التأمُّل السابع يوسف مثال الحياة الخفيَّة

إنَّ حياة يوسف القديم لافتة للنظر بطابع العظمة الخفيَّة التي انطبعت به. فابن يعقوب كان راعيًا مدَّة طويلة، فنُقل من الحظيرة إلى عمق بئر لا ماء فيها حيث رماه حسد إخوته. من هناك انتقل إلى أيدي تجَّار إسماعيليّين مضوا إلى مصر وباعوه هناك كعبد. وإذ بدا أنَّ حالة العبد هذه لم تكن متواضعة بما فيه الكفاية، حُكم على يوسف، بعد وقت قليل، على أساس شهادة زور وأُلقيَ في سجن مظلم. وفي ذلك الوقت، كان يعقوب يبكي موته. وفي يوم من الأيَّام، أتى إخوة يوسف وحملوا إلى الوالد ثياب ابنه المحبوب وهي مضرَّجة بالدم، وقالوا له: "وحش شرس أكل ابنك يوسف" (تك 37: 20).

ويوسف خطّيب مريم، مع أنَّه من نسل داود، قضى حياته كلَّها في هذا الخفاء الذي أخرج منه ابنُ يعقوب في النصف الثاني من حياته. امَّحى حتَّى اختفى كلُّه تقريبًا. ويبدو أنَّه اجتهد كلَّ حياته لكي يمارس أقوال السابق هذه: "يجب أن ينمو وأنا أن أصغر" (يو 3: 30). لو أنَّ يوسف لم يتوجَّب عليه أن يتسجَّل في بيت لحم طاعة لأوامر أوغسطس، هل كنَّا عرفنا أنَّه من قبيلة يهوذا ومن أسرة داود؟ ولكن أين وُلد؟ أين قضى شبابه؟ كيف لفت نظر يواكيم وحنَّة اللذين كانا يطلبان خطّيبًا لمريم؟ هذا أمر لا نعرف عنه شيئًا. كم سنة عاش؟ في أيِّ ظروف مات؟ ما الذي فكَّر فيه معاصروه؟ - هذا أمر لا نعرف عنه شيئًا.

ولكن ليتهم يقولون لنا، على الأقلّ، ما كانت فضائله؟ ليتهم يوردون لنا كلمة واحدة من كلماته، عملاً عجائبيًّا واحدًا من أعماله؟ يدلُّ على كمال خارق ورسالة ملائكيَّة لا إنسانيَّة؟ لا يقول الإنجيل شيئًا عن فضائل يوسف سوى قولٍ واحد: كان بارًّا. لا يورد كلمة من كلماته، لا يقول شيئًا عن عجائبه. من الممكن أنَّه لم يجرِ عجيبة واحدة في حياته.

 

 

نستطيع أن نكتشف سببين لهذا الصمت المطبق لهذا الخفاء الذي أراده يوسف الأوَّل، نيَّته بأن يجعل يسوع في نور أقوى بمحوٍ تامّ لكلّ ما يحيط به. لو أنَّ يوسف والد يسوع، لكان أظهر ذاته ولكان مجده انصبَّ على مجد ابنه. ولكنَّه ليس سوى الأب المربّي لابن الله. وليس هو خطّيب مريم إلاَّ ليكون حارس بتوليَّتها والمحامي عن صيتها. إذًا يكفي أن يعرف العالم أنَّه بارّ وأمين لرسالته. بعد ذلك، يختفي في الليل العميق.

ثمَّ، لماذا يبرز شخصه في نظر العالم، ذاك الذي تثبَّت عليه نظرُ الثالوث المثلَّث التقديس؟ لماذا يتقبَّل رسائل من رؤساء الأرض ذاك الذي تسلَّم رسائل من الملائكة؟ لماذا يسحر نظر عامَّة الشعب ذاك الذي عرف أن يرضي نظر مريم؟ لماذا يخرج من بيت الناصرة ليظهر في الخارج وهو الذي يلتقي في الداخل يسوع ومريم... مريم ويسوع؟

فلقد كان لداخل الناصرة، من أجل نفس فاهمة، سحرٌ نتصوَّرها لا تريد أن تخرج منه ولا تريد أن ترى شيئًا آخر، ولا أن تسمع شيئًا آخر في العالم، فتهتف في اختطاف إعجابها: "المديح لك صمت، يا ربّ، الصمت هو الحمد الوحيد الذي يمكن أن يلعلع هنا بحضرة تنازل لا محدود من قبل الكلمة المتجسّد.

وحين كُلِّفَ الإنجيليُّون بأن يرووا للعالم أقوال وأفعال الله الذي صار إنسانًا، قالوا في نهاية خبرهم: هناك أمور عديدة يجب أن نرويها، والعالم لا يستطيع أن يحوي جميع الكتب التي ينبغي أن نكتب، إذا أردنا أن لا نُغفل شيئًا. فكيف تريدون أن يجدوا مكانًا لأعمال يوسف.

 

 

بقدر ما يكون يوسف في الخفاء، بقدر ذلك يظهر على مستوى الدور الكبير الذي ينبغي أن يُتمَّه. فحين تشرق الشمس تختبئ النجوم. وما إن استشفَّ بولس مجد يسوع حتَّى صار أعمى... الكلمة (الإلهيّ) يتكلَّم، فاسكتوا أيُّها الناس الكلمة (الإلهيّ) يظهر، فاختفوا أيُّها الناس! الكلمة الإلهيّ يرتفع في قدرته وبهائه، فيا أيُّها الناس انحنوا في أعماق العدم! حين نسمع الرسل يتصارعون من أجل المكان الأوَّل، ساعة يسوع يركع عند أقدامهم ويأخذ المكان الأخير، نرتعب من أجلهم ونخاف ضعفًا يستحقُّ الشفقة. ولكن حين نشاهد مريم ويوسف يتَّخذوا موقفًا معارضًا كلَّ المعارضة (لموقف الرسل) ولا يتزاحمان معًا إلاّ في اندفاع إلى الصمت والامّحاء والتلاشي في حضرة الكلمة المتجسّد، نقول: "روح الربّ هو هنا." عندئذٍ يكون لنا صمت يوسف أبلغ من كلِّ خطاب وخفاؤه يبنينا أكثر من كلِّ أعمال موسى وإيليَّا العجائبيَّة.

فلكي نتكلَّم كثيرًا عن الله، يجب أن نتكلَّم قليلاً إلى الناس. ولكي نجتذب نظر الله يجب أن نختبئ عن نظر العالم. ولنسمع صاحب الاقتداء بالمسيح: "إذا تحاشيتَ الأحاديث الباطلة والزيارات النافلة ورواية الأخبار وضجيج النهار، تجد وقتًا كافيًا وافيًا لكي تقوم بتأمُّلات صالحة.

"فأكبر القدّيسين كانوا يهربون، قدر استطاعتهم، عن معاشرة الناس، ويطلبون أن يعيشوا لله في السرّ وفي نسيان العالم.

"أما قال أحدهم: كلَّ مرَّة ظهرتُ بين الناس رجعتُ إنسانًا أقلّ؟ ذاك ما نشعر به مرارًا حين نتحادث مدَّة طويلة.

"أسهل عليك أن تصمت كلّيًّا من أن تكثر الكلام.

"أسهل عليك أن تبقى مخفًى في بيتك من أن تحفظ نفسك مرتاحًا حين تمضي إلى الخارج.

"أتريد أن تبلغ إلى الحياة الباطنيَّة والروحيَّة، ينبغي مع يسوع أن تعرف الابتعاد عن الجماهير.

"ما من أحد في أمان حين يُظهر ذاته إلاَّ ذاك الذي يبقى مخفًى بإرادته.

"ما من أحد في أمان حين يتكلَّم إلاَّ ذاك الذي يصمت بإرادته.

"ما من أحد في أمان حين يأمر إلاَّ ذاك الذي يطيع بارتياح."

وقال كتاب الاقتداء في موضع آخر: "في العالم الذي نحن فيه، ولأنَّه يوجد مسيحيُّون قليلون يهتمُّون جدّيًّا ليموتوا عن الخيرات الكاذبة وعن كرامات العالم الباطلة، لا نجد الكثيرين ممَّن يستغرقون في المشاهدة.

 

 

إنَّ طابع العظمة والجمال المخفيّ يخصُّ كلَّ ما هو كامل وكلَّ ما هو إلهيّ في هذا العالم.

لا شكَّ في أنَّ إلهنا هو العظمة بالذات والجمال الأبديّ واللامحدود. ومع ذلك أما هو حقًّا الإله الخفيّ. "حقًّا أنتَ إله خفيّ" (إش 45: 5). هو مخفى تحت حجاب أعماله، مخفى خصوصًا عن الازدهاء والكبرياء.

ويسوع المسيح، إله الناصرة، والجلجلة والإفخارستيَّا، هتف: "شكرًا لك، يا أبي، لأنَّك أخفيتَ أسرارك عن الفهماء والحكماء وأظهرتها للصغار وللوضعاء" (لو 10: 21). أما هو أيضًا الإله الخفيّ؟ "حقًّا أنت إله خفيّ".

والقدّيسون أما كانوا مرارًا، مثل مثالهم الإلهيّ، أناسًا مجهولين، محتقرين أو مضطهدين من العالم، أناسًا كان كلُّ مجدهم في الداخل (مز 45: 14).

من هم القدّيسون الأخيرون في فرنسا، الذين جعلتهم الكنيسة على المذابح؟ راعية وضيعة من جوار تولوز (في جنوب فرنسا)، اضطهدتها حالتها. شحَّاذ فقير قضى السنوات الأخيرة من حياته يطلب صدقة على أبواب كنائس رومة. راهبة من راهبات الزيارة عاشت تسع عشرة سنة في ظلمة الحرم الديريّ أو بالأحرى في قلب يسوع بالذات. كانت جدّ محتقرة في العالم فاعتُبرت قصَّة حياتها غير لائقة بكاتب كبير.

ونستطيع أن نذكر عندنا القدّيس شربل والقدّيسة رفقة والأخ إسطفان. من عرفهم في حياتهم؟ هل ظهروا إلى الخارج؟ هل رفعوا عيونهم إلى أناس يمرُّون أمام بابهم؟ كانوا في حديث متواصل مع يسوع.

ومن هم المرسلون الأسخياء الذين رفعوا راية الصليب في مناطقنا وقدَّموا لنا هديَّة ثمينة، الحضارة المسيحيَّة؟ بعض الرهبان المجهولين.

ومن هم المهندسون الذين شيَّدوا كنائسنا... وزيَّنوها؟ مجهولون.

من هو ذاك الكاتب الذي أجمل في أربعة كتب الاقتداء بالمسيح، زبدة الإنجيل، الذي بذر في هذا المؤلَّف الأفكار السامية والعواطف الطاهرة، الحقيقيَّة، والنصائح العميقة التي بدت وكأنَّها تتجاوب دومًا مع حاجات النفس الحاليَّة؟ كاتب نجهل اسمه. ربَّما هو توماس أكمبيس.

في كلِّ مكان يدلُّ على أعمال الله طابعُ العظمة والجمال الخفيّ الذي يميّز الله ذاته ويبدو لنا لافتًا عند القدّيس يوسف. في كلِّ مكان، الزنبق الأنقى هو الذي يتفتَّح وسط الأشواك. في كلِّ مكان البنفسجة الأطيب رائحة تختبئ تحت رداءين أو ثلاثة من الأوراق الواسعة في كلِّ مكان ما يعرض نفسه بجشع على العيون يذبل سريعًا. في كلِّ مكان الحياء البشريّ أي الاهتمام بأن نتوسَّل نظرة الناس، هو العدوّ اللدود للاحترام الواجب لوصايا الله. لنفهم جيّدًا هذه الحقائق، ولنطلب شفاعة القدّيس يوسف أن نوقّر وأن نحبّ هذه الحياة "الخفيَّة مع يسوع المسيح" (كو 3: 3) التي هي نقيَّة جدًّا وحلوة.

 

صلاة

أيُّها القدّيس يوسف المطوَّب، أنت الذي شعرت أنَّنا نملك كلَّ شيء حين نمتلك يسوع، تنازل واحصل لنا، بشفاعتك، على حبِّ الحياة الخفيَّة التي تعلّمنا أفضل تعليم بمثلك: ولتوجّه وحدها حياةُ الإله الحاضر كلَّ نوايانا، وليملأ حبُّ الكلمة المتجسّد كلَّ قلبنا، ولتجعلنا أحكامُ كنيسته نحتقرُ كلَّ أصنام العالم وليكن يسوع ومريم كلَّ رجائنا، كلَّ حبِّنا، كلَّ سعادتنا، في هذا الزمن وفي الأبديَّة. آمين.


 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM