الفصل الثامن والعشرون : رياء الفريسيين ومخطّط الله

الفصل الثامن والعشرون
رياء الفريسيين ومخطّط الله
13: 31- 33

أ- سياق 13: 31- 33
1- نفصل هذا النصّ عن سابقه (13: 23- 29) وعن لاحقه (13: 34- 35) اللذين ينتميان إلى التقليد المشترك. ولكن لوقا جعله في وحدة أدبية واسعة.
من جهة التدوين، لا يُعزل التحذير من هيرودس (13: 31- 33) عن مناداة (تضيف) مدينة أورشليم (13: 34- 35= مت 23: 37- 39). يدلّ على هذه الوحدة إشارة إلى الوقت (في تلك الساعة) ووضعٌ جديد (وصول الفريسيين وتنبيههم). ونهاية الوحدة تحدّدها عبارة المقدمة في 14: 1 (ودخل يوم السبت). إن تعنيف أورشليم الذي لا مقدّمة له، يعتبره لوقا جزءاً من جواب يسوع الذي يبدأ في آ 32. إن كاتب الإنجيل يعتبر 13: 31- 35 وحدة أدبية محدّدة.
2- إن 13: 22- 30 تؤلّف بدورها وحدة وقد سمّيت "مثلاً". وهناك إشارات أدبية تدلّ على أن لوقا ربط المقطوعتين، الواحدة (13: 22- 30) بالأخرى (13: 31- 35). فالظرف الزمني (في تلك الساعة) لا يرتبط بزمان مطلق، بل يعود إلى 13: 22- 30. إن 13: 22 ليس فقط مقدمة 13: 24- 30، بل مقدمة 13: 31- 35. نقرأ مرّتين موضوع السفر إلى أورشليم (13: 22؛ 13: 33). وهكذا نكون في 23: 24- 35 أمام قسم واحد يبدو في شكل تعاكسي. هناك الهجوم على اليهود وعلى أورشليم. والشر الذي به يُحكم على اليهود (13: 27) هو موت يسوع في عاصمتهم (13: 33- 34). إذن، 13: 31- 33 هو جزء في 13: 22- 35. وبما أن 13: 22- 35 يشكّل أحد المفاتيح في خبر صعود يسوع إلى أورشليم (9: 51- 19: 28)، الذي فيه عبّر لوقا عن المدلول اللاهوتي لهذا الخبر، إذن، نحدّد موقع 13: 31- 33 وندرسه في هذا السياق الأوسع.

ب- التقليد والتدوين
هل نستطيع أن نكتشف ما يعود إلى التقليد وما هو حصيلة التدوين اللوقاوي؟
1- هناك إتفاق شبه عام بأن 13: 31- 33 يتضمّن تقليداً قديماً جدّاً يعود إلى حياة يسوع. ففي جواب يسوع على تحذير الفريسيين، نجد صدى حقيقيًّا لواقع هو: أن يسوع خلال حياته على الأرض قد أنبأ بموته، بمصيره المأساوي. واعتبر آخرون أن لو 13: 31- 33 احتفظ بالسبب التاريخي الذي لأجله ترك يسوع منطقة الجليل. وما يؤكّد هذا الرأي هو الطريقة التي فيها يبدو الفريسيون في هذا النصّ. فموقفهم الطيّب تجاه يسوع (نبّهوه إلى نوايا هيرودس القاتلة) لا يتوافق مع التقليد الإنجيلي الذي يصوّر الفريسيين كأعداء يسوع المعاندين.
2- إذا كانت نواة الخبر أصيلة، إلاّ أن هناك أثاراً لأعمال تدوينية. قال ديباليوس: كان في يد لوقا قول تقليدي (آ 32 ب- 33) فجعله في إطار إخباري (آ 31- 32 أ). لم يهتمّ لوقا بالتدقيق التاريخي فأدخل الفريسيين الذين هم أعداء عاديون ليسوع (16: 14؛ 17: 20). وقدّم بولتمان تفسيرين. الأول: زادت الجماعة المسيحية آ 32 ب، فتكوّنت القطعة الأولانية من آ 31- 32 أ. الثاني: كانت آ 33 قولاً منعزلاً فزادها لوقا على آ 21- 32.
3- هناك تفسير آخر: إن آ 31- 33 هي تأليف تدويني.

ج- تفسير 13: 31- 33
تحيّر الشرّاح حول هذه الآيات الثلاث. ظنّ البعض أن جواب يسوع غامض وملغز وغير مفهوم. إن آ 33 تبدو تكراراً للآية، بل هناك "تعارض" بين الآيتين. في آ 32، يبدو يسوع وكأنه يريد أن يبقى "اليوم وغداً" لكي يكمّل رسالته. أما في آ 33 فيقول إنه يريد أن ينطلق "اليوم وغداً". وهناك الإشارة الكرونولوجية حول اليوم الثالث. في آ 33 ارتبط اليوم الثالث بذهاب يسوع. وفي آ 32 أعلن يسوع: "أكون في النهاية". إذا كان هذا الفعل يتضمّن تلميحاً إلى موت يسوع، نتساءل كيف أن ذهاب يسوع خارج منطقة هيرودس يتوافق مع موته. لماذا كان فعل "تالايوماي" يعني أن يسوع يضع حداً لنشاط الشفاء في اليوم الثالث، يبقى علينا أن نفهم كيف يستطيع يسوع أن يذهب إلى أبعد "اليوم وغداً".
نحن هنا أمام كلمة ملغزة لا تفهمها إلاّ مجموعة خاصة، لا سيما أولئك الذين تبعوا يسوع (والقراء المسيحيون) لا الذين من الخارج (أي: الفريسيون).
ونعود إلى دراسة البنية. إن كلام يسوع (آ 32- 33) هو جواب حقيقي على تدخّل الفريسيين. هذا يعني أننا لا نستطيع أن نفكر جواب يسوع إلاّ إنطلاقاً من جواب الفريسيين. نلاحظ في كلام الفريسيين عنصرين إثنين. الأول (أ): نصيحة (إنطلق، إذهب). الثاني في (ب): السبب (لأن هيرودس يريد قتلك). ويقابل جواب يسوع كل المقابلة هذا الكلام. بدأ يسوع فأعلن رأيه حوله السبب (آ 32: ب ب) ثم أجاب على النصيحة (آ 33: أ أ). في الشق الثاني من الجواب، توجّه يسوع مباشرة إلى الفريسيين. إذن، هناك موازاة واعية بين تنبيه الفريسيين (آ 31) وجواب يسوع (آ 32- 33). بل هناك موازاة بين شقيّ الجواب: نشاط يسوع العجائبي، أكمّل. الصعود إلى أورشليم. مقتل النبي. مثل هذه البنية ستساعدنا على تفسير هذه المقطوعة.

د- تدخّل الفريسيين (13: 31)
لن نتوقّف عند الألفاظ التي تبدو لوقاويّة بمجملها فتدلّ على يد لوقا في هذه المقطوعة، بل ننظر إلى البواعث المعروفة لنرى هل تتوافق مع النظرات الإجمالية في الإنجيل الثالث.
1- موقف الفريسيين
تحدّث البعض عن نوايا الفريسيين الحسنة. ولكن هل هذا القول يوافق صورة الفريسيين عند لوقا؟ بعد هذا، نفسّر آ 31 في خطّ هذه النظرة العامة.
إن لوقا يتكلّم دوماً عن الفريسيين بطريقة تقلّل من قدرهم. إنها يخطّئون يسوع، يراقبونه، يحرّكون الجدال معه أو مع تلاميذه (في 5: 21، قالوا إنه يجدّف؛ في 5: 30 تذمّروا على يسوع وتلاميذه؛ رج 5: 33؛ 6: 2؛ 6: 7؛ 7: 30). وعندما يدعون يسوع إلى بيتهم (هذه علامة احترام للوهلة الأولى)، فهم يستقبلونه ببرودة، ويراقبونه، ويحكمون عليه بقساوة (7: 38: يحكم سمعان على موقف يسوع 70: 44- 46: لم يستقبله حسب قوانين الضيافة؛ 11: 37: يتعجّب من سلوكه؛ 14: 1؛ 16: 14: أصدقاء الفضة).
إن هذه النظرة العامة تلقي الشك على تفسير 13: 31 بشكل يدلّ على نوايا الفريسيين الحسنة. وهناك مقطع يلقي الضوء على المعنى الحقيقي لتدخل الفريسيين في آ 31. فإن لوقا قدّم لنا حالاً بعد الخطبة ضد الفريسيين نصاً نراهم فيه بشكل غير مرضيّ (11: 53- 12: 1). في 12: 1 أعاد لوقا تفسير مر 8: 15 الذي تضمّن تحذيراً من خمير الفريسيين وخمير هيرودس. قال لوقا (12: 1): إحذروا رياء الفريسيين. في الظاهر هم ينبّهون يسوع إلى نوايا هيرودس القاتلة. في الواقع، هم يريدون أن يمنعوا يسوع من أن يكمّل رسالته. هكذا فهم لوقا عبارة: إذهب، إنطلق. وهكذا فسّر يسوع (بحسب لوقا) تدخّلهم: هناك طريقتان بهما نمنع يسوع من تكلمة رسالته: نحتفظ به، نسجنه في مجموعتنا مثل أهل الناصرة (4: 23)، وسكان كفرناحوم (4: 42) وأمّه واخوته، (8: 19- 20). أو نرفض إستقباله مثل أهل الناصرة (4: 29) والسامريين (9: 53) ومدينة أورشليم والفريسيين (19: 29- 39). لقد نسب الفريسيون برياء إلى يسوع نية سيّئة أرادوا أن يستفيدوا منها ليبعدوه عن الجليل.
2- هيرودس
ظنّ بعض الشرّاح أن الفريسيين توافقوا مع هيرودس ضد يسوع عدوّهم المشترك. هكذا يبعد التترارخس يسوع عن أرضه. ويجتذبه الفريسيون إلى اليهودية حيث يزيلونه. إستند هؤلاء إلى مر 3: 6؛ 8: 15؛ 12: 13 حيث توافق الفريسيون والهيرودسيون على مقاتلة يسوع. ولكن لوقا لا يستعيد موضوع المشاركة بين الإثنين. وفي 12: 1 يتحدّث فقط عن الفريسيين (يختلف عن مر 8: 15، لا يذكر هيرودس).
ثم إن موقف لوقا من هيرودس لا يتميّز بعداء ضد يسوع بحيث يحاول قتله. فما نجده عند هيرودس هو عاطفة فضول تجاه هذا المجترح المعجزات الذي هو يسوع. إنه يرغب أن يرى معجزة (9: 9؛ 23: 8). والتقى الرجلان ورفض يسوع أن يلبّي رغبة هيرودس. بل هو ظلّ صامتاً. فاكتفى التترارخس بالهزء منه وإرساله إلى بيلاطس (23: 8- 12: برهان آخر على براءة يسوع).
لا ينسب لوقا إلى هيرودس نية حقيقية تدل على أنه يريد قتل يسوع، بل هو يرى إختراعاً خبيثاً من قبل الفريسيين ليُخفوا أهدافهم الحقيقية.
كيف نفهم تسمية "الثعلب" الموجّهة إلى هيرودس؟ في المعنى الرمزي: شخص محتال، شخص هدّام. ولكن هناك تفسيراً لدى الرابانيين: شخص لا قدر له ولا قيمة، يعارَض مع الأسد الذي هو صورة عن الرجل القدير. وهناك شخص متقلّب يبدّل آراءه ومواقفه (مثل الثعلب). هو ضعيف وغير جدير بالثقة. وهكذا يعني النص: لن يخاف يسوع من هيرودس الذي لا يستطيع بشبه القدرة التي يملك أن يؤثّر على رسالة يسوع الإلهية.
3- تأثير مر 6
- إن جواب يسوع (آ 32) تذكّر مر 6: 13 (أخرجوا شياطين كثيرين).
- هناك تشابه في المضمون والشكل الأدبي بين آ 33 ب ومر 6: 4.
- نرى في آ 22 والمقدمة التدوينية للقسم آ 22- 35 تدلاّن على تشابه لافت على مستوى المضمون والبنية الأدبية لنصّ 9: 6 الذي يعود إلى مر 6: 6 ب، 12- 13 ولو 11: 1 (نجد فعل ذهب وحده).
- وهناك مقابلة أخرى. في مر 6: 10- 11= لو 9: 4- 5، يعطي يسوع لتلاميذه نصائح حول الموقف الذي يتّخذونه تجاه الذين يقبلونهم أو يرفضونهم، الذي يجعلون عملهم ممكناً أو مستحيلاً، عليهم أن يمكثوا أو ينطلقوا. إن تأثير هذا الموضوع على نص لوقا واضح، فإن إنجيله يتضمّن مقاطع نرى فيها الناس يمنعون يسوع من أن يكمّل رسالته أو لا يستقبلونه. وفي كل مرّة يعمل يسوع بالنصيحة التي أعطاها في 9: 4- 5: عليه أن يذهب ليكرز ويشفي (4: 42- 43). وهذا ما نجده في آ 31- 33. أراد الفريسيون أن يمنعوه من أن يكمّل رسالته (آ 31). فأجابهم بأنه يرغب في تتميم رسالته (آ 32) التي تتحقّق جزئياً حين يتابع مسيرته إلى أورشليم.
إن حضور الفريسيين والإشارة إلى موقفهم في نصّ يدخل فيه لوقا نهاية الخطبة ضدّ الفريسيّين، يبدوان أمراً. والملاحظات السابقة قد دلّت أن لوقا دوّن آ 31 ليعطي إطاراً لأقوال يسوع في آ 32- 33.

هـ- جواب يسوع (13: 32- 33)
1- ها أنا أطرد الشياطين (آ 32)
يبدأ جواب يسوع بفعلين في صيغة الأمر. ثم هاءنذا. بعد هذا يعدّد يسوع نشاطه العجائبي. أطرد الشياطين وأجري الأشفية. و"في اليوم الثالث أقاد إلى النهاية". كيف نفسّر هذه العبارة الأخيرة؟ هناك إتجاهان: إما أن نرى فيها نهاية نشاطات يسوع في الجليل. وفي اليوم الثالث، أكون في نهاية الأشفية وطرد الشياطين. هذا تفسير حرفي وبسيط. غير أنه يستند إلى المعنى الاشتقاقي للفعل وإلى السياق السابق. وإما أن نعتبر أن العبارة تتضمّن مدلولاً أعمق: إنها تشير إلى نهاية رسالة يسوع على الأرض: موته، قيامته وتمجيده (هذه المراحل الثلاث معاً). قد يكون لوقا اختار عبارة تحمل معنيين أو أكثر. حسب لوقا، إن الفريسيّين يرون في هذه العبارة تأكيداً بأن يسوع لا يضع حداً لنشاطاته إلاّ بعد فترة من الزمن. ولكن يبدو لنا أكيداً أن لوقا وضع في فم يسوع (بالنسبة إلى قرّائه المسيحيين) عبارة ذات رنّة مسيحية. وهكذا نستطيع أن نتكلّم عن إنباء بأحداث تنهي حياة يسوع على الأرض.
إستعمل لوقا هنا صيغة المجهول. فدلّ على أن فعل الفاعل هو الله الذي يضع حداً لنشاط يسوع. فهو الذي يحدّد متى وكيف تتمّ رسالة يسوع. والسياق يثبت هذا المعنى: فالمعنى الإجمالي في آ 32 هو أن يسوع يؤكّد رسالته الإلهية ضدّ رغبات هيرودس. ثم يأتي التعبير عن ضرورة ترتبط بالله: يجب (داي). "يجب أن كمّل اليوم وغداً".
ما الذي يضع الله له حداً؟ أولا، الوقت الذي فيه ينتهي نشاط يسوع العجائبي في الجليل. ففي 2: 42 نجد نفوسنا أمام نهاية حقبة محدّدة على بضعة أيام. غير أن هناك تفسيراً آخر في خطّ فكر لوقا. هناك ثلاثة نصوص استعمل فيها لوقا فعل "تالايو". في أع 22: 24 نقرأ أن بولس، رغم المضايق والاستشهاد الذي ينتظره في اورشليم، يريد أن "يكمّل شوطه" أي ينهي الرسالة (الخدمة) التي سلّمه الله إياها. وهكذا يرتبط الفعل لا مع فترة محدّدة (كما في لو 2: 42)، بل مع مجمل رسالة بولس (رج أع 3: 12). ونحس التعارض نفسه في لو 13: 32. إن حياة يسوع هي نموذج لحياة الرسل. ورغم خطر الموت (13: 31) فيسوع يريد أن يتمّ رسالته (كلها) بجملتها. وما يميزها هو الأشفية وطرد الشياطين التي يضع الله وحده حدّاً لها.
بمَ تقوم هذه النهاية؟ للوهلة الأولى نتطلّع إلى موت يسوع. هذا لا يقرّره هيرودس بل الله. ولكن قد يفكر لوقا أيضاً بالتمجيد والقيامة اللذين بهما يرفع الله حياة يسوع إلى كمالها. فالانشداد بين خطر الموت وإرادة تكملة الرسالة في آ 31- 32 يفهم على ضوء نقيضة أعمق تشرف على حياة يسوع: الآلام والمجد. الموت والقيامة. وفى نظر لوقا، بشكل اختطاف (انالمبسيس) يسوع، أي دخوله في مجد الآب، النهاية الحقيقة لحياته وتكلمة رسالته (رج 9: 51؛ 24: 26، 46). وهذا يعني بحسب لوقا انه لا يصل إلى هذا الهدف إلاّ عبر الألم والموت. إذا كان فعل "تالايون" لا يعبّر بشكل صريح عن فكرة الموت، فلوقا سيعود إلى فكرة الموت في الآية التالية. ونجد الفكرة عينها في عب 2: 10؛ 5: 9؛ 7: 28: إن "تكملة" المسيح على هذه الأرض هي تمجيده، دخوله إلى السماء، إلى مجد الله.
ويثبت هذا التفسير البنية التي أشرنا إليها سابقاً: معجزات يسوع (= رسالة يسوع). التكملة (= القيامة والتمجيد). السفر إلى أورشليم (= يسوع).
وهناك تأكيد آخر لهذا التفسير اللاهوتي لفعل "تالايو" نجده في عبارة "اليوم الثالث". فيسوع لا يستعمل هذه الإشارة الزمنية في إنجيله إلاّ ويربطها بالقيامة (9: 22؛ 18: 33؛ 24: 7، 46؛ ق 24: 21 أع 10: 40؛ رج مت 16: 21؛ 17: 23؛ 17: 64؛ 20: 19). فالقارئ المسيحي يربط طوعاً "اليوم الثالث" بقيامة يسوع بعد موته بثلاثة أيام. وهنا في آ 32 يلمّح لوقا إلى القيامة تلميحاً خفياً من خلال هذا القول الملغز.
وعبارة "أكمّل في اليوم الثالث" لا تدلّ فقط على النهاية، بل على التكملة. فلوقا كتب إنجيله عن الأحداث التي "تمّت فيما بيننا" (1: 1). فكل أحداث حياة يسوع العظيمة هي تتمة (وتحقيق) لإرادة الله كما أنبأ بها الأنبياء ودوّنت في الكتب المقدسة. في يسوع، وصلت المواعيد النبوية إلى تتمتها (18: 31؛ 22: 37؛ أع 3: 18؛ 13: 27- 29). في هذا الإطار العام لموضوع المخطط الإلهي الذي يتحقّق على مراحل، تدلّ عبارة اليوم الثالث عند يسوع على موته وقيامته وتمجيده.
3- أواصل السير (آ 33)
نقرأ هنا "بلان" (ولكن) التي هي خاصة بلوقا (15 مرة في الإنجيل). كما نقرأ "داي" (يجب) التي ترد 18 مرة في لو و 22 مرة في أع (8 مرات في متّى، 6 مرّات في مرقس، 10 مّرات في يوحنا). إن هذا الفعل يلعب دوراً هاماً في تصوير رسالة يسوع. فأهم أنشطة يسوع تسير في نور هذا "الواجب" الإلهي. "يجب أن أبشّر المدن الأخرى بملكوت الله" (4: 43؛ ق مر 1: 38). وفي 9: 22 أخذ لوقا من مر 8: 31 الآلام كما أرادها الله (يجب) واستعملها مرة ثانية في 17: 25 ومرة ثالثة في 24: 26. ويبدو لنا أن عبارة "يجب أن أواصل السير" ترتبط بموضوع الضرورة الإلهية. هذا صحيح، لا سيما وأن لوقا يعتبر أن سفر يسوع إلى أورشليم هو صعود إلى الموت والمجد (9: 51 ي). وهناك نصوص تتحدّث عن الآلام، فتزيد أنه يجب أن تتم الكتب (22: 37؛ 24: 44؛ رج أع 1: 16). نتذكّر هنا أيضاً 2: 49: "أما تعلمان أنه "يجب" علي أن أكون في بيت أبي". وحياة التلاميذ تسير في هذه الضرورة عينها. قال بولس في أع 14: 22: "بمضايق كثيرة يجب أن ندخل ملكوت الله". رج أع 9: 16؛ ق 19: 21؛ 23: 11؛ 27: 24.
"لا يليق أن يموت نبي خارج أورشليم". هذا موضوع معروف عن اضطهاد الأنبياء. أخذ لوقا هذا الموضوع من المعين، مع ما يليه مباشرة في 13: 34= مت 33: 37: "يا أورشليم...". سبّق لوقا على الموضوع وقدّمه بشكل عام لكي يطبّقه على وضع يسوع نبي الأنبياء.
هنا نبحث عن مدلول الإشارتين الزمنيتين في آ 32 وآ 33.
أولاً: اليوم الثالث (آ 32)
نحن لا نأخذ الثلاثة أيام على حرفيتها. رأى فيها بعضهم زمناً طويلاً أو قصيراً. وآخرون؟ زمناً محدّداً. وبعضهم فكّر في ثلاث سنوات امتدّت خلالها رسالة يسوع. يبدو أنه لا يجب أن نبحث عن فترة محدّدة من الزمن. نحن بالأحرى أمام عبارة ذات بعد لاهوتي، لا زمني. نجد في السبعينية عبارة اليوم وغداً. نجد العبارة (اليوم وغداً) في السبعينية حيث تدلّ على مرحلتين. نقرأ في يش 22: 18: "إن تمرّدتم اليوم على الرب، فهو يغضب غداً على كل جماعة اسرائيل". إن لفظة "غداً" تدلّ على منعطف غير منتظر يحوّل الوضع السابق تحويلاً جذرياً. وهذا التحوّل يتم مراراً بفضل تدخّل الله. ويعبّر العهد القديم عن الفكرة عينها بعبارة أخرى حيث "اليوم وغداً" تعارض "اليوم الثالث". في خر 19: 10- 11 كلّم الرب موسى: "إذهب إلى الشعب وقدّسه اليوم وغداً. وليغسلوا ثيابهم. ليكونوا مستعدين لليوم الثالث، لأن الرب في اليوم الثالث ينزل على عيون كل الشعب على جبل سيناء" (رج 19: 16). نقابل هذا النصّ مع هو 6: 2: "بعد يومين يحيينا. وفي اليوم الثالث يقيمنا فنحيا أمامه". في هذين المثلين يتحقّق الأمر في "اليوم الثالث". إن عبارة "اليوم وغداً" في خر 19: 10- 11 تلعب الوظيفة التي لعبتها لفظة "اليوم" في تعبير السلسلة الأولى من النصوص. يبدو أنه يجب أن نفسّر عبارة لو 13: 32 (اليوم وغداً) في الإتجاه نفسه. "اليوم وغداً" يطرد يسوع الشياطين ويجري الاشفية و"في اليوم الثالث" يُقاد إلى النهاية. إذن لسنا أمام تعداد الأيام ثلاثة، بل أمام تعارض بين مرحلتين. ففي بعض الوقت (لا يحدّده هيرودس ولا الفريسيون) يكمّل يسوع رسالته حتى يموت. ولكن في "اليوم الثالث" يأتي التحوّل الغير المتوقع، لتمجيده بيد الله.
ثانياً: غداً وما بعده (آ 33)
إن التعبير عن الزمن في 13: 33 يلعب وظيفة أخرى. فاليوم الثالث يدلّ على وضع جديد كما في آ 32. في آ 32، لعب الفعل "تاليوماي" فعله، في آ 33: "بورياستاي". في آ 32، نحن أمام تعارض لاهوتي. في آ 33 نحن أمام تعداد زمني. أما معنى "التالي" (ايخوماني) فيثبته اع 20: 15 (اليوم الثاني، الثالث، الرابع).
إذا أخذنا بعين الإعتبار الموازاة التي تحدّثنا عنها سابقاً نجد (1) عبارة "اليوم وغداً واليوم التالي". نحن أمام عدد غير محدود من أيام سيواصل خلالها يسوع سفره إلى أورشليم. (2) إن عبارة في "اليوم الثالث أقاد إلى النهاية" (آ 32) تجد ما يقابلها في آ 23: "لا يليق أن يموت نبي خارج أورشليم".
هذا تفسير معقول شرط أن لا نرى تناقضاً بين نشاط يسوع في آ 32 ومواصلة السفر في آ 33. قال بعضهم: كيف يلبث يسوع لكي يجري الأشفية، ثم يواصل طريقه إلى أورشليم؟ سؤال لا يشكل صعوبة. فإن لوقا يرى أن نشاط يسوع يتحقق خلاله سفره من مدينة إلى مدينة (3: 1- 9: 50)، أو خلال سفره إلى أورشليم (9: 51- 19: 27). يكفينا لكي نرى هذا الواقع أن نتفحّص الإجمالات اللوقاوية حول رسالة يسوع. مثلاً، 4: 14- 15؛ 4: 42- 44؛ 8: 1 (ق 9: 6؛ 13: 22). إن أقوال يسوع وأفعاله ترتبط دوماً بفعل يدلّ على الحركة، ونقول الشيء عينه عن مقدّمة المقطوعات: إن يسوع يصنع معجزة بمناسبة عبوره في المدينة (7: 11؛ 8: 26، 27، 29)، وفي أع 10: 38 نقرأ عبارة تدل على نظرة لوقا ببعدها اللاهوتي: "سائر يعمل الخير".
4- يسوع نبي مثل إيليا
أعطيت في الأناجيل ألقاب عديدة ليسوع، ومنها لقب نبي. ففي مرقس سمّى الناس يسوع مرتين "النبي" (6: 15؛ 8: 28). إستعاد لوقا التسمية من هذين النصين (9: 8، 19)، وزاد ثلاثة نصوص خاصة به (7: 16؛ 7: 39؛ 24: 19). بالإضافة إلى ذلك، هناك مقطعان يطبّق فيهما يسوع على نفسه قولاً عن مصير الأنبياء: 4: 24 (= مر 6: 4)؛ 13: 33 ب. نستطيع أن نستنتج أن تسمية "يسوع النبي" جاءت إلى لوقا من التقليد، فأبرزها هو بطريقة شخصية. عرف متّى نمطيّة يسوع وموسى. أما لوقا فعرف نمطية يسوع وإيليا. غير أن الصورة اللوقاوية عن "يسوع النبي مثل إيليا" لا تبدو صارخة مثل نمطية يسوع وموسى في متّى. نحن بالأحِرى أمام تلميحات خفيّة يكتشفها القارئ المتنبّه.
ألغى لوقا نصين مرقسيّين يبدو فيهما يوحنا المعمدان على أنه إيليا النبي: مر 1: 6 (= مت 3: 4؛ ق 2 مل 1: 8)؛ مر 9: 9- 13 (= مت 17: 9- 13، أبرز مت 11: 14- 15؛ 17: 10- 13 التسامي بين إيليا ويوحنا المعمدان). هذا يدلّ على أن لوقا يشابه بين يسوع وإيليا والنبي، ونفسّر في الخط عينه إغفال لوقا في مر 15: 35 (ها هو ينادي إيليا).
وبجانب هذه الإغفالات، هناك إشارات إيجابية تدلّ على تأثّر لوقا بما دوّنته التوراة عن إيليا (1 مل 17- 19، 21؛ 2 مل 1- 2) لا مجال لذكرها.
نجد في دورة إيليا خبراً (1 مل 19) يقول إن إيزابيل، إمرأة أحاب الملك، بعثت برسول إلى إيليا تهدّده بالموت (آ 1- 2) لأنه قتل أنبياء البعل. ويعود موضوع مقتل الأنبياء مرتين في الفصل عينه (آ 15، 14) ولكن بطريقة معاكسة: أبناء إسرائيل قتلوا أنبياء الرب. وفي لو 22: 43- 44 دلّ الإنجيلي على أنه عرف هذا الخبر: فالتشجيع الذي حمله الملاك إلى يسوع يشبه ذاك الذي نعم به إيليا حين هرب من وجه إيزابيل (آ 5- 8). وفي لوقا 13: 31- 33 نجد تطبيقاً للموضوع: "ملك" يهدد يسوع النبي بالموت بواسطة أشخاص آخرين. ولكن يبقى اختلاف كبير. رأى إيليا هذا، فانطلق وهرب لينجو بحياته (آ 3). أما يسوع فردّ بأنه سيتابع رسالته الإلهية الو 13: 32- 33؛ رج عا 7: 10- 17). جاء ملاك وشدّد إيليا. أما يسوع فأكّد حالاً أنه يريد أن يتابع مسيرته في طريق إرادة الله. إذن، هناك موازاة بين يسوع وإيليا، مع تفوّق يسوع على النبي إيليا.
خاتمة
إن التحذير المرائي الذي أرسله الفريسيون يتضمّن عنصرين: نصيحة ليسوع تدعوه إلى الهرب. وأسباب هذا الهرب. ردّ يسوع في آ 32 على الأسباب فقال: لا يستطيع هيرودس أن يضع حداً لرسالة يسوع الإلهية. لهذا سيتابع يسوع عمله في طرد الشياطين وإجراء الأشفية بعض الوقت أيضاً، ولكن سيأتي يوم يقود فيه الله حياة يسوع إلى تمامها. لقد أشارت آ 32 بشكل مباشر إلى يسوع، وبشكل غير مباشر إلى الفريسيين: فتصريحه عن هيرودس يفهمهم أنهم لن يستطيعوا هم أيضاً أن يمنعوا يسوع من متابعة رسالته. بعد هذا (آ 33) إلتفت يسوع إلى الفريسيين: إن فشل محاولتكم سيكون خيبة لكم، ولكن لا تخافوا. فأنا سأذهب إلى أورشليم حيث أموت حسب مخطّط الله

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM