رأيتُ وشهدتُ أنَّ هذا ابنُ الله

الأحد الأوّل بعد الدنح (2 كو 10: 1-11؛ يو 1: 29-34)

 

29ولليومِ الذي بعدَه، رأى يوحنّا يسوعَ آتيًا إليهِ فقالَ: "ها هو حملُ اللهِ الحاملُ خطيئةَ العالَم. 30هذا هو الذي قلتُ عنه: بعدي آتٍ رجلٌ وهو كانَ قدّامي، لأنَّه أقدمُ منِّي. 31وأنا ما كنتُ أعرفُه، لكن ليُعرَف لإسرائيلَ، لأجلِ هذا أنا أتيتُ لكي بالماءِ أعمِّدَ." 32وشهِدَ يوحنّا وقال: "رأيتُ الروحَ نازِلاً من السماءِ مثلَ حمامةٍ فاستقرَّ عليه. 33وأنا ما كنتُ أعرفُه، لكن مَنْ أرسلَني لأعمِّدَ بالماءِ هو قالَ لي: الذي ترى الروحَ نازلاً ومُستقِرًا عليه، هذا هو المعمِّدُ بالروحِ القدس.” 34وأنا رأيتُ وشهدتُ أنَّ هذا هو ابنُ الله."

*  *  *

وفي الغد، كانت شهادةٌ أُولى ليوحنَّا المعمدان حين أرسلوا يسألونه. شهادة نافية: لا أنا المسيح، ولا إيليَّا، ولا النبيّ المنتظر الذي تحدَّث عنه موسى في تث 18: 15، 18. وها هنا شهادةٌ تعلن مَن هو  يسوع، مَن هو الشخص الآتي إلى يوحنَّا. أوَّلاً، هو حمل الله؛ ثانيًا، هو قبل يوحنَّا، لا على مستوى الجسد ولا على مستوى الكرامة فقط. هو الكائن منذ الأزل. قبل أن يأتي إلى العالم، كان هنا. سرٌّ رهيبٌ يعلنه يوحنَّا أو بالأحرى تُعلنه الكنيسة بفم يوحنَّا. وحين تكلَّم يسوع عن إبراهيم الذي تمنَّى أن يراه، سألوه عن العلاقة بأبي الآباء، فقال: "قبل أن يكون إبراهيم أنا الكائن، أنا هو، أنا يهوه". ثالثًا، هذا السائر قرب نهر الأُردنّ، هو ابن الله. هو الابن، كما سيقول الإنجيل الرابع فيُبيِّن العلاقة بين الآب والابن. فهذا الذي ترونه ليس فقط من عالم الأرض، هو من عالم السماء. ليس فقط إنسانًا مثلنا، شبيهًا بنا في كلّ شيءٍ ما عدا الخطيئة، بل هو الله المساوي للآب في الجوهر.

هو حمل الله. إعتاد عالم فلسطين على الذبائح. وأهمّ ذبيحةٍ هي الحمل. وعظمتها أنَّها ترتبط بالفصح. ففي بدر نيسان يُذبَح الحمل فيتذكَّر العبرانيُّون خروجهم من مصر، من أرض العبوديَّة، وحريَّتهم في عبادة الإله الواحد. كما يتذكَّرون يوم التكفير الذي يدعوهم، كلّ سنةٍ، إلى الاعتراف بخطاياهم والانطلاق في سنةٍ جديدة، بعد أن حُملت خطايا الشعب إلى البريَّة.

أمَّا هذا الحمل فهو لا يكتفي بخطايا شعبٍ واحدٍ وفئةٍ واحدة، بل هو جاء من أجل العالم كلِّه. يقول الإنجيل: "هكذا أحبّ اللهُ العالم حتَّى إنَّه أرسل ابنه الوحيد، فلا يهلك مَن يؤمن به بل تكون له الحياة الأبديَّة" (3: 16).

اعتبر الناس أنَّ يوحنَّا جاء قبل يسوع، إذًا هو أهمّ من يسوع. ولكنَّ يوحنَّا فهِمَ وعرف مَن هو الآتي إليه: لا يستحقّ أن يحلّ له رباط حذائه (1: 27). واعتبروا أنَّ يوحنَّا يعمِّد، فلماذا يعمِّد يسوع؟ وبات تلاميذ يوحنَّا وكأنَّهم يرفضون ليسوع هذا العمل: "الرجل الذي شهدتَ له يُعمِّد هنا وجميع الناس يجيئون إليه" (3: 26). هناك معموديَّة ومعموديَّة. معموديَّة الماء يحملها يوحنَّا، وهي تدعو إلى التوبة. أمَّا يسوع فيعمِّد في الروح القدس. معموديَّته فاعلةٌ لأنَّها عملٌ إلهيّ. فكما أنَّ يسوع كان يشفي بكلمة، يحوِّل الإنسان من المرض إلى الصحَّة سريعًا، هكذا ينقل مَن يعتمد بمعموديَّته من بنوَّة الأرض إلى بنوَّة السماء. يصبح كلُّ واحدٍ منَّا ابنَ والدَيه ثمَّ ابنَ الله. وهكذا تكبر وتنمو عيلة الله. فإلهنا عيلة، وليس ذاك القابع في أعلى سمائه، ينظر إلى البشر من فوق وينتظرهم لكي يدينهم. هو آب، وابنه الوحيد بالطبيعة هو الابن، الكلمة المتجسِّد. وكلُّنا مدعوُّون لنصبح أبناء وبنات مع الابن الوحيد، يسوع المسيح الذي يريدنا أن نكون حيث هو.

منذ البداية، الإطار الذي يجعلنا فيه الإنجيل هو الفصح، موت يسوع وقيامته. أمَّا هنا فالكلام عن حمل الله الذي رُفع على الصليب ساعة كانت تُذبح الحملان في الهيكل. ومع عرس قانا الجليل، نكون في اليوم الثالث حيث نتذكَّر القيامة التي جعلت التلاميذ يؤمنون بيسوع ويسيرون معه إلى كفرناحوم، إلى الرسالة.حبّأا

في هذا الأحد المبارك، نتعرَّف إلى يسوع بفم يوحنَّا المعمدان، الذي ذُكر منذ الفصل الأوَّل: "كان رجلٌ اسمه يوحنَّا، جاء ليشهد". وها هي شهادته هنا بانتظار شهادةٍ ثالثةٍ في الفصل الثالث. هو خاتمة الأنبياء، هو على عتبة العهد الجديد، ومع ذلك ها هو يؤدِّي شهادةً خاصَّةً، لأنَّ الروح كان حاضرًا لديه، والروح أَفهمه مَن هو هذا الآتي ليعتمد.

اعتمد يسوع فاعتُبر إنسانًا. ونزل مع النازلين التائبين على خطاياهم، مع أنَّه بلا خطيئة. أراد أن يكون مع الخطأة ليرفعهم إلى القداسة. نزل معهم في الماء بانتظار أن ينزل معنا بالموت والقبر. فهو ما أراد أن يتميَّز عنَّا.

هذا ما نراه. ولكنَّ الوجهة التي لا نراها هي الأهمّ. هذا "الشابّ" هو حَمَل الله. في خطّ نشيد إشعيا حول "عبد الربّ" (إش 53)، جاء يحمل آثام الكثيرين ليبرِّرهم. ثمَّ هو القديم: لا نستطيع أن نقول فقط إنَّ يسوع وُلد في أيَّام هيرودُس الكبير، أي حوالى سنة 5 أو 6 ق.م. هو "بِكْر الخلائق كلِّها"، كما قال الرسول. فتجسُّده سابق للزمن، وإن نحن اختبرناه منذ ألفَي سنةٍ تقريبًا. لمَّا خلق اللهُ الآب الكونَ كان الابن بقربه. فهو خلق "بالكلمة" الذي كان لدى الله، بالكلمة الذي هو الله. هنا نفهم قوّة الشخصيَّة عند يسوع. ما إن قال يوحنَّا "هذا هو حمل الله" حتَّى راح تلميذان وراءه وقضيا النهار معه. وسوف يتذكَّران تلك الساعات التي ملأت حياتهما، بعد سنواتٍ طويلة.

اعتمد يسوع في الأُردنّ فأَعلنه الآب: "هذا هو ابني الحبيب"، ونحن نعتمد اليوم ونؤمن بأنَّنا أبناء الله وبناته. فينبغي علينا، بحسب كلام الرسول، أن نتشبَّه بالله كالأبناء الأحبَّاء، ونسير في المحبَّة سيرة المسيح الذي أحبَّنا وضحَّى بنفسه من أجلنا" (أف 5: 1-2).

والمعمَّد هو شاهدٌ بعد أن حلّ فيه الروح القدس. نحن نرى أطفالنا يعتمدون، وبما أنَّنا لا نستعدّ لهذا العمل إلاَّ بالأمور الخارجيَّة (تصوير، حفلة، غداء...)، لا ندرك الفرح الذي يملأ قلب المعمَّد. ولكن، حين يعتمد شابٌّ أو فتاة، نستطيع أن ندخل في الجوّ الذي عرفه المسيحيُّون في بدايات الكنيسة. هم يُخبرون، مثل بطرس الذي قال: "لا نستطيع أن نسكت". وما اكتفوا بأن يشهدوا، بل كانوا مستعدِّين لأن يموتوا لأجل مَن مات لأجلهم. فالموت معه لا يكون فقط موتًا، بل هو قيامة ومجد، على ما قال الرسول بولس في رسالته إلى أهل رومة.


 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM