الفصل العاشر : إستقبال الرب

الفصل العاشر

إستقبال الرب
10: 38- 42

عرفت زيارة يسوع إلى مرتا ومريم تفاسير متنوّعة على مرّ التاريخ. سنقدّم بعضاً منها حسب ترتيب كرونولوجي. بعد هذا، نحاول أن ندرك المعنى الذي أعطاه لوقا لهذا الخبر. ونسعى في النهاية إلى إكتشاف المدلول الأصلي لما رواه لوقا خلال صعود يسوع إلى أورشليم.

أ- تفاسير الخبر في التقليد
لا نجد دوماً تفاسير إجمالية. فالكتّاب يشدّدون على هذه الوجهة أو تلك في الخبر دون أن يعالجه معالجة تامة.

1- الحاجة إلى قليل
نجد مثالاً عن هذا التفسير عند بعض شهود النصّ الذي يقرأون بداية آ 42: "الحاجة إلى قليل". إن مرتا "ترتبك وتقلق من أجل أشياء كثيرة". ولكن يكفيها شيء قليل. نحن أمام درس في البساطة والزهد يوافق الفقر الذي اعتاد عليه يسوع. ولكن الامثولة التي نستنتجها من الخبر تذهب أبعد من ذلك. فبعد أن انتقد يسوعُ مرتا جعل من مريم مثالاً نحتذي به بشكل إيجابي.

2- أوريجانس
إن تفسير هذا الحدث لدى أوريجانس قد أثّر تأثيراً كبيراً في التقليد الروحي اليوناني واللاتيني. تبعه كيرلس الإسكندراني، غريغوريوس الكبير، توما الاكويني... قال أوريجانس: "نستطيع القول ببعض المعقولية إن مرتا ترمز إلى العمل؟ ومريم إلى التأمل والمشاهدة. إن سرّ المحبة ينزع من الحياة الناشطة إذا لم يكن هدفُ التعليم والتحريض الأخلاقي المشاهدة: فالعمل والمشاهدة لا يوجدان الواحد من دون الآخر".
إذن، تمثّل الأختان في نظر أوريجانس موقفين دينيين لا يستطيع التلميذ الكامل أن يفصل بينهما. عليه أن يعيش النشاط والعمل، ويعيش التأمل والمشاهدة. ولكن كل عمل يخضع بكليته للمشاهدة.

3- أمبروسيوس
قدّم أمبروسيوس تفسيراً مشابهاً لتفسير أوريجانس، ولكنه تفسير حرفي. قال: "نرى عبر مثل مرتا ومريم، تفانياً ناشطاً في أعمال الأولى، ويقظة نفسية دينية لكلمة الله عند الأخرى. إذا وافق هذا التيقّظ الإيمان، مرّ قبل الأعمال نفسها، كما كتب: إختارت مريم النصيب الأفضل الذي لا ينتزع منها. إذن، لنسعَ نحن أيضاً لامتلاك ما لا يستطيع أن ينتزعه منا... كونوا مثل مريم، ولينعشكم روح الحكمة: هذا أعظم وأكمل عمل تقومون به. فلا يمنعكم الإهتمام بالخدمة من معرفة الكلام السماوي... ومع ذلك، نحن لا نلوم مرتا على خدمتها الطيّبة. ولكن نفضّل مريم لأنها اختارت النصيب الأصلح".
يرى أمبروسيوس، شأنه شأن أوريجانس، أن الأختين تمثلاًن نمطين من النشاط لا بدّ من وجودهما في حياة المؤمن.

4- أغوسطينس
إهتمّ أغوسطينس هنا بكشل خاص بالرمزية الكنسية أكثر منه بالدرس الروحي. قال:
"حين قبلته مرتا في بيتها، فقد دلّت على الكنيسة التي تتقبّل الرب في قلبها. ومريم أختها التي كانت جالسة عند قدمَيْ المعلّم تسمع كلامه، فهي تدلّ على ذات الكنيسة ولكن في العالم المقبل. حينذاك يتوقّف عمل الخدمة تجاه المحتاجين، فتنعم الكنيسة فقط بالحكمة. إذن، كانت مرتا مهتمّة بالخدم المتعدّدة، لأن الكنيسة تمارس الآن مثل هذه النشاطات. فإذا تشكّت من أختها التي لا تساعدها، أعطت مناسبة لكلمة الربّ التي دلّت على هذه الكنيسة القلقة المرتبطة. ولكن هناك أمراً ضرورياً واحداً نصل إليه باستحقاقات هذه الخدمة. ولكن قيل أن مريم اختارت النصيب الأصلح الذي لا ينتزع منها. هو الأفضل لأن به نصل إلى الهدف، ولأنه لا يُنتزع منا. ولكن عمل الخدمة، وإن صالحاً، فسينزع منّا حين لن يعود هناك محتاجون نخدمهم".
يرى أغوسطينس أن الأختين تمثلاًن مرحلتين متتاليتين لدى الكنيسة: مرحلة الكنيسة المجاهدة، ومرحلة الكنيسة الممجّدة. وبحسب هذا التأويل، لم يعد خبر مرتا ومريم تحريضاً، كما كان لإوريجانس وأمبروسيوس، بل وعداً يحرّك الرجاء عند المؤمنين.

5- كيرلس، أسقف الأسكندرية
عاد القديس كيرلس مراراً إلى هذا الخبر. مرّة تبع تفسير أوريجانس كما أوردناه. ومرّة أخرى استنتج من الخبر أمثولة حوله الطريقة التي بها نستضيف حاملي الكلمة. إنه يوصّي أهل البيت (كما يقول النصّ السرياني لعظاته):
"أن لا يهتموا بخدمة وافرة. أن لا يطلبوا إلاّ ما هو في متناولهم. أن تكون المائدة بسيطة وزاهدة والطعام بسيطاً لا يزيد عن الحاجة".
"وعلى المدعوّين أن يحملوا مقابلَ هذا، الخيرات السامية. مقابل العطايا الزمنية، يحملون العطايا الأبدية. مقابل عطايا الأرض، يحملون عطايا السماء. مقابل العطايا العابرة، يحملون العطايا الدائمة".
قد الهم هذا التحريضَ وضعُ المؤمنين في أيام كيرلس، ولا سيّما تجاوزات الرهبان المتجوّلين. ولكننا لا نعتبر أن هذا التفسير يستنفد كل فكر كيرلس حول خبر مرتا ومريم.

ب- فكر لوقا
في أيدينا معطيات عديدة تساعدنا على إكتشاف فكر لوقا: السياق الذي فيه يتحدّد موقع الخبر. الفن الأدبي وبناء الخبر وسماته المتنوّعة وعلاقته بما نقرأ في مؤلّف لوقا، أي الإنجيل والأعمال.

1- سياق الخبر
المعطية الأولى التي تلقي الضوء على المعنى الذي ربطه لوقا بالخبر، هي السياق الذي وضعه فيه. لم يستطع دوماً أن يحدّد هذا السياق، فأكتفى مراراً باتباع ترتيب التقاليد التي في متناوله. وقد يحصل له أن يحوّل هذا الترتيب ليحقّق هذا "النظام" الأدبي الذي اتخذه له مثالاً في تأليفه. قال في 1: 3: "رأيت أن أكتبها إليك بحسب ترتيبها، لكي تعرف جيّداً قوّة التعليم الذي وُعظت به".
في بداية صعود يسوع إلى أورشليم، الذي جعله لوقا محور كتابه (9: 51، 19: 27)، ضمّ أولاً عناصر متعدّدة حول رسالة التلاميذ (9: 51- 10: 20). هذه العناصر نجدها متفرّقة في إنجيل متّى. مثلاً إن لو 9: 57- 60 (أتبعك حيث تمضي) يقابل مت 8: 19- 22؛ ولو 10: 2- 12 (ارسال السبعين) يقابل مت 9: 37- 10: 16؛ ولو 10: 12- 15 يوازي مت 11: 21- 24 (الويل لكورزين، الويل لبيت صيدا)؛ ولو 10: 16 (من سمع منكم) يوازي مت 10؛ 40.
بعد هذا، قدّم لوقا مجموعة تعاليم تتوجّه إلى التلاميذ حول متطلّبات وضعهم والنعم التي يحصلون عليها (10: 21- 11: 13): يُعطى لهم وحي الابن (10: 21- 24؛ ق مت 11: 25- 27؛ 13: 16- 17). شريعة المحبة التي يتوسّع فيها مثل السامري الصالح (10: 25- 37؛ ق مت 22: 34- 40؛ مر 12: 28- 31 فيما يخصّ القسم الأول: لا شك في أن لوقا عرف هذا السياق). خبر مرتا ومريم (10: 38- 42. هناك ميزات أدبية خاصة بلوقا في آ 38- 39 أ، وهي تدلّ على أن لوقا جعل هذا الحدث في هذا الموضع). وأخيراً مجموعة من العناصر حول الصلاة (11: 1- 13) يقابلها مت 6: 9- 13 (الصلاة الربية)؛ 7: 7- 11 (إسألوا تُعطوا، أطلبوا تجدوا).
ووسط هذه المجموعة من العبر الروحية الأساسية، قد وضع لوقا خبر مرتا ومريم، فرأى فيه أمثولة مهمة جداً بالنسبة إلى التلاميذ. هناك من قالت إن لوقا وضع الخبر في هذا الموضع ليهيّئ تعليم يسوع حول الصلاة. ولكن خبر مرتا ومريم لا يتحدّث عن الصلاة. ثم إن لوقا جعل 11: 1 (وكان ذات يوم يصلّي) مقدّمة للصلاة الربية (11: 2- 4) ولشروط الصلاة ومفعولها (11: 5 ي)، ففصل بين خبر مرتا ومريم والحديث عن الصلاة.

2- بنية الخبر وفنّه الأدبي
وإذا أردنا أن نحدّد أمثولة الخبر ننطلق من النص: بنيته وفنّه الأدبي. فمع أن هذه الآيات الخمس تشكّل خبراً متكاملاً، إلاّ أن اهتمامات لوقا ليست اهتمامات مؤرخّ من عالمنا: فهو لا يذكر مكان الحدث ولا زمانه. قد يكون لوقا عرف أن الحدث حصل في بيت عنيا، لأنه يبدو مطّلعاً على التقليد الذي نجده في يو 11- 12. ومع ذلك، فهو لا يتحدّث عن المكان. لماذا؟ لأنه ألغى كل التفاصيل التي تؤخّر مسيرة الصعود إلى أورشليم.
تصرّف لوقا، شأنه شأن متى ومرقس، فلم يحدّد موقع الخبر. وهو لن يعطي أي تاريخ خلال سفر يسوع. ولن يذكر إلاّ أريحا (18: 35؛ مت 20: 29؛ مر 10: 46) وأورشليم (11 مرة)، لأن أورشليم هي نهاية صعود يسوع وموضع تتميم سرّه. اهتمّ لوقا بأعمال يسوع وأقواله، لا بإعادة تكوين الإطار الزمني لهذه الأعمال والأقوال.
ويدهشنا هنا أنه يورد إسم مرتا ومريم. واقع فريد عند لوقا كما عند متّى ومرقس، الذين لا يذكرون أسماء محاوري يسوع إلاّ في حالات إستثنائية. يُذكر الإثنا عشر وزكا في 19: 2 وكليوبا في 24: 18. وبين الذين نعموا بالمعجزات، يذكر يائيرس (8: 40؛ مر 5: 22) وبرطيما (مر 10: 46. لا يذكره لوقا في 18: 35). وإذا كان لوقا ذكر اسم الأختين، فلأنه يهتمّ بهما اهتماماً خاصّاً.
ومجمل النص يحاول أن يصوّر الطريقة التي بهما استقبلت مرتا ومريم يسوع. وكلمة المعلم النهائية التي تعارض بين موقفين تشكّل قمة الخبر وخاتمته، تشكّل الدرس الذي يجعلنا لوقا نستنتجه.

3- ميزات الخبر
توخت كل ميزات الخبر أن تهيئ هذه الخاتمة، وأن تقدّم قبل كل شيء رسماً لهاتين الأختين. إن مريم "جلست عند قدمَيْ الرب" (آ 39). حين أعطى لوقا المسيح هذا اللقب المميّز في إنجيله (بشكل "الرب"، هو كيريوس، رج 7: 13، 19؛ 10: 1، 39، 41؛ 11: 39؛ 12؛ 42؛ 13: 15؛ 16: 8؛ 17: 5- 6؛ 18: 6؛ 19: 8؛ 22: 31، 61؛ 24: 3، 34؛ رج 19: 31، 34؛ ق مت 21: 3؛ مر 11: 3) دلّ على سلطة يسوع. وموقف مريم هو في الحقيقة موقف التلاميذ أمام معلّمهم (8: 35؛ أع 22: 3؛ رج لو 7: 38؛ 8: 41؛ 17: 16). هي تسمع الكلمة، وهذا هو الواجب الأولى للتلميذ الحقيقي بحسب لوقا (6: 47؛ 8: 13، 15، 21).
أما مرتا فهي مهتمة، منشغلة بأمور الضيافة: هي ربّة البيت (آ 38) وهي تحاول أن تؤمّن ليسوع أجمل خدمة يقدّمها فقراء فلسطين لضيوفهم (آ 40). تكاثر الشغل عليها، فاضطربت وارتبكت (آ 41). وهذه الغيرة تدلّ على إحترامها "للرب" (آ 40)، على رغبتها في أن تستقبله إستقبالاً يليق به. غير أنها لا تفهم أختها التي لا تفعل شيئاً، التي لا تشاركها في العمل. إنها تريد أن تنتزعها من سماع يسوع لتساعدها في ترتيب البيت أو إعداد الطعام. وهي واثقة من موقفها. فلهذا دعت يسوع بلهجة "لائمة" أن يقاسمها نظرتها. "يا رب، أما تبالي أن أختي قد تركتني أخدم وحدي؟ فقل لها إذن لتساعدني" (آ 40). وهكذا بدت الأختان مثل تمليذين يهتمان بإستقبال المعلم. ولكن مريم لا تهتمّ إلاّ بسماع كلمته. ومرتا بالقيام بواجبات الضيافة بسخاء.
وجاء جواب يسوع حُكماً على موقف مرتا ومريم (آ 41- 42) وسمّاه لوقا "الرب" فدلّ على سلطة كلمته السامية. والحكم على مرتا يطرح مسألة معروفة في النقد الأدبي. فالقسم الأولى (أنت مهتمة مضطربة في أمور كثيرة) نجده في كل المخطوطات اليونانية (مع إختلاف طفيف بالنسبة إلى الفعل الثاني). ولكن يغيب في عدد من مخطوطات اللاتينية العتيقة والسريانية العتيقة. ويغيب القسم الثاني (آ 42 أ) من هذه الترجمات عينها (قد يكون هناك تصحيح لنص قاس أو حائل دون إنتقال "إنما الحاجة إلى قليل").
نجد القسم الثاني في شكلين قصيرين. "الحاجة إلى واحد" (عند شهود عديدين لهم وزنهم). ونجد أيضاً شكلاً طويلاً يضمّ الشكلين القصيرين: "الحاجة إلى قليل، بل إلى واحد". وبما أن هذه الاختلافة الطويلة تجد لها شهوداً مهمّين (من الاسكندرية)، فقد أخذت بها مجمل الطبعات النقدية للعهد الجديد، وعددٌ كبير من الشرّاح. غير أن الأمثولة القصيرة الثانية (الحاجة إلى واحد) تجد شهوداً متنوّعين في المكان والزمان والعدد. كما أنها تقدّم تعارضاً جيداً (كثير، واحد). والأمثولة الطويلة هي نتيجة دمج أمثولتين قصيرتين والتنسيق بينهما. وهكذا يبدو أن النص الأصيل هو: "الحاجة إلى واحد".
حين يلوم يسوع مرتا بسبب اضطرابها واهتمامها "بأمور كثيرة"، فهو يستعيد موضوعاً طالماً تطرّق إليه في حديثه عن الهموم: يدعو المرسلين ألاّ يهتمّوا في دفاعهم أمام المحاكم التي يجلس فيها مضطهدوهم (12: 11؛ مت 10: 19: لا تهتموا لما تقولون).. يدعو تلاميذه ألاّ يقلقوا بسبب الطعام أو اللباس (12: 22- 26؛ مت 6: 25- 34: لا تهتموا لأنفسكم بما تأكلون). يحذّر مؤمنيه من "هموم الحياة" التي تخنق بذار الكلمة (8: 14؛ مت 13: 22؛ مر 4: 19)، أو تثقل القلوب (21: 39). في كل من هذه المقاطع، نجد شجباً للهموم لأنها تميل بالمؤمن عن الجوهر وهو: الاعتراف بابن الإنسان في 12: 7- 9 (مت 10: 31- 33). البحث عن ملكوت الله في 12: 31 (مت 6: 33). تقبّل الكلمة في 8: 11- 15 (مت 13: 18- 23؛ مر 4: 13- 20). إنتظار يوم إبن الإنسان في 21: 34- 36. أما في وضع مرتا، فالهموم تُشجب لأنها تميل بها عن "الضروري الوحيد" كما تقول الشعبية اللاتينية.
"فالأمور الكثيرة" التي تهتمّ بها مرتا هي (بحسب السياق) واجبات الضيافة والخدم المادية التي تريد أن تقدّمها ليسوع. أما الضروري الوحيد "فيحدّده موقف مريم التي تركت كل شيء لتسمع كلمة يسوع. وهكذا تكون المعارضة واضحة بين طريقتين في إستقبال يسوع تمثّلهما الأختان: واحدة تهتم بواجبات الضيافة المادية. والثانية تهتم بسماع كلمة المعلّم. تقتل يسوع ضيافة مرتا بامتنان، كما تقبّل ضيافة الفريسيين (7: 36 ي: 11: 37؛ 14: 1)، أو طلب ضيافة زكّا (19: 5). بل جعل من قبول الضيافة قاعدة للمرسلين (9: 4؛ 10: 5- 9). وهكذا لا يكون شجب موقف مرتا لاستقبالها السخيّ.
ولكن هناك سلّماً للقيم في نظر يسوع. فهو يختتم الخبر بتهنئة ووعد وجّههما إلى مريم. "إختارت النصيب الأفضل الذي لا ينزع منها". إن كلمة "ماريس" تعني النصيب" وهي تستعمل مراراً في السبعينية لتدلّ على حصّة في الطعام (تك 43: 34؛ 1 صم 1: 4- 5؛ 9: 23؛ نح 8: 10، 12؛ أس 9: 19، 22). لهذا رأى بعضهم تلميحاً إلى الطعام الذي اهتمت مرتا بإعداده. ولكن هذا المعنى لا يوافق الوضع ولا التعارض. فالحصة التي اختارتها مريم هي سماع كلمة الرب. وكلمة "ماريس" تعني هنا "نصيب" "حصة ميراث" (أي 20: 29؛ 27: 31؛ جا 2: 10؛ 3: 22؛ 5: 17؛ 9: 9؛ حك 2: 9؛ سي 14: 9؛ أش 17: 14؛ 57: 6؛ إر 13: 25...). والعبارة التي إستعملها يسوع تذكّرنا بما قاله المرتّل: "نصيبي، يا ربّ، أن أحفظ كلامك" (مز 119: 57؛ رج 16: 5: نصيبي هو الرب؛ عد 18: 20؛ تث 10: 9؛ سي 45: 22). وينهي المعلّم كلامه فيعد مريم بأن خيارها لا يخيب: من فضّل كلمة الله لن يُحرم منها أبداً. هذه هي العبرة من الخبر كله: على التلميذ أن يسمع كلمة المعلّم، وهي ستصل إليه دائماً أبداً.

4- كلمة الله
وهناك ميزتان تؤكّدان إهتمام لوقا بهذه العبرة. الأولى: مكانة سماع كلام يسوع في الإنجيل والأعمال. لا شمك في أن متّى ومرقس قدّما الفكرة عينها في شرح مثل الزارع (مت 13: 19- 23؛ مر 4: 14- 20؛ لو 8: 11، 15: رج مت 7: 24- 26). غير أن لوقا تفرّد في تحديد "تقبّل كلمة يسوع" على أنه "سماع كلام الله" (5: 1؛ 8: 11، 21؛ 11: 28). وسفر الأعمال يتركّز كله على الكلمة (عشر مرات. كلمة الله، أقلّه عشر مرّات. كلمة الرّب، أقله سبع مرّات). ففي نظر الإنجيلي الذي شارك بولس في مهماته الرسولية، كان سماع الكلمة الضروري الوحيد.
وخبر تأسيس السبعة (أع 6: 1- 6) يطرح عدّة مسائل تاريخية دقيقة: من كان هؤلاء الهلينيون؟ ما كانت الوظائف الأصيلة لهؤلاء السبعة؟ ولكن مهما يكن من أمر هذه المسائل، ففكر لوقا واضح جدّاً، وهو يذكّرنا بخبر مرتا ومريم. فأمام تشكّيات الهلينيين أجبر الاثنا عشر على الاختيار بين الكرازة بكلمة الله وخدمة الموائد (أع 6: 2). حينئذ قرّروا بأن يسلّموا هذه الخدمة المادية إلى سبعة رجال يشهد لهم بالصيت الحسن، ممتلئين من الروح القدس والحكمة. وحفظوا نفسهم من أجل الصلاة وخدمة الكلمة (أع 6: 3- 4). إن خبر مرتا ومريم أعلن أولويّة سماع الكلمة على خدمة الضيافة. وخبر سفر الأعمال جعل خدمة الكرازة بالكلمة فوق خدمة الموائد. ولكن لوقا اعترف بالخدمتين. وفي الحالتين، بدت الكلمة المسموعة أو المعلنة القيمة العظمى. أحسّ يسوع بالعلاقة بين الاثنين، فأظهرها من خلال هذين الخبرين.

5- إستنتاجات
بعد أن تفحّصنا هذا النّص اللوقاوي، نستطيع أن نقدّم بعض الاستنتاجات:
- أراد لوقا أن يقدّم في هذا النصّ قاعدة حياة من أجل التلاميذ. ولا مبالاته بمعطيات الخبر "التاريخية" (خصوصاً فيما يتعلق بالزمان والمكان) يدلّ على هذا الوضع كما يدلّ عليه الطابع الاحتفالي لكلمة يسوع الأخيرة.
- هذه القاعدة هي أولوية سماع كلمة الرب في الإيمان، وهي أولوية مطلقة. هذا ما نكتشفه في التعارض بين الأختين، والمديح لمريم، والأهمية المعطاة للكلمة في إنجيل لوقا وسفر الأعمال.
- لا تُلام مرتا بسبب ضيافتها التي هي تقبّل للمسيح في الإيمان والمحبة، والتي ستكون الشرط الموافق للرسالة الإنجيلية. ونكن يسوع يلومها على الارتباط، على الهمّ الزمني الذي يميل بها عن الضروري الوحيد.
إذا قابلنا هذه الاستنتاجات مع تأويل الآباء، رأينا أنها ليست بعيدة عن تفسير أمبروسيوس. وهي لا تعارض فكر أوريجانس حين رفض أن يفصل العمل عن المشاهدة، وأعلن أولوية التأمل والمشاهدة (التي هي نظرة إلى الإيمان في خدمة ملكوت الله). أما رمزية أغوسطينس والنظرة العملية لدى كيرلس، فهما تطبيقان ظرفيان لكلمة الله في حالة من الحالات.
ج- ما قبل خبر لوقا
يبدو تفسير خبر لوقا سهلاً لأنه يتأسّس تأسّساً متيناً على مختلف المعطيات التي تفحّصناها. ولكن هل نستطيع أن نعود إلى الوراء، أن نعود إلى التقليد السابق للوقا لكي نرى إن كان تفسيره للخبر أمينا لمدلوله الأصيل.
سؤال دقيق لأن المعطيات قليلة وأساليب التقارب غير أكيدة، ونتائج الشّراح مختلفة. ولكن في خبر مرتا ومريم، نحن نمتلك معطيات هامّة إن في داخل النصّ، وإن في التقاء نص لوقا مع التقليد اليوحناوي.

1- خبر لوقا
من المؤكّد أن لوقا طبع بطابعه هذا الخبر، على مستوى الألفاظ والأسلوب، وتقديم الأختين في بداية الخبر (آ 38- 39 أ). والارتباط الأصيل للخبر بالسياق يجعلنا ننسب إلى لوقا بناء هذه الإجمالة الأدبية. ويستعمل لوقا هنا حسب عادته لفظة "كيريوس" (آ 39، 41)، و"مهتمة" (آ 40) و"اختار، انتزع" (آ 42). كل هذا يجعلنا نقول إن لوقا استعمل هنا تقليداً سابقاً.

2- النصّ الأولاني
هل يتيح لنا تفحّص النصّ أن نتمثل الشكل الأصيل لهذا التقليد؟ هناك سمة تبدو لافتة للوهلة الأولى: إن كلمة يسوع النهائية تتجاوب مع بداية الخبر حول تصرّف الأختين، بحيث لا نستطيع أن نفصل النهاية عن البداية. فالخبر يشكّل وحدة أدبية متماسكة. غير أن بولتمان يسمّي النص "مشهداً مثالياً" وخبراً ذا "طابع رمزي": إنه "يعبّر عن الحقيقة بواسطة مشهد مصوّر". يرى أننا أمام خدعة أدبية تجعل في مرتا ومريم نمطين متعارضين من أنماط التصرّف الديني. وفي النهاية نحن أمام تأليف يعود إلى العالم الهليني. مثل هذا الموقف الذي يشدّد على طابع الخدعة الأدبية والتأليف الهليني، لا نستطيع قبوله: فمشهد الضيافة هذا يجعلنا في محيط فلسطين. وكلمة يسوع توافق كلّ الموافقة أقواله في الاهتمامات. والتقليد اليوحناوي يؤكّد قدم الخبر في لوقا.
أما ديباليوس فقد حلّل معطيات هذا الخبر، فلاحظ أن أسمَيْ مرتا ومريم يدلاّن على اهتمام خاص بشخصهما، ورأى أننا أمام خبر مركّز على شخص من الأشخاص: فكثافة النصّ وغياب كل التفاصيل الخيالية، تبرهن على قيمته التاريخية الحقيقية. أما مدلول الخبر الأصيل فقد يكون اسكاتولوجياً ويعني مجيء الملكوت. مثل هذه الملاحظات تستند إلى فكر يسوع حول طلب ملكوت الذي يمرّ قبل كل اهتمامات هذا العالم (12: 22- 31؛ مت 6: 25- 33).

3- معطيات يوحنا
إن التقاء خبر لوقا مع بعض معطيات يوحنا، يؤكد الملاحظات السابقة. فالأختان اللتان لا يسمّيهما متّى ولا مرقس، تظهران في مقطعين هامين في يوحنا (11: 1- 44؛ 12: 1- 8). ثمّ، تظهر مرتا وهي "تخدم"، وهي تقدّم وجبة طعام (يو 12: 2). وتظهر مريم "عند قدمَيْ" يسوع (يو 11: 32). هذا ما نراه عند لوقا حيث تبدو مرتا تلك المرأة النشيطة المستعدّة لأن تتدخّل (يو 11: 20)، لا لتنفتح على السرّ (يو 11: 24- 39). أما مريم فدلّت على إحترام عميق للمعلّم (يو 11: 32) وسخاء كبير (يو 12: 3)، فجلبت على نفسها إنتقاد الناس الواقعيين (يو 12: 4- 5). نالت "موافقة" من يسوع (يو 12: 7)، وأثّرت صلاتها الصامتة على يسوع عند قبر لعازر أخيها (يو 11: 33).
لا شك في أن خبرَي لوقا ويوحنا مختلفان. ولكن صورة الاختين وموقف يسوع تجاههما، هما متشابهان بحيث نعتقد أننا أمام تقليد مشترك. إحتفظ هذا التقليد ببعض المعطيات عن مرتا ومريم، فرأى في الأختين تلميذتين ليسوع متفانيتين: واحدة نشيطة. والأخرى منفتحة على سرّ المعلّم. في هذا التقليد بدت مريم نموذج الإيمان العميق ومرتا مثال الخدمة والضيافة لا سيما بالنسبة إلى المرسلين الذين ينتقلون من مكان إلى مكان ليكرّزوا بكلمة الله.

خاتمة
إن خبر هاتين الأختين يدعو المؤمنين إلى التأمّل في طريقة تقبّل يسوع: تقبّل عبّرت عند الأجيال في سخاء الضيافة. ولكن هذا التقبّل لا يتجاوب ومجيء الرب إلاّ إذا انفتح على كلمة الرب وولج في سرّه

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM