الفصل الثاني والعشرون: الثبات في انجيل يوحنا

الفصل الثاني والعشرون
الثبات في انجيل يوحنا
الآب نجيب ابراهيم الفرنسيسكاني

المقدمة
كلمة "يثبت- يقيم" ترد 118 مرة في العهد الجديد. أمّا في الانجيل الرابع فترد 40 مرة (في 33 آية) و27 مرة في رسائل يوحنا أي ما يشكّل 57 في المئة من مجموع النصوص في العهد الجديد، مما يعني أهميّة الموضوع في تعليم كتابات يوحنا. ونلاحظ أن الكلمة ترد 5 مرات في الفصل الأول و11 مرة في الفصل الخامس عشر من الانجيل حيث الاستعمال الاكبر. وإذا أردنا إكمال الصورة علينا أن نذكر كلمة منزل في 14: 3 و23.
لدينا في الانجيل الرابع معنى غير لاهوتي أي الاقامة في مكان ما خلال زمن معيّن (12:2؛ 40:4؛ 9:7؛ 40:10؛ 6:11؛ 54:11؛ 14: 22، 23)؛ ومعنى لاهوتي في باقي النصوص. بعض الأحيان يمكن للكلمة ان يكون لها معنى غير لاهوتي ولاهوتي في الوقت نفسه، مثلا في 4: 40 حيث يطلب السامريون من يسوع الاقامة عندهم.
سوف نتوقّف عند الفصل الخامس عشر بنوع خاص. ولكن نبدأ قراءتنا من خلال استعراض سريع للموضوع في الانجيل عامّة.

1- موضوع الثبات في الانجيل
1) مصدر وهدف الثبات
نجد هذه الكلمة لاول مرة في 1: 32-34:
"وشهد يوحنا قال: رأيت الروح ينزل من السماء كأنّه حمامة فيستقرّ عليه. وأنا لم أكن أعرفه، ولكنّ الذي أرسلني أعمّد في الماء هو قال لي: إنّ الذي ترى الروح ينزل فيستقرّ عليه، هو ذاك الّذي يعمّد في الروح القدس. وأنا رأيت وشهدت أنّه هو ابن الله".
إذن يستقرّ الروح على يسوع وهو الابن الذي يبدأ الرسالة الموكلة إليه. هذه الرسالة ليست إلاّ اظهارا لهذه الوحدة التي تجمع بين الآب والابن الذي يستقرّ عليه الروح باستمرار ليعمّد بالروح القدس.
وفي حديث الوداع يعتر يسوع عن هذه الوحدة التي تجمع بينه وبين الآب. في يسوع يقيم الآب. لذلك من رأى يسوع يرى الآب:
"من رآني رأى الآب. فكيف تقول: أرنا الآب؟ ألا تؤمن بأنّي في الآب وأنّ الآب في؟ إنّ الكلام الّذي قلته لكم لا أقوله من عندي بل الآب المقيم فيّ يعمل أعماله".
الروح يستقرّ على يسوع في بداية رسالته العلنّة والآب مقيم في يسوع الذي يعمل أعمال الآب. هذه هي رسالة يسوع: أن نصل إلى ما هو عليه من وحدة مع الآب بالروح القدس. علاقة يسوع مع الآب هي أساس علاقة التلاميذ معه، وهذه تكون بالثبات أي في العيش باستمرار في علاقة حضور متبادل بين التلميذ ويسوع، تستوحي معناها وتستقي قوّتها من علاقة يسوع مع الآب بالروح القدس.
2) دعوة التلميذ هي الثبات في يسوع
دعوة اول تلميذين في يوحنا 1: 35-39:
"وكان يوحنّا في الغد أيضًا قائمًا هناك، ومعه اثنان من تلاميذه. فحدّق إلى يسوع وهو سائر وقال: "هوذا حمل الله". فسمع التّلميذان كلامه فتبعا يسوع. فالتفت يسوع فرأهما يتبعانه فقال لهما: "ماذا تريدان؟" قالا له: "رابّي (أي يا معلّم) أين تقيم؟" فقال لهما: "هلمّا فانظرا!" فذهبا ونظرا أين يقيم، فأقاما عنده ذلك اليوم، وكانت السّاعة نحو الرّابعة بعد الظّهر".
قبل كل شيء علينا الانتباه لمكان هذا النّص في الجزء الافتتاحي: 1: 19-2: 11 الذي يشكّل المقدمة التاريخية اللانجيل. ودعوة التلميذين الاولين هي بمثابة افتتاح مسيرة الايمان واتباع يسوع حسب الانجيل الرابع. لننتبه لبعض الافعال مثل "سمع" و"تبع" في النص. وهذا استعمال مهم في الانجيل ويعبّر عن مسيرة الايمان. ولكن لنتوقف عند فعل الاقامة الذي يكلّل دعوة التلاميذ في الرواية. الاقامة عند يسوع هي هدف دعوة التلميذ. ولكن ليس ليسوع مكان إقامة ثابت سوى حضن الآب (18:1 راجع 23:13). هذا هو مكان الحياة الذي اكتشفه التلميذان، ودعوتُهما هي مثال مسيرة الايمان التي يوسّعها الانجيل لاحقًا.
ولكن كيف يمكن للتلميذ ان يستمرّ بالاقامة مع يسوع؟
3) كلام الله يعطينا نعمة الثبات
في معرض كلام يسوع عن أعماله التي هي أعمال الآب، يقول للذين يضطهدونه لانّه شفى المقعد يوم السبت:
"والآب الذي أرسلني هو شهد لي. أنتم لم تصغوا إلى صوته قطّ، ولا رأيتم وجهه. وكلمته لا تثبت فيكم، لانّكم لا تؤمنون بمن أرسل. تتصفّحون الكتب، تظنّون أنّ لكم فيها الحياة الأبديّة فهي تشهد لي. وانتم لا تريدون ان تقبلوا إليّ، فتكون لكم الحياة" (5: 37-39).
من خلال كلام يسوع نفهم انّ هناك علاقة بين كلام الله والاقبال إلى يسوع. لا يكفي أن نقرأ الكتب المقدّسة اذا لم يكن هدفنا الاقبال إلى يسوع. هناك علاقة وثيقة بين الاصغاء إلى صوت الله الذي يكلّمنا في الكتاب المقدّس والاقبال بايمان إلى يسوع. والاصغاء إلى صوت الله هو في نهاية الامر إصغاء ليسوع الذي يحرّرنا من عبودية الخطيئة لنكون أبناء الله:
"إن ثبتّم في كلامي، كنتم تلاميذي حقًا، تعرفون الحقّ، والحقّ يحرّركم" (8: 31-33). إذا أردنا أن نكون تلاميذ يسوع علينا أن نقيم في كلامه لأنّ كلام يسوع هو كلام الله (راجع 14: 10) الذي يعطينا حريّة أبناء الله. والّذين يثبتون في كلام يسوع ويحفظون كلامه، يعيشون في نور الحقّ وينالون الحياة الأبديّة:
"من يحفظ كلامي لا يذق الموت أبدًا" (8: 52).
وأخيرا وحدها الاقامة في كلام يسوع تعلّمنا الصلاة وتفسح المجال أمامنا لنسأل الله ما شئنا من ثمار الفضائل الالهية من ايمان ومحبّة ورجاء وفرح وسلام:
"إذا ثبتّم فيّ وثبت كلامي فيكم، فاسألوا ما شئتم يكن لكم" (16: 7).
نلاحظ في هذه الآية التوازي بين يسوع وكلام يسوع. كلام الله، كلام الانجيل يؤهلّنا لصداقة يسوع، الحاضر بيننا والذي به ومعه وفيه نرفع الصلاة والشكر الى الآب، مانح الحياة والفرح والسلام (راجع 16: 24 و33).
4) الثبات وخبز الحياة
في الفصل السادس من انجيل يوحنا ترد هذه الكلمة "يثبت- يقيم" مرتين:
-27:6:
"لا تعملوا للطّعام الذي يفنى
بل اعملوا للطّعام الّذي يبقى فيصير حياة ابدية
ذاك الّذي يعطيكموه ابن الانسان
فهو الّذي ختمه الآب، الله نفسه، بختمه".
- 6: 56: "من أكل جسدي وشرب دمي
ثبت فيّ وثبتُّ فيه.
وكما أنّ الآب الحيّ أرسلني وأنّي أحيا بالآب
فكذلك الّذي يأكلني سيحيا بي".
سر الافخارستيا (جسدي ودمي) يبني الوحدة مع المسيح. فإذا اشتركنا بإيمان بجسد الرّبّ ودمه، نقبل المسيح في حياتنا فيلازم كياننا. المسيح يعطي ذاته بكلّيتها، جسدًا ونفسًا والوهية، تحت شكلي الخبز والخمر. وبهذا العطاء يصبح هو مركز حياتنا. يسوع يحيا بالآب الذي أرسله، والتلميذ الذي يشترك بهذا السّرّ يحيا بالمسيح. المناولة هي إذا استجابة لمحبّة المسيح الذي يعطي ذاته. نقابل محبّته بالمحبّة ونعطي ذاتنا كما أعطى ذاته. فاشتراكنا بجسد المسيح ودمه، إذا ما تمّ بالايمان، يلزمنا بالعطاء فلا نحيا بعد اليوم لذاتنا بل للّذي مات وقام من بين الاموات من أجلنا. وهذا العطاء المستمرّ هو ثبات بيسوع.
إنّه أيضا سرّ الايمان. يسوع يدعونا الى العمل من أجل الخبز الذي يبقى ويصبح حياة ابدية. كيف نعمل وماذا نعمل؟ يسوع يقول:
"عملُ الله ان تؤمنوا بمن أرسل" (6: 29).
حقيقةُ الخبز الذي يبقى، مرتبطةٌ إذا بعمل الله، بالايمان. هذا ما تعلّمنا إياه الكنيسة من خلال الاحتفال بسر الافخارستيا.
والاقبال بايمان إلى يسوع في سرّ الافخارستيا يعطينا الحياة التي تدوم. إنّه سرّ الثبات في يسوع، والثبات وحدة حياة مع الحيّ الذي يحيينا ويجمعنا. إنّه سرّ الكنيسة.
وفي نهاية هذه القراءة السّريعة للموضوع في انجيل يوحنا، نريد ان نتوقّف بنوع خاص في الفصل 15 وتحدّدا في 15: 1-17. كلمة "ثبت- أقام" ترد 11 مرة في هذا الفصل من انجيل يوحنا حيث يكلّمنا يسوع عن الكرمة الحق. يبدو إذا أنّ الرمز التمثيلي يكلّل بالفعل موضوع الثبات في الانجيل الرابع.
بعد خروج يهوذا الإسخريوطيّ من مكان العشاء الأخير (13: 31)، يتكلّم يسوع مع تلاميذه. أحاديث الوداع موجّهة بنوع خاص إلى الجماعة المؤمنة أي إلى الكنيسة. يذكر يسوع عدّة مرات موضوع ذهابه وعودته. ومن الجدير بالذكر الوضع الصعب الّذي يعيشه التلاميذ وهم معرّضون للاضطهاد في المجامع (16: 2) ومن العالم (15: 18): فهل يصبحون أيتامًا (راجع 14: 18)؟
لا يكفي أن نكون مسيحيين، بل علينا الثبات متحدين بيسوع المسيح مثل الاغصان مع الكرمة (يوحنا 15). فالفصل 15 يبدو أنّه يجيب على تساؤلات ومشاكل الجماعة: تراجعٌ في ايمِان بعض التلاميذ، ونقص في المحبّة الأخويّة. لذلك يطرح الانجيلي موضوع الأمانة للتقليد الذي قبله أولئك "الذين كانوا معه منذ البدء" وهو الوحي الالهي (راجع 15: 27). علينا إذا أن ننتبه لهذا السياق حتى نفهم ونفسّر موضوع الثبات في الفصل 15.

2- أنا الكرمة الحق 15: 1-17
1) حدود النّص
وضع يوحنا هذا النّص في سياق أحاديث الوداع، وموضوعه الاساسي هو الكرمة. فبعد نهاية أولى للحديث في 14: 31 ("قوموا نذهب من ههنا")، فجأة يبدأ حديثا آخر في 15: 1: "أنا الكرمة الحقّ، وأبي هو الكرّام". ويستمر بالموضوع حتى الآية 16 حيث نجد موضوع الثمر الوارد ذكره سابقا في النّص (كلمة ثمر ترد 8 مرات في الآيات 2 و4 و5 و8 و16 وفي باقي الانجيل مرتين فقط، في 36:4 و12: 24). أما الآية 17 فيجب أن تبقى متصّلة بما سبق، لأنّ وصيّة المحبّة ورد ذكرها سابقا في آ 9 وآ 12. أما الآية 18 فتبدأ موضوعًا جديدًا يتعلّق بالبغض. إذا باستطاعتنا أن نقرأ 15: 1-17 كنصّ على حدة.
2) الاسلوب الادبي
ما يقوله يسوع في 15: 1 هو استعارة حية (métaphore vive) لأنّ الصورة لا تنطبق على إنسان. لدينا إذا معنى رمزي. والاستعارة جديدة لأنّها لم تُطلق على أحد من قبلُ بالطريقة التي يستعملها يسوع. الكلمة في العهد القديم تقول: "أنا كالكرمة أنبت النّعمة، وأزهاري ثمار مجد وغنى" (سي 17:24). في هذه الجملة لدينا مَثَل لاستعمال "كاف التشبيه" وليس استعارة رمزية. والقارىء يندهش امام التعبير الجديد فيندفع لاكتشاف معنى الاستعارة والاستطراد التالي ذات الطابع التأملّي.
لدينا إذًا في الفصل 15 صورة الكرمة حسب معطيات الرمز في الانجيل الرابع. يستند يوحنا على الخبرة الانسانية في تقديم الموضوع، مستعملاً لغة الكرم: الكرمة، الكرّام، الأغصان، يثمر، يقضّب، يجمعون الأغصان، يلقونها في النّار. ورمز الكرمة له معنى عام أيضًا حسب الخبره الطبيعية: الكرمة ترمز للفرح والثروة والحياة. ولكن هذا المعنى العام يرتبط بالموضوع الأساسي، أي مسألة الثمر.
3) الخلفية الكتابية
لا بدّ للقارئ أن يذكر موضوع الكرمة في العهد القديم لفهم النّص. يسوع يقصد إحياء الرمز وإعطاءه المعنى الكامل. في العهد القديم تنطبق الصورة على إسرائيل كرم الرّبّ: "إنّي غرستك أفضل كرمة" (إرميا 2: 21؛ راجع خاصة أشعيا 5: 1-7). اعتنى الله بكرمه أي اعتناء ليثمر، ولكنّه لم يعطِ الثمر، فتحوَّلت الكرمة إلى "نبات بريّ وإلى كرمة هجينة" (إرميا 2: 21). والثمر الذي كان يجب على إسرائيل أن يعطيه هو الأمانة للعهد وللوصايا وبنوع خاص ما يتعلّق بالعدالة الاجتماعية:
"لأنّ كرم ربّ القوَّات هو بيت إسرائيل
وأناسُ يهوذا هم غرس ئعيمه
وقد انتظر الحقّ فإذا سفك الدّماء
والبرّ فإذا الصّراخ" (أشعيا 5: 7).
4) يسوع، إسرائيل الحقّ
تعطي خلفية العهد القديم لهذا النّصّ الطريق الأوّل للتفسير. الآب هو الكرّام الذي اعتنى بكرمه. ولكنّ بعض الأغصان لم تثمر، لذلك تُلقى في النار. والثمر يرمز مثل العهد القديم إلى الامانة للوصايا. يسوع يشدّد هنا على الوصية الكبرى أي وصية المحبّة الاخوية. ومن خلال هذه الخلفية نكتشف بديهيا أنّ يسوع بقوله "أنا الكرمه الحقّ" يعني أنّه إسرائيل الحقّ الّذي يحقّق في شخصه مشروع الله الأول الذي أصبح وعدا يخص الأزمنة المسيحانية. بيسوع غرس الآب الكرمة الفضلى للأزمنة الأخيرة، وفيه يجمع البشر من أجل ثمر أكيد.
5) الوحي الالهي والتركيز المسيحاني
في العبارة المهمّة التّي ترد في الانجيل "أنا هو"، بالشكل المطلق أو مع الخبر مثل "أنا هو الكرمة الحقّ"، لدينا تعبير واضح عن التركيز المسيحاني للانجيل الرابع. في الاناجيل الازائية يسوع هو أيضًا في مركز البشارة ولكنّه لا يتكلّم كثيرًا عن ذاته. في انجيل يوحنا، يتكلّم يسوع بنوع خاص عني ذاته في علاقته مع الآب ومع البشر. وهذا التركيز المسيحاني هو بُعد اساسيّ لتفسير الانجيل الرابع. نذكر بنوع خاص هدف الانجيل من خلال 20: 30- 31: "وأتى يسوع أمام التلاميذ بآيات أخرى كثيرة لم تكتب في هذا الكتاب، وأنّما كُتبت هذه لتؤمنوا (لتثابروا بالايمان) بأن يسوع هو المسيح ابن الله ولتكون لكم إذا آمنتم الحياة باسمه". يبيّن الكاتب بوضوح هدف الانجيل وهو الايمان بأنّ يسوع هو المسيح ابن الله. فاللقب الاول يضع يسوع في علاقة مع تاريخ الخلاص. واللقب الثاني يُظهر علاقته الوحيدة مع الآب الذي أرسله. ونتيجة الايمان هي الحياة باسمه.
إذًا الهدف الأساسي للانجيل هو التركيز على الايمان بيسوع المسيح ابن الله لنيل الحياة باسمه. ويعبّر الانجيلي عن هذا التركيز من خلال القاب يسوع ومن خلال العبارة التي ذكرناها في شكليها المطلق ومع الخبر. يسوع يكشف عن ذاته في هذا التعبير الذي نجده بشكله المطلق في: 24:8 و28 و58 و19:13. في العهد القديم نجد هذه العبارة في الترجمة السبعينية فقط وتدلّ على وحدة الله وعلى اسمه الخاص "أنا هو الرب": راجع أشعيا 43: 10. ومن المعلوم أنّ هذه العبارة تكونّت من خلال خروج 3: 14-15 حيث يعلن الله عن اسمه لموسى ولشعبه. إذا يُظهر يسوع سرّ شخصه من خلال هذه العبارة التي تعلنه متساويًا للرّبّ (يهوه) ولذلك نفهم ردّة فعل اليهود على كلامه ومحاولتهم قتله.
أما الاستعمال مع الخبر فيرد في سبعة نصوص وهي:
- 6: 35 و51: "أنا خبز الحياة".
- 8: 12: "أنا نور العالم".
- 10: 7 و9: "أنا باب الخراف".
- 10: 11 و14: "أنا الراعي الصالح".
- 11: 25: "أنا القيامة والحياة"
- 14: 6: "أنا الطريق والحق والحياة".
- 15: 1 و5: "أنا الكرمة".
بعض هذه النصوص مرتبط بآيات سابقة أو لاحقة: خبز الحياة وآية تكثير الخبز؛ نور العالم مع شفاء الاعمى؛ الحياة مع قيامة لعازر. وبذلك يُظهر يسوعُ ذاته في علاقة قوية مع حاجات الانسان الأساسيّة مثل الغذاء والحق والحياة والطريق. وكلّ هذه الرموز مستوحاة من العهد القديم حيث تعبّر عن علاقة الله بشعبه في إطار العهد.
نستنتج إذًا أنّ العبارة في شكليها المطلق ومع الخبر هي وحي ذاتي وترتبط الواحدة مع الاخرى لتعبّر عن وحدة شخصيّة يسوع الالهية وضرورة الخلاص المطلقة بواسطته. عندما يقول يسوع: "أنا هو الكرمة" يعلن لنا ضرورة العلاقة الشخصية معه لنعطي الثمر الذي يمجّد الآب وهو الايمان والمحبّة. وهذه العلاقة مع المسيح هي الاساس لبناء الكنيسة، شعب العهد الجديد. فالتركيز المسيحانيّ في الانجيل يوجّه المواضيع الاخرى في النّص مثل الكنيسة والتلميذ.
6) الكرمة وعلاقة يسوع بالتلاميذ
تظهر علاقة يسوع بالتلاميذ ابتداء من أولّ النّص. عمل الآب هو تقضيب الاغصان لتبقى في الكرمة وتثمر. والغصن المقضّب هو التلميذ الطاهر بكلمة يسوع. الكلمة ذاتها تعني قضَّب وأصبح طاهرًا. أما "الكلمة" التي تطهّر فهي تعليم يسوع (15: 3) وهي عبارة تقنية تدلّ على الانجيل. الانجيل، إذا، يعطي التلاميذ أن يكونوا كالاغصان التي يقضبّها الآب لتبقى في الكرمة وتثمر كثيرًا. يسوع أعطى كلمة الانجيل ويعطيها الآن كاملة لبقاء التلاميذ في علاقة عضوية معه مثل الاغصان والكرمة.
في 15: 4 تأتي صورة الكرمة لتعبّر أكثر عن هذا الحضور المتبادل بين يسوع والتلميذ. فهي ضرورية لعطاء الثمر:
"اثبتوا فيّ وأنا فيكم.
وكما أنّ الغصن لا يستطيع أن يثمر من نفسه، إن لم يثبت في الكرمة، فكذلك أيضا أنتم إن فيّ لم تثبتوا".
نلاحظ أن النّص يحاول التشديد على هذه العلاقة بين التلميذ ويسوع: إن فيّ لم تثبتوا!
بمعزل عن يسوع لا يستطيع التلميذ أن يعمل شيئًا (15: 5). في هذه الآية لدينا مقارنة واضحة بين الأغصان والتلاميذ. فنتساءل عمّا تعبّر هذه الصورة. أوضحنا سابقا أنّ يسوع، كرمة الآب الحقّ، هو إسرائيل الجديد. إذا التلاميذ هم أغصان الكرمة أي أعضاء شعب الله الجديد. على الأغصان أن تبقى في الكرمة، على التلميذ أن يبقى في يسوع وهو إسرائيل الحقّ. يسوع إذا هو النبع والتلميذ يحيا منه كالساقية. وبهذا يعبّر النّص عن هذه الحقيقة: يسوع ليس فقط إسرائيل الحقّ، إنّه الحكمة والكلمة التي تخصب التلميذ (راجع سيراخ 24: 16- 21). صورة الكرمة توضّح هذه العلاقة الشخصية التي يجب أن تنمو بين يسوع التلاميذ وهي مبنيّة على كلمة الانجيل أي الوحي الذي أظهره يسوع لتلاميذه بالملء. وتدلّ أيضًا على حياة الكنيسة، شعب الله الجديد وحياة التلميذ، هناك معنى فرديّ مرتبط بالمعنى الجماعي. النّص يُظهر بنوع خاصّ نوعية العلاقة الشخصية بين يسوع والتلاميذ: علاقة حضور (immanence) وترابط حياتي يجب أن تُبنى على الصعيد الشخصيّ وليس على الصعيد الجماعي. يسوع يتوجّه للتلاميذ بشكل جماعيّ (15: 3-5 و7-17). ولكنّ يتوجّه أيضا للتلميذ بشكل فردي ليكون مسؤولا عن توجّهاته: آ 2 و6.
7) الكرمة والثمر
نتساءل ما هو الثمر حسب النّص؟ وما هو الغذاء المحيي الّذي تهبه الكرمة للأغصان؟
من خلال مطالعة العهد القديم عرفنا أنّ الثمر المطلوب من شعب الله هو قبل كلّ شيء حفظ الوصايا، أي الوفاء للعهد وبنوع خاص ما يخصّ العدالة الاجتماعية. وفي نصّنا، الثمر يكون بحفظ الوصايا (3 مرات في آ 10 و12) وبنوع خاص وصيّة المحبّة الاخوية (5 مرات في آ 9 و12 و17).
وثمر الكرمة هو الفرح أيضا. هذا ما نستدلّه من الآية 11: "قلت لكم هذه الاشياء ليكون بكم فرحي فيكون فرحكم تامّا".
أما آ 16 فتدلّ بوضوح على الرسالة: ثمر الثبات في الكرمة الحقّ هو الرسالة: "لم تختاروني أنتم بل أنا اختركم وأقمتكم لتذهبوا وتثمروا، ويبقى ثمركم، فيعطيكم الآب كل ما تسألونه باسمى". ومن الجدير بالذكر أنّ كلمة ثمر ترد مرّتين فقط خارج الفصل 15؛ في 4: 36 و12: 34.
- "هوذا الحاصد يأخذ أجرته فيجمع الثمر للحياة الابدية فيفرح الزّارع والحاصد معا" (4: 36).
- الحقّ الحقّ أقول لكم: إنّ حبّة الحنطة التّي تقع في الأرض إن لم تمت تبقى وحدها. وإذا ماتت، أخرجت ثمرًا كثيرًا". (12: 24).
في الآية الاولى يتكلّم يسوع مع تلاميذه في سياق نصف رواية السامريّة ويتعلّق بالرسالة. وكذلك في 12: 24 لدينا معنى الرسالة. على حبّة الحنطة أن تثمر من خلال الموت.
فكرة الثمر في هذين النصّين لا تتعلّق مباشرة بخصب رسالة التلاميذ. أمّا في 15: 16 فالثمر هو نتيجة رسالة التلاميذ بصفتهم مختارين من يسوع ليذهبوا ويثمروا.
الثمر إذًا هو حفظ وصيّة يسوع الاولى، وصيّة المحبّة والقيام بالرسالة الموكلة إلى التلاميذ من قبله. المحبّة والرسالة يعيشهما التلميذ بفرح وتنتجان عن الثبات بالمسيح.
8) غذاء الاغصان
1- الانجيل هو غذاء التلاميذ، هذا ما اكتشفناه في آ 3. الثمر، ثمر المحبّة والفرح والرسالة، يتأتّى عن ثبات كلام الله في حياة التلميذ. إنّها قضية حياة أو موت: أو الحياة مع الانجيل أو الموت بدونه. والثبات في الانجيل هو الثبات في يسوع (آ 7). إنّها إذا مسألة إيمان: لنرَ في الانجيل شخص المسيح وليكن كلامه موضع لقاء معه. من كلامه تستمدّ الأغصانُ الغذاء لتثمر مجدًا للآب.
2- المحبّة غذاء التلميذ من أجل الحياة والثمر. هذا ما يتبيَّن لنا ابتداء من آ 9. المحبّة بين الآب والابن هي مصدر ومثال محبّة التلاميذ: وكما أحبّني الآب فكذلك أحببتكم أنا أيضًا" (15: 9). بدون هذه المحبّة الالهية لا يستطيعون أن يثبتوا فيه.
9) الثبات في يسوع يجمعنا ويبنينا في الكنيسة
على نور تاريخ الخلاص نرى أنّ الله غرس الكرمة واعتنى بها أفضل اعتناء منتظرا الثمر. ولكنّ الكرمة لم تثمر. شعب الله ابتعد عن العهد وعن حفظ الوصايا.
أما يسوع فيقول إنّه الكرمة الحقّ، كرمة الآب. بيسوع غرس الآب الكرمة الفضلى للازمنة الاخيرة، وفيه يجمع البشر من أجل ثمر أكيد. يسوع إذا هو اسرائيل الحقّ، هو شعب الله. ومن أراد ان يعطي ثمر الله عليه أن يثبت في يسوع مثل الأغصان التي تثبت في الكرمة. وبمعزل عن يسوع لا أحد يستطيع ان يعمل شيئا، أي لا أحد يستطيع أن يثمر لله.
يقول يسوع: "من ثبت فيّ وثبتّ أنا فيه، فذاك الذي يثمو ثمرًا كثيرًا... ألا إنّ ما يمجّد به أبي أن تثمروا ثمرًا كثيرًا" (15: 5 و8).
الثبات هو التبادل بين يسوع وبين التلميذ. إنّه حوار الحياة. فمنه يستقي التلاميذ الغذاء من أجل حياة تمجّد الآب. والغذاء هو الكلمة والوصية والخبز النازل من السّماء. وكلّها تعمل من أجل الثمر، ثمر العهد الجديد أي المحبّة. فالثبات في يسوع يعني أن نثبت في محبّته ونبذل ذاتنا مثله (15: 9-17). يسوع جعلنا أحبّاءه أي اصدقاءه لنصبح الشّعب المختار، والاختيار هو فعل محبّة:
"لم تختارروني انتم، بل أنا اخترتكم وأقمتكم لتذهبوا فتثمروا ويبقى ثمركم" (15: 16).
هو المختار والابن الحبيب وبه نثمر.
نرى في هذا الرمز صورة الكنيسة التي تثمر إذا ما ثبتت في يسوع الذي أطلعها على كلّ شيء ويريدها ان تثمر بالمحبّة مجدًا للآب. إنّه سرّ حضور المسيح الحيّ القائم من بين الاموات في الكنيسة ليدخلها بالروح القدس المعزيّ إلى الوحدة التي تجمع بينه وبين الآب. صورة الكرمة تقابل إذا عبارة "جسد المسيح" عند القدّيس بولس.
وأخيرًا نرى أن الذبيحة الالهية هي سرّ هذه الوحدة والثبات في المسيح الذي يبنينا كنيسة. فالمثابرة على الاشتراك بايمان بمائدتي كلام الله وجسد ودم المسيح، توحدّنا بالكرمة الحقّ فنُثمر بالمحبّة ونمجّد الآب بحياتنا التي تُظهر المسيح الحيّ بيننا. وهذا الحضور يتمّ بقوة الروح القدس، هبة الفصح (راجع 14: 17 وقابله مع 1: 32-33).

الخاتمة
إنجيل يوحنا يتّصف بالتركيز المسيحاني، وبهذا نرى البعد الاساسي لكل تفسير ولفهم موضوع الثبات الذي يتخذ أهمية خاصّة في تعليم الانجيلي. حين يقول يسوع "أنا الكرمة الحقّ"، فهو يظهر ذاته نسبة للآب وللبشر. هو الابن الذي أرسله الآب ليجمع شعبه به ومعه. أرسله كلمة تطهّر التلاميذ فيثبتون متّحدين به ليثمروا ثمرًا كثيرا يمجّده. هذا الكلمة المتجسد بنى ويبني علاقة شخصية ووحيدة مع أولئك الذين اختارهم ليكونوا معه منذ البدء. فالثبات في الكرمة في زمن تكثر فيه الشيع واللامبالاة وحتى الاضطهادات على أنواعها، يعني المثابرة على قبول الوديعة، وديعة الايمان من الكنيسة الرسولية. فالكتاب المقدّس هو كتاب الكنيسة. وهي، إذا عرفت كيف تجعل من المسيح مركزها الدائم، تكون المكان الوحيد السريّ لاعلان كلام الله لقاء مع المسيح. هذا يعني أيضا أنّ التلميذ الفرد يستطيع الاستمرار في اتحاده مع المسيح الكرمة إذا ثبت كلام الانجيل فيه. هناك ترابط وثيق يظهره النّص بين العلاقة الشخصية مع المسيح الكرمة وبين اتحاد جماعة التلاميذ فيما بينهم ومع المسيح بالمحبّة. هنا نصل إلى الوصية كطريق للثبات وهذه هي وصية العهد الجديد أي المحبة. فالايمان والمحبة هما موضوعان أساسيان في كلّ الانجيل. وإنما هناك تشديد كثيف لهما في أحاديث الوداع. ومن خلال قراءتنا للموضوع في الانجيل، خاصة في الفصل السادس، وسياق النص في العشاء الأخير، نرى أنّ سر الافخارستيا هو طريق الثبات في الكرمة. لذلك تصبح كلمة الانجيل وسر جسد ودم المسيح غذاء التلاميذ لينموا وتكون لهم الحياة باتحادهم بالمعلّم الالهي. وهنا نرجع إلى البدء. فسرّ اتحاد التلاميذ مع المسيح هو بالطبع سرّ الكنيسة. ولكن كلّ وحدة بينهم تنبع من الاصل الالهي وتقود إليه، أي اتحاد الآب مع بالروح القدس. الثالوث الاقدس هو بالفعل دعوة البشر الاولى.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM