الفصل السادس والعشرون: المرأة في إنجيل يوحنا

الفصل السادس والعشرون
المرأة في إنجيل يوحنا
الأخت باسمة الخوري

تشهد الدراسات الكتابية واللاهوتية في هذه السنوات الأخيرة فورة كبيرة تتمحور حول موضوع المرأة في الكتاب المقدس، وانعكاساته على دورها ومكانتها في كنيسة اليوم. والرأي السائد شعبيًا يفيد بأن يسوع قد حرّر المرأة من العادات والتقاليد التي كانت تحدّ دورها بالأعمال المنزلية والعائلية، في بيئة يهودية لا ترحمها.
إن في هذا الرأي الكثير من الحقيقة. ألم يتكلّم يسوع مع السامرية، متخطيًا الأعراف (يو 4)؟ ألم يُرسل نساءً يبشّرن بقيامته بدلاً من رسله الرجال (يو 17:20-18)؟ ألم يخلّص امرأة كان من المفترض أن تُرجم لقلّة اخلاقيتها (يو 8: 1- 11)؟ ألم يحرّر النازفة من أثقالها بدلاً من معاقبتها لأنها لمسته هي النجسة (لو 13: 10-16)؟ إلخ... أجل لقد أعاد يسوع إلى الواجهة المساواة التي نقرأها في أول كتب التوراة "خلق الله الانسان على صورته ومثاله، رجلاً وامرأة خلقهم"، والتي يبدو أن ابناء عصره كانوا قد أضاعوها.
فما كان وضع المرأة اليهودية في القرن الأول؟
إن كان القرن الأول قد شهد دعمًا كبيرًا لوضع المرأة في العالم الروماني، حيث كانت النساء تلعب دورًا مهمًا جدًا في العبادات الوثنية، كما في طقوس ايزيس؛ فإن بعض الكتابات اليهودية التي وُضعت سنة 150 ب. م تشير إلى بعض التيالرات المناوئة لدور المرأة كما يظهر من هذه الصلاة التي تعود إلى أواخر القرن الثاني:
"مبارك أنت أيّها السيد لأنك لم تخلقني وثنيًا ولا امرأة ولا جاهلاً". ولكن تماشيًا مع التقديم الاجتماعي في الاطار الهليني، أخذ موضوع المرأة مكانًا شديد الأهمية في الكتب الحكمية (أمثال 31؛ جا 26؛ استير؛ يهوديت إلخ...)، وفي كتابات فيلون الاسكندري، وفي كتب فلافيوس يوسيفوس. ويتكلم كتاب أعمال الرسل عن جماعات نسائية يهودية كانت تجتمع للصلاة، ويقدّم ليديا على أنها أول المسيحيين الاوروبيين (أع 16: 14).
أما من الناحية العمليّة، فقد كان للمرأة اليهودية الحق بالامتلاك دون أن تكون لها صلاحية التعاطي بالاعمال التجارية؛ وقد كانت اليهوديات يذهبن إلى المجمع للصلاة ولانشاد المزامير؛ كما كان لهن مبدئيًا الحق بالقراءة، لكنهن لم يكنّ متعلّمات في غالب الأحيان. لكن كل هذا لا يعني أن المساواة بين الرجال والنساء كانت واردة بأي شكل من الأشكال، فأهمية المرأة الاساسية تبقى في دورها وسلطتها داخل عائلتها وبيتها.
من هذا المنطلق، يمكن قراءة الجديد الذي أتت به المسيحية، والتغيير الشجاع الذي أدخله يسوع. فمن المؤكّد أن تصرّفات الناصري كانت تبدو مستغربة، إن لم نقل مستهجنة، في عيون أبناء عصره. لقد كسر العديد من الحواجز، وأعطى للنساء دورًا مهمًا بغضّ النظر عن ردات فعل أبناء بيئته.

النساء في الإنجيل
لربما كان من الضروري، وقبل البدء بالدراسة، أن نذكّر بأن الاناجيل تنقل وجهة نظر كاتبيها، بحسب أسلوب كل منهم، فتقدم لنا فكر الإنجيليين اللاهوتي وفكر جماعاتهم. فالجماعات المتجذّرة في روما، أو في سوريا، أو في آسيا الصغرى، كانت تضمّ مسيحيّين ذوي ثقافة وماض ديني يهودي أو وثني، يختلفان بشكل كبير. فكان على الإنجيليين ترجمة البشارة وتقديمها لكل جماعة، بطريقة تتلاءم وثقافتها الخاصة، وبحسب ماضيها الديني والاجتماعي. فعندما يستعمل كل انجيلي التقاليد الشفهية والمكتوبة بطريقة خاصة، ليصف موقف يسوع من النساء اللواتي التقاهن، فهو يقدّم هذه المعطيات ويستعملها بحسب منظار الكنائس التي يكتب إليها في السنوات 70 أو 85 أو 100 م.
تتفق الأناجيل الأربعة على الشهادة بأن يسوع أعاد طرح موضوع العائلة القائمة على سلطة الآباء (مر 10: 29-30؛ متى 10: 37؛ لو 14: 62)، ليقدّم مثالاً عائليًا آخر قائمًا على المساواة بين الإخوة التلاميذ أبناء الآب الواحد (مر 3: 31-35)، وقد بدأ هذا المثال بالتحقّق منذ حياة يسوع، عندما لحقت به النساء من الجليل حتى أورشليم (مر 15: 31). فإن كانت التقاليد التي ترتكز الأناجيل عليها لا تذكر أي امرأة بين "الرسل الاثني عشر الذين أقامهم يسوع ليكونوا معه وأرسلهم يبشرون" (مر 3: 13- 14)، فإن الأناجيل الأربعة تعلن أن مجموعة التلاميذ المحدودة العدد كانت تضم عددًا من النساء اللواتي لعبن دورًا مميزًا في حدث الفصح. لكن رفض "الأحد عشر والذين كانوا معهم" لشهادة النساء بقيامة الرب (لو 24: 11)، دليل على رفض الرسل للرسولات، ومحاولة تغييبهن عن ساحة الاحداث، بدليل عدم ذكرهن في لائحة 1 كور 15: 5-8، في حين يعلن متى أن مريم المجدلية ومريم الأخرى هما أول من رأى يسوع القائم من الموت (متى 9:28-10)، وأنه ارسلهما ليعلنا قيامته لإخوته.

المرأة في إنجيل يوحنا
رغم أن إنجيل يوحنا لا يتفق كليًا والاناجيل الازائية، فأنه يتبع التركيبة الثلاثية نفسها: رسالة يسوع العلنية (كتاب الآيات يو 2-12)؛ قسم مخصص لتعليم التلاميذ (يو 13-17)؛ ونصوص الآلام والقيامة (يو 18-20). تتمحور توجيهات يسوع لتلاميذه في إنجيل يوحنا حول موضوعي المحبة والخدمة المتبادلة، في عالم لم يرحم يسوع ولا يرحم تلاميذه. من هنا يركز يوحنا على أن جماعة التلاميذ- الأصدقاء التي دعاها يسوع، ليست من هذا العالم. إنها مغايرة له من حيث مبادئها، كما من حيث ممارساتها. أما ما يُظهر خصوصيّة هذه الجماعة، فيبدو جليًا في نص غسل يسوع لأرجل تلاميذه والطلب منهم أن يقوموا بالعمل ذاته (يو 13: 1-20): "إن كنت أنا الرب والمعلم قد غسلت اقدامكم، فيجب عليكم أنتم أيضًا أن يغسل بعضكم أقدام بعض". فلا سلطة لأحد على الآخر إلا بالخدمة والمحبة الكاملة. من هنا نفهم عدم إظهار الاثني عشر بموقع الافضلية في الإنجيل الرابع. فكل أعضاء الجماعة قد نالوا الروح (يو 20: 22)، وجميعهم مولودون جددًا (يو 3: 2-9)، وقد أظهر يسوع القائم من الموت نفسه لكل التلاميذ وليس للاثني عشر فقط، ونال الجميع مسؤولية الرسالة (يو20: 21)، ولهم جميعًا أعطى السلطان على غفران الخطايا (يو20: 23). فالجماعة اليوحنوية هي جماعة تلاميذ يتساوى فيها الجميع بالمحبة والخدمة. وإن جعل الإنجيل الرابع الاثني عشر من عداد التلاميذ "خاصته"، فانه يضع دومًا بطرس (الناطق باسم الاثني عشر) في مقابل التلميذ الحبيب (ممثل التلاميذ)، مؤكدًا أولوية التلمذة على سلطة الاثني عشر. في هذا الاطار يتساوى الرجال والنساء. لكن ما يدعو للدهشة في الانجيل الرابع هو المكان الواسع الذي يعطيه الانجيلي للنساء، والدور المهم الذي يسنده اليهن في كامل مساحة كتابه، فنرى النساء في كل مفاصل الإنجيل المهمّة: ويمكننا حصر النصوص التي ترد فيها كلمة "إمرأة" بسبعة:
1- يوحنا 2: 1-12: يسوع يفتتح رسالته العلنية بمائدة عرس تلعب فيه "أم يسوع" المرأة الدور الأهم.
2- يوحنا 4: 1-42: في بداية رسالة يسوع العلنية يلتقي يسوع ويحاور امرأة غريبة فتكتشف هويته- يكشفها لها- ويجعل منها رسولة السامريين.
3- يوحنا 7: 53- 8: 11 يجتمع الكتبة والفريسيون حول "المرأة" الخاطئة وحول يسوع الغافر فيظهر كلٌ على حقيقته ويعرف القارئ أن يميّز وجه من ليسوا تلاميذ ليسوع.
4- يوحنا 16: 21 يستعمل مثل المرأة التي تلد بالأوجاع ليشبّه حالة التلميذ الحقيقي في العالم.
5- في يوحنا 18: 17 ينكر بطرس أمام خادمة أنه يعرف يسوع.
6- يوحنا 19: 25-27 يقدّم لنا أم يسوخ، ترافقها نساء أخريات والتلميذ الحبيب، واقفة تحت صليبه.
7- يوحنا 20: 1-2، 11-18 يقدّم لنا مسيرة مريم المجدلية التي تفتش عن الرب فتجده وتتعرّف إليه وتصبح رسولة الرسل بناء على طلبه.
ولكننا نضيف إلى هذه المراجع نصوصًا أخرى تأخذ مكانًا واسعًا وأهمية كبرى على صعيد تركيبة ولاهوت الإنجيل الرابع. فلا نغفل أهميّة نص قيامة لعازر حيث تلعب مرتا دورًا رياديًا- إلى جانب أختها مريم- (يو 11: 1- 44)؛ ونص دهن يسوع بالطيب في بيت عنيا حيث يأخذ دور مريم- إلى جانب أختها مرتا- الحصة الكبرى (يو 12: 1-8).
وإن كان بامكاننا دراسة هذه النصوص بطرق عديدة (بحسب الترتيب القصصي؛ أو بحسب الشخصيات؛ أو بحسب لاهوت الانجيل إلخ...) فان هذا البحث سيتناول النصوص بحسب ترتيبها، في محاولة لفهم ما أراده الانجيلي من خلالها.

آية قانا
يبدأ يوحنا رسالة يسوع العلنية بآية الخمر في قانا. يشدّد النص الأصلي الذي يرتكز عليه يوحنا على تأثير مريم أم يسوع على ابنها، فيقدّمها كمن تتدخل مباشرة لديه وتدفعه للقيام بأعجوبة مستعملاً قدرته لما فيه خير الأصحاب والعائلة (يو 2: 1-2، 12)؛ لكن الإنجيلي يعيد الامور إلى نصابها بعبارة يضعها على لسان يسوع "لم تأتِ ساعتي بعد". إن إرادة الآب تأتي أولاً.
والغريب في هذا النص أن الكاتب لا يتوقّف عند هوية العروس؛ فالمرأة التي يتمحور حولها النص هي أم يسوع، لكن ابنها يدعوها امرأة. إنها امرأة تظهر في مقابل الخدم من جهة وفي مقابل التلاميذ من جهة ثانية. فالتلاميذ حاضرون (يو 2: 1، 11-12) لكنهم صامتون وسلبيون لا دور لهم. وبالرغم من ذلك فإن النص يعلن في النهاية بأنهم "آمنوا به" بعدما رأوا مجده. إن حذر يسوع مع أمه المرأة، أوضح ماهية التلميذ الحقيقي فمهّد الطريق أمام إيمان التلاميذ.
ومريم المرأة تعرف أن تعطي النصيحة الفُضلى: "افعلوا ما يأمركم به". هذا ما نصحت به الخدم الذين ربما كانوا رمزًا للمسؤولين في الكنيسة (راجع أع 6: 1-6). هؤلاء الخدم مدعوون لتنفيذ هذا الأمر ليس لأنه من أم يسوع فقط، بل لأنه من إمرأة تلميذة مثالية. هنا يكمن العرس الحقيقي.

السامرية
يتبع يوحنا في الفصول الاربعة الاولى خطًا تصاعديًا يتطوّر من نقطة عدم الإيمان إلى الإيمان. فمن اليهود المشكّكين بالآيات التي يقوم بها يسوع (يو 18:2-20)، ينتقل إلى نيقوديمس الذي يؤمن بسبب الآيات دون أن يكوّن فكرة صحيحة عن يسوع (يو 23:2 ي)، ثمّ إلى السامرية التي تتعرّف إلى يسوع "كالمسيح مخلص العالم" (يو 25:4-26 و29)، فتشارك الغير بهذا الاكتشاف.
من خلال هذا النص- الحوار، يضع الانجيلي مهمّة تبشير السامريين ضمن إطار حياة يسوع التاريخيّة، وبناءً على مبادرة شخصية منه. فأن يكون الدور الاول في هذه المهمة، التي خرقت حواجز الاتنيات والعقائد، قد أعطي لامرأة فذلك أمر مهم جدًا. لقد حققت المرأة السامرية بنظر يوحنا، المشروع الذي بدأه يسوع والمتمثّل بـ "عبادة الله بالروح والحق".
يبدو الانجيلي في هذا النص وكأنه تغلب على صعوبتين كبيبرتين: إدخال المرأة في عداد المبشّرين من جهة، والدخول إلى عالم السامريين من جهة ثانية. فإن كان الرسل قد رافقوا يسوع إلى السامرة دون تردد (4: 8)، فإنهم ذهلوا لرؤية يسوع يتكلم إلى امرأة (27:4)، وهو أمر طبيعي إن كان يوحنا يعكس تصرفات يسوع التاريخية.
في النص تلازم لمشهدين متوازيين: مشهد يسوع مع المرأة السامرية من جهة؛ ومشهد يسوع مع تلاميذه من جهة ثانية؛ وكأن الانجيلي يضع حوار يسوع مع السامرية في صميم الحدث، في محاولة لبلورة دور التلميذ وإظهاره على حقيقته. وبالفعل فإن هذا النص يحوي أول مرجع لعبارة "أنا هو" في الإنجيل؛ يعلنها يسوع لامرأة بغض النظر عن عبادتها، موضحًا لها من هم عبّاد الآب الحقيقيون، في حين أنه لم يكن قد تكلّم بعد عن الآب لتلاميذه. كلّمها عن قوة ماء الحياة، رمز الروح، في حين أن تلاميذه لم يفهموا ذلك إلاّ بعد قيامته (يو 37:7-39). لقد أخذ ماء الحياة المتدفق من النبع بيغي مكان التقاليد السامرية القابعة في البئر فريار، فاصبحت المرأة أول رسولة لانجيل الحياة. لقد بذرت المرأة السامرية الزرع فحضّرت لخبرة السامريين الشخصية (4: 42)، وللحصاد الرسولي.

الزانية
بعد وجه المرأة السامرية يطلّ علينا وجه المرأة الزانية (7: 52-8: 11). إن النص للوقا بحسب إجماع العلماء، لكن أهميته تكمن في إطاره الحالي. يقع الفصلان 7 و8 في قلب المجادلات مع اليهود وخاصة مع الفريسيين الذين يحاولون الايقاع بيسوع الذي يشجب الخطيئة أي عدم الإيمان به. في هذا الاطار يأتونه بخاطئة، زانية تحكم عليها الشريعة بالرجم ويعلن الفريسيون هذا الحكم أمام يسوع (8: 5). يتوجه يسوع للزانية مناديًا إياها "امرأة"، فيلعب حواره معها دورًا في توضيح صورة من لينسوا بتلاميذه أي اليهود في الفصول 5-10.

مرتا ومريم
لا يكتفي يوحنا باعطاء النساء مكانًا قريبًا من يسوع، كما أنه لا يكتفي باظهار أهمية الحوار معهن لجهة كشف هوية يسوع الحقيقية، بل يبدو وكأنه يعطي لامرأة دورًا ينسبه التقليد لرجل هو بطرس، وذلك في أهم حدثين:
الاول إعلان مسيحانية يسوع في قيصرية فيلبس "أنت المسيح إبن الله الحيّ" (متى 16: 16). والثاني إنه أول من رأى المسيح القائم من الموت (1 كور 8:15- 11). وفي كلتا الحالتين تأخذ امرأة هذا الدور. مرتا التي تعلن إيمانها من جهة (27:11)، ومريم المجدلية التي رأت القائم من الموت فأرسلها تبشر (17:20-18).
تظهر مرتا في الفصول 11-12 من الإنجيل الرابع حيث جمع يوحنا كل النصوص المتعلّقة بالتقاليد المختصة ببيت عينا فوضعها في مرحلة ما قبل آلام يسوع. في هذين الفصلين، يشهد القارئ تدخل النساء في نصين متلاحقين. في نص قيامة لعازر حوار مطوّل مع الاختين مرتا ومريم يبدو وكأنه تحضير غير مباشر لموت وقيامة الرب، يليه نص دهن يسوع بالطيب، وقد ربطه يوحنا بحدث قيامة لعازر من جهة (11: 2؛ 3:12)، وبموت يسوع من جهة ثانية (7:12-8).
تظهر الاختان مريم ومرتا في إنجيل لوقا 38:10-40، لكن يوحنا يقدّمهما في إطار عائلة تضمهما إلى جانب أخ لهما اسمه لعازر. هذا النوع من العائلة- الأخوّة، بعيد تمام البعد عن مثال العائلة القائمة على سلطة الأب، والتي كانت سائدة قي تلك الايام. إن في تقديم عائلة كهذه، اشارة إلى العائلة الجديدة التي تؤلفها جماعة التلاميذ الإخوة. وبالفعل فإن تركيز الإنجيلي على "أن يسوع كان يحب مرتا وأختها ولعازر" (يو 11: 5؛ راجع 3:11- 11، 35)، يبدو تشديدًا على هذه الفكرة من حيث إنه يضع مرتا ومريم ولعازر في عداد التلاميذ.
وأكثر من هذا، فإن يوحنا يضع الاعلان المسيحاني الأهم- الذي استحق لبطرس لقب الصخرة التي ستبنى عليها الكنيسة- على لسان مرتا (يو 11: 26- 27)، كما يوجّه إليها العبارة التي تشكل أهم إعلانات يسوع عن ذاته "أنا القيامة والحياة" (يو 11: 25)؛ ويجعل من آية قيامة لعازر- التي تتضمّن إعلانه عن نفسه كالقيامة والحياة؛ وإعلان مرتا عن مسيحانيته- مقدّمة لآلام وموت يسوع، في تأكيد على أن يسوع الذي سيُصلب هو القيامة والحياة.
تبدو مرتا التلميذة، كالناطقة بايمان جماعتها المؤمنة، تمامًا كما يمثّل بطرس إيمان جماعته بحسب متى 16: 15-19. ويكمّل نص دهن يسوع بالطيب بلورة شخصيتها ودورها فيقدمها على أنها المرأة التي تخدم (دياكوناين) مائدة يسوع (يو 12: 2).
فإن قرأنا فعل دياكوناين من خلال إطار حياة يسوع التاريخية، لما استطعنا إعطاءه أي أهمية خاصة خارج معنى الخدمة العادية البسيطة. لكن إن قرأناه في إطار السنوات 90- 100، تاريخ كتابة الانجيل الرابع، لأمكننا فهمه من منظار رتبة الـ دياكونوس التي كانت موجودة في الكنائس الرعائية، وحيث كانت خدمة المائدة تقتصر على بعض الاشخاص المرسومين بوضع الأيدي (أع 6: 1-6). فهل كانت نساء الجماعة اليوحنوية يقمن بمهات لا يقوم بها سوى رجال في الجماعات الآخرى؟
وفي حين تعلن مرتا لاهوت الإيمان المسيحي وتجسّده في مهمة كنسيّة جماعية، تظهر مريم بمظهر التلميذ الحقيقي الذي يعلن أمام الجميع مسيحانية يسوع. فهي التي دهنت رجليه بالطيب الغالي علنًا ورغم احتجاجات "أحد تلاميذه" الذي لم يفهم كيف تبذر مريم المال على قدمي الرب (كان مبلغ 300 درهم يشكل أجرة عامل لمدة سنة كاملة)، في حين أن من طيّب يسوع بعد موته هما تلميذان بالخفاء خوفًا من اليهود (يوسف الرامي ونيقوديمس، يو 19: 38- 39).
يتلاقى نص دهن يسوع بالطيب في بيت عنيا مع رواية الازائيين لهذا الحدث (متى 26: 1، 6؛ مر 14: 3، 9). لكن التقليد اليوحنوي لم يترك شخصية المرأة مجهولة كما فعل الازائيون، وزاد على تصرفات مريم تفاصيل تذكرنا بغسل يسوع لأرجل تلاميذه. نرى مريم تمسح رجلي يسوع بشعرها، في حين يمسح يسوع أرجل تلاميذه بمنشفة (يو 13: 5)؛ وفي حين نرى يهوذا محتجًا على تصرفات مريم، يحتج بطرس على تصرفات يسوع (يو 6:13-8). مريم هي التلميذة الحقيقية بنظر يوحنا، ومن ينتقدها- وإن كان تلميذًا- هو خائن ليس لها فقط، بل ليسوع نفسه. لكن يسوع حاضر، وهو من يدافع عن تلاميذه الأمناء في وجه كل خائن. إن محبة مريم الكبيرة ليسوع وتكريمها له، هما تعبير عن تكريمها لموته ولقيامته (يو 12: 7).
في كل الاحوال، يبدو واضحًا أن يوحنا أراد من خلال تقديمه عائلة بيت عنيا المؤمنة، وذكره لممارستها للعبادات "المسيحية"، ولاجتماعها حول مائدة الرب؛ ولمواجهتها لانتقادات أحد التلاميذ وهو "أحد الاثني عشر" (يو 6: 71)؛ ولتعرّضها لخطر اليهود (يو 12: 10)، أراد أن يقدّم مثالاً للجماعة المسيحية الجديدة، القائمة لا على السلطة بل على المساواة الأخوية والإيمان الحق.

"أم يسوع" مرة ثانية
ويعود يوحنا في الفصل 25:19-27 ليقدم لنا "أم يسوع". إنها تحت الصليب تتأمل إبنها ومعها نساء أخريات والتلميذ الحبيب مثال التلميذ بحسب يوحنا. وكما في آية قانا في بدء الإنجيل، يتوجه يسوع إلى أمه مناديًا إياها "يا امرأة"، ويعهد إليها بالتلميذ الحبيب.
لقد حظي هذا النص (يو 19: 25-27) بدراسات عديدة، وقد أعطي الحدث تفسيرات رمزية كثيرة، لكن التفسير الأبلغ هو تأكيد يوحنا بأن "أم يسوع" قد شكلّت، منذ موت وقيامة يسوع، عنصرًا فاعلاً في الجماعة اليوحنوية. وفي هذا الإطار نفهم أهمية عدم إعطاء "أم يسوع" و"التلميذ الحبيب" أي اسم خارج هذين اللقبين. إن أهميتهما تكمن في كونهما تلميذين. وهكذا فإن يسوع ترك عند موته لأمه "المرأة"، رسالة التدخل في الجماعة ليس لأنها أمه البشرية، بل كأم للتلميذ الحبيب، جاعلاً منه إبنًا لها وبالتالي أخًا له. لقد أخذت جماعة إخوة يسوع مكان العائلة التقليدية؛ وقد ارسى يسوع بموته وقيامته اسس عائلة التلاميذ الجديدة جاعلاً منهم إخوة له وأخوات. "لكل الذين يؤمنون به أعطاهم السلطان أن يكونوا أبناء الله" (يو 1: 11-12).

مريم المجدلية
في آخر ذكر لإمرأة في الإنجيل الرابع تبرز مريم المجدلية. نراها واقفة تحت الصليب مع أم يسوع واخت أمه ومع التلميذ الحبيب. مريم عند يوحنا ليست- كما هي الحال عند الإزائيين- على رأس مجموعة فاعلة من النساء، تقف لتراقب عن بعد؛ بل نراها عند الصليب مباشرة (يو 25:19) تشهد موته كما ستشهد قيامته باكتشافها القبر الفارغ، وبظهور القائم من الموت لها قبل أي آخر، فتنطلق لتعلن البشرى: "لقد رأيت الرب وهذا ما قاله لي" (يو 20: 18). مريم هي "رسولة الرسل".
يقدّم يوحنا 20 الحدث على أنه مسيرتان متوازيتان نحو القبر. مسيرة المجدلية (20: 1-2، 11-18) من جهة، ومسيرة التلميذين من جهة ثانية (3:20-10).
في حوار يسوع مع مريم كشفٌ تدريجي لهويته. فكما وقفت السامرية أمام البئر دون أن تكتشف النبع إلاّ رويدًا رويدًا، هكذا تنحني المجدلية أمام القبر وقد أعمت عينيها الدموع فلا تخرج من يأسها إلاّ رويدًا. نرى مريم تتوب بالتفاتتها إلى الوراء، فتتعرف إلى يسوع القائم من الموت فتصبح بدورها رسولة كما السامريّة. لقد كشف يسوع لها العبادة الحقيقية القائمة لا على لمسه بل بالذهاب إلى الإخوة وتبشيرهم بأن الله أب. لقد أدخلت قيامة المسيح بعدًا جديدًا للحياة مع الله، والمجدلية هي أول من أخبر بذلك بناء على مبادرة الرب شخصيًا (16:20-18).
مسيرة المجدلية هي مسيرة التلميذ الحقيقي. فبالرغم من حزنها فتشت عن الرب... ووجدته. تعرّفت مريم على هوية يسوع عندما ناداها باسمها (يو 20: 16)، وفي هذا عودة إلى يو 10 حيث يقول يسوع بأنه الراعي الصالح ينادي خرافه بإسمائها، وبأن خرافه تعرف صوته. وهذا ما حدث مع مريم المجدلية. يصف يسوع خرافه بأنها خاصته (يو10: 3- 5)، فمريم إذًا من خاصته وهو يبذل نفسه عن خاصته (يو 12: 1). عرفت مريم صوته، فأتى جوابها جواب التلميذ الحق "رابوني"، واعترفت به معلمًا.
إن دور مريم المجدلية، كما يبرزه يوحنا، هو دليل على أن الإنجيلي يسعى لإعادة التوازن إلى معادلة السلطة في الجماعة اليوحنوية، من خلال التخفيف من ثقل الادوار المعطاة لبطرس وللاثني عشر، وذلك عن طريق إبراز أهمية جماعة التلاميذ المؤمنين- أو بالاحرى جماعة التلميذ الحبيب- وأهمية علاقتهم الشخصية بيسوع.
ففي تفكير القديس بولس يبدو أن الشرطين الاساسيين للرسول هو أن يكون قد رأى القائم من الموت من جهة، وإن يكون يسوع القائم من الموت قد أرسله يبشّر من جهة ثانية (1 كور 9: 1-2؛ 8:15- 11؛ غلا 1: 11-16). وفي حين أعطيت كل الاهمية لبطرس ولرسالته- لأنه أول من رأى المسيح القائم من الموت- (1 كور 15: 5)، يبدو يوحنا وكأنه يعيد النظر بهذا التقليد، فيعلن أن مريم المجدلية هي أول من رأت المسيح بعد قيامته وآمنت به فأرسلها لتعلن لإخوته بأنه صاعد إلى الآب (يو 20: 17-18). ولا يتردّد يوحنا بوضع بطرس والتلميذ الحبيب في خط مواز للمجدلية، فيظهرهما في موقف المفتش، ويعلن أنهما ذهبا إلى القبر فوجداه فارغًا، لكنهما لم يريا يسوع (يو20: 2- 10)؛ وبأن التلميذ الحبيب وحده فهم وآمن، بعد أن رأى الاكفان.
لقد لعبت مريم المجدلية دورًا رائدًا في إعلان بشرى القيامة فكانت دون أي شك من بين الرسل الأوائل؛ لكن الصمت الذي يكتنف ذكراها يعكس الخوف من قوة هذه المرأة المزعجة، في محيط يهودي لا تقوم فيه إلاّ شهادة الرجل، وفي كنيسة نامية تضع الأسس لخدمات لا تعطي أهمية كبيرة للنبوءة، وتتجسد بالغالبية التي يمثلها خطى بطرس وبولس، على حساب شخصيّات الإنجيل الرابع وجماعات الاقليات.

خاتمة واستنتاجات
في نهاية البحث، يمكننا التأكيد بأن النصوص التي تظهر فيها المرأة في الإنجيل الرابع، تأخذ مكانًا استراتيجيًا هامًا. فهذا الإنجيل، بحسب تصميمه وتركيبته، مزروع في أمكنة ماسة بمراجع عن نساء مهمات.
الإنجيل مصمم بطريقة تكشف مسيحانية يسوع كلما تقدّمت الحبكة القصصية فصلاً بعد فصل. في البداية يعلن يسوع مسيحًا (الفصل الاول)، ثمّ يبدأ بالإعلان عن نفسه من خلال الحوارات (يو 3-4)؛ بعد ذلك يعلن عن ذاته أنه ابن الله مما يثير ردات فعل اليهود (يو 5-6)، والجدالات الحادة (يو 7- 10)؛ وابتداءً من الفصل العاشر يعلن يسوع أنه ابن الله الوحيد الذي يعطي الحياة. وإن أردنا اتباع خط آخر للقراءة، لأمكننا إيجاده في إعلان التلاميذ لايمانهم. فمنع أنهم يعترفون بيسوع مسيحًا منذ الفصل الاول، مما يثير انتباه القارئ إلى اهميتهم، فأنهم يصمتون فصلاً بعد الآخر وذلك حتى الفصل الثالث عشر، فيظهرون إما غائبين عن ساحة الاحداث، وإما غير فاهمين لما يجري. أما بعد الفصل الثالث عشر، حيث يدخل التلميذ الحبيب، فأنهم يصبحون في طور التعلّم، فيكشف لهم يسوع سرّ الآب والروح. لكنهم لن يبدأوا بالفهم الصحيح إلا بعد أن يعطيهم يسوع الروح عند قيامته من الاموات (يو 20: 22).
إن راقبنا النصوص المتعلقة بالنساء بحسب هذين الخطين، نلاحظ بما لا يقبل الشك أنهن السبّاقات دومًا إن بالاصغاء أو بالفهم. من هنا يمكننا القول بأن دور المرأة في الإنجيل الرابع ليس للقراءة من منظار مرأة- رجل، بل من منظار الإنسان المؤمن، والتلميذ الحق. فأهمية النساء عند يوحنا لا تكمن فقط بمقارتهن بالرسل بحسب الازائيين، ولكن بدراسة دورهن كما يُظهره يوحنا. فأهم الادوار بالنسبة له هو دور التلميذ، والتلميذ الاول هو ذاك الذي كان يحبه يسوع، لكن يوحنا يعلن أن يسوع كان يحب مريم وأختها ولعازر.
لوحة بعد لوحة، يقدّم لنا الإنجيلي المطلوب من التلميذ، من خلال لقاءات يسوع مع النساء؛ كما يشدد على أن علاقة التلميذ بيسوع المعلم تقوم على الإيمان، لأنها مسيرة علاقة إيمانية شخصية لا علاقة لها بالتذكير والتأنيب.
إن الصورة التي يعطيها يوحنا للنساء توضح لنا ما لا نراه عادة إلا من خلال العادات والتقاليد اليهودية. لقد أتى يسوع بالجديد في هذا الاطار كما في غيره. فقد أحب النساء كتلميذات كما أحب تلاميذه الرجال (يو 11: 5)؛ وكان له معهن علاقات شخصية؛ وكشف لهن عن ذاته في أهم ثلاثة مواقف. فأعلن للسامرية عن مسيحانيته (يو 4: 25-26 و29)، ولمرتا بأنه القيامة والحياة (يو 11: 25)؛ وللمجدلية قيامته والخلاص (يو 17:20-18). إن رسالتهن مهمة جدًا، إن في إعلان الإيمان الحق كما فعلت مرتا (يو 11: 26-27)؛ أو في الشهادة للإنجيل كما فعلت السامرية (يو 28:4-29)؛ أو في كونهن تلميذات في مدرسة الرب كما في حال مريم بيت عينا؛ أو في القيام بدور الرسول كما فعلت مريم المجدلية (يو 20: 16-18)؛ أو في توجيه الخدم في الكنيسة لفعل إرادة الرب دومًا (يو 2: 5) وتحّمل مسؤولية رفع التلاميذ لمستوى إخوة يسوع (يو 19: 27) كما في حال المرأة "أم يسوع".
وفي كل الاحوال نراهن يأخذن الدور الأول في الحوارات مع يسوع. ونراهنّ يأخذن المبادرات على كل الاصعدة (مريم في قانا؛ السامرية تجاه أهل بلدها، ومرتا تجاه مرض أخيها؛ ومريم اختها تجاه يسوع وتكريمه؛ والمجدلية في تفتيشها عن الرب)، فيعتبرهن الانجيلي رسولات وشاهدات كما يعتبرهن تلميذات. هذه الصورة الإيجابية، التي يرسمها يوحنا للنساء في إنجيله، تدفعنا للتفكير بأنهن كنّ يتمتّعن بدور مميّز في الجماعات اليوحناوية. وبالفعل، فإن الإنجيل الرابع يعطي النساء دورًا أساسيًا لدرجة أنه ينسب اليهن أدوارًا نسبتها جماعات أخرى لبطرس (إعلان الإيمان الحق على لسان مرتا، والظهور الأول ليسوع القائم من الموت لمريم المجدلية).
لكنّنا نلاحظ أن هذا لم يكن مقبولاً من الجميع. ولنا في الإنجيل مثالان على ذلك. فمن ناحية نحن نشهد في نص السامرية تعجّب التلاميذ واستهجانهم لموقف يسوع من المرأة؛ ومن ناحية ثانية نشهد عنف موقف يهوذا من موقف مريم في بيت عنيا. مع ذلك نشهد، إلى جانب الرافضين، مواقف تقبل دور النساء بايجابية تامّة، كما هو الحال مع السامريين الذين لبّوا دعوة السامرية؛ والتلاميذ الذين قبلوا شهادة المجدلية بعد القيامة.
فلو كان يوحنا هو من كتب أعمال الرسل هل كنا شهدنا نقلة نوعية تتمثّل باختيار احدى الرسولات مكان يهوذا (1 أع 1: 15-16)؟ ربما كان بامكاننا الرد بالايجاب. ولم لا، فلوقا يعلن منذ البدء رفض الرسل للرسولات ولشهادتهنّ داخل الجماعة المؤمنة (لو 24: 11)، فكيف يقبلون بهنّ رسولات خارج الجماعة؟ فإن يكن صحيحًا أنه لم يكن بين الاثني عشر نساء، وأن يسوع لم يخترهن كتلميذات له أو كمرسلات لإعلان البشرى للعالم أجمع، فأنه لم يتلفظ أبدًا بأي عبارة تحرمهن هذا الحق أو تستثنيهن منه، في حين حرّم بعض الأشياء في إطارات أخرى. وإن تكن النساء غائبات عن عشاء يسوع الاخير الذي حرم النساء من الخدمة الكهنوتية، فإن غيابهن عن هذا العشاء بحسب يوحنا لم يحرمهن من الخدمة الوضيعة المتمثلة بغسل الارجل والذي شكّل شرطا أساسيًا لقبول المرأة في جماعة الارامل (1 تم 5: 10). فكيف تفسّر وصيّة يسوع "إفعلوا هذا لذكري" (لو 19:22) و"اصنعوا أنتم أيضًا ما صنعت إليكم" (يو 13: 16) على نحوين مختلفين، بحسب الخدمة المرادة؟
لقد أعاد يوحنا إلى الواجهة حالة التلميذ كتلميذ أمين لتعاليم الرب على ضوء العلاقة بالمسيح القائم من الموت وليس على ضوء الخدم الكنسية والسلطة في الجماعة. لربما حان الوقت لنقرأ إنجيل يوحنا فنعيد بدورنا طرح دور التلميذ على ضوء التلمذة الحقيقيّة والامانة الحيّة ليسوع الناصري بغض النظر عن كون التلميذ رجلاً أو امرأة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM