الفصل السادس : اتّباع يسوع في مسيرته إلى أورشليم

الفصل السادس

اتّباع يسوع في مسيرته إلى أورشليم
9: 51- 62

تفتتح هذه المقطوعة القسم الرابع من إنجيل لوقا: الصعود (أو الطريق) إلى أورشليم (9: 51- 19: 27). وسيُحدَّد هدفُ السفر فيما بعد على دفعتين. في 13: 22: "كان يعلِّم وهو في طريقه إلى أورشليم". وفي 17: 11: "وبينما هو في طريقه إلى أورشليم، مرّ بالسامرة والجليل".
مهما تكن القيمة التاريخيّة لهذا الإطار الذي يستعمله لوقا هنا، فهدفه واضح: إن مضمون هذه الفصول العشرة، التي تألّفت من مقاطع خاصّة بالإنجيل الثالث، فجمع فيها لوقا أحداثاً وأقوالاً ترتدي طابعاً مشتركاً، إنّ المضمون يتوجّه نحو الوصول إلى أورشليم وبالتالي إلى آلام يسوع. إنه يقدّم لنا استهلالاً يُنذر باقتراب ساعة الموت.

أ- قرية سامرية ترفض (أن تستقبل) يسوع (آ 51- 56)
إن الأسلوب الإحتفاليّ في آ 51 يشدّد على أمرين إثنين:
الأوّل: إن الزمن الذي أعطاه الآب لابنه ليحقّق عمله الأرضىّ قد وصل إلى نهايته، واقتربت ساعةُ اختطافه. فمهمّة يسوع إلى الارض تتسجّل داخل تتميم الأزمنة (مر 1: 15: تمّ الزمان، رج غل 4: 4) الذي يصِل بنا إلى مجيء الملكوت. وتنتهى هذه المهمّة بالإرتفاع أو الاختطاف (أنالمبسيس). لا ترد هذه المفردة إلا في هذا المكان من العهد الجديد. إمّا الفعل فيستعمل خصوصاً في مؤلف لوقا ليدلّ على اختطاف إلى السماء. هذا ما نجده في أع 1: 2، 11، 22؛ رج 10: 16 في مجرى الحديث عن صعود يسوع (ارتفاعه) إلى السماء. وهناك المعنى العاديّ: أخذ. رج أع 20: 13- 14 (لنأخذ بولس)؛ أف 6: 13 (إتّخذوا سلاح الله الكامل). هذا الفعل تستعمله الترجمة السبعينيّة لتتحدّث عن اختطاف إيليا (2 مل 2: 9- 11: أؤخَذ عنك أو أُؤخَذ من عندك). هذا الأمر يجعلنا قريبين من ذكر إيليا كما نقرأه في آ 54 (كما فعل إيليا) حسب مخطوطات عديدة.
الثاني: حين اعتمد يسوع أن يذهب إلى أورشليم كان اعتماده قراراً خطيراً. وعَى يسوع ضرورةَ التألّم والموت في هذه المدينة المقدّسة، وأنبأ مرّتين بآلامه كما يقول لوقا في 9: 2: "يجب على ابن الإنسان أن يتألّم كثيراً". وفي 9: 44: "سيُسلَّم إبنُ الإنسان إلى أيدي الناس".
ولكن الإنجيل الذي لا يهتمّ بالأمور السيكولوجيّة ولا بدراسات الحالات النفسيّة عند يسوع، يشدّد على أنّ يسوع لا ينطلق عن خفّة أو كسائح يسير بحسب المخطّط المرسوم، على الطريق الذي يقود إلى الموت. فالنصّ يقول حرفيّاً: صلَّب (قسّى، ثبّت) وجهه. الوجه يدلّ علي الشخص. وعبارة "صلَّب وجهه" تدلّ على عزم يتطلب شجاعة لكي نتغلب على الخوف. نجد هنا أُولى الإشارات إلى النزاع الذي سيعيشه يسوع في جتسيماني (22: 39- 46).
وأرسلَ يسوع أمامه رُسلاً يستطلعون الأمور في إحدى القرى (آ 52). كان هذا الإجراء ضرورياً بسبب الذين يرافقونه. لا نستطيع أن نتخيّل كِبَر الموكِب الذي يحيط به. على كلّ حال لم يكن بقَدْر موكب الشعانين (19: 29- 40) يوم انضمّ إليه جمعُ الحجّاج الاَتين إلى أورشليم من أجل عيد الفصح. أمّا الآن فعيد الفصح يبدو بعيداً. غير أنّ هذا الموكب ضمَّ فيما ضمّ الرسلَ الإثني عشر والنساءَ اللواتي رافقن يسوع (8: 2) وبـعضَ المتعاطفين الذي سيختار منهم اثنين وسبعين سيرسلهم "يتقدّمونه إلى كلّ مدينة وموضع عزَمَ أن يذهب إليه" (10: 1).
هل نوى يسوع أن يعبُر السامرة ليصل مباشرةً إلى أورشليم؟ هذا ما نشكُّ فيه، لأنه لم يكن محتاجاً إلاّ إلى بضعة أيّام ليصل إلى هدفه. هل أراد أن يبشِّر السامريّين (مت 10: 5)؟ هذا ما لا نعرفه. ومهما يكن من أمر، فرفض قرية سامريّة أن تستضيف جماعة الجليليّين المتوجّهين إلى أورشليم (آ 53) يتوافق مع ما نعرف عن عدم التفاهم السائد بين اليهود والسامريّين (رج رو 4: 9). واتّبع يسوع التعليمات التي أعطاها لتلاميذه (9: 5: "وكل مدينة لا يقبلكم أهلها، فاخرجوا منها وانفضوا الغبار عن أقدامكم نذيراً لهم"). فلم يُلحَّ على البقاء في هذه القرية، بل ذهب إلى مكان آخر (آ 56). وسيوبّخ الأخوَين يعقوب ويوحنا (ابنى الرعد حسب مر 3: 17) لغضبهما وغيظهما: إنهما يريدان أن يأمرا نارَ السماء أن تعاقب هؤلاء القرَويّين الذين لا يعرفون شرائع الضيافة (آ 54).
في الماضي، وعَى يوحنا أيضاً صفته السامية كرسول (لم يفهمها على حقيقتها) فأظهر سلوكاً لم يرضَ به يسوع. قال: "يا معلّم، رأينا رجلاً يطرد الشياطين باسمك فمنعناه، لأنه لا يتبعك معنا". فقال له يسوع: "لا تمنعوه، لأنّ من لا يكون عليكم فهو معكم" (9: 49- 50).
وبعد الإنباء الثالث للآلام (حسب مر 10: 35- 40)، نرى الأخوين يطلبان طلباً غيرَ مألوف بالنسبة إلى مكانتهما في الملكوت الآتي. وخلال مشهد التجلّي (9: 28- 36)، كان إيليا قد تراءى لهما فتذكّرا نار السماء التي نزلت مرّتين بأمر من إيليا على جنود أرسلهم الملكُ أحزيا (2 مل 1: 9- 12). ومهما يكن من أمر، فيسوع لا يسمح، وهو يقترب من البشر، أن يعطى لهم إلاّ نعمة الله (يو 3: 17: "أرسل الله ابنَه لا ليدينَ العالم، بل ليخلّص به العالم"؛ 12: 47). فكل تسبيق للدينونة يجب أن يُستَبْعد. فالدينونة تخصّ الله لا البشر، حتى ولو كانوا رُسلاً.
هناك عدّة مخطوطات قديمة تزيد في نهاية آ 54: "كما فعل إيليا أيضاً". وتشير آ 55- 56 إلى مضمون توبيخ يسوع لهما: "لا تعلمان من أيّ روح أنتما (لا تعلمان أيّ روح يحرّككما). فابن الإنسان أتى لا ليُهلك نفوس الناس، بل ليخلّصها". هذه الزيادات تستند إلى شهود غير كافية، ولهذا لا توضع في عدد كبير من الترجمات. وهي، وإن تكن معقولة (ترتبط الزيادة الثاني بنصّ 19: 10)، لا تنتمي إلى النصّ الأولانيّ، كما يقول معظم الشرّاح.

ب- كيف نتبع يسوع (آ 57- 62)
من المعقول أن يكون لوقا قد جمع هذه المشاهد القصيرة الثلاثة (جُمع المشهدان الأوّلان في مت 8: 19- 22، والمشهد الثالث خاصٌّ بلوقا) لأنها تجيب على سؤال واحد: كيف نتبع يسوع؟ ويمكن أن نحدّد موقعها ساعةَ كان يسوع يستعدّ للإنطلاق. أمّا متّى فقد وضعها ساعة استعدّ يسوع لعبور بحر الجليل والتوجّه إلى جدارة (نقرأ هنا: ناحية الجراسيّين، مر 5: 1؛ لو 8: 26، 37).
المهمّ لا الشخصُ الذي نراه على المسرح. ونلاحظ أنّ لوقا لا يقول بوضوح إن واحداً من الثلاثة تتلمذ أو لم يتتلمذ ليسوع. المهمُّ هو التعليم الذي يعطيه يسوع في تلك المناسبة.
إن يسوع يضع متطلّباتٍ ثلاثاً لمن يريد أن يكون تلميذاً له.
1- المتطلّبة الأولى: التخلّي عن كل ما يؤمِّن لنا الراحة (آ 57- 58)
جاء الأوّل وكان مجهولاً. أمّا متّى فيقول: "دنا أحد الكتبة (أو معلّمي الشريعة)" (مت 8: 19). وأشار إلى أنّ الثاني كان واحداً من التلاميذ، وقد يكون هو أيضاً كاتباً. إذن، قدَّم هذا المجهولُ نفسَه ليتبع يسوع إلى أيّ مكان. كنا ننتظر أن يقدِّم (يكشف) له يسوع الهدفَ الأخير لحياته وهو أورشليم وآلامه. ولكنه أجابه أن ابن الإنسان لا يعيش في مكان من الأمكنة. وهو مهدَّد مثلَ حيوان البرّ الذي لا مكان له يختبئ فيه. والعبارة "مكان يسند إليه رأسه" تذكّرنا ببيت لحم (2: 7: "لم يكن لهما مكان حيث حلاّ")، وتؤكّد الصورةَ التي أعطاها الإنجيليّون عن حياة يسوع التائهة والتي لا تعرف الثبات.
يسمّي يسوع نفسه هنا كما في سائر الأناجيل: ابنَ الإنسان. يدلّ هذا اللقب على الإنسان الذي هو عضوٌ في الجنس البشريّ (هذا هو معناه في التوراة). أو يدلّ على هذا الشخص السرّي الذي يرتدي كرامة الديّان السامي في نهاية الأزمنة، والذي يتحدّث عنه دا 7: 13 وسفر أخنوخ. إن يسوع يطبّق على نفسه هذا اللقب في المعنى الثاني.
إن يسوع يشدّد على تعارض، قد لا يكون مُحاوِرُه شَعر به، بين صفته الأساسيّة والحياة. اليوميّة التي يعيشها، بما فيَها عداوةُ هؤلاء القرويّين السامريّين. أجل، إن الربّ يذهب من مكان إلى آخر، ولا مكان له في خليقته.
وَضعُ التلميذ يكون كوَضع المعلّم: غريب ومسافر على هذه الأرض (1 بط 2: 11). كلاهما ليسَ له مَلجأ أمين (تقول عب 13: 14: "مدينة ثابتة"). فمن تبِعَ يسوع قبِلَ أن يتعرّض لشدائد الحياة.
2- المتطلّبة الثانية: نُخضع كلّ شيء وبدون تأخير لواجب التبشير (آ 59- 60)
ويقدِّم المحاور الثاني نفسَه. أمرَه يسوع أن يتبعه، فتعلّل بواجبات يقوم بها تجاه أبيه الذي مات واحتاج إلى من يدفنه.
إن التقوى البنويّة في العالم اليهوديّ، والمؤسسة على الوصيّة الرابعة، تفرض على الأبناء أن يؤمّنوا دفنة لائقة لوالديهم. كانوا يدفنون الموتى حالاً بعد وفاتهم (أع 5: 6)، ولكن الاحتفالات الجنائزيّة كانت تدوم سبعة أيّام.
أوّلاً: رفض يسوع أيّ تأخير، أيّ تأجيل. فمن يدعوه الربّ يتشبّه بإبراهيم الذي قام باكراً وأسرج حماره، وانطلق الى الجبل الذي عليه سيضحّي بابنه إسحق (تك 22: 3). على من يدعوه الربّ أن يطيع حالاً ولا يتأخّر. هناك ساعات حرجة في الحياة الأخلاقيّة، فإن لم نعمل فيها ما يجب عمله، فلن يعمله أحد. تهُبّ الريح. ولكن عندما تسكن، لن تعود السفينة تستطيع الخروج من المرفأ.
ثانياً: أكد يسوع خضوع الواجبات البشريّة لمتطلّبات الملكوت. هو لا يعتبر الواجبات العائليّة أموراً لا قيمة لها (مت 15: 3- 9؛ رج 1 تم 5: 8). ولكن حين يكون صراعٌ ، فضرورات الملكوت تمرّ قبل سائر الضرورات. هناك أَولويّةُ ما هو مهمٌّ وملحّ، فلا يمنع آباءُ الأرض ربَّ الكلّ وسيّدهم من أن تكون له حقوقه كاملة. هذه هي الفكرة التي نجدها في 14: 26: "إن كان أحدٌ يأتي إليّ ولا يبغض أباه وأمّه وإمرأته وبنيه وإخوته وأخواته، بل نفسه أيضاً، فلا يستطيع أن يكون تلميذاً" (موازاة مخفّفة في مت 10: 37: "من أحبّ أباه وأمّه أكثر مني فلا يستحقّني"). فيها يقول لنا يسوع إن حبّنا للربّ يمرّ قبل حبِّنا للأقارب وحبّنا لذاتنا. وإن كان من صراعٍ بين أمانتنا للربّ وأمانتنا للعواطف البشريّة، تمرّ أمانتنا للربّ أوّلاً، وإن نتج عن ذلك انقطاع شبيه بذلك الذي ينتجه البغض.
نتذكّر هنا ما تذكّره سامعو يسوع. نتذكّر مشهداً مماثلاً حدثَ حين دعا إيليا أليشاع (1 مل 19: 19- 21). طلب أليشاع أن يذهب ليقبّل أباه وأمّه قبل الإنطلاق. قال إيليا: تستطيع أن تعود إلى عملك، فماذا صنعتُ لك؟ كأني بإيليا تركه يعود إلى والديه. ولكن سلطة ربّ الملكوت أعظمُ من سلطة نبيّ، وها هنا أعظمُ من إيليا ومن سليمان. غير أننا نميّز أيضاً شيئاً آخر.
لا يهتمّ يسوع كثيراً بحفلات الجَنازة. إستأذن أليشاع ليقبّل الأحياء ويودّعهم. أما مُحاور يسوع فيطلب أن يذهب ليكرّم الموتى. ففي منظار الملكوت الذي يُدعى الإنسانُ إلى إعلانه، لم تعُد الأمور الجنائزيّة بذي بال. والحَنوطُ الذي هيّأته النسوة لجثّة يسوع (24: 1) لا أهميّة له بعد إنجيل الفصح. ليَدفِنِ الموتى موتاهم.
نحن هنا أمام واجب نقوم به باحترام وإكرام، ولكنه لا يقع على مستوى الملكوت. فلنحتفظ من عالم وثنيّ يولد دوماً من جديد ويجتاح الكنيسة. إستعمل يسوع في جوابه لفظة "مَيت" مشيراً إلى المعنى الطبيعيّ والمعنى الروحيّ كما في يو 5: 21- 29؛ أف 2: 1. فالذين لم تتجدّد حياتهم بالإيمان ليسوا أحياءً للربّ.
3- المتطلَّبة الثالثة: نترك الماضي ونتطلّع إلى الأمام (آ 61- 62)
وقدَّم شخصٌ ثالث نفسَه كما فعل الشخص الأوّل. والشرط الذي وضعه شبيه بشرط أليشاع (1 مل 19: 19- 21)، مع العلم أنّنا نستطيع أن نترك مركزاً ووظيفة، كما نترك أشياءَ تعلّقَ قلبُنا بها، كما في 14: 33: "وهكذا لا يقدر أحدٌ منكم أن يكون تلميذاً لي، إلاّ إذا تخلى عن كل شيء له".
وجاء جوابُ يسوع بشكل كلام مأثور عرفَه الأدب القديم. فإذا أراد الفلاّح أن يرسم ثَلماً مستقيماً وجب عليه أن لا يلتفت إلى الوراء. ونتذكّر هنا أيضاً أنّ أليشاع كان يمسك بالمحراث حين دعاه إيليا. مرَّ بقربه ورمى عليه رداءه فأعطاه شيئاً من قوّته ودمه على دعوته النبويّة.
جواب يسوع هنا يشبه جوابه السابق، ولكنه جاء بصورة عامّة: إن اتّباع يسوع يفرض انقطاعاً عن الماضي. لا نقطع فقط الرباطات العائليّة القديمة. فنظرتنا إلى الوراء تدلّ على إرثٍ من القِيَم والخِبرات الأخلاقيّة اقتناها الإنسان خلال حياته. فإذا أردنا أن نكونَ جديرين بالملكوت، نتخلّى كلّـياً عن هذا الماضي على ما قال القديس بولس: "أَحسب كلّ شيء خَسارةً من أجل الربح الأعظم، وهو معرفة ربّي يسوع المسيح. من أجله خسِرت كل شيء وحسبت كل شيء نفايةً لأربح المسيح وأكون فيه" فل 8:3).
أجل، في هذه الحياة الجديدة، نحتاج إلى قلب غير منقسم، نحتاج أن نمشي ونحن نتطلّع إلى الأمام، كما قال بولس الرسول: "أنسى ما ورائي وأجاهد إلى الأمام فأَجري إلى الهدف" (فل 3: 13- 14). نتطلّع إلى ذلك الذي يمشي أمامنا، إلى يسوع المسيح "رأس إيماننا ومكمِّله الذي تحمّل الصليب، فجلس عن يمين عرش الله" (عب 12: 1- 2).

ج- ساعات حاسمةٌ في الرسالة
ونتوقف الآن عند المعنى الروحيّ. فنصُّ الإنجيل يَصدِم اليوم القارىءَ بجَفاء كلماته ومواقف يسوع التي يوردها. ولكن يجب أن لا نخفّف من مدلولها، بل نسعى وُلوج معناها وتميّز آنيّتها المستمرّة.
لوقا هو إنجيل رحمة الله وحنانه، فكيف نفسّر النبرة القاسية التي نجدها في هذا النصّ؟ الجواب: لأنه يدخلنا في مرحلة جديدة من رسالة يسوع. عليه أن يترك الجليل "ليصعد إلى أورشليم". وهذا يَعني للمسيح عبورَ عتبة واتخاذَ قرار حاسم يُلزم حياتَه: إن بقي في الجليل مدّدَ الحياة السهلة مع نجاحاتها الأولى، وسقط في التجربة: أن يصير مسيحاً زمنيّاً، أن يصبح معبودَ الجماهير، أن يصنع حياته بيده. وإن عزم على الصعود إلى أورشليم، فهذا يعني قَبولَ إرادة الآب بصورة ملموسة، فيعطي حياته. هذا يعني انفصالاً عن الماضي والتزاماً بمستقبل غير أكيد ولكنه يوافق مخطّط الآب.
بعد هذا لن نَدهَشَ إن دُفع الربّ في هذا الإطار إلى التحدّث بقساوة عن الإنقطاعات الإنجيليّة الضروريّة لمن يريد أن يتبعه في خدمة ملكوت الله. ففي كلّ حياة مسيحيّة كما في تاريخ الكنيسة، هناك أوقاتٌ يجب أن نقطع فيها كل رباط مع طمأنينات قديمة، أن ننسلخ عن "هدوء الجليل" أمانة للربّ وللرسالة.

1- وحزَمَ يسوع أمرَه وانطلق إلى أورشليم
يسوع يواجه مستقبله. وهذا المستقبل هو أورشليم، هو "ساعته"، هو الزمن الذي فيه يُختطَف من هذا العالم، هو "عبورٌ من هذا العالم إلى أبيه". هو يعرف إلى أين يذهب. هو يذهب إلى حيث يريده الآب أن يذهب، حيث يقوده الروح.
لقد سمعه التلاميذ يقول: "أمّا أنتم فضَعوا جيّداً هذه الكلمات في آذانكم: على ابن الإنسان أن يُسلَّم إلى أيدي الناس. فما فهموا هذا الكلام، وكان مُغْلقاً عليهم حتى لا يفهموا معناه. وتهيّبوا أن يسألوه عن هذا الكلام" (9: 44- 45). أمّا هو فيعرف إلى أين يذهب ولماذا يذهب: لكي يُتِمّ ما لأجله جاء، لكي يُتِمّ إرادة الآب.
ذهب "بعزم"، "قسّى وجهه" مثل عبد يهوَه (عبد الله) الذي جعل وجهَه قاسياً كالحجر لأنه يعرف أنه لا يُخزى (أش 50: 7). إن هذا الإنطلاق الحازم يدلّ على إرادة يسوع الثابتة بأن يُتِمّ رسالته. الإنطلاق إلى أورشليم ليس في نظر لوقا انتقالاً من مكان إلى آخر: فتبديل المكان هذا يكشف قرارا صريحاً وإرادة مثابرة للقيام بالمهمّة. يذهب يسوع إلى أورشليم "ليخلّص أورشليم" (2: 38)، ليفجّر أورشليم الميثاق القديم، أورشليم العبوديّة، ويكشف أورشليم الجديدة، أورشليم العُليا، أورشليم الميثاق الجديد. بدأ بكامل حرّيته وإرادته مسيرةَ تحرير شعب الله التي لا تتمّ، بحسب قصد الله السرّيّ، إلاّ بآلامه وموته وقيامته.
الكنيسة مدعوّة اليوم، وفي الكنيسة كلُّ مسيحيّ مدعوٌّ لكي يتبَعَ يسوع المسيح ويتابع رسالته الخلاصيّة، لكي يصعد هو أيضاً إلى أورشليم. هو مدعوٌّ لكي ينطلق بعزم في هذه الطريق. ففي تاريخ كنيستنا وفي تاريخ كلّ إنسان، هناك أوقاتٌ بارزة وانطلاقاتٌ حاسمة يجب أن نتميّزها لنلتزم ونسير نحو الهدف.
مستقبلُ الكنيسة (مستقبل المسيحيّ) غير معروف في مادّيّته: نحن لا نعرف ما سنواجهه من أحداث محدّدة. فخلال الأزمات الشخصيّة أو الجماعيّة يُمسك القلقُ بنا. إذا كنّا لا نرى بوضوح تشعّب الأحداث الحاضرة وما يخبّئه لنا المستقبل، إلاّ أننا متأكّدون من الهدف، من معنى الرسالة الأخير: اختطافنا، ارتفاعنا، تمجيدنا مع المسيح. لهذا فرجاؤنا ثابت، وانطلاقاتنا حازمة وصريحة. ومهما كان مستقبلنا مؤلماً وقاسياً، فنحن متأكّدون من محبّة الآب، من أمانة كلمته، من النصر النهائيّ. وإن يكن الوضع حرِجاً، إلاّ أن اليقينَ الداخلي يبقى ثابتاً، والالتزامَ يكون كاملاً ومن دونَ تحفّظ. فالمتردّدون الدائمون الذين يؤجّلون كل يوم قرارهم بأن ينطلقوا إلى أورشليم، لا يتوافقون وموقفَ يسوع. هناك بحث، أو عدمُ بحث، يدلّ حسب الإنجيل على نقص في الإيمان والرجاء لدى المسيحيّ.

2- إستقبال رديء للرسل
أرسل يسوع رسُلاً أمامه، فلاقَوا استقبالاً عاطلاً. هذا هو الواقع الذي نجده في الإنجيل. ولكنّ هذا لم يمنع يسوع من الإنطلاق إلى أورشليم.
وكانت ردّة الفعل عنيفةً عند يعقوب ويوحنا. فلهم نظرتهم الخاصّة إلى دينونة الله: هو يشجُب ويدمّر كلّ الذين يرفضون تعليمه. ونرى أيضاً التلاميذ يواجهون الربّ ولا يقاسمونه نظرته إلى الملكوت.
ويُفهمنا الربّ أنّ طرقهم ليست طرقَه ولا طرقَ الآب. هو لا يحكم مثلَهم. هو يرفض أساليبهم. ولهذا ينطلق نحو الهدف في طريق أخرى.
كيف نتقبّل هذه الكلمات اليوم؟
الوضع الذي عاشه يسوع والرسل لم يزَل هو هو. والكنيسة لا تلقى الإستقبال الحارّ لدى أناسٍ مسجونين في أفكارهم المسبَّقة وعاداتهم وخطاياهم. ويحاول "رسل اليوم" أن يعجّلوا دينونة الله. ويرفض يسوع هذا الأسلوب. فالإنجيل محرِّرٌ ولا يقبله إلاّ أناسٌ أحرار مهما كانت النتائج لحامل الرسالة.
نحن نقبل أسلوب يسوع الذي بدا ليعقوب ويوحنا كعلامة ضعف وتهرُّب من المواجهة. ولكن في نظر يسوع، هذا الأسلوب يعني رفض الأخذ بسلاح العدوّ. فالأساليب الإنجيليّة ليست أساليب العالم. فأسلحة الرسول الوحيدة هي "أسلحة الروح". يتمّ "خدمة الروح" (2 كور 3: 8) فيلبس "سلاح الله" (أف 6: 11)، ويستعمل "سيف الروح أي كلمة الله" (أف 6: 17). هو لا يرفض القتال، ولكن ذلك القتال الذي يصبو إلى تحرير الخصم. رسالة الكنيسة تقوم لا بأن تحكم وتشجُب، بل أن تخلّص، لا بأن تدمّر بل أن تفدي الإنسان. وقوّتنا هي قوّة الله نفسه، ونعمته تكفينا. وستكون الكنيسة دوماً ضعيفة في نظر العالم. فالمسيحيّ (وكلّ جماعة مسيحيّة ورسوليّة) لا يقوم بمهمّته إلاّ إذا اتّبع المسيح حتى أورشليم فقَبِل أن يتألّم ويموت من أجل خلاص البشر.

3- متطلّبات الدعوة الرسولية
هذه كلمات قاسية، فمن يطيق سماعها؟ أما يستطيع يسوع أن يخفّف من حدّة متطلّباته فيربح عدداً كبيراً من التلاميذ؟ يبدو أن هذا ليس أسلوبَه في العمل.
جاءه مرشَّحٌ أوّل يريد أن يتبعه. ليس له مكان يُسند إليه رأسه. هل نحن مستعدّون لأن نسير معه دون توقّف، دون أن نحسب حساباً لوقتنا وملكنا وحياتنا؟
وطلب الثاني مُهلةً من أجل قضيّة عائليّة مقدّسة: دفنِ الموتى. ولكن ما يَهُمّ يسوع هم الأحياء. وإعلان الإنجيل يقود إلى الحياة، فالله يُسمّى لا "إلهَ موتى بل إلهَ إحياء" (20: 38). من قبل الكلمة، ولو كان ميتاً، لبث في الحياة. ومن رفض الكلمة ولو كان حيّاً، أقام في الموت.
واستأذنه شخص ثالث. لا مكان للإستئذان: لقد بدأ العمل، فلم يبقَ لنا وقت لننظر إلى الوراء. فيسوع لا وقت له يضيّعه في طريقه إلى أورشليم. لقد عاش بنفسه هذه الإنقطاعات العائليّة، وعائلته لم تفهمه. وسيشدّد يسوع على هذه الإنقطاعات الضروريّة، على "بغض" التلميذ للأب والأمّ والزوجة (14: 26).
إن هذه الكلمات تطرق قاسية في أذنَي المسيحيّ وقلبه، وهو الذي أراد أن يتبع المسيح أينما يذهب. وهي تُريه المواقف الروحيّة المطلوبة من الرسول. فكما كان رداء إيليا على كتفَي أليشاع، فالرسول قد "لبس يسوع المسيح" وعاش عواطف الربّ فامتلكه الربّ. ولكن يبقى أنّ نتائج هذا النداء وتسليم المهمة الرسوليّة تظلّ ثقيلة.
يُدعَى التلميذ إلى التخلّي عن كل طمأنينة مادّية تمنعه من اللجوء إلى الذي يرسله. والمدعوّ إلى الرسالة لا يستطيع أن يتأخّر تجاه ما هو مائت. والرسول الذي وضع يده على مِحراث يسوع المسيح، قد يحاول أن ينظر إلى الوراء بعد أن بدأ العمل الرسوليّ، بعد أن بدأ انطلاقته إلى أورشليم. ولكنّ يسوع يأمره بأن ينظر إلى الأمام رغم جاذبيّة الوضع السابق وتذكّرات بصل مصر ومتطلّبات الأهل والأقارب.
إن متطلّبات يسوع هذه تبدو قاسية لدى عدد كبير من المسيحيّين. بل تبدو غير واقعيّة ومثاليّة في نظر المجتمع المعاصر. ويتساءلون: كيف نستطيع أن نعيشها في ظروف الحياة الملموسة؟
يهتمّ يسوع هنا بتربية تلاميذه. فإن كان الفقر بالروح والتجرّد الرسوليّ يكوّنان مُناخ كلّ حياة في المسيح، فهناك أوقات يجب أن ننفصل فيها عمّا نملك، عمَّن نحبّ، بل عن ذاتنا. هذا هو وضع يسوع في تلك الساعة من حياته البشريّة. وهناك أمام كلّ إنسان ساعة حاسمة تفرض عليه انطلاقةً جديدة مع كل ما تتضمّن هذه الإنطلاقة من تمزّق. إلى هذا يدعونا يسوع.
نحن نتبعه فنحيا معه وبه وفيه من جديد المسيرةَ ذاتَها والمحنةَ ذاتها والفرحَ ذاته. فبالنسبة إليه، كما بالنسبة إلى المسيحيّ والجماعة الكنسيّة، ما يتحكّم بحياتنا هو المهمّة التي رسَمَها لنا الآب. إنه حبُّ الآب يُلهمنا الخِياراتِ الحاسمة

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM