يوسف بين بيت لحم والناصرة

قراءة من إنجيل لوقا (2: 1-5)

1وحدَثَ في تلكَ الأيّامِ أنْ خرجَ أمرٌ من أوغسطُسَ قيصَرَ أن يُكتَبَ شَعبُ مملكتِه كلُّه. 2وهذا الاكتتابُ كان الأوَّلَ في ولايةِ قيرينيوسَ في سوريَة. 3وذاهبًا كان كلُّ واحدٍ ليُكتتَبَ في مدينتِه. 4وصعِدَ يوسفُ أيضًا من الناصرة، مدينةِ الجليل، إلى اليهوديَّة، إلى مدينةِ داود، المدعوَّةِ بيتَ لحم، لأنَّه كان مِنْ بيتِ داودَ ومن قبيلتِه. 5مع مريمَ خطِّيبتِه وهي حاملٌ، لكي يُكتَتَبَ هناك.

*  *  *

بيت لحم. مدينة قديمة ارتبطت بالإله "لحمو". ثمَّ صار معناها: قرية الخبز. تركها يوسف بعض الوقت حين تعرَّف إلى مريم في الناصرة. ولكنْ، وقتَ الولادة، عادت العائلة المقدَّسة إلى بيت لحم، حيث وُلد يسوع. وهناك كان الاكتتاب بأمر أوغسطس قيصر (لو 2: 2). هذه المدينة التي لها تاريخ مجيد في مقاطعة اليهوديَّة وقرب أورشليم، لا علاقة لها ببيت لحم أخرى، في قبيلة زبولون. مثل هذا الكلام يجعل البحث جانبًا والفكر باطلاً. فالأناجيل تقول دومًا: "بيت لحم اليهوديَّة". نقرأ في لو 2: 4: فصعد (ونحن لا ننسى أنَّ الصعود يوجّه المؤمن أينما كان إلى أورشليم. من مصر، من الجليل، من أيِّ مكان، هو صعود. وهكذا كانت مزامير "المراقي" أو الصعود إلى أورشليم وإلى الهيكل). صعدَ يوسف أيضًا من الجليل، من مدينة الناصرة إلى اليهوديَّة، إلى مدينة داود التي تُدعى بيت لحم، لأنَّه كان من بيت داود وعشيرته.

وقال متَّى أيضًا عن المجوس الذين أتوا ليسجدوا للطفل الإلهيّ: "ولمّا وُلد يسوع في بيت لحم اليهوديَّة، في أيَّام هيرودس الملك" (مت 2: 1). ذاك هو كلام الإنجيل، لا التلفيق الذي يجعل المسيح يولد في لبنان. قالوا: ينبغي أن ننزع عنه كلَّ صبغة يهوديَّة. فيسوع، بواسطة يوسف، دخل في العالم اليهوديّ، ولكنَّه لم يحصر نفسه فيه. انطلق منه ليصل إلى العالم، إلى حيث أرسل تلاميذه: "إلى جميع الأمم" (مت 28: 19). وقال في مر 16: 15: "اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل في الخليقة كلِّها". اتّساع لا حدود له. ولكنَّه ينطلق من مكان محدَّد.

ويا ليت الانطلاقة كانت فقط بيت لحم، وهي المدينة المذكورة مرارًا في الكتاب المقدَّس. فنذكر ميخا: "وأنتِ يا بيت لحم أفراتة، صغرى مدن يهوذا (لا: زبولون) منك يخرج لي سيّدٌ على بني إسرائيل، يكون منذ القديم، منذ أيَّام الأزل" (5: 1). كانت الانطلاقة من الناصرة، وهي القرية التي لم تُذكَر مرَّة واحدة في العهد القديم. وقال فيها نتنائيل: "أمِنَ الناصرة يخرج شيء فيه صلاح؟" (يو 1: 46). وكان فيلبُّس "الذي من بيت صيدا" (آ44) قال له: "وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء، يسوع ابن يوسف الذي من الناصرة" (آ45).

وهكذا، لم ينطلق يسوع في رسالته من بيت لحم. فدُعيَ "ناصريًّا" (مت 2: 23)، لا "بيت لحميًّا" ولا "زبولونيًّا". والناس لم يعرفوا ذلك. لهذا أضاعوه. فكان جدال في ما بين اليهود: "فكثيرون من الجمع، لمَّا سمعوا هذا الكلام، قالوا: "هذا بالحقيقة هو النبيّ." وآخرون قالوا: "هذا هو المسيح." وآخرون قالوا: "لعلَّ المسيح يأتي من الجليل؟ ألم يقُل الكتاب: إنَّه من نسل داود ومن بيت لحم، القرية التي كان داود فيها، يأتي المسيح" (يو 7: 42-43).

 

        مار يوسف في بيته 

 

تألَّفت العائلة المقدَّسة من ثلاثة أشخاص: ابن الله، أمّ الله، ويوسف زوج الواحدة كما عُرف أنَّه أبو الآخر. كان فقرُهم كبيرًا: لم يكن لهم سوى الضروريّ، وربَّما كان ينقصهم أحيانًا. ولكنَّهم كانوا راضين. يباركون الله وما يطلبون شيئًا بالإضافة. وكانوا يعيشون في الخفاء، وغير معروفين في العالم، ولا رغبة عندهم بأن يُعرِّفوا بأنفسهم. ما كانوا يعرفون في الناصرة ما كان يسوع حسب الطبيعة الإلهيَّة، ولا ما كانت مريم أمام الله كرامةُ مريم، كما كانوا لا يعرفون أنَّها كانت أمًّا ولبثت عذراء. كانوا يُعتبَرون، بلا شكّ، أناسًا أتقياء ومحافظين أمناء على الشريعة. وكان سلوكهم يبني القريب. غير أنَّ تقواهم لم تمتلك شيئًا بحيث يتميَّزون عن الناس العاديّين. ما كان يظهر شيء إلى الخارج ممّا كانوا في الداخل. ما كانوا يتركون أحدًا يستشفّ سرَّ الله. وسوف نرى بعد ذلك، في الإنجيل، أنَّ أقرب أقرباء مريم ويسوع ما كانوا ليظنُّوا شيئًا من السرّ الكبير، سرّ الكلمة المتجسّد.

أيُّ سلام! أيُّ صمت! أيُّ اتّحاد في هذه العائلة المقدَّسة! أيُّ حوار داخليّ، متواصل، بين يسوع ومريم، بين مريم ويوسف! كان يسوع ينبوع للنعم، وكان يسكبها على الدوام وبوفرة في قلب أمّه مريم فكانت تُشرك يوسفَ بجزء من هذه الوفرة. وهكذا دون كلام الفم بين الواحد والآخر، كانوا يتكلَّمون على الدوام.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM