والانخفاض. وفي المرّة الثانية عَبرَ التجرّد والتخلّي عن كل منفعة. لا يشير الوعد إلاّ إلى قيامة الأبرار. إن لوقا نفسَه يتطلّع إلى قيامة الجميع لا إلى قيامة الأبرار وحدَهم فيقول بلسان بولس: "راجياً قيامة الأشرار والأبرار" (أع 24: 15). إنه يؤكّد على "قيامة الموتى" (20: 35). إذن عبارة "قيامة الأبرار" لا تُستعمل في المعنى الحصريّ، وقد تكون تقليديّة فترتبط برجاء لا يشير إلاّ إلى قيامة الأبرار كما في أخنوخ ومزامير سليمان ووصيّة بنيامين أحدِ الآباء الاثني عشَر.
إن قاعدة الولائم الثانية لا تكتفي بوصيّة من أجل الطعام. إنها هي أيضاً تتطلّع إلى نهاية الأزمنة، إلى مجيء ملكوت الله الذي يتضمّن فيما يتضمّن من خيرات الخلاص "قيامةَ الأبرار". فالحبّ الذي يبحث عن مبادل، لن يكون له مكافأة حين مجيء ملكوت الله. والتنبيه المعطى هنا يردّدَ تعليم عظة "السهل": "إن أحببتم فقط من يحبّكم... إن أحسنتم فقط إلى من يحسن إليكم... إن أقرضتم فقط..." (6: 32- 35).
يندّد يسوع برذيلتين وجدهما عند الكتبة الميّالين إلى النَزعة الفرّيسيّة: الطموح والجشع (20: 46- 47). فإليهم تتوجّه قواعد الطعام التي تنصح بالتواضع والمحبّة المتجرّدة. إن الطموح والجشَع يخضعان لدينونة قاسية جدًّا. أمّا الذين يمارسون التواضع والمحبّة المتجرّدة فسيكون لهم أن يشاركوا الله في ملكوته.

5- بُعد أقوال يسوع حول الطعام كما في إنجيل لوقا.
بدأت "النَدوة" اللوقاويّة بطعام السبت التي فيها شفى يسوع مريضاً، وانتهت بوليمة دُعي فيها أفقر الفقراء.
أعاد يسوع إلى السبت وإلى راحة السبت معناه الأصليّ حين شفى المريض. فالسبت هو يومُ تذكار أعمال الله العظيمة: عمل الخلق (خر 20: 8- 11)، التحرّر من عبودية مصر (تث 5: 12- 1). وهو يذكّر إسرائيل أنّ الله هو ربُّه ومخلّصه (خر 3: 13). السبت هو علامة أمانة الله لعهده، ونحن ننتظره أيضاً في المستقبل. فالكمال الأخير الذي ينتظره المؤمنون هو سبت لا نهاية له (عب 4: 9). وكانوا يظنّون أيضاً أنّ السبت يساوي ستّين عالماً جديداً. وكان يشرف على السبت مُناخُ العيد، لأنه يؤكّد لإسرائيل اختيار الله له: "بارك القدير السبت. ولكنه لم يكرّس (يخلّص) للاحتفال بالسبت شعباً آخر أو أمّة أخرى إلاّ إسرائيل. يحقّ له وحدَه أن يأكل ويشرب ويحتفل بالسبت على الأرض. وخالق الكون بارك هذا النهار الذي خلقه للمباركة والتكرين والمجد، وفضَّله على سائر الأيّام" (كتاب اليوبيلات 2/ 31- 32). وطعام السبت كان التعبيرَ عن فرحة العيد هذه وعن الوظيفة الاجتماعيّة التي ترتبط بالسبت. ويتمتعّ بخير السبت فقط الإسرائيليُّ وأهل بيته، بل العبيدُ والحيوانات الداجنة (تث 5: 14؛ خر 23: 12).
إن التفسير الفريسيّ القاسي ليوم السبت قد جعل ذاك النهار مظلماً فأضاع فرحه وحلاوته (14: 5). وإذ شفى يسوع المريض يوم السبت أعاد إلى يوم الله هذا معناه الأصليّ، وفتح الطريق ليصل الخير إلى العالم الذي يضربه المرض. وهكذا تدشنت راحة السبت في نهاية الأزمنة. فرأفة الله السخيّة التي ألقت دوماً بضوئها على السبت صارت مع يسوع حدثاً إسكاتولوجيًّا. فمنذ طعام السبت في بيت الفريسيّ توجهت أنظارنا إلى ملكوت الله الكامل، كما يشير إليه مثَل الوليمة. فحبّ الله السخيّ والفيّاض يحطّم الحواجز الضيّقة التي فرضها الفريسيّون على راحة السبت، فطُرحت مسألة الدخول إلى ملكوت الله. فالمستسقي الذي جاء إلى وليمة السبت ليطلب الشفاء، وممثّل "شعب الأرض (عم ها أرص)" المحتقَر، الشعب الذي لا يعرف الشريعة، وكيفيّة تفسيرها لدى الفريسيّين، هذا الرَجل سيُشفى فيتعرّف إلى قدرة ملكوت الله وسعادته. إن البشر الذين احتقرهم إسرائيل "الطاهر والمقدّس" ورذلهم، الفقراءَ والمشوّهين والعرج والعميان والتائهين الذين يدورون في شوارع المدينة، هؤلاء يستقبلهم الله في وليمته. أجل، لقد بدأ هنا تحوّلٌ كبير جدًّا: "طوبى للفقراء".
حين كتب لوقا إنجيله، لم تعد مسألة راحة السبت مسألةً آنيّة. فالجماعة المسيحيّة بدأت تعيّد اليومَ الأول من الأسبوع، وفيه "تَكسر الخبز" (أع 20: 7). ولكن من المهمّ أن نعرف بأيّ روح نحتفل بيوم الربّ وبكسر الخبز. هذا هو السؤال الذي حاول لوقا الإجابة عليه. لم يكن للجماعات الرسوليّة "قواعد كنسيّة" بعد. كانت تعود إلى يسوع وإلى المثالي الذي يقدّمه، لها، فتلقي الضوء على طريقة تصرّفها. إن للكتابات الإنجيلية محيطها الحياتيّ في الجماعات، وهكذا كانت قاعدة الجماعة، قاعدة حياتها وممارستها العباديّة. وفي إمتداد التطوّر الذي قاد من راحة السبت اليهوديّ إلى عشاء الرّب، ظهر أيضاً كسر الخبز الذي مارسته الجماعة المسيحيّة في يوم الربّ. والأقوال الموضوعة بين المقطوعات التي تتعلّق بالطعام تعني الطعام العاديّ والطعام الإسكاتولوجيّ كما تعني أيضاً الطعام الإفخارستيّ أي "كسر الخبز". فمسألة تصوّر الحفلات ودعوة أفقر الفقراء تلعبان هما أيضاً دوراً في عشاء يوم الربّ. هذا ما تشير إليه رسالة القديس يعقوب: "فإذا دخل في مجمعكم غنيّ في إصبعه خاتمٌ من ذهب وعليه ثياب فاخرة، ثم دخل فقير عليه ثياب عتيقة، فالتفتّم إلى صاحب الثياب الفاخرة وقلتم له: إجلس أنت هنا في صدر المكان؛ وقلتم للفقير: قف أنت هناك، أو: إجلس هنا عند أقدامنا، ألا تكونون ميّزتم أحدَهما عن الاخر وجعلتم نفوسكم قُضاة (ديّانيين) ساءت أفكارهم" (يع 2: 2- 4).
واجتماعات كنيسة كورنتوس لم تكن ينبوعَ خير بل ينبوعَ شرّ. فحين تلتئم الجماعة فهي لا تشارك في عشاء الربّ: "يأكل كلّ واحد عشاءَه الخاصّ، فيجوع بعضكم ويسكر آخرون". هذا الموقف اللااجتماعيّ الذي لا ينمّ عن المحبّة، يحتقر الذين لا يملكون شيئاً والذين هم أيضاً كنيسة الله (1 كور 11: 17 ي). ما يُشْرف على العشاء ليس روحَ المشاركة السخيّ والمتجرّد، بل روحُ الأنانيّة الذي يعطي وينتظر المقابل.
في خبر العشاء السرّيّ (22: 7- 38)، لم يتحدّث لوقا فقط عن العطيّة التي وهبها الرّب الذاهب إلى موت لأخصائه بشكل نظام، بل نقل أيضاً التعليمات التي أعطاها في "خُطبة الوَداع" (22: 21- 38). من جهة قاعدة العبادة، ينظّم خبر العشاء الاحتفال بالإفخارستيا. من جهة قاعدة الجماعة، إنه ينظّم حياة الجماعة التي قلبُها الحقيقيّ هو العشاء الإفخارستيّ. وأخيراً كقاعدة حياة، ينظّم العشاء كلّ مظاهر الحياة المسيحيّة. وهذه التعليمات تتضمّن أيضاً تحذيراً من الكبرياء والأنانيّة. فالإفخارستيّا تمنع الخلافات حول مكان الصدارة، وتطلب منّا أن نضع نفوسنا في خدمة الآخرين (22: 24- 27). إن أقوال يسوع حول المائدة وخبر العشاء مع خطبة الوداع تلتقيان في هدف واحد.
إن الإستعداد للعشاء الإسكاتولوجيّ والعشاء الإفخارستيّ يتحقّق بالإحتفال الأفضل بالطعام اليوميّ. فعشاء الربّ في المسيحيّة الأولى ضمَّ في شكله العاديّ وجبة الطعام والإفخارستيا، واحتفل بهما معاً في إطار الأحداث الإسكاتولوجيّة (1 كور 11: 17- 34). وقواعد اللِّياقة التي تُشرف على الولائم تصبح شروط قبولنا للمشاركة في الوليمة الإسكاتولوجيّة، وتحدّد الطريقة اللائقة (1 كور 11: 27) لقبول جسد الربّ ودمه. إن الإنسانيّة "المهذّبة" هي استعداد لقبول الكرازة المسيحيّة، وكلمةَ الله تحمل ثمراً كثيراً إذا قُبلت بقلب نبيل وصالح. إن مثال حياة اليونان وحضارتها قد هيّأ الدرب لقبول الخلاص

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM