يجب أن أكون في بيت أبي

وجود الربّ في الهيكل (عب 7: 11-19؛ لو 2: 41-52)

 

41وأبواه، في كلِّ سنة، كانا يَذهبان إلى أورشليمَ في عيدِ الفصح. 42ولمّا صارَ ابنَ اثنتَي عشرةَ سنة صعدا كما كانا مُعتادَينِ إلى العيد. 43ولمّا تمَّتِ الأيّامُ رجعا هما. أمّا يسوعُ الصبيُّ فبقيَ هو في أورشليم، ويوسفُ وأمُّه ما علما. 44فكانا ظانَّينِ أنَّه مع أبناء صحبتِهم. وحين أتيا مَسيرةَ يَومٍ واحد، طلباهُ عندَ أقارِبِهم وعنْدَ مَعارفِهم. 45فما وجداه، فرجَعا أيضًا إلى أورشليم، وكانا يَطلبانِه. 46ومنْ بعدِ ثلاثةِ أيّام، وجداه في الهيكلِ جالسًا في وسطِ المعلِّمينَ وسامعًا منهم وسائلاً إيّاهم. 47ومُنذهلِينَ كانوا كلُّ الذين كانوا سامِعينَ له، بحكمتِه وأجوبتِه. 48فلمّا أبصراهُ تَعجَّبا. وقالَتْ لهُ أمُّه: “يا ابني، لماذا فعلْتَ لنا هكذا؟ فها أبوكَ وأنا بعناءٍ كثيرٍ طالبانِكَ.” 49فقالَ لهما: “لماذا كُنتُما طالبانِني؟ أما أنتما عارفان أنَّهُ يَنبغي لي أنْ أكونَ في بيتِ أبي؟” 50أمّا هما فما فهِمَا الكلمة، التي قالَ لهما. 51ونزَلَ مَعهما وأتى الناصرة، وكان مُطيعًا لهما. أمّا أمُّه فكانَتْ حافظةً الكلماتِ كلَّها في قلبِها. 52وأمّا يسوعُ فكان ناميًا في قامتِه وفي حكمتِهِ وفي النعمةِ عندَ اللهِ والناس.

*  *  *

اعتدنا من الصور التي نراها ولاسيَّما تلك الآتية من الغرب أن نتوقَّف عند الأناجيل المنحولة التي انتقلت في السنسكار المارونيّ القديم. وهكذا لا نُميِّز بين الأسفار القانونيَّة التي تشكِّل قاعدة الإيمان والحياة المسيحيَّة، والأسفار المنحولة التي هي قصص تقويَّة تشوِّه مرَّات عديدة الأناجيل القانونيَّة، فتجعلها سطحيَّة وتخفِّف منها ماويَّة الروح.

يسوع وُلد طفلاً مثل سائر الأطفال، وما تَميَّز خارجيًّا عنهم. وهو لم يتكلَّم في المهد، بل تكلَّم في العمر الذي يتكلَّم فيه الأطفال. كما لم يُجرِ المعجزات منذ صغره: ما طلب من البلحة أن تنحني، وما صنع من التراب طيورًا. وراح البعض في النهاية يقولون: إنَّه مضى إلى الهند ومن هناك جاء بتعليمه الساميّ. ونحن المسيحيِّين مستعدُّون لأن نقبل كلَّ ما نسمع وما نقرأ. مع أنَّ الرسول قال لنا: "ميِّزوا الأرواح. وقال: إذا كان إبليس يتزيّا بزيّ ملاك النور فماذا نقول عن خدَّامه!

أناجيل الطفولة تحمل تعليمًا لاهوتيًّا، لا قراءة تاريخيَّة. فهنا نتعرَّف إلى يسوع في حياته في الناصرة. يعيش مع والديه. هو طائع مثل سائر الأولاد من عمره. وكذا سيكون شابًّا حين ينطلق في الرسالة وهو بعمر الثلاثين سنة تقريبًا. لا يهتمُّ لوقا بالعمر، بقدر ما يريد أن يربط يسوع بتاريخ شعبه. في عمر الثلاثين يبدأ اللاويّ بالخدمة. وهكذا يسوع. وفي عمر اثني عشر عامًّا يصبح المؤمن مسؤولاً عن نفسه على مستوى الحياة الدينيَّة. لهذا أضاعه والداه وما اهتمّا. حسباه مع هذا الفريق أو ذاك. هي محطَّة هامَّة في حياة الصبيّ، إذ ينتقل من خيمة النساء إلى خيمة الرجال.

بحثا عنه ثلاثة أيَّام. هو الواقع. والرمز من خلاله هو الزمن الذي يفصل بين الصلب والقيامة. فجماعة التلاميذ ضاعوا في ذلك الوقت. التلاميذ تشتَّتوا، هربوا. ثمَّ تحيَّروا بالنسبة إلى القيامة. ففرح يوسف ومريم يضاهي فرح الرسل حين وجدوا يسوع القائم من بين الأموات. وهكذا نفهم فعل "طلب" الذي يدلُّ على جزع الأمّ وحزن الأب. والمعنى الروحيّ يذكِّرنا بما عملته المجدليَّة حين كانت تبحث عن يسوع ورأت القبر فارغًا (يو 20).

وجواب يسوع. يعني أوَّلاً المكان: يجب أن أكون عند أبي. يعني في الهيكل. ويعني ثانيًا النشاط. يجب أن أعمل عمل أبي. كأنِّي به بدأ يترك البيت الوالديّ ليكون في الهيكل، في بيت الآب. وكأنِّي به يترك العمل اليوميّ في النجارة ويبدأ عملاً آخر. على مثال الرسل الذين كانوا صيّادي سمك فصاروا صيّادي بشر.

والمشهد في الهيكل حيث نرى يسوع بين المعلِّمين، مشهد مألوف. يأتي الشابّ للمرَّة الأولى وحده. يطرح الأسئلة. يستفهم حول أمور العبادة. هنا تميَّز يسوع. "وكلُّ الذين سمعوه بُهتوا من فهمه وأجوبته." ولكن أبعد من الواقع، هو الرمز. فكأنِّي بالقدِّيس لوقا يقرأ حياة يسوع العلنيَّة من خلال هذا المشهد. هنا نفهم سؤال يسوع وكأنِّي به يرفع والدَيه إلى أبعد من السؤال المادّيّ: "لماذا تطلبانني؟" تعجَّب يسوع من أبويه مع أنَّه في العودة إلى الناصرة سيكون طائعًا لهما. وهما لم يفهما كلامه.

وهكذا رفعَنا القدِّيسُ لوقا من مشهد عاديّ يعرفه كلُّ يهوديّ في عمر الاثني عشر عامًا، إلى مشهد روحيّ. حجُّ يسوع إلى أورشليم هو أكثر من حجّ. هناك التقى بالآب. والثلاثة أيَّام ترفعنا إلى زمن الآلام والموت والقيامة. والحوار مع الكهنة والكتبة صورة مسبقة لما ستكون حياة يسوع العلنيَّة على طرقات الجليل والسامرة واليهوديَّة. وهكذا ارتفع يسوع إلى الآب وإلى مشيئته منذ البداية وطلب أن يرفع والديه على ما فعل حين جاءته أمُّه وإخوته. بل هو هتف للآب في أعماقه: ما شئت ذبيحة ولا محرقة، فقلتُ ها أنا آتٍ لأصنع مشيئتك يا الله. ذاك هو بيت الآب.


 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM